فصل: تفسير الآيات (32- 34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (32- 34):

{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)}
{قَالُواْ يا نُوحٌ قَدْ جَادَلْتَنَا} خاصمتنا {فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} أي أطَلْته أو أتيتَه بأنواعه فإن إكثارَ الجدالِ يتحقق بعد وقوعِ أصلِه فلذلك عُطف عليه بالفاء أو أردتَ ذلك فأكثرتَه كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله} ولما حجّهم عليه الصلاة والسلام وأبرز لهم بيناتٍ واضحةَ المدلولِ وحُججاً تتلقاها العقولُ بالقَبول وألقمهم الحجرَ برد شُبهِهم الباطلةِ ضاقت عليهم الحيلُ وعيّت بهم العللُ وقالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب المعجّلِ أو العذابِ الذي أشير إليه في قوله: {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} على تقدير أن لا يكون المرادُ باليوم يومَ القيامة {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} فيما تقول {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء} يعني أن ذلك ليس موكولاً إليّ ولا هو مما يدخُل تحت قدرتي وإنما يتولاه الله الذي كفرتم به وعصيتموه يأتيكم به عاجلاً أو آجلاً إنْ تعلَّق به مشيئتُه التابعةُ للحكمة، وفيه ما لا يخفى من تهويل الموعودِ فكأنه قيل: الإتيانُ به أمرٌ خارجٌ عن دائرة القُوى البشرية وإنما يفعله الله عز وجل.
{وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} بالهرب أو بالمدافعة كما تدافعونني في الكلام {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى} النُصحُ كلمةٌ جامعةٌ لكل ما يدور عليه الخيرُ من قول أو فعل، وحقيقتُه إمحاضُ إرادةِ الخيرِ والدِلالةِ عليه، ونقيضُه الغشُّ وقيل: هو إعلامُ موقع الغَيِّ ليُتّقى وموضعِ الرشد ليقتفى {إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ} شرطٌ حذف جوابُه لدلالة ما سبق عليه، والتقديرُ إن أردتُ أن أنصحَ لكم لا ينفعُكم نُصحي وهذه الجملةُ دليلٌ على ما حذف من جواب قولِه تعالى: {إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} والتقديرُ إن كان يريد أن يُغوِيَكم فإن أردتُ أن أنصحَ لكم لا ينفعكم نصحي، هذا على ما ذهب إليه البصريون من عدم تقديم الجزاءِ على الشرطِ، وأما على ما ذهب إليه الكوفيون من جوازه فقوله عز وعلا: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى} جزاءٌ للشرط الأولِ، والجملةُ جزاءٌ للشرط الثاني وعلى التقديرين فالجزاءُ متعلّقٌ بالشرط الأولِ وتعلّقه به معلّقٌ بالشرط الثاني، وهذا الكلامُ متعلِّقٌ بقولهم: {قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} صدر عنه عليه الصلاة والسلام إظهاراً للعجز عن إلزامهم بالحجج والبيناتِ لتماديهم في العناد، وإيذاناً بأن ما سبق منه ليس بطريق الجدالِ والخصامِ بل بطريق النصيحةِ لهم والشفقةِ عليهم وبأنه لم يألُ جهداً في إرشادهم إلى الحق وهدايتِهم إلى سبيله المستبينِ وإمحاضِ النصحِ لهم ولكن لا ينفعهم ذلك عند إرادة الله تعالى لإغوائهم، وتقييدُ عدمِ نفع النصحِ بإرادته مع أنه محققٌ لا محالة للإيذان بأن ذلك النصحَ منه مقارِنٌ للإرادة والاهتمامِ به ولتحقيق المقابلةِ بين ذلك وبين ما وقع بإزائه من إرادته تعالى لإغوائهم، وإنما اقتُصر في ذلك على مجرد إرادةِ الإغواءِ دون نفسِه حيث لم يقل: إن كان الله يغويكم مبالغةً في بيان غلبةِ جنابِه عز وعلا حيث دل ذلك على أن نُصحَه المقارِنَ للاهتمام به لا يُجديهم عند مجردِ إرادةِ الله سبحانه لإغوائهم، فكيف عند تحقيقِ ذلك وخلقِه فيهم.
وزيادةُ كان للإشعار بتقدم إرادتِه تعالى زماناً كتقدّمها رتبةً وللدلالة على تجدّدها واستمرارِها، وإنما قُدّم على هذا الكلامِ ما يتعلق بقولهم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء} رداً عليهم من أول الأمرِ وتسجيلاً عليهم بحلول العذابِ مع ما فيه من اتصال الجوابِ بالسؤال، وفيه دليلٌ على أن إرادتَه تعالى يصِحّ تعلقُها بالإغواء وأن خلافَ مرادِه غيرُ واقع، وقيل: معنى أن يغويَكم يُهلكَكم، من غوَى الفصيلُ غوًى إذا بشِم وهلك {هُوَ رَبُّكُمْ} خالقُكم ومالكُ أمركم {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجازيكم على أعمالكم لا محالة.

.تفسير الآيات (35- 37):

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)}
{أَمْ يَقُولُونَ افتراه} قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني نوحاً عليه الصلاة والسلام، ومعناه بل أيقولُ قومُ نوحٍ إن نوحاً افترى ما جاء به مسنِداً إياه إلى الله عز وجل {قُلْ} يا نوح {إِنِ افتريته} بالفرض البحْت {فَعَلَىَّ إِجْرَامِى} إثمي ووبالُ إجرامي وهو كسبُ الذنب وقرئ بلفظ الجمع، وينصُره أن فسّره الأولون بآثامي {وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تُجْرَمُونَ} من إجرامكم في إسناد الافتراءِ إليّ، فلا وجهَ لإعراضكم عني ومعاداتِكم لي. وقال مقاتلٌ: يعني محمداً عليه الصلاة والسلام ومعناه بل أيقولُ مشركو مكةَ افترى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خبرَ نوحٍ فكأنه إنما جيء به في تضاعيف القصةِ عند سَوْق طرفٍ منها تحقيقاً لحقيتها وتأكيداً لوقوعها وتشويقاً للسامعين إلى استماعها، لاسيما وقد قُصَّ منها طائفةٌ متعلقةٌ بما جرى بينه عليه السلام وبين قومِه من المُحاجَّة وبقِيَتْ طائفةٌ مستقلّةٌ متعلقةٌ بعذابهم.
{وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ} أي المُصِرِّين على الكفر وهو إقناطٌ له عليه السلام من إيمانهم وإعلامٌ لكونه كالمُحال الذي لا يصِحّ توقّعُه {إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} إلا من قد وُجد منه ما كان يُتوقَّع من إيمانه، وهذا الاستثناءُ على طريقة قولِه تعالى: {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} أي لا تحزَنْ حزْنَ بائسٍ مستكينٍ ولا تغتمَّ بما كانوا يتعاطَوْنه من التكذيب والاستهزاء والإيذاءِ في هذه المدة الطويلةِ فقد انتهى أفعالُهم وحان وقتُ الانتقامِ منهم {واصنع الفلك} ملتبساً {بِأَعْيُنِنَا} أي بحفظنا وكلاءتِنا كأن معه من الله عز وجل حُفّاظاً وحرّاساً يكلؤنه بأعينهم من التعدّي من الكفرة ومن الزيغ في الصنعة {وَوَحْيِنَا} إليك كيف تصنعُها وتعليمِنا وإلهامِنا. عن ابن عباس رضي الله عنهما لم يعلمْ كيف صنعةُ الفُلك، فأوحى الله تعالى إليه أن يصنعَها مثلَ جُؤجُؤ الطائر، والأمرُ للوجوب إذ لا سبيل إلى صيانة الروحِ من الغرق إلا به فيجب كوجوبها، واللامُ إما للعهد بأن يُحملَ على أن هذا مسبوقٌ بوحي الله تعالى إليه عليه السلام أنه سيهلكهم بالغرق وينجّيه ومَنْ معه بشيء سيصنعه بأمره تعالى ووحيِه، مِنْ شأنه كيتَ وكيت واسمُه كذا، وإما للجنس. قيل: صنعها عليه الصلاة والسلام في سنتين، وقيل: في أربعمائة سنة، وكانت من خشب الساج وجُعلت ثلاثةَ بطونٍ حُمل في البطن الأول الوحوشُ والسباعُ والهوامُّ، وفي البطن الأوسطِ الدوابُّ والأنعام، وفي البطن الأعلى جنسُ البشر هو ومَنْ معه مع ما يحتاجون إليه من الزاد، وحَمل معه جسدَ آدمَ عليه الصلاة والسلام، وقيل: جَعل في الأول الدوابَّ والوحوشَ وفي الثاني الإنسَ وفي الأعلى الطيرَ، قيل: كان طولُها ثلاثمائة ذراعٍ وعَرْضُها خمسين ذراعاً وسَمْكُها ثلاثين ذراعاً.
وقال الحسنُ: كان طولُها ألفاً ومائتي ذراعٍ وعَرضُها ستَّمائةِ ذراعٍ. وقيل: إن الحَواريين قالوا لعيسى عليه الصلاة والسلام: لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينةَ يحدثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفاً من ذلك الترابِ فقال: أتدرون مَنْ هذا؟ قالوا: الله ورسولُه أعلم، قال هذا كعبُ بنُ حام قال: فضرب بعصاه فقال: قم بإذن الله فإذا هو قائمٌ ينفض التراب عن رأسه وقد شاب، فقال له عيسى عليه الصلاة والسلام: أهكذا هلكْتَ؟ قال: لا، متُّ وأنا شابٌّ ولكني ظننتُ أنها الساعة فمِنْ ثَمَّةَ شِبْتُ، فقال: حدثنا عن سفينة نوحٍ، قال: كان طولُها ألفاً ومائتي ذراعٍ وعَرضُها ستمائة ذراع، وكانت ثلاثَ طبقاتٍ طبقةٌ للدواب والوحش وطبقةٌ للإنس وطبقةٌ للطير، ثم قال: عُدْ بإذن الله تعالى كما كنت فعاد تراباً.
{وَلاَ تخاطبنى فِي الذين ظَلَمُواْ} أي لا تراجِعْني فيهم ولا تدعُني ياستدفاع العذابِ عنهم وفيه من المبالغة ما ليس فيما لو قيل: ولا تدعُني فيهم، وحيث كان فيه ما يلوح بالسبيبة أُكّد التعليلُ فقيل: {إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} أي محكومٌ عليهم بالإغراق قد مضى به القضاءُ وجفّ القلمُ فلا سبيل إلى كفه ولزِمتْهم الحُجةُ فلم يبقَ إلا أن يُجعلوا عِبرةً للمعتبرين ومثلاً للآخرين.

.تفسير الآية رقم (38):

{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)}
{وَيَصْنَعُ الفلك} حكايةُ حالٍ ماضيةٍ لاستحضار صورتِها العجيبةِ، وقيل: تقديرُه وأخذ يصنع الفلكَ أو أقبل بصنعها فاقتصر على يصنع، وأياً ما كان ففيه ملاءمةٌ للاستمرار المفهومِ من الجملة الواقعةِ حالاً من ضميره، أعني قوله تعالى: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} استهزأوا به لعمله السفينةَ إما لأنهم ما كانوا يعرِفونها ولا كيفيةَ استعمالِها والانتفاعِ بها فتعجبوا من ذلك وسخِروا منه، وإما لأنه كان يصنعها في برّية بهماءَ في أبعد موضعٍ من الماء وفي وقت عزَّتْه عِزَةٌ شديدة وكانوا يتضاحكون ويقولون: يا نوحُ صرتَ نجاراً بعد ما كنت نبياً، وقيل: لأنه عليه الصلاة والسلام كان يُنذرهم الغرقَ فلما طال مكثُه فيهم ولم يشاهِدوا منه عيناً ولا أثراً عدّوه من باب المُحال ثم لما رأوا اشتغالَه بأسباب الخلاصِ من ذلك فعلوا ما فعلوا، ومدارُ الجميعِ إنكارُ أن يكون لعمله عليه الصلاة والسلام عاقبةٌ حميدةٌ مع ما فيه من تحمل المشاقِّ العظيمة التي لا تكاد تُطاق واستجهالِه عليه السلام في ذلك {قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا} مستجهلين لنا فيما نحن فيه {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} أي نستجهلكم فيما أنتم عليه، وإطلاقُ السخريةِ عليه للمشاكلة، وجمعُ الضمير في منا إما لأن سخريتَهم منه عليه الصلاة والسلام سخريةٌ من المؤمنين أيضاً أو لأنهم كانوا يسخرون منهم أيضاً إلا أنه اكتُفيَ بذكر سُخريتِهم منه عليه الصلاة والسلام، ولذلك تعرض الجميعُ للمجازاة في قوله تعالى: {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} الخ، فتكافأ الكلامُ من الجانبين، وتعليقُ استجهالِه عليه الصلاة والسلام إياهم بما فعلوا من السُّخرية باعتبار إظهارِه ومشافهتِه عليه الصلاة والسلام إياهم بذلك وإلا فعَدُّه عليه الصلاة والسلام إياهم جاهلين فيها يأتون ويذرون أمرٌ مطّردٌ لا تعلُّق له بسخريتهم منهم لكنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يتصدى لإظهاره جرياً على نهج الأخلاقِ الحميدةِ، وإنما أظهره جزاءً بما صنعوا بعد اللتيا والتي، فإن سخريتَهم كانت مستمرةً ومتجدّدةً حسب تجدُّدِ مرورِهم عليه، ولم يكن يُجيبهم في كل مرة، وإلا لقيل: ويقول إن تسخروا منّا الخ، بل إنما أجابهم بعد بلوغِ أذاهم الغايةَ كما يؤذِن به الاستئنافُ، فكأن سائلاً سأل فقال: فما صنع نوحٌ عند بلوغِهم منه هذا المبلغ؟ فقيل: قال: إن تسخروا منا أي إن تنسُبونا فيما نحن بصدده من التأهب والمباشرةِ لأسباب الخلاصِ من العذاب إلى الجهل وتسخَروا منا لأجله فإنا ننسُبكم إليه فيما أنتم فيه من الإعراض عن استدفاعه بالإيمان والطاعة، ومن الاستمرار على الكفر والمعاصي والتعّرضِ لأسباب حلولِ سخطِ الله تعالى التي من جملتها استجهالُكم إيانا وسخريتُكم منا.
والتشبيهُ في قوله تعالى: {كَمَا تَسْخَرُونَ} إما في مجرد التحققِ والوقوعِ أو في التجدد والتكررِ حسبما صدر عن ملإٍ غبَّ ملإٍ لا في الكيفيات والأحوالِ التي لا تليق بشأن النبيِّ عليه الصلاة والسلام فكلا الأمرَين واقعٌ في الحال، وقيل: نسخر منكم في المستقبل سُخريةً مثلَ سُخريتِكم إذا وقع عليكم الغرقُ في الدنيا والحرقُ في الآخرة، ولعل مرادَه نعاملُكم معاملةَ مَنْ يفعل ذلك لأن نفسَ السُّخرية مما لا يكاد يليق بمنصِب النبوةِ، ومع ذلك لا سَدادَ له لأن حالَهم إذ ذاك ليس مما يلائمه السُّخريةُ أو ما يجري مجراها فتأمّلْ.

.تفسير الآيات (39- 40):

{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)}
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} وهو عذابُ الغَرَقِ {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ} حلولَ الدَّيْن المؤجل {عَذَابٌ مُّقِيمٌ} هو عذابُ النارِ الدائمُ وهو تهديدٌ بليغٌ، و{مَنْ} عبارةٌ عنهم، وهي إما استفهاميةٌ في حيز الرفعِ أو موصولةٌ في محل النصبِ بتعلمون وما في حيِّزها سادٌّ مسدَّ مفعولين أو مفعولٍ واحدٍ إن جُعل العلمُ بمعنى المعرفةِ، ولما كان مدارُ سخريتِهم استجهالَهم إياه عليه الصلاة والسلام في مكابدة المشاقِّ الفادحةِ لدفع ما لا يكاد يدخُل تحت الصِّحةِ على زعمهم من الطوفان ومقاساةِ الشدائِد في بناء السفينةِ وكانوا يعدّونه عذاباً قيل بعد استجهالِهم فسوف تعلمون مَنْ يأتيه العذابُ يعني أن أُباشرُه ليس فيه عذابٌ لاحقٌ بي فسوف تعلمون مَنِ المعذَّبُ، ولقد أصاب العلمُ بعد استجهالِهم محزّه، ووصفُ العذاب بالإخزاء لما في الاستهزاء والسخريةِ من لُحوق الخِزْي والعارِ عادة، والتعرُّضُ لحلول العذاب المقيمِ للمبالغة في التهديد، وتخصّصُه بالمؤجل وإيرادُ الأول بالإتيان في غاية الجزالة.
{حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا} حتى هي التي يُبتدأ بها الكلامُ دخلت على الجملة الشرطيةِ وهي مع ذلك غايةٌ لقوله: {وَيَصْنَعُ} وما بينهما حالٌ من الضمير فيه، وسخِروا منه جوابٌ لكلما، وقال استئنافٌ على تقدير سؤال سائلٍ كما ذكرناه وقيل: هو الجوابُ وسِخروا منه بدلٌ من مرّ أو صفةٌ لملأ وقد عرفت أن الحقَّ هو الأولُ لأن المقصودَ بيانُ تناهيهم في إيذائه عليه الصلاة والسلام وتحمُّلِه لأذيَّتهم لا مسارعتُه عليه الصلاة والسلام إلى جوابهم كلما وقع منهم ما يؤذيه من الكلام {وَفَارَ التنور} نبعَ منه الماءُ وارتفع بشدة كما تفور القِدْرُ بغَليانها، والتنّورُ تنّورُ الخبز، وهو قول الجمهور. روي أنه قيل لنوح عليه الصلاة والسلام: إذا رأيتَ الماءَ يفورُ من التنور فاركبْ ومن معك في السفينة فلما نبع الماءُ أخبرتْه امرأتُه فركب، وقيل: كان تنورَ آدمَ عليه الصلاة والسلام وكان من حجارة فصار إلى نوح، وإنما نبع منه وهو أبعدُ شيء من الماء على خرق العادةِ وكان في الكوفة في موضع مسجدها عن يمين الداخلِ مما يلي باب كِنْدة، وكان عملُ السفينةِ في ذلك الموضع، أو في الهند أو في موضع بالشام يقال له عين وردة، وعن ابن عباس رضى الله عنهما وعِكرمةَ والزُّهري أن التنورَ وجهُ الأرض، وعن قتادةَ أشرفُ موضع في الأرض أي أعلاه، وعن علي رضى الله تعالى عنه فار التنور طلع الفجرُ {قُلْنَا احمل فِيهَا} أي في السفينة وهو جوابُ إذا {مِن كُلّ} أي من كل نوعٍ لابد منه في الأرض {زَوْجَيْنِ} الزوجُ ما له مشاكلٌ من نوعه فالذكرُ زوجٌ للأنثى كما هي زوجٌ له وقد يُطلق على مجموعهما فيقابل الفرد، ولإزالة ذلك الاحتمالِ قيل: {اثنين} كلٌّ منهما زوجٌ للآخر وقرئ على الإضافة، وإنما قُدم ذلك على أهله وسائرِ المؤمنين لكونه عريقاً فيما أُمر به من الحمل لأنه يحتاج إلى مزاولة الأعمالِ منه عليه الصلاة والسلام في تمييز بعضِه من بعض وتعيينِ الأزواج، فإنه رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قال: يا رب كيف أحْمل من كلَ زوجين اثنين فحشر الله تعالى إليه السباعَ والطيرَ وغيرَهما فجعل يضرِب بيديه في كل جنس فيقع الذكرُ في يده اليمنى والأنثى في اليسرى فيجعلهما في السفينة، وأما البشرُ فإنما يدخلُ الفُلكَ باختياره فيخِفّ فيه معنى الحَمْل، أو لأنها إنما تحمِلُ بمباشرة البشر وهم إنما يدخُلونها بعد حلمهم إياها.
{وَأَهْلَكَ} عطفٌ على زوجين أو على اثنين والمرادُ امرأتُه وبنوه ونساؤهم {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} بأنه من المغرَقين بسبب ظلمِهم في قوله تعالى: {وَلاَ تخاطبنى فِي الذين ظَلَمُواْ} الآية، والمرادُ به ابنُه كنعان وأمُّه واعلةُ فإنهما كانا كافرين والاستثناءُ منقطِعٌ إن أريد بالأهل الأهلُ إيماناً وهو الظاهرُ كما ستعرفه أو متصلٌ إن أريد به الأهلُ قرابة ويكفي في صحة الاستثناءِ المعلوميةُ عند المراجعةِ إلى أحوالهم والتفحّصُ عن أعمالهم، وجيء بعلى لكون السابقِ ضارًّا لهم كما جيء باللام فيما هو نافعٌ لهم من قوله عز وجل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين} وقوله: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} {وَمَنْ ءامَنَ} من غيرهم، وإفرادُ الأهلِ منهم للاستثناءِ المذكورِ، وإيثارُ صيغةِ الإفراد في آمن محافظةً على لفظ مَنْ للإيذان بقلتهم كما أعرب عنه قولُه عز قائلاً: {وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} قيل: كانوا ثمانيةً، نوحٌ عليه الصلاة والسلام وأهلُه وبنوه الثلاثةُ ونساؤُهم. وعن ابن إسحاقَ كانوا عشرةً، خمسةَ رجالٍ وخمسَ نسوةٍ، وعنه أيضاً أنهم كانوا عشرةً سوى نسائِهم وقيل: كانوا اثنين وسبعين رجلاً وامرأةً، وأولادُ نوحٍ سامٌ وحامٌ ويافث ونساؤُهم فالجميع ثمانيةٌ وسبعون نصفُهم رجالٌ ونصفُهم نساء، واعتبارُ المعيةِ في إيمانهم للإيماء إلى المعية في مقرّ الأمانِ والنجاة.