فصل: تفسير الآيات (105- 107):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (105- 107):

{يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)}
{يَوْمَ يَأْتِ} أي حين يأتي ذلك اليومُ المؤخَّرُ بانقضاء أجلِه كقوله تعالى: {أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة} وقيل: يومَ يأتي الجزاءُ الواقعُ فيه، وقيل: أي الله عز وجل فإن المقام مقامُ تفخيمِ شأنِ اليوم وقرئ بإثبات الياء على الأصل {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} أي لا تتكلم بما ينفع وينجّي من جواب أو شفاعةٍ، وهو العاملُ في الظرف أو الانتهاء المحذوفِ في قوله تعالى: {إِلاَّ لاِجَلٍ مَّعْدُودٍ} أي ينتهي الأجل يوم يأتي أو المضمر المعهود أعني أذكر {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} عز سلطانه في التكلم كقوله تعالى: {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} وهذا في موطن من مواطنِ ذلك اليومِ وقولُه عز وجل: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} في موقف آخرَ من مواقفه كما أن قولَه سبحانه: {يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تجادل عَن نَّفْسِهَا} في آخرَ منها أو المأذونُ فيه الجواباتُ الحقةُ والممنوعُ عنه الأعذار الباطلةُ، نعم قد يُؤذن فيها أيضاً لإظهار بطلانِها كما في قول الكفرة: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ونظائرِه {فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ} وجبت له النارُ بموجب الوعيد {وَسَعِيدٌ} أي ومنهم سعيدٌ، حُذف الخبرُ لِدلالة الأولِ عليه وهو من وجبت له الجنةُ بمقتضى الوعد، والضميرُ لأهل الموقفِ المدلولِ عليهم بقوله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} أو للناس، وتقديمُ الشقيِّ على السعيد لأن المقامَ مقامُ التحذير والإنذار.
{فَأَمَّا الذين شَقُواْ} أي سبَقَت لهم الشقاوةُ {فَفِى النار} أي مستقرّون فيها {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} الزفيرُ إخراجُ النفَسِ والشهيقُ ردُّه وجاء استعمالُهما في أول النهيق وآخرِه قال الشماخ يصف حمارَ الوحش:
بعيدُ مدى التطريب، أولُ صوتِه ** زفيرٌ ويتلوه شهيقٌ مُحشرَجُ

والمرادُ بهما وصفُ شدةِ كربِهم وتشبيهُ حالِهم بحال من استولت على قلبه الحرارةُ وانحصر فيه روحُه أو تشبيهُ صراخِهم بأصواتِ الحميرِ وقرئ {شقوا} بالضم والجملةُ مستأنفةٌ كأن سائلاً قال: ما شأنُهم فيها؟ فقيل: لهم فيها كذا وكذا، أو منصوبةُ المحلِّ على الحالية من النار أو من الضمير في الجار والمجرور كقوله عز اسمُه: {خالدين فِيهَا} خلا أنه إن أريد حدوثُ كونِهم في النار فالحالُ مقدرةٌ {مَا دَامَتِ السموات والارض} أي مدةَ دوامِها وهذا التوقيتُ عبارةٌ عن التأبيد ونفيِ الانقطاع بناءً على منهاج قولِ العرب: ما دام تعار وما أقام ثَبيرٌ وما لاح كوكب وما اختلف الليلُ والنهار وما طما البحرُ وغيرُ ذلك من كلمات التأبيد لا تعليقِ قرارِهم فيها بدوام هذه السمواتِ والأرض فإن النصوصَ القاطعةَ دالةٌ على تأبيد قرارِهم فيها وانقطاعِ دوامِهما وإن أريد التعليقُ فالمراد سمواتُ الآخرة وأرضُها كما يدل على ذلك النصوصُ كقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الارض غَيْرَ الارض} وقولِه تعالى: {وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الارض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء} وجزم كلُّ أحدٍ بأن أهلَ الآخرةِ لابد لهم من مِظلّة ومِقلّة دائمتين يكفي في تعليق دوامِ قرارِهم فيها بدوامهما، ولا حاجة إلى الوقوف على تفاصيل أحوالِهما وكيفياتهما {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} استثناءٌ من الخلود على طريقة قوله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى} وقوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} وقولِه تعالى: {حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمّ الخياط} غير أن استحالة الأمورِ المذكورةِ معلومةٌ بحكم العقلِ، واستحالةَ تعلّق المشيئةِ بعدم الخلودِ معلومةٌ بحكم النقل يعني أنهم مستقرّون في النار في جميع الأزمنةِ إلا في زمان مشيئةِ الله تعالى لعدم قرارِهم فيها وإذ لا إمكان لتلك المشيئةِ ولا لزمانها بحكم النصوصِ القاطعة الموجبةِ للخلود فلا إمكانَ لانتهاء مدةِ قرارِهم فيها ولدفع ما عسى يُتوّهم من كون استحالةِ تعلق مشيئةِ الله تعالى بعدم الخلود بطريق الوجوبِ على الله تعالى قال: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ} يعني أنه في تخليد الأشقياءِ في النار بحيث يستحيل وقوعُ خلافةِ فعالٌ بموجب إرادته قاضٍ بمقتضى مشيئتِه الجارية على سنن حكمته الداعيةِ إلى ترتيب الأجزيةِ على أفعال العبادِ، والعدولُ من الإضمار إلى الإظهار لتربية المهابةِ وزيادةِ التقريرِ، وقيل: هو استثناءُ من الخلود في عذاب النار فإنهم لا يخلّدون فيه بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع أُخَرَ من العذاب وبما هو أغلظُ منها كلِّها وهو سَخَطُ الله تعالى عليهم وخَسْؤه لهم وإهانتُه إياهم، وأنت تدري أنا وإن سلّمنا أن المرادَ بالنار ليس مطلقَ دارِ العذاب المشتملةِ على أنواع العذابِ بل نفسَ النار فما خلا عذابَ الزمهريرِ من تلك الأنواعِ مقارِنٌ لعذاب النار فلا مِصداقَ في ذلك للاستثناء، ولك أن تقول إنهم ليسوا بمخلدين في العذاب الجُسماني الذي هو عذابُ النار بل لهم من أفانين العذاب ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وهي العقوباتُ والآلامُ الروحانية التي لا يقف عليها في هذه الحياة الدنيا المنغمِسون في أحكام الطبيعةِ المقصورُ إدراكُهم على ما ألِفوا من الأحوال الجُسمانية، وليس لهم استعدادٌ لتلقّي ما وراء ذلك من الأحوال الروحانيةِ إذا ألقيَ إليهم، ولذلك لم يتعرّض لبيانه واكتُفي بهذه المرتبةِ الإجماليةِ المنبئةِ عن التهويل، وهذه العقوباتُ وإن كانت تعتريهم وهم في النار لكنهم ينسَوْن بها عذابَ النارِ ولا يُحِسّون به، وهذه المرتبةُ كافيةٌ في تحقيق معنى الاستثناءِ هذا، وقد قيل: إلا بمعنى سوى وهو أوفقُ بما ذكر وقيل: ما بمعنى مَنْ على إرادة معنى الوصفيةِ فالمعنى إن الذين شقُوا في النار مقدرين الخلود فيها إلا الذين شاء الله عدم خلودِهم فيها وهم عصاةُ المؤمنين.

.تفسير الآية رقم (108):

{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)}
{وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِى الجنة خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والارض} الكلامُ فيه كالكلام فيما سبق خلا أنه لم يُذكر هاهنا أن لهم فيها بهجةً وسروراً كما ذكر في أهل النارِ من أنه لهم فيها زفيرٌ وشهيق لأن المقام مقامُ التحذيرِ والإنذار {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} إنْ حمل على طريقة التعليقِ بالمُحال فقوله سبحانه: {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} نُصب على المصدرية من معنى الجملة لأن قوله تعالى: {فَفِى الجنة خالدين فِيهَا} يقتضي إعطاءً وإنعاماً فكأنه قيل: يعطيهم عطاءً وهو إما اسمُ مصدرٍ هو الإعطاءُ أو مصدرٌ بحذف الزوائدِ كقوله تعالى: {أَنبَتَكُمْ مّنَ الارض نَبَاتاً} وإن حُمل على ما أعد الله لعباده الصالحين من النعيم الروحاني الذي عبّر عنه بما لا عينٌ رأت ولا أذن سمِعت ولا خطَر على قلب بشر فهو نصبٌ على الحالية من المفعول المقدر للمشيئة، أو تمييزٌ فإن نسبةَ مشيئةِ الخروج إلى الله تعالى يحتمل أن تكون على جهة عطاءٍ مجذوذ وعلى جهة عطاءٍ غيرِ مجذوذ فهو رافعٌ للإبهام عن النسبة. قال ابن زيد: أخبرنا الله تعالى بالذي يشاء لأهل الجنةِ فقال: {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} ولم يُخبرنا بالذي يشاء لأهل النارِ ويجوز أن يتعلق بكلا النعيمين أو بالأول دفعاً لما يتوهم من ظاهر الاستثناءِ من انقطاعه.

.تفسير الآيات (109- 110):

{فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)}
{فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ} أي في شك، والفاءُ لترتيب النهي على ما قُصّ من القصص وبُيّن في تضاعيفها من العواقب الدنيوية والأخروية {مّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء} أي من جهة عبادةِ هؤلاء المشركين وسوءِ عاقبتها أو من حال ما يعبُدونه من الأوثان في عدم نفعِه لهم. ولمّا كان مَساقُ النظمِ الكريم قبيل الشروعِ في القصص لبيان غايةِ سوءِ حال الكفرةِ وكمالِ حسنِ حال المؤمنين، وقد ضُرب لهم مثلُ فقيل: {مَثَلُ الفريقين كالاعمى والاصم والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} وقد قُص عَقيبَ ذلك من أنباء الأممِ السالفة مع رسلهم المبعوثةِ إليهم ما يتذكر به المتذكِّرُ نُهي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن كونه في شك من مصير أمرِ هؤلاءِ المشركين في العاجل والآجلِ ثم علل ذلك بطريق الاستئناف فقيل: {مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءابَاؤهُم} الذين قُصّت عليك قصصُهم {مِن قَبْلُ} أي هم وآباؤُهم سواءٌ في الشرك، ما يعبدون عبادةً إلا كعبادتهم أو ما يعبدون شيئاً إلا مثلَ ما عبدوه من الأوثان، والعدولُ إلى صيغة المضارعِ لحكاية الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتِها، أو مثلَ ما كانوا يعبدونه فحُذف كان لِدلالة قولهِ: {من قبل} عليه، ولقد بلغك ما لحق بآبائهم فسيلحقهم مثلُ ذلك فإن تماثلَ الأسبابِ يقتضي تماثل المسبَّبات {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ} أي هؤلاء الكفرة {نَصِيبَهُمْ} أي حظَّهم المعيَّنَ لهم حسب جرائمِهم وجرائرِهم من العذاب عاجلاً وآجلاً كما وفّينا آباءَهم أنصباءَهم المقدّرة لهم، أو من الرزق المقسومِ لهم فيكون بياناً لوجه تأخُّرِ العذاب عنهم مع تحقق ما يوجبه {غَيْرَ مَنقُوصٍ} حالٌ مؤكدة من النصيب كقوله تعالى: {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} وفائدتُه دفعُ توهّم التجوّزِ وجعلُها مقيدةً له لدفع احتمالِ كونِه منقوصاً في حد نفسه مبنيٌّ على الذهول عن كون العاملِ هو التوفيةَ فتأمل.
{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب} أي التوراةَ {فاختلف فِيهِ} أي في شأنه وكونِه من عند الله تعالى فآمن به قومٌ وكفر به آخرون فلا تبالِ باختلاف قومِك فيما آتيناك من القرآن وقولِهم: {لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ} وزعمِهم أنك افتريتَه {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ} وهي كلمةُ القضاءِ بإنظارهم إلى يوم القيامةِ على حسب الحِكمةِ الداعيةِ إلى ذلك {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي لأوقع القضاءَ بين المختلفين من قومك بإنزال العذابِ الذي يستحقه المبطِلون ليتميّزوا به عن المُحِقّين، وقيل: بين قوم موسى وليس بذاك {وَإِنَّهُمْ} أي وإن كفارَ قومِك أريد به بعضُ من رجع إليهم ضميرُ بينهم للأمن من الإلباس {لَفِى شَكّ} عظيم {مِنْهُ} أي من القرآن وإن لم يجْرِ له ذكر، فإن ذكرَ إيتاءِ كتابِ موسى ووقوعِ الاختلافِ فيه لاسيما بصدد التسليةِ ينادي به نداءً غيرَ خفي {مُرِيبٍ} مُوقِع في الريبة.

.تفسير الآيات (111- 112):

{وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)}
{وَإِنَّ كُلاًّ} التنوينُ عوضٌ عن المضاف إليه أي وإن كلَّ المختلِفين فيه المؤمنين منهم والكافرين، وقرأ ابنُ كثير، ونافعٌ، وأبو بكر، بالتخفيف مع الإعمال اعتباراً للأصل {لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} أي أجزيةَ أعمالِهم، واللامُ الأولى موطئةٌ للقسم والثانيةُ جوابٌ للقسم المحذوف، ولما مركبةٌ من مِنْ الجارة وما الموصولة أو الموصوفة وأصلها لمِن فقلبت النون ميماً للإدغام فاجتمع ثلاث ميماتٍ فحُذفت أولاهن، والمعنى لَمِن الذي أو لمِنْ خلْقٍ أو لمن فريقٍ والله ليوفينهم ربك وقرئ {لما} بالتخفيف على أن ما مزيدةٌ للفصل بين اللامين والمعنى إن جميعَهم والله ليوفينهم الآية وقرئ {لمًّا} بالتنوين أي جميعاً كقوله سبحانه: {أَكْلاً لَّمّاً} وقرأ أبي {وإنْ كلٌّ لمّا ليوفينهم} على أن نافية ولما بمعنى إلا وقد قرئ به {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي بما يعمله كلُّ فردٍ من المختلفين من الخير والشر {خَبِيرٌ} بحيث لا يخفى عليه شيءٌ من جلائله ودقائقه، وهو تعليلٌ لما سبق من توفية أجزيةِ أعمالِهم فإن الإحاطةَ بتفاصيل أعمالِ الفريقين وما يستوجبه كلُّ عمل بمقتضى الحكمةِ من الجزاء المخصوصِ توجب توفيةَ كلِّ ذي حقٍ حقَّه إن خيراً فخيرٌ وإن شراً فشر.
{فاستقم كَمَا أُمِرْتَ} لما بيّن في تضاعيف القصص المَحْكية عن الأمم الماضيةِ سوءُ عاقبة الكفرِ وعصيانِ الرسل وأُشير إلى أن حالَ هؤلاء الكفرةِ في الكفر والضلالِ واستحقاق العذابِ مثلُ أولئك المعذبين وأن نصيبَهم من العذاب واصلٌ إليهم من غير نقص وأن تكذيبَهم للقرآن مثلُ تكذيبِ قوم موسى عليه السلام للتوراة وأنه لو لم تسبِقْ كلمةُ القضاءِ بتأخير عقوبتِهم العامةِ ومؤاخذتِهم التامّةِ إلى يوم القيامة لفُعل بهم ما فُعل بآبائهم من قبلُ وأنهم يُوفَّوْن نصيبَهم غيرَ منقوص وأن كل واحدٍ من المؤمنين والكافرين يوفى جزاءَ عملِه أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة كما أمر به في العقائد والأعمالِ المشتركة بينه وبين سائِر المؤمنين ولاسيما الأعمالُ الخاصةُ به عليه السلام من تبليغ الأحكامِ الشرعية والقيامِ بوظائف النبوةِ وتحمّل أعباءِ الرسالةِ بحيث يدخُل تحته ما أمر به فيما سبق من قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} الآية، وبالجملة فهذا الأمرُ منتظمٌ لجميع محاسنِ الأحكامِ الأصليةِ والفرعية والكمالاتِ النظريةِ والعملية والخروجُ من عُهدته في غاية ما يكون من الصعوبة ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شيبتْني سورةُ هود» {وَمَن تَابَ مَعَكَ} أي تاب من الشرك والكفرِ وشاركك في الإيمان وهو المعنيُّ بالمعية وهو معطوفٌ على المستكنّ في قوله: فاستقم، وحسُن من غير تأكيدٍ لمكان الفاصل القائمِ مَقامَه، وفي الحقيقة هو مِن عطف الجملةِ على الجملة إذ المعنى وليستقم مَنْ تاب معك، وقيل: هو منصوبٌ على أنه مفعولٌ معه كما قاله أبو البقاء، والمعنى استقم مصاحباً لمن تاب معك {وَلاَ تَطْغَوْاْ} ولا تنحرفوا عما حُدّ لكم بإفراط أو تفريط، فإن كِلا طرفي قصدِ الأمور ذميمٌ، وإنما سُمّي ذلك طغياناً وهو تجاوزُ الحدِّ تغليظاً أو تغليباً لحال سائرِ المؤمنين على حاله عليه السلام {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكم على ذلك وهو تعليلٌ للأمر والنهي، وفي الآية دِلالةٌ على وجوب اتباعِ المنصوص عليه من غير انحرافٍ بمجرد الرأي فإنه طغيانٌ وضلالٌ، وأما العملُ بمقتضى الاجتهادِ التابعِ لعلل النصوصِ فذلك من باب الاستقامةِ كما أمر على موجب النصوصِ الآمرةِ بالاجتهاد.

.تفسير الآيات (113- 114):

{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)}
{وَلاَ تَرْكَنُواْ} أي لا تميلوا أدنى ميلٍ {إِلَى الذين ظَلَمُواْ} أي إلى الذين وُجد منهم الظلمُ في الجملة، ومدارُ النهي هو الظلمُ، والجمعُ باعتبار جمعيةِ المخاطَبين وما قيل من أن ذلك للمبالغة في النهي من حيث إن كونهم جماعةً مظِنةُ الرخصةِ في مداهنتهم إنما يتم لو كان المرادُ النهيَ عن الركون إليهم من حيث أنهم جماعةٌ وليس كذلك {فَتَمَسَّكُمُ} بسبب ذلك {النار} وإذا كان حالُ الميل في الجملة إلى مَنْ وُجد منه ظلمٌ ما في الإفضاء إلى مِساس النارِ هكذا فما ظنُّك بميل من يميل إلى الراسخين في الظلم والعُدوان ميلاً عظيماً، ويتهالك على مصاحبتهم ومنادمتِهم ويُلقي شراشِرَه على مؤانستهم ومعاشرتهم، ويبتهج بالتزيّي بزِيّهم ويمُدّ عينيه إلى زهرتهم الفانية ويغبِطُهم بما أوتوا من القطوف الدانية وهو في الحقيقة من الحبة طفيف ومن جناح البعوض خفيف بمعزل عن أن تميل إليه القلوب ضعُف الطالبُ والمطلوب، والآيةُ أبلغُ ما يتصور في النهْي عن الظلم والتهديدِ عليه. وخطابُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم ومَنْ معه من المؤمنين للتثبيت على الاستقامة التي هي العدلُ فإن الميلَ إلى أحد طرفي الإفراطِ والتفريطِ ظلمٌ على نفسه أو على غيره. وقرئ {تركنوا} على لغة تميم وتُركَنوا على صيغة البناء للمفعول من أركنه {وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء} أي من أنصار يُنقِذونكم من النار، والجملةُ نصبٌ على الحاليه من قوله: فتمسكم النار، ونفيُ الأولياءِ ليس بطريق نفي أن يكون لكل واحدٍ منهم أولياءُ حتى يصدُقَ أن يكون له وليٌّ بل لمكان {لكم} بطريق انقسامِ الآحادِ على الآحاد لكن لا على معنى نفي استقلالِ كلَ منهم بنصير، بل على معنى نفيِ أن يكون لواحد منهم نصيرٌ بقرينة المقام {ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} من جهة الله سبحانه إذ قد سبق في حكمه أن يعذبَكم بركونكم إليهم ولا يُبقيَ عليكم، وثم لتراخي رتبةِ كونِهم غيرَ منصورين من جهة الله بعدما أوعدهم بالعذاب وأوجبه عليهم، ويجوز أن يكون منزلاً منزلة الفاءِ بمعنى الاستبعادِ فإنه لما بيّن أن الله تعالى معذبُهم وأن غيرَه لا ينقذهم أنتج أنهم لا يُنصرون أصلاً.
{وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار} أي غدوةً وعشيةً، وانتصابُه على الظرفيه لكونه مضافاً إلى الوقت {وَزُلَفاً مِّنَ اليل} أي ساعاتٍ منه قريبةً من النهار، فإنه مِنْ أزلفه إذا قرّبه جمع زُلفة، عطفٌ على طرفي النهار والمرادُ بصلاتهما صلاةُ الغداة والعصرِ، وقيل: الظُهر موضعَ العصر لأن ما بعد الزوال عشيٌّ، وبصلاة الزُلَف المغربُ والعشاء، وقرئ {زُلُفاً} بضمتين وضمة وسكون كبُسْر وبُسُر و{زُلفى} بمعنى زُلفة كقربى بمعنى قربة {إِنَّ الحسنات} التي من جملتها بل عُمدتُها ما أمِرْت به من الصلوات {يُذْهِبْنَ السيئات} التي قلما يخلو منها البشر، أي يكفرنها وفي الحديث: «إن الصلاة إلى الصلاة كفارةٌ لما بينهما ما اجتُنبت الكبائر» وقيل: نزلت في أبي اليَسَر الأنصاريِّ إذ قبّل امرأةً ثم ندِم فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما فعل فقال عليه الصلاة والسلام: «أنتظرُ أمرَ ربي فلما صلى صلاةَ العصر نزلت قال عليه السلام: نعم اذهب فإنها كفارةٌ لما عمِلْت» أو يمنعْن من اقترافها كقوله تعالى: {اتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب} {ذلك} إشارةٌ إلى قوله تعالى: {فاستقم} فما بعده وقيل: إلى القرآن {ذكرى لِلذكِرِينَ} أي عظةٌ للمتعظين.