فصل: تفسير الآيات (16- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (16- 18):

{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)}
{وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا} التي من جُملتها هذه الآياتُ النَّاطقةُ بما فُصِّل {وَلِقَاء الاخرة} صرَّح بذلك مع اندراجِه في تكذيبِ الآياتِ للاعتناءِ بأمرِه. وقولُه تعالى: {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى الموصولِ باعتبارِ اتِّصافِه بما في حيِّز الصِّلةِ من الكُفرِ والتَّكذيبِ بآياتِه تعالى وبلقاءِ الآخرةِ للإيذانِ بكمالِ تميُّزِهم بذلكَ عن غيرِهم وانتظامِهم في سلكِ المُشاهداتِ، وما فيهِ من مَعْنى البُعدِ مع قُرب العهدِ بالمشارِ إليهِ للإشعارِ ببُعد منزلتِهم في الشرِّ أي أولئكَ الموصوفونَ بما فُصِّل من القبائحِ. {فِى العذاب مُحْضَرُونَ} على الدّوام لا يغيبونَ عنه أبداً.
{فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الحمد فِي السموات والارض وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} إثرَ ما بُيِّن حالُ فريَقْي المؤمنينَ العاملينَ للصالحاتِ والكافرينَ المكذِّبينَ بالآياتِ وما لهُما من الثَّوابِ والعذابِ أُمروا بما يُنجِّي من الثَّاني ويُفضِي إلى الأول من تنزيهِ الله عزَّ وجلَّ عن كلِّ مَا لا يليقُ بشأنِه سبحانَهُ ومن حمدِه تعالى على نعمِه العظامِ، وتقديمُ الأولِ على الثَّاني لما أنَّ التَّخليةَ متقدِّمةٌ على التَّحليةِ. والفاء لترتيبِ ما بعدَها على ما قبلَها أي إذا علمتُم ذلك فسبِّحوا الله تعالى أي نزِّهُوه عمَّا ذكر سبحانَهُ أي تسبيحَه اللائقَ به في هذه الأوقاتِ واحمدُوه فإنَّ الإخبارَ بثبوتِ الحمدِ له تعالى ووجوبِه على المميِّزينَ من أهلِ السَّمواتِ والأرضِ في معنى الأمرِ به على أبلغِ وجهٍ وآكدِه، وتوسيطُه بينَ أوقاتِ التَّسبيحِ للاعتناءِ بشأنِه والإشعارِ بأنَّ حقَّهما أنْ يُجمعَ بينَهما كما ينبيءُ عنه قولُه تعالى: {وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ} وقولُه تعالى: {فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} وقولُه صلى الله عليه وسلم: «من قالَ حينَ يُصبحُ وحينَ يُمسي سبحانَ الله وبحمدِه مائةَ مرَّةٍ حُطَّت خطاياهُ وإنْ كانتْ مثلَ زَبَدِ البحرِ». وقولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «مَنْ قالَ حينَ يُصبحُ وحينَ يُمسي سبُحانَ الله وبحمدِه مائةَ مرَّةٍ لم يأتِ أحدٌ يومَ القِيامةِ بأفضلَ ممَّا جاءَ بهِ إلا أحدٌ قالَ مثلَ ما قالَ أو زادَ عليهِ». وقولُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «كلمتانِ خفيفتانِ على اللَّسانِ ثقيلتانِ في الميزانِ سبحانَ الله وبحمدِه سبحانَ الله العظيمِ» وغيرُ ذلكَ ممَّا لا يُحصى من الآياتِ والأحاديثِ، وتخصيصُهما بتلكَ الأوقاتِ للدِّلالةِ على أنَّ ما يحدثُ فيها من آياتِ قدُرتِه وأحكامِ رحمتِه ونعمتِه شواهدُ ناطقةٌ بتنزهِه تعالى واستحقاقِه الحمدَ وموجبةٌ لتسبيحِه وتحميدِه حتماً. وقولُه تعالى: {وعشيَّاً} عطفٌ على {حينَ تُمسون} وتقديمُه على حينَ تُظهرون لمُراعاةِ الفواصلِ وتغييرُ الأسلوبِ لِمَا أنَّه لا يجيءُ منه الفعلُ بمعنى الدُّخولِ في العشيِّ كالماء والصباحِ والظَّهيرة، ولعلَّ السرَّ في ذلك أنَّه ليس من الأوقاتِ التي تختلفُ فيها أحوالُ النَّاس وتتغيرُ تغيراً ظاهراً مصحِّحاً لوصفِهم بالخروجِ عمَّا قبلها والدُّخولِ فيها كالأوقاتِ المذكورةِ فإنَّ كلاًّ منها وقتٌ تتغير فيه الأحوالُ تغيراً ظاهراً أمَّا في المساء والصَّباح فظاهرٌ وأمَّا في الظَّهيرة فلأنَّها وقتٌ يعتاد فيه التَّجرُّدُ عن الثيابِ للقيلولةِ كما مرَّ في سورة النُّور.
وقيل المرادُ بالتَّسبيح والحمد الصَّلاة لاشتمالِها عليهما. وقد رُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما (أن الآية جامعةٌ للصلوات الخمس تُمسون صلاتا المغربِ والعشاءِ وتُصبحون صلاةُ الفجرِ وعشياً صلاةُ العصرِ وتُظهرون صلاةُ الظُّهرِ). ولذلك ذهبَ الحسنُ إلى أنَّها مدنيةٌ إذ كان يقول إن الواجبَ بمكَّةَ ركعتانِ، في أي وقتٍ اتفقتا وإنما فرضت الخمسُ بالمدينة والجمهورُ على أنها فُرضت بمكَّةَ وهو الحقُّ لحديث المعراج وفي آخره هنَّ خمسُ صلواتٍ كل يوم وليلة. عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سرَّه أنْ يُكالَ له بالقفيزِ الأَوفى فليقُل: {فسبحانَ الله حينَ تُمسون وحينَ تُصبحون} الآيةَ». وعنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «من قال حين يُصبح {فسبحانَ الله حينَ تُمسون وحينَ تُصبحون} إلى قولِه تعالى: {وكذلك تُخرجونَ} أدرك ما فاتَه في يومِه ومن قالَها حينَ يُمسي أدركَ ما فاتَه في ليلتِه» وقرئ: {حينا تُمسون وحينا تُصبحون} أي تُمسون فيه وتُصبحون فيه.

.تفسير الآيات (19- 21):

{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)}
{يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت} كالإنسان من النطفة والطير من البيضة. {وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى} النُّطفةَ والبيضةَ من الحيوانِ {ويُحْيِى الارض} بالنباتَ {بَعْدَ مَوْتِهَا} يُبسها {وكذلك} ومثلَ ذلك الإخراجُ {تُخْرَجُونَ} من قبورِكم. وقرئ: {تَخرُجون} بفتح التَّاءِ وضمِّ الرَّاءِ. وهذا نوعُ تفصيلٍ لقوله تعالى: {الله يبدأُُ الخلقَ ثم يُعيده} {وَمِنْ ءاياته} الباهرةِ الدَّالَّةِ على أنَّكم تُبعثون دلالةً أوضحَ ممَّا سبق فإنَّ دلالةَ بدءِ خلقِهم على إعادتِهم أظهرُ من دلالةِ إخراجِ الحيِّ من الميتِ وإخراجِ الميتِ من الحيِّ ومن دلالة إحياءِ الأرضِ بعد موتِها عليها {أَنْ خَلَقَكُمْ} أي في ضمن خلقِ آدمَ عليه السَّلامُ لما مرَّ مراراً من أنَّ خلقَه عليه الصَّلاة والسَّلام منطوٍ على خلق ذرياتِه انطواءً إجمالياً {مّن تُرَابٍ} لم يشَمَّ رائحةَ الحياة قطّ ولا مناسبة بينه وبين ما أنتُم عليه في ذاتِكم وصفاتِكم {ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} أي فاجأتُم بعد ذلك وقت كونِكم بشراً تنتشرون في الأرضِ، وهذا مجمل ما فُصِّل في قوله تعالى: {ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مّنَ البعث فَإِنَّا خلقناكم مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} الآية {وَمِنْ ءاياته} الدَّالَّةِ على ما ذُكر من البعث وما بعده من الجزاءِ {أَنْ خَلَقَ لَكُم} أي لأجلِكم {مّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا} فإنَّ خلق أصلِ أزواجكم حواءَ من ضِلَع آدمَ عليه السَّلام متضمن لخلقهنَّ من أنفسكم على ما عرفته من التَّحقيقِ أو من جنسكم لا من جنسٍ آخرَ وهو الأوفقُ لقولِه تعالى: {لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا} أي لتألفُوها وتميلُوا إليها وتطمئنُّوا بها فإنَّ المُجانسةَ من دَوَاعي التَّضامِّ والتَعارفِ كما أنَّ المخالفةَ من أسبابِ التفرُّقِ والتَّنافرِ {وَجَعَلَ بَيْنَكُم} أي بين الأزواجِ إنَّا على تغليب الرِّجالِ على النِّساءِ في الخطاب أو على حذفِ ظرفٍ معطوفٍ على الظَّرفِ المذكُورِ أي جعل بينكم وبينهنَّ كما مرَّ في قولِه تعالى: {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ} وقيل: أو بين أفرادِ الجنسِ أي بينَ الرِّجالِ والنِّساءِ ويأباهُ قولُه تعالى: {مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} فإنَّ المرادَ بهما ما كان منهما بعصمةِ الزَّواج قطعاً أي جعلَ بينكم بالزَّواج الذي شرعَه لكم توادَّاً وتراحُماً من غير أنْ يكونَ بينكم سابقةُ معرفةٍ ولا رابطةٌ مصحِّحةٌ للتَّعاطفِ من قرابةٍ أو رحمٍ قيل المودَّةُ والرَّحمةُ من قبلِ الله تعالى، والفَرْك من الشَّيطانِ. وَعَنِ الحَسَنِ رَحِمَهُ الله: المَودَّةُ كِنايةٌ عنِ الجِمَاعِ، وَالرَّحمةُ عَنِ الولدِ كما قال تعالى ورحمةً منا {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أيْ فيما ذُكر من خلقِهم من تُرابٍ وخلقِ أزواجِهم من أنفسِهم وإلقاءِ المودَّةِ والرَّحمةِ بينهم. وما فيهِ من مَعنْى البُعد مع قربِ العهدِ بالمشارِ إليه للإشعارِ ببُعد منزلتِه {لاَيَاتٍ} عظيمةً لا يُكْتَنَهُ كُنْهُها كثيرةً لا يُقَادر قَدْرُها {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في تضاعيفِ تلك الأفاعيلِ المبنيةِ على الحكمِ البالغةِ. والجُملة تذييلٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله مع التنبيهِ على أنَّ ما ذُكر ليس بآيةٍ فذَّةٍ كما يُنبىء عنه قولُه تعالى: ومن آياتِه بل هي مشتملةٌ على آياتٍ شتَّى.

.تفسير الآية رقم (22):

{وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)}
{وَمِنْ ءاياته} الدَّالَّةِ على ما ذُكر من أمر البعثِ وما يتلُوه من الجزاءِ {خُلِقَ السموات والارض} إما من حيثُ إنَّ القادرَ على خلقِهما بما فيهما من المخلوقات بلا مادَّة مستعدةِ لها أظهرُ قدرة على إعادِة ما كان حيَّاً قبل ذلك وإمَّا منْ حيثُ إنَّ خلقهما وما فيهما ليس إلا لمعاشِ البشرِ ومعادِه كما يُفصح عنه قولُه تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الارض جَمِيعاً} وقولُه تعالى: {وَهُوَ الذي خَلَقَ السموات والارض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} {واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ} أي لغاتِكم بأنْ علَّم كلَّ صنفٍ لغتَهُ وألهمه وضعَها وأقدرَه عليها، أو أجناسِ نُطفكم وأشكالِه فإنَّك لا تكادُ تسمعُ منطقينِ متساويينِ في الكيفيَّةِ من كلِّ وجهٍ {وألوانكم} ببياضِ الجلدِ وسوادِه وتوسطِه فيما بينهما أو تخطيطاتِ الأعضاءِ وهيئاتِها وألوانِها وحُلاها بحيثُ وقعَ بها التمايزُ بين الأشخاسِ حتَّى إنَّ التَّوأمينِ مع توافقِ موادِّهما وأسبابِهما والأمورِ المتلاقيةِ لهما في التَّخليقِ يختلفانِ في شيءٍ من ذلك لا محالَة وإنْ كانا في غايةِ التَّشابِه وإنَّما نُظِمَ هذا في سلكِ الآياتِ الآفاقيةِ من خلقِ السَّمواتِ والأرضِ مع كونِه من الآياتِ الأنفسيةِ الحقيقية بالانتظامِ في سلكِ ما سبق من خلقِ أنفسِهم وأزواجِهم للإيذانِ باستقلالِه والاحترازِ عن توهُّمِ كونِه من تتمَّاتِ خلقِهم {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي فيما ذُكر من خلقِ السَّمواتِ والأرضِ واختلافِ الألسنةِ والألوانِ {لاَيَاتٍ} عظيمةً في أنفسِها كثيرةً في عددِها {للعالمين} أي المتَّصفين بالعلمِ كما في قولِه تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العالمون} وقرئ بفتحِ اللامِ وفيه دلالةٌ على كمالِ وضوحِ الآياتِ وعدمِ خفائِها على أحدٍ من الخلقِ كافَّة.
{وَمِنْ ءاياته مَنَامُكُم باليل والنهار} لاستراحةِ القوى النَّفسانيةِ وتقوِّي القُوى الطَّبيعيةِ.

.تفسير الآيات (23- 25):

{وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)}
{وابتغاؤكم مّن فَضْلِهِ} فيهما فإنَّ كُلاًّ من المنامِ وابتغاءِ الفضلِ يقعُ في المَلَوينِ وإنْ كان الأغلبُ وقوعَ الأول في الأولِ والثَّاني في الثَّانِي أو منامُكم بالليلِ وابتغاؤُكم بالنَّهارِ كما هو المعتادُ والموافقُ لسائرِ الآياتِ الورادةِ في ذلك خَلاَ أنَّه فصَل بين القرينينِ الأولينِ بالقرينينِ الآخيرينِ لأنَّهما زمان، والزَّمانُ مع ما وقعَ فيه كشيءٍ واحدٍ مع إعانةِ اللفِّ على الاتحادِ {إِنَّ فِي ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي شأنُهم أنْ يسمعُوا الكلامَ سماعَ تفهمٍ واستبصارٍ حيثُ يتأمَّلون في تضاعيفِ هذا البيانِ ويستدلُّون بذلك على شؤونِه تعالى: {وَمِنْ ءاياته يُرِيكُمُ البرق} الفعلُ إمَّا مقدَّرٌ بأنْ كما في قولِ مَن قال:
أَلاَ أيُّهذا الزَّاجِري أحضُرَ الوَغَى

أي أنْ أحضُرَ أو منزَّلٌ منزلَة المصدرِ وبه فُسِّر المثلُ المشهُورُ «تسمعُ بالمُعَيديِّ خيرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ» أو هو على حالِه صفةٌ لمحذوفٍ أي آيةٌ يريكم بها البرق كقولِ مَن قال:
وَمَا الدَّهرُ إلاَّ نَارَتانِ فمنهُمَا ** أموتُ وأُخرى أَبتغِي العيشَ أَكْدَحُ

أي فمنهما تارةً أموتُ فيها وأُخرى أبتغِي فيها أو ومن آياتِه شيءٌ أو سحابٌ يُريكم البرقَ {خَوْفًا} من الصَّاعقةِ أو للمسافرِ {وَطَمَعًا} في الغيثِ أو للمقيمِ ونصبُهما على العِلَّةِ لفعلٍ يستلزمُه المذكورُ فإنَّ إراءتهم البرقَ مستلزمةٌ لرؤيتِهم إيَّاه أو للمذكورِ نفسِه على تقديرِ مضافٍ نحو إراءةِ خوفٍ وطمعٍ أو على تأويلِ الخوفِ والطمعِ بالإخافةِ والإطماعِ كقولِك فعلتُه رغماً للشَّيطانِ أو على الحالِ نحو كلَّمتُه شِفاهاً. {وَيُنَزّلُ مِنَ السماء مَاءً}. وقرئ بالتَّخفيفِ {فَيُحْيِى بِهِ الأرض} بالنباتِ {بَعْدَ مَوْتِهَا} يُبسها {إِنَّ فِي ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فإنَّها من الظُّهورِ بحيث يكفي في إدراكِها مجرَّدُ العقل عند استعمالِه في استنباطِ أسبابِها وكيفيَّةِ تكوُّنِها. {وَمِنْ ءاياته أَن تَقُومَ السماء والارض بِأَمْرِهِ} أي بإرادتِه تعالى لقيامهِما، والتَّعبيرُ عنها بالأمر للدِّلالةِ على كمال القدرة والغنى عن المبادئ والأسبابِ وليس المرادُ بإقامتهما إنشاءهما لأنَّه قد بُيِّن حاله بقولِه تعالى: {وَمِنْ ءاياته خَلْقُ السموات والارض} ولا إقامتهما بغير مقيم محسوسٍ كما قيل فإن ذلك من تتماتِ إنشائِهما وإنْ لم يصرح به تعويلاً على ما ذُكر في غير موضعٍ من قوله تعالى: {خَلَقَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} الآية بل قيامَهما واستمرارَهما على ما هُما عليه إلى أجلهما الذي نطقَ به قولُه تعالى فيما قيل: {مَّا خَلَقَ الله السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} وحيث كانتْ هذه الآيةُ متأخرةً عن سائرِ الآياتِ المعدودةِ متَّصلةً بالبعثِ في الوجودِ أُخرت عنهنَّ وجُعلت متَّصلةً به في الذِّكرِ أيضاً فقيلَ {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ الارض إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} فإنه كلامٌ مسوق للاخبار بوقوعِ البعثِ ووجودِه بعد انقضاء أجل قيامِهما مترتِّب على تعداد آياتِه الدَّالَّةِ عليه غير منتظمٍ في سلكِها كما قيل: كأنَّه قيل: ومن آياتِه قيامُ السَّمواتِ والأرضِ على هيئاتِهما بأمرِه تعالى إلى أجل مسمَّى قدَّره الله تعالى لقيامِهما ثمَّ إذا دعاكم أي بعد انقضاءِ الأجلِ من الأرض وأنتُم في قبورِكم دعوة واحدة بأنْ قال أيُّها الموتى اخرجُوا فاجأتم الخروجَ منها وذلك قولُه تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى} ومن الأرضِ متعلق بدعاكُم إذ يكفي في ذلك كون المدعوِّ فيها يقال دعوته من أسفلِ الوادِي فطلع إليَّ لا بتخرجون لأنَّ ما بعد إذا لا يعملُ فيما قبلها.

.تفسير الآيات (26- 27):

{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)}
{وَلَهُ} خاصة {مَن فِي السموات والارض} من الملائكةِ والثَّقلين خَلقاً ومُلكاً وتصرُّفاً ليس لغيرِه شركةٌ في ذلك بوجهٍ من الوجوه {كُلٌّ لَّهُ قانتون} أي منقادُون لفعله لا يمتنعون عليه في شأنٍ من شؤونِه تعالى {وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} بعد موتِهم، وتكريرُه لزيادةِ التَّقريرِ والتَّمهيدِ لما بعده من قولِه تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي بالإضافةِ إلى قُدَرِكم والقياس على أصولِكم وإلا فُهما عليه سواءٌ وقيل أهونُ بمعنى هَيِّنٌ، وتذكير الضمير مع رجوعِه إلى الإعادة لما أنَّها مؤَّولةٌ بأنْ يُعيد وقيل: هو راجعٌ إلى الخلقِ وليس بذاك، وأما ما قيل من أنَّ الإنشاء بطريقِ التَّفضل الذي يتخيَّر فيه الفاعلُ بين الفعل والتَّرك، والإعادةُ من قبيلِ الواجبِ الذي لابد من فعله حتماً فكان أقربَ إلى الحصولِ من الإنشاءِ المترددِ بين الحصولِ وعدمِه فبمعزلٍ من التَّحصيل إذ ليس المرادُ بأهونيةِ الفعل أقربيَّتَه إلى الوجود باعتبار كثرةِ الأمورِ الدَّاعية للفاعل إلى إيجادِه وقوَّة اقتضائها لتعلق قدرته به بل أسهلية تأتَّيه وصدوره عنه بعد تعلق قدرته بوجوده وكونِه واجباً بالغيرِ ولا تفاوتَ في ذلك بين أنْ يكون ذلك التعلق بطريق الإيجابِ أو بطريقِ الاختيارِ. {وَلَهُ المثل الاعلى} أي الوصفُ الأعلى العجيبُ الشأنِ من القدرة العامَّةِ والحكمة التَّامةِ وسائر صفاتِ الكمال التي ليس لغيرِه ما يُدانيها فضلاً عمَّا يُساويها، ومن فسَّره بقوله لا إله إلا الله أرادَ به الوصفَ بالوحدانيةِ {فِي السموات والارض} متعلق بمضمونِ الجملة المتقدِّمةِ على معنى أنَّه تعالى قد وُصف به وعُرف فيهما على ألسنةِ الخلائقِ وألسنةِ الدَّلائلِ، وقيل: متعلق بالأعلى وقيل بمحذوفٍ هو حالٌ منه أو من المثل أو من ضميره في الأعلى {وَهُوَ العزيز} القادر الذي لا يعجزُ عن بدءِ ممكنٍ وإعادتِه {الحكيم} الذي يجري الأفعالَ على سَنَنِ الحكمة والمصلحةِ.