فصل: تفسير الآيات (18- 23):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (18- 23):

{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)}
{وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} عطفٌ على قولِه تعالى أنَّه استمعَ أي وأُوحيَ إليَّ أنَّ المساجدَ مختصَّةٌ بالله تعالَى وقيلَ: معناهُ ولأنَّ المساجدَ لله {فَلاَ تَدْعُواْ} أي لا تعبدُوا فيَها {مَعَ الله أَحَداً} غيرَه. وقيلَ: المرادُ بالمساجدِ المسجدُ الحرامُ والجمعُ لأنَّ كلَّ ناحيةٍ منْهُ مسجدٌ له قبلةٌ مخصوصةٌ أو لأنَّه قبلة المساجدِ وقيلَ: الأرضُ كلُّها لأنَّها جعلتْ مسجداً للنبيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيلَ: مواضعُ السجودِ على أنَّ المرادَ نهيُ السجودِ لغير الله تعالَى وقيل: أعضاءُ السجودِ السبعةُ وقيلَ: السجداتُ على أنَّه جمعُ المصدرِ الميميِّ {وَأَنَّهُ} من جُملةِ المُوحَى أي وأُوحيَ إليَّ أنَّ الشأنَ {لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله} أي النبيُّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وإيرادُه بلفطِ العبدِ للإشعارِ بَما هُو المُقتضِي لقيامِه وعبادتِه للتواضعِ لأنَّه واقعٌ موقعَ كلامِه عن نفسِه {يَدْعُوهُ} حالٌ من فاعلِ قامَ أي يعبدُه وذلكَ قيامُه لصلاةِ الفجرِ بنخلةَ كما مرَّ تفصيلُه في سورةِ الأحقافِ. {كَادُواْ} أي الجنُّ {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} متراكمينَ من ازدحامِهم عليه تعجباً ممّا شاهدُوا من عبادتِه وسمعُوا من قراءتِه واقتداءِ أصحابِه بهِ قياماً وركوعاً وسجوداً لأنَّهم رأوا ما لَم يَرَوا مثلَهُ وسمعُوا بما لم يسمعُوا بنظيرِه وقيلَ: معناهُ لمَّا قامَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يعبدُ الله وحدَهُ مخالفاً للمشركينَ كاد المشركون يزدحون عليه متراكمينَ واللِّبدُ جمعُ لبدةٍ وهيَ ما تلبَّد بعضُه على بعضٍ، ومنَها لبدةُ الأسدِ. وقرئ: {لبُدُا} جمعُ لبدةٍ وهي بمعنى اللبدةِ ولُبَّد جمع لابدٍ كساجدٍ وسُجّدٍ ولُبْداً بضمتينِ جمعُ لَبُودٍ كصبُورٍ وصُبُرٍ وعن قتادةَ تلبدتِ الإنسُ والجنُّ على هذا الأمرِ ليطفئُوه فأبَى الله ألا أنْ يظهرَهُ على مَنْ ناوأه.
{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو} أي أعبدُ {رَبّى وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ} بربِّي في العبادةِ {أَحَدًا} فليسَ ذلكَ ببدعٍ ولا مستنكرٍ يوجبُ التعجبَ أو الإطباقَ على عداوتِي. وقرئ: {قالَ} على أنَّه حكايةٌ لقولِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ للمتراكمينَ عليهِ والأولُ هُو الأظهرُ والأوفقُ لقولِه تعالى: {قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً} كأنَّه أريدَ لا أملكُ لكُم ضراً ولا نفعاً ولا غياً ولا رشداً فتركَ منْ كِلا المتقابلينِ ما ذُكِرَ في الآخر. {قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ الله أَحَدٌ} إنْ أرادني بسوءٍ {وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} ملتجأً ومعدلاً هذا بيانٌ لعجزِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عن شؤونِ نفسِه بعد بيانِ عجزِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلاةُ عن شؤونِ غيرِه. وقولُه تعالى: {إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله} استئناءٌ من قولِه لا أملكُ، فإنَّ التبليغَ إرشادٌ ونفعٌ وما بينهما اعتراضٌ مؤكدٌ لنفي الاستطاعة أو منْ مُلتحداً أي لنْ أجدَ من دونه منجاً إلا أنْ أُبلغَ عنه ما أَرسلنِي به، وقيلَ: إلاَّ مركبةٌ من إنِ الشرطيةِ ولا النافيةِ ومعناهُ أنْ لاَ أبلغَ بلاغاً من الله والجوابُ محذوفٌ لدلالة ما قبلَهُ عليهِ {ورسالاته} عطفٌ على بلاغاً ومن الله صفتُه لا صلتُه أي لا أملكُ لكُم إلا تبليغاً كائناً منهُ تعالى ورسالاتِه التي أرسلني بها {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} في الأمرِ بالتوحيد إذ الكلامُ فيه {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} وقرئ بفتح الهمزة على معنى فحقُّه أو فجزاؤه أنَّ له نارَ جهنَم {خالدين فِيهَا} في النار أو في جهنمَ والجمعُ باعتبار المَعْنى {أَبَدًا} بلا نهايةٍ.

.تفسير الآيات (24- 27):

{حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)}
وقوله تعالى: {حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} غايةٌ لمحذوف يدلُّ عليه الحالُ من استضعاف الكفارِ لأنصارِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ واستقلالِهم لعدده كأنَّه قيلَ لا يزالونَ على ما هُم عليهِ حتَّى إذَا رَأَوا ما يُوعدونَ من فنون العذابِ في الآخرة {فَسَيَعْلَمُونَ} حينئذٍ {مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} وحُمل ما يُوعدونَ على ما رأوه يوم بدر يأباه قوله تعالى: {قُلْ إِنْ أَدْرِى} أي ما أدْرِي {أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى أَمَداً} فإنه ردٌّ لما قالَه المشركونَ عند سماعِهم ذلكَ متَى يكونُ ذلكَ الموعدُ إنكاراً له واستهزاءً به فقيلَ قُل إنه كائنٌ لا محالةَ وأما وقتُه فما أدْرِي متَى يكونُ {عالم الغيب} بالرفعِ قيل: هو بدلٌ من ربِّي أو عطفُ بيانٍ له ويأباهُ الفاءُ في قولِ تعالَى {فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً} إذ يكونُ النظمُ حينئذٍ أمْ يجعلُ له عالمُ الغيبِ أمداً فلا يُظهر عليهِ أحداً، وفيهِ من الاختلالِ ما لا يَخْفى فهو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أيْ هُو عالمُ الغيبِ. والجملةُ استئنافٌ مُقررٌ لما قبلَهُ من عدم الدرايةِ والفاءُ لترتيب عدمِ الإظهارِ على تفرده تعالى بعلم الغيبِ على الاطلاق أي فلا يُطلْعُ على غيبِه إطلاعاً كاملاً ينكشفُ به جليةُ الحالِ انكشافاً تاماً مرجباً لعين اليقينِ أحداً من خلقه {إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} أي إلا رسولاً ارتضاهُ لإظهارِه على بعضِ غيوبهِ المتعلقةِ برسالتِه كما يُعربُ عنه بيانُ من ارتضَى بالرسول تعلقاً تاماً إما لكونه من مبادئ رسالتِه بأنْ يكونَ معجزةً دالةً على صحتها وإما لكونه من أركانِها وأحكامِها كعامَّة التكاليفِ الشرعيةِ التي أُمرَ بها المكلفونَ، وكيفياتِ أعمالِهم وأجزيتِها المترتبةِ عليها في الآخرةِ وما تتوقفُ هيَ عليهِ من أحوالِ الآخرةِ التي من جُمْلتِها قيامُ الساعةِ والبعثُ وغيرُ ذلكَ من الأمورِ الغيبيةِ التي بيانُها من وظائفِ الرسالةِ، وأما ما لا يتعلقُ بها على أحد الوجهينِ من الغيوبِ التي من جُمْلتِها وقتُ قيامِ الساعةِ فلا يُظهر عليهِ أحداً أبداً على أنَّ بيانَ وقتِه مخلٌّ بالحكمةِ التشريعيةِ التي عليها يدورُ فلكُ الرسالةِ وليسَ فيه ما يدلُّ على نفي كراماتِ الأولياءِ المتعلقةِ بالكشفِ فإنَّ اختصاصَ الغايةِ القاصيةِ من مراتب الكشفِ بالرسل لا يستلزمُ عدمَ حصولِ مرتبةٍ مَا منْ تلكَ المراتبِ لغيرِهم أصلاً ولا يدَّعِي أحدٌ لأحدٍ من الأولياءِ ما في رتبةِ الرُّسلِ عليهم السَّلامُ من الكشفِ الكاملِ الحاصلِ بالوحي الصريحِ. وقولُه تعالَى: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} تقريرٌ وتحقيقٌ للإظهارِ المستفادِ من الاستثناءِ وبيانٌ لكيفيته أي فإنَّه يسلكُ من جميع جوانبِ الرسولِ عليه السَّلامُ عند إظهارِه على غيبه حرساً من الملائكةِ يحرسُونه من تعرضِ الشياطينِ لما أظهَرُه عليهِ من الغيوبِ المتعلقةِ يرسالتِه.

.تفسير الآية رقم (28):

{لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)}
وقوله تعالى: {لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ} متعلقٌ بيسلكُ غايةٌ لهُ من حيثُ إنَّه مترتبٌ على الإبلاغ المترتبِ عليه إذ المرادُ به العلمُ المتعلقُ بالإبلاغ الموجود بالفعلِ، وأنْ مخففةٌ من الثقيلةِ واسمُها الذي هو ضميرُ الشأنِ محذوفٌ والجملةُ خبرُها، ورسالاتِ ربِّهم عبارةٌ عن الغيبِ الذي أُريدَ إظهارُ المُرتضَى عليهِ والجمعُ باعتبار تعددِ أفرادِه، وضميرُ أبلغُوا إمَّا للرصَدِ فالمَعْنى أنَّه تعالَى يسلُكهم من جميع جوانبِ المرتَضى ليعلمَ أنَّ الشأنَ قد أبلغُوه رسالاتِ ربِّهم سالمةً عن الاختطافِ والتخليط علماً مستتبعاً للجزاءِ، وهُو أنْ يعلَمُه موجوداً حاصلاً بالفعل كَما في قولِه تعالى: {حتى نَعْلَمَ المجاهدين} والغايةُ في الحقيقه هو الإبلاغُ والجهادُ وإيرادُ علمهِ تعالَى لإبراز اعتنائِه تعالى بأمرِهما والإشعار بترتيب الجزاءِ عليهما والمبالغة في الحثِّ عليهما والتحذير عن التفريط فيهما وإما لمن ارتضَى والجمعُ باعتبارِ مَعْنى مَنْ كَما أنَّ الإفرادَ في الضميرين السابقينِ باعتبار لفظِهما فالمَعْنى ليعلمَ أنَّه قد أبلغَ الرسلَ الموحَى إليهم رسالات ربِّهم إلى أُممهم كما هيَ من غير اختطافٍ ولا تخليطِ بعد ما أبلغها الرصَدُ إليهم كذلكَ. وقولُه تعالَى: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} أيْ بَما عندَ الرَّصَدِ أو الرُّسلِ عليهم السَّلامُ حالٌ من فاعلِ يسلكُ بإضمارِ قَدْ أو بدونِه على الخلافِ المشهورِ جيءَ بها لتحقيقِ استغنائِه تعالى في العلمِ بالإبلاغِ عمَّا ذُكِرَ من سلكِ الرصدِ على الوجِه المذكورِ أي يسلكُهم بينَ يديه ومن خلفه يترتبُ عليه علمُه تعالَى بما ذُكِرَ والحالُ أنَّه تعالَى قد أحاطَ بما لديِهم من الأحوالِ جميعاً.
{وأحصى كُلَّ شَىْء} مما كانَ وما سيكونُ {عَدَدًا} أي فرداً فرداً وهُو تمييزٌ منقولٌ من المفعول به كقوله تعالى: {وَفَجَّرْنَا الارض عُيُوناً} والأصلُ أحصَى عددَ كلِّ شيءٍ وقيلَ: هو حالٌ أي معدوداً محصوراً أو مصدرٌ بمَعْنى إحصاءً وأيَّا ما كان ففائدتُه بيانُ أنَّ علمَهُ تعالَى بالأشياء ليس على وجهٍ كليَ إجماليَ بلْ على وجهٍ جزئيَ تفصيليَ فإنَّ الإحصاءَ قد يرادُ به الإحاطةُ الإجماليةُ كما في قولِه تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} أي لا تقدروا على حصرها إجمالاً فضلاً عن التفصيلِ وذلكَ لأنَّ أصلَ الإحصاءِ أنَّ الحاسبَ إذا بلغ عَقداً معيناً من عُقودِ الأعدادِ كالعشرةِ والمائةِ والألفِ وضعَ حصاةً ليحفظَ بها كميةً ذلكَ العقدِ فيبنِي عَلَى ذلكَ حسابَهُ هذا وأمَّا مَا قيلَ: مِنْ أنَّ قولَه تعالى: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} إلخ معطوفٌ على مقدرٍ يدلُّ عليه قولُه تعالى ليعلمَ كأنه قيل: قد علمَ ذلكَ وأحاطَ بما لديهم إلخ فبمعزلٍ من السدادِ.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قرأَ سورةَ الجنِّ كانَ لهُ بعددِ كُلِّ جِنيَ صدَّقَ مُحمداً وَكذَّبَ به عتقُ رقبةٍ».

.سورة المزمل:

.تفسير الآيات (1- 3):

{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3)}
{ياأيها المزمل} أي المُتزمِّلُ، مِنْ تَزمَّلَ بثيابِه إذَا تلفّف بهَا فأُدْغمَ التاءُ في الزَّاي وقَدْ قرئ عَلى الأصلِ وقرئ: {المُزَمِّلُ} من زمَّلَة مبنياً للمفعولِ ومبنياً للفاعلِ. وقيلَ: خُوطِبَ به النبيُّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ تهجيناً لما كانَ عليهِ من الحالةِ، حيثُ كانَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ متلففاً بقطيفةٍ مُستعداً للنومِ كما يفعلهُ مَنْ لا يَهمُّهُ أمرٌ ولا يعنيهِ شأنٌ فأُمرَ بأنْ يتركَ التزملَ إلى التشمر للعبادةِ والهجودِ إلى التهجدِ، وقيلَ: دخلَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ على خديجةَ وقد جَئِثَ فرقاً أولَ ما أتاهُ جبريلُ عليهما السَّلامُ وبوادُره ترعدُ فقالَ زَمِّلوني زَمِّلونِي فحسبَ أنَّه عرضَ له فبينَا هو على ذلك إذْ نادَاهُ جبريلُ فقال: يا أيُّها المزمِّلُ فيكونُ تخصيصُ وصفِ التزمُّلِ بالخطابِ للملاطفةِ والتأنيس، كا في قولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لعليَ رضيَ الله عنه حينَ غاضبَ فاطمةَ رضيَ الله عنها فأتاهُ وهو نائمٌ وقد لصقَ بجنبهِ الترابُ قُمْ يا أبا تُرابٍ ملاطفةً له وإشعاراً بأنَّه غيرُ عاتبٍ عليه، وقيلَ المعْنى: يا أيُّها الذي زُمِّلَ أمْراً عظيماً هُو أمرُ النبوةِ أي حملَه والزملُ الحملُ وازدملَهُ أي احتملَهُ، فالتعرضُ للوصفِ حينئذٍ للإشعارِ بعلِّيتهِ للقيامِ، أو للأمرِ به فإنَّ تحميلَهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لأعباءِ النبوةِ مما يوجبُ الاجتهادَ في العبادةِ {قُمِ اليل} أيْ قُمْ إلى الصلاِة. وانتصابُ الليلِ على الظرفيةِ وقيل: القيامُ مستعارٌ للصلاةِ ومَعْنى قُمْ صَلِّ. وقرئ بضمِّ الميمِ وبفتحِها. {إِلاَّ قَلِيلاً} استثناءٌ من الليلِ. وقولُه تعالى: {نّصْفَهُ} بدلٌ من الليلِ الباقي بعدَ الثُّنْيا بدلَ الكُلِّ أيْ قُمْ نصفَهُ، والتعبيرُ عن النصفِ المُخرَجِ بالقليل لإظهارِ كمالِ الاعتدادِ بشأنِ الجزءِ المُقَارِنِ للقيامِ والإيذانِ بفضلِه وكونِ القيامِ فيهِ بمنزلةِ القيامِ في أكثرِه في كثرةِ الثوابِ، واعتبارُ قلتهِ بالنسبةِ إلى الكلِّ مع عرائِه عن الفائدةِ خلافُ الظَّاهرِ {أَوِ انقص مِنْهُ} أي أنقُص القيامَ من النصفِ المقارنِ له في الصُّورة الأولى {قَلِيلاً} أي نقصاً قليلاً أو مقداراً قليلاً بحيثُ لا ينحطُّ إلى نصف النصفِ.

.تفسير الآيات (4- 6):

{أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)}
{أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} أي زدِ القيامَ على النصف المقارِنِ له فالمَعْنى تخييرُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بينَ أنْ يقومَ نصفَهُ أو أقلَّ منه أو أكثرَ وقيلَ: قولُه تعالَى نصفَهُ بدلٌ من قليلاً والتخييرُ بحالهِ، وليس بسديدٍ، أمَّا أولاً فلأنَّ الحقيقَ بالاعتناءِ الذي ينبىءُ عنْهُ الإبدالُ هو الجُزءُ الباقي بعد الثُّنيا المقارِنُ للقيامِ لا الجزءُ المُخَرجُ العارِي عنه، وأمَّا ثانياً فلأَنَّ نقصَ القيامِ وزيادتَهُ إنما يُعتبرانِ بالقياسِ إلى معياره الذي هو النصفُ المقارِنُ له فلو جُعلَ نصفَهُ بدلاً من قليلاً لزمَ اعتبارُ نقصِ القيامِ وزيادتِه بالقياسِ إلى ما هُو عارٍ عنه بالكُليَّةِ، والاعتذارُ بتساوي النصفينِ مع كونِه تمحلاً ظاهراً اعترافٌ بأنَّ الحقَّ هو الأولُ. وقيلَ: نصفَهُ بدل من الليل وإلاَّ قليلاً استثناءٌ من النصف، والضميرُ في منه وعليه للنصف والمعنى التخييرُ بينَ أمرينِ بينَ أن يقومَ أقلَّ من نصف الليلِ على البتاتِ وبينَ أنْ يختارَ أحدَ الأمرينِ وهُمَا النقصانُ من النصفِ والزيادةُ عليهِ. وقيلَ: الضميرانِ للأقلِّ منَ النصفِ كأنَّه قيلَ: قُم أقلَّ من نصفهِ أو قُم أنقصَ من ذلكَ الأقلِّ أو أزيدَ منهُ قليلاً. وقيلَ: والذي يليقُ بجزالة التنزيلِ هو الأولُ والله أعلمُ بما في كتابه الجليلِ. {وَرَتّلِ القرءان} في أثناءِ ما ذُكِرَ من القيامِ أي اقرأْهُ على تُؤدةٍ وتبيين حروفٍ {تَرْتِيلاً} بليغاً بحيثُ يتمكنُ السامعُ من عدِّها من قولِهم ثغرٌ رتْلٌ ورتِلٌ إذا كانَ مُفلَّجاً.
{إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ} أن سنُوحي إليكَ وإيثارُ الإلقاءِ عليه لقوله تعالى: {قَوْلاً ثَقِيلاً}. وهو القرآنُ العظيمُ المنطوِي على تكاليفَ شاقةٍ ثقيلةٍ على المُكلفينَ لاسيما على الرسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فإنَّه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامِ مأمورٌ بتحملها وتحميلها للأمة، والجملةُ اعتراضٌ بين الأمرِ وتعليلهِ لتسهيل ما كُلِّفهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من القيامِ. وقيلَ: مَعْنَى كونِه ثقيلاً أنه رصينٌ لرزانة لفظهِ ومتانة معناهُ أو ثقيلٌ على المتأمل فيهِ لافتقارِه إلى مزيد تصفيةٍ للسرِّ وتجريدٍ للنظرِ أو ثقيلٌ في الميزان أو على الكفار والفجارِ أو ثقيلٌ تلقيه. عن ابن عباسٍ رضيَ الله عنهما كانَ إذا نزلَ عليه الوحيُ ثقُلَ عليه وتربَّدَ له جلدُه، وعن عائشةَ رضيَ الله تعالى عنها رأيتُه ينزلُ عليه الوحيُ في اليومِ الشديدِ البردِ فيفصمُ عنه وإن جبينَهُ ليرفضُّ عرقاً. {إِنَّ نَاشِئَةَ اليل} أي إنَّ النفسَ التي تنشأ من مضجعِها إلى العبادةِ أي تنهضُ، من نَشَأ من مكانه إذا نهضَ أو إنَّ قيامَ الليلِ على أنَّ الناشئةَ مصدرٌ من نشَأ كالعافية أو إنَّ العبادةَ التي تنشأُ بالليلِ أي تحدثُ أوانَ ساعاتِ الليلِ فإنَّها تحدثُ واحدةً بعدَ واحدةٍ، أو ساعاتها الأولُ من نَشأ إذا ابتدأ {هِىَ أَشَدُّ وَطْأً} أي هي خاصَّةٌ أشدُّ ثباتَ قدمٍ أو كلفةً فلابد من الاعتناءِ بالقيامِ. وقرئ: {وطاءً} أي أشدُّ مواطأةً يواطىءُ قبلها لسانَها إن أريدَ بها النفسُ أو يواطىءُ فيها قلبُ القائمِ لسانَه إنْ أُريدَ بها القيامُ أو العبادةُ أو الساعاتُ أو أشدُّ موافقةً لما يرادُ من الخشوعِ والإخلاصِ {وَأَقْوَمُ قِيلاً} وأسدُّ مقالاً وأثبتُ قراءةً لحضورِ القلبِ وهدوءِ الأصواتِ.

.تفسير الآيات (7- 13):

{إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)}
{إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً} أي تقلباً وتصرفاً في مهمَّاتِك واشتغالاً بشواغلك فلا تستطيعُ أن تتفرغَ للعبادةِ فعليكَ بها في الليلِ وهذا بيانٌ للداعي الخارجي إلى قيامِ الليلِ بعدَ بيانِ ما في نفسِه من الدَّاعي. وقرئ: {سَبْخاً} أي تقرقَ قلبٍ بالشواغلِ مستعارٌ من سبخِ الصوفِ وهو نفشُه ونشرُ أجزائِه. {واذكر اسم رَبّكَ} ودُمْ على ذِكرِه تعالى ليلاً ونهاراً على أيِّ وجهٍ كانَ من تسبيحٍ وتهليلٍ وتحميدٍ وصلاةً وقراءةِ قُرآنِ ودراسةِ علمٍ. {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ} أيْ وانقطعْ إليهِ بمجامعِ الهمةِ واستغراقِ العزيمةِ في مراقبتِه، وحيثُ لم يكن ذلك إلا بتجريدِ نفسهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن العوائقِ الصَّادةِ عن مراقبةِ الله تعالى وقطعِ العلائقِ عمَّا سواهُ قيلَ: {تَبْتِيلاً} مكان تبتلاً مع ما فيهِ من رعايةِ الفواصلِ.
{رَّبُّ المشرق والمغرب} مرفوعٌ على المدح وقيلَ: على الابتداءه، خبرُهُ: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} وقرئ بالجرِّ على أنَّه بدلُ من ربِّكَ، وقيلَ: على إضمار حرفِ القسمِ جوابُه لا إله إلاَّ هُو. والفاءُ في قوله تعالى: {فاتخذه وَكِيلاً} لترتيب الأمرِ وموجبهِ على اختصاصِ الألوهيةِ والربوبيةِ به تعالَى: {واصبر على مَا يَقُولُونَ} مما لا خيرَ فيه منَ الخُرافاتِ {واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً} بأنْ تجانبَهم وتداريَهم ولا تكافئَهم وتكلَ أمورَهُم إلى ربِّهم كما يعربُ عنه قولُه تَعالَى: {وَذَرْنِى والمكذبين} أي دعني وإيَّاهم وكلْ أمرَهُم إليَّ فإنِّي أكفيكَهُمْ {أُوْلِى النعمة} أربابِ التنعمِ وهم صناديدُ قريشٍ {وَمَهّلْهُمْ قَلِيلاً} زماناً قليلاً {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً} جمعُ نِكْلٍ وهو القيدُ الثقيلُ. والجملةُ تعليلٌ للأمرِ أيْ إنَّ لدينا أموراً مضادة لتنعمهِم {وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ} ينشَبُ في الحُلوقِ ولا يكادُ يُسَاغُ كالضَّريعِ والزقُّوم {وَعَذَاباً أَلِيماً} ونوعاً آخرَ من العذابِ مُؤلماً لا يُقادرُ ولا يُدْرك كنهه، كلُّ ذلك معدٌّ لهم ومرصدٌ.