فصل: تفسير الآيات (48- 51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (48- 51):

{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)}
{وَأَعْتَزِلُكُمْ} أي أتباعد عنك وعن قومك {وَمَا تَدْعُون مِن دُونِ الله} بالمهاجَرة بديني حيث لم تؤثّرْ فيكم نصائحي.
{وَأَدْعُو رَبّى} أعبدُه وحده، وقد جُوّز أن يراد به دعاؤُه المذكورُ في تفسير سورةِ الشعراء، ولا أن يبعُد أن يُرادَ به استدعاءُ الولد أيضاً بقوله: {رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين} حسبما يساعده السباق والسياق {عسى أَن لا أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا} أي خائباً ضائعَ السعي، وفيه تعريضٌ بشقائهم في عبادة آلهتِهم، وفي تصدير الكلام بعسى من إظهار التواضعِ ومراعاة حسنِ الأدب والتنبيهِ على حقيقة الحقِّ من أن الإجابةَ والإثابةَ بطريق التفضل منه عز وجل لا بطريق الوجوبِ، وأن العبرةَ بالخاتمة وذلك من الغيوب المختصّةِ بالعليم الخبير ما لا يخفى.
{فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} بالمهاجرة إلى الشام {وَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ} بدلَ مَنْ فارقهم من أقربائه الكفرة لكن لا عَقيبَ المهاجرة فإن المشهورَ أن الموهوبَ حينئذ إسماعيلُ عليه السلام لقوله تعالى: {فبشرناه بغلام حَلِيمٍ} إثرَ دعائِه بقولِه: {رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين} ولعل ترتيبَ هِبتهما على اعتزاله هاهنا لبيان كمالِ عِظَم النّعم التي أعطاها الله تعالى إياه بمقابلة مَن اعتزلهم من الأهل والأقرباء فإنهما شجرتا الأنبياء لهما أولادٌ وأحفادٌ أوُلو شأنٍ خطير وذوو عددٍ كثير. هاذ وقد روي أنه عليه السلام لما قصد الشام أتى أولاً حَرّان وتزوج بسارةَ وولدت له إسحاقَ ووُلد لإسحاقَ يعقوبُ والأولُ هو الأقربُ الأظهر {وَكُلاًّ} أي كلَّ واحد منهما أو منهم وهو مفعولٌ أولٌ لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا نَبِيّاً} لا بعضَهم دون بعض.
{وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا} هي النبوةُ، وذكرُها بعد ذكر جعلِهم نبياً للإيذان بأنها من باب الرحمةِ، وقيل: هي المالُ والأولادُ وما بُسط لهم من سَعة الرزقِ، وقيل: هو الكتابُ والأظهر أنها عامةٌ لكل خير ديني ودنيويَ أُوتوه مما لم يُؤتَه أحدٌ من العالمين {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} يفتخر بهم الناسُ ويثنون عليهم استجابةً لدعوته بقوله: {اجعل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِي الاخرين} والمرادُ باللسان ما يوجد به من الكلام ولسانُ العرب لغتُهم، وإضافتُه إلى الصدق ووصفُه بالعلو للدلالة على أنهم أحِقّاءُ بما يثنون عليهم وأن محامِدَهم لا تخفى على تباعد الأعصارِ وتبدُّل الدول وتحوُّل المِلل والنِحَل.
{واذكر فِي الكتاب موسى} قُدّم ذكرُه على ذكر إسماعيلَ لئلا ينفصِل عن يعقوبَ عليهما السلام {إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً} موحّداً أخلصَ عبادتِه عن الشرك والرياء، أو أسلم وجهَه لله تعالى وأخلص نفسَه عما سواه، وقرئ: {مخلَصاً} على أن الله تعالى أخلصه {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} أرسله الله تعالى إلى الخلق فأنبأهم عنه ولذلك قُدّم رسولاً مع كونه أخلصَ وأعلى.

.تفسير الآيات (52- 56):

{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)}
{وناديناه مِن جَانِبِ الطور الأيمن} الطورُ جبلٌ بين مصرَ ومدْيَنَ، والأيمنُ صفةٌ للجانب أي ناديناه من ناحيته اليُمنى من اليمين وهي التي تلي يمينَ موسى عليه السلام، أو من جانبه الميمونِ من اليُمن ومعنى ندائِه منه أنْ تمثّل له الكلامُ من تلك الجهة {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} تقريبَ تشريفٍ، مُثّل حالُه عليه السلام بحال من قرّبه الملِكُ لمناجاته واصطفاه لمصاحبته ونجياً أي مناجياً حالٌ من أحد الضميرين في ناديناه أو قربناه، وقيل: مرتفعاً لما روي أنه عليه السلام رُفع في السموات حتى سمع صَريفَ القلم.
{وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا} أي من أجل رحمتِنا ورأفتِنا له أو بعضِ رحمتنا {أَخَاهُ} أي معاضَدةَ أخيه ومؤازرَتَه إجابةً لدعوته بقوله: {واجعل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى هارون أَخِى} لا نفسَه لأنه كان أكبرَ منه عليهما السلام، وهو على الأول مفعولٌ لوهبنا وعلى الثاني بدلٌ وقوله تعالى: {هارون} عطف بيان له وقوله تعالى: {نَبِيّاً} حال منه.
{واذكر فِي الكتاب إسماعيل} فُصّل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه لإبراز كمال الاعتناءِ بأمره بإيراده مستقلاً وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد} تعليلٌ لموجب الأمر، وإيرادُه عليه السلام بهذا الوصف لكمال شهرتِه به وناهيك أنه وعَدَ الصبرَ على الذبح بقوله: {سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين} فوفّى {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} فيه دِلالةٌ على أن الرسولَ لا يجب أن يكون صاحبَ شريعةٍ، فإن أولادَ إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام كانوا على شريعته.
{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكواة} اشتغالاً بالأهم وهو أن يُقْبل الرجلُ بالتكميل على نفسه مَنْ هو أقربُ الناس إليه قال تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة} {قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} وقصد إلى تكميل الكل بتكميلهم لأنهم قدوةٌ يؤتسى بهم، وقيل: أهلُه أمتُه فإن الأنبياءَ عليهم السلام آباءُ الأمم {وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً} لاتصافه بالنعوت الجليلةِ التي من جملتها ما ذكر من خصاله الحميدة.
{واذكر فِي الكتاب إِدْرِيسَ} وهو سِبطُ شَيْثٍ وجدُّ أبي نوحٍ فإنه نوحُ بنُ لمك بن متوشلح بنِ أُخنوخ وهو إدريسُ عليه السلام، واشتقاقُه من الدّرس يُرده منعُ صرفِه. نعم لا يبعُد أن يكون معناه في تلك اللغة قريباً من ذلك فلُقّب به لكثرة دراسته. روي أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفةً وأنه أولُ من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب {إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً} ملازماً للصدق في جميع أحوالِه {نَبِيّاً} خبرٌ آخرُ لكان مخصّصٌ للأول، إذ ليس كلُّ صدّيق نبياً.

.تفسير الآيات (57- 58):

{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)}
{وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} هو شرفُ النبوة والزُّلفى عند الله عز وجل، وقيل: علوُّ الرتبة بالذكر الجميل في الدنيا كما في قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} وقيل: الجنة، وقيل: السماءُ السادسةُ أو الرابعة. روي عن كعب وغيره في سبب رفعِ إدريسَ عليه السلام أنه سُئل ذاتَ يوم في حاجة فأصابه وهَجُ الشمس، فقال: يا رب إني قد مشَيتُ فيها يوماً وقد أصابني منها ما أصابني، فكيف من يحمِلها مسيرةَ خمسِمائة عام في يوم واحد؟ اللهم خففْ عنه من ثِقَلها وحرِّها، فلما أصبح المَلَك وجد من خفة الشمس وحرِّها ما لا يُعرف، فقال: يارب ما الذي قضيت فيه؟ قال: «إن عبدي إدريسَ سألني أن أخففَ عنك حَملَها وحرَّها فأجبتُه» قال: يا رب اجعل بيني وبينه خُلّةً، فأذِن الله تعالى له فرفعه إلى السماء.
{أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين في السورة الكريمة وما فيه من معنى البُعد للإشارة بعلوّ رُتَبهم وبُعد منزلتِهم في الفضل وهو مبتدأٌ وقوله تعالى: {الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم} صفتُه أي أنعم عليهم بفنون النِعَم الدينيةِ والدنيويةِ حسبما أشير إليه مجملاً وقوله تعالى: {مّنَ النبيين} بيان للموصول وقوله تعالى: {مِن ذُرّيَّةِ ءادَمَ} بدلٌ منه بإعادة الجارِّ ويجوز أن تكون كلمةُ (من) فيه للتبعيض لأن المنعَمُ عليهم أعمُّ من الأنبياء وأخصُّ من الذرية.
{وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} أي ومن ذرية مَنْ حملنا معه خصوصاً وهم مَنْ عدا إدريسَ عليه السلام، فإن إبراهيمَ كان من ذرية سامِ بنِ نوح {وَمِن ذُرّيَّةِ إبراهيم} وهم الباقون {وإسراءيل} عطفٌ على إبراهيمَ أي ومن ذرية إسرائيلَ وكان منهم موسى وهارونُ وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، وفيه دليلٌ على أن أولادَ البناتِ من الذرية {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينا} أي ومن جملة من هديناهم إلى الحق واجتبيناهم للنبوة والكرامة، وقوله تعالى: {إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} خبرٌ لأولئك ويجوز أن يكون الخبرُ هو الموصولُ، وهذا استئنافاً مَسوقاً لبيان خشيتِهم من الله تعالى وإخباتِهم له مع ما لهم من علوّ الرتبة وسمُوّ الطبقة في شرف النسَب وكمالِ النفس والزُلفى من الله عز سلطانه، وسجّداً وبُكياً حالان من ضمير خروا أي ساجدين باكين. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اتلوا القرآن وابكُوا فإن لم تبكُوا فتباكوا» والبُكِيُّ جمع باكٍ كالسُّجّد جمع ساجد، وأصله بُكُويٌ فاجتمعت الواوُ والياء وسُبقت إحداهما بالسكون فقُلبت الواوُ ياء وأُدغمت الياءُ في الياء، وحُرّكت الكافُ بالكسر المجانس للباء، وقرئ: {يُتلى} بالياء التحتانيةِ لأن التأنيثَ غيرُ حقيقي، وقرئ: {بِكِيّاً} بكسر الباء للإتباع، قالوا: ينبغي أن يدعوَ الساجد في سجدته بما يليق بآياتها فهنا يقول: اللهُم اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهدبين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك وفي آية الإسراء يقول اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك وفي آية التنزيل السجدة يقول اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك من أن أكون من المستكبرينعن أمرك.

.تفسير الآيات (59- 62):

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)}
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} يقال: لعَقِب الخير خلفٌ بفتح اللام ولعقِب الشرِّ خلْفٌ بالسكون أي فعقَبهم وجاء بعدهم عَقِبُ سوءٍ {أَضَاعُواْ الصلاة} وقرئ: {الصلواتِ} أي تركوها أو أخّروها عن وقتها {واتبعوا الشهوات} من شرب الخمر واستحلالِ نكاحِ الأختِ من الأب والانهماكِ في فنون المعاصي. وعن علي رضي الله عنه عندهم مِنْ بناء المشيَّد وركوبِ المنظور ولُبس المشهور {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} أي شراً فإن كلَّ شر عند العرب غيٌّ وكل خير رشادٌ كقوله:
فمن يلقَ خيراً يحمَدِ الناسُ أمرَه ** ومن يغْوِ لا يعدَمْ على الغي لائما

وعن الضحاك جزاءَ غيَ كقوله تعالى: {يَلْقَ أَثَاماً} أو غياً عن طريق الجنة، وقيل: «غَيٌّ وادٍ في جهنمَ تستعيذ منه أوديتُها» وقوله تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صالحا} يدل على أن الآيةَ في حق الكفرة {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافِه بما في حيز الصلة، وما فيه من معنى البُعد لما مرّ مراراً، أي فأولئك المنعوتون بالتوبة والإيمانِ والعمل الصالح {يَدْخُلُونَ الجنة} بموجب الوعدِ المحتوم وقرئ: {يُدْخَلون} على البناء للمفعول.
{وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} أي لا يُنقَصون من جزاء أعمالِهم شيئاً، أو لا ينقصون شيئاً من النقص، وفيه تنبيهٌ على أن كفرَهم السابقَ لا يضرهم ولا ينقُص أجورَهم.
{جنات عَدْنٍ} بدلٌ من الجنةَ بدلَ البعض لاشتمالها عليها وما بينهما اعتراضٌ أو نصبٌ على المدح، وقرئ بالرفع على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي هي أو تلك جنات الخ. أو مبتدأ خبرُه التي وعد الخ، وقرئ: {جنة عدْنَ} نصباً ورفعاً، وعدْنُ علمٌ لمعنى العَدْن وهو الإقامةُ كما أن فيْنةَ وسحرَ وأمسَ فيمن لم يصرِفها أعلامٌ لمعاني الفينةِ وهي الساعة التي أنت فيها والسحرِ والأمسِ فجرى لذلك مجرى العدْن، أو هو علمٌ لأرض الجنة خاصةً ولولا ذلك لما ساغ إبدالُ ما أضيف إليه من الجنة بلا وصفٍ عند غير البصريين ولا صفةٍ بقوله تعالى: {التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ} وجعلُه بدلاً منه خلافُ الظاهر فإن الموصولَ في حكم المشتقّ وقد نصّوا على أن البدَل بالمشتق ضعيفٌ، والتعرضُ لعنوان الرحمة للإيذان بأن وعدَها وإنجازَه لكمال سَعةِ رحمته والباء في قوله تعالى: {بالغيب} متعلقةٌ بمضمر هو حالٌ من المضمر العائدِ إلى الجنات أو من عباده، أي وعدها إياهم ملتبسةً أو ملتبسين بالغيب، أي غائبةً عنهم غيرَ حاضرة أو غائبين عنها لا يرَوْنها وإنما آمنوا بها بمجرد الإخبار، أو بمضمر هو سببُ الوعدِ أي وعدها إياهم بسبب إيمانِهم.
{إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ} أي موعدُه كائناً ما كان فيدخل فيه الجناتُ الموعودةُ دخولاً أولياً، ولما كانت هي مثابةً يُرجَع إليها قيل: {مَأْتِيّاً} أي يأتيه مَنْ وُعِد له لا محالة بغير خُلْف، وقيل: هو مفعولٌ بمعنى فاعل، وقيل: مأتياً أي مفعولاً مُنجَزاً من أتى إليه إحساناً أي فعَلَه.
{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} أي فضولَ كلامٍ لا طائلَ تحته وهو كنايةٌ عن عدم صدورِ اللغوِ من أهلها، وفيه تنبيهٌ على أن اللغوَ مما ينبغي أن يُجتنَب عنه في هذه الدارِ ما أمكن {إِلاَّ سلاما} استثناءٌ منقطِعٌ أي لكن يسمعون تسليمَ الملائكة عليهم أو تسليمَ بعضهم على بعض، أو متصلٌ بطريق التعليقِ بالمُحال أي لا يسمعون لغواً ما إلا سلاماً فحيث استحال كونُ السلامِ لغواً استحال سماعُهم له بالكلية كما في قوله:
ولا عيبَ فيهم غيرَ أن سيوفَهم ** بهنّ فُلولٌ من قراع الكتائبِ

أو على أن معناه الدعاءُ بالسلامة وهم أغنياءُ عنه فهو من باب اللغو ظاهراً وإنما فائدتُه الإكرامُ وقوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} واردٌ على عادة المتنعّمين في هذه الدار، وقيل: المرادُ دوامُ رزقِهم ودُرورُه وإلا فليس فيها بكرةٌ ولا عشيٌّ.

.تفسير الآيات (63- 65):

{تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)}
{تِلْكَ الجنة} مبتدأٌ وخبرٌ جيء به لتعظيم شأنِ الجنةِ وتعيينِ أهلِها، فإن ما في اسم الإشارةِ من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلتِها وعلوِّ رتبتها {التى نُورِثُ} أي نورثها {مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} أي نُبقيها عليهم بتقواهم ونمتّعهم بها كما نُبقي على الوارث مالَ مُورِّثه ونمتّعه به، والوِراثةُ أقوى ما يستعمل في التملك والاستحقاق من الألفاظ من حيث إنها لا تُعقَبُ بفسخ ولا استرجاعٍ ولا إبطالٍ، وقيل: يُورَّث المتقون من الجنة المساكنَ التي كانت لأهل النار لو آمنوا وأطاعوا زيادةً في كرامتهم، وقرئ: {نورّث} بالتشديد.
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ} (حكايةٌ لقول جبريلَ حين استبطأه رسولُ الله عليهما الصلاة والسلام لما سئل عن أصحاب الكهفِ وذي القرنين والروح، فلم يدرِ كيف يجيب ورجا أن يوحى إليه فيه فأبطأ عليه أربعين يوماً أو خمسةَ عشرَ فشق ذلك عليه مشقةً شديدة، وقال المشركون: وَدَّعَه ربُّه وقلاه ثم نزل ببيان ذلك) وأنزل الله عز وجل هذه الآيةَ وسورةَ الضحى، والتنزّل النزولُ على مَهل لأنه مطاوعٌ للتنزيل وقد يطلق على مطلق النزولِ كما يطلق التنزيلُ على الإنزال، والمعنى وما ننزِل وقتاً غَبَّ وقتٍ إلا بأمر الله تعالى على ما تقتضيه حكمتُه، وقرئ: {وما يَتنزَّل} بالياء والضمير للوحي {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك} وهو ما نحن فيه من الأماكن والأزمنة ولا ننتقل من مكان إلى مكان ولا نتنزّل في زمان دون زمان إلا بأمره ومشيئته.
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} أي تاركاً لك يعني أن عدمَ النزل لم يكن إلا لعدم الأمر به لحكمة بالغةٍ فيه، ولم يكن لتركه تعالى لك وتوديعِه إياك كما زعمَتِ الكفرة، وفى إعادة اسمِ الربّ المُعربِ عن التبليغ إلى الكمال اللائقِ مضافاً إلى ضميره عليه السلام من تشريفه والإشعارِ بعلة الحكمِ ما لا يخفى، وقيل: أولُ الآية حكايةُ قولِ المتقين حين يدخُلون الجنة مخاطِباً بعضُهم بعضاً بطريق التبجّح والابتهاج، والمعنى وما نتنزّل الجنةَ إلا بأمر الله تعالى ولطفه وهو مالكُ الأمورِ كلِّها سالِفها ومُتَرقَّبِها وحاضرِها فما وجدناه وما نجده من لطفه وفضلِه وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} تقريرٌ لقولهم من جهة الله تعالى أي وما كان ناسياً لأعمال العاملين وما وعدهم من الثواب عليها.
وقوله تعالى: {رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} بيانٌ لاستحالة النسيان عليه تعالى فإن مَن بيده ملكوتُ السموات والأرض وما بينهما كيف يُتصوَّر أن يحوم حول ساحتِه سبحانه الغفلةُ والنسيانُ؟ وهو خبرُ مبتدأ محذوفٍ أو بدلٌ من ربك، والفاء في قوله تعالى: {فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ} لترتيب ما بعدها من موجب الأمرين على ما قبلها من كونه تعالى ربَّ السمواتِ والأرض وما بينهما، وقيل: من كونه تعالى غيرَ تارك له عليه السلام أو غيرَ ناس لأعمال العاملين، والمعنى: فحين عرفتَه تعالى بما ذُكر من الربوبية الكاملةِ فاعبده الخ، فإن إيجابَ معرفته تعالى كذلك لعبادته مما لا ريب فيه أو حين عرفتَ أنه تعالى لا ينساك أو لا ينسى أعمالَ العاملين كائناً مَنْ كان فأقبِلْ على عبادته واصطبرْ على مشاقّها ولا تحزن بإبطال الوحي وهُزْؤ الكفرةِ، فإنه يراقبك ويراعيك ويلطُف بك في الدنيا والآخرة.
وتعديةُ الاصطبار باللام لا بحرف الاستعلاء كما في قوله تعالى: {واصطبر عَلَيْهَا} لتضمينه معنى الثباتِ للعبادة فيما تورِد عليه من الشدائد والمشاقّ، كقولك للمبارز: اصطبرُ لِقَرنك أي اثبُت له فيما يورِد عليك من شدائده {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} السمِيُّ الشريكُ في الاسم والظاهرُ أن يراد به هاهنا الشريكُ في اسم خاص قد عُبِّر عنه تعالى بذلك وهو ربُّ السموات والأرض وما بينهما، والمرادُ بإنكارُ العلم ونفيُه إنكار المعلوم ونفيه على أبلغ وجهٍ وآكَدِه، فالجملةُ تقريرٌ لما أفاده الفاء من علّية ربوبيته العامةِ لوجوب عبادتِه بل لوجوب تخصّصها به تعالى ببيان استقلالِه عز وجل بذلك الاسمِ وانتفاءِ إطلاقِه على الغير بالكلية حقاً أو باطلاً.
وقيل: المرادُ هو الشريكُ في الاسم الجليلِ فإن المشركين مع غلوهم في المكابرة لم يسمّوا الصنم بالجلالة أصلاً، وقيل: هو الشريكُ في اسم الإله والمرادُ بالتسمية التسميةُ على الحق، فالمعنى هل تعلم شيئاً يسمى بالاستحقاق إلها؟ وأما التسميةُ على الباطل فهي كلا تسميةٍ، فتقريرُ الجملة لوجوب العبادة حينئذ باعتبار ما في الاسمين الكريمين من الإشعار باستحقاق العبادةِ فتدبر.