فصل: باب الهيئة وتخطي الرقاب واستقبال الإمام يوم الجمعة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار ***


باب ما جاء في الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب

200- ذكر فيه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت وبعض الرواة عن مالك يقول فيه والإمام يخطب يوم الجمعة وكذلك اختلفت فيه الألفاظ عن أبي هريرة وقد ذكرناها في التمهيد ولمالك فيه غير هذا الإسناد وقد ذكرناه في التمهيد ومعنى قوله قد لغوت أي جئت بالباطل وما ليس بحق واللغو الباطل قال قتادة في قوله تعالى ‏(‏وإذا مروا باللغو مروا كراما‏)‏ ‏[‏الفرقان 72‏]‏‏.‏

قال لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم قال والزور الكذب وقال أبو عبيد اللغو كل شيء من الكلام ليس بحسن والفحش أشد من اللغو واللغو والهجر في القول سواء واللغو واللغا لغتان قال العجاج ‏(‏عن اللغا ورفث التكلم ولا خلاف عليه بين فقهاء الأمصار في وجوب الإنصات للخطبة على من سمعها واختلف فيمن لم يسمعها وجاء في هذا المعنى خلاف عن بعض المتأخرين فروي عن الشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وأبي بردة أنهم كانوا يتكلمون والإمام يخطب إلا في حين قراءة القرآن في الخطبة خاصة وفعلهم هذا مردود عند أهل العلم بالسنة المذكورة في هذا الباب وأحسن أحوالهم أن يقال إنهم لم يبلغهم الحديث في ذلك لأنه حديث انفرد به أهل المدينة ولا علم لمتقدمي أهل العراق به واختلف العلماء في وجوب الإنصات على من شهد الخطبة إذا لم يسمعها لبعده من الإمام فذهب مالك والشافعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي إلى أن الكلام لا يجوز لكل من شهد الخطبة سمع أو لم يسمع وقد كان عثمان يقول في خطبته استمعوا وأنصتوا فإن المنصت الذي لا يسمع له من الأجر مثل ما للمستمع الصامت وعن بن عمر وبن عباس أنهما كانا يكرهان الكلام والصلاة بعد خروج الإمام ولا مخالف لهؤلاء من الصحابة فسقط قول من قال بقول الشعبي ومن تابعه وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن حماد عن إبراهيم قال إني لأقرأ حزبي إذا لم أسمع الإمام بالخطبة يوم الجمعة وعن بن جريج عن عطاء قال يحرم الكلام ما كان الإمام على المنبر وإن كان قد ذهب في غير ذكر الله قال ويوم عرفة والعيدين كذلك في الخطبة قال بن جريج قلت لعطاء أسبح وأهلل وأدعو الله في نفسي يوم الجمعة وأنا أعقل الخطبة قال لا إلا الشيء اليسير واجعله بينك وبين نفسك قلت لعطاء كنت لا أسمع الإمام أسبح وأهلل وأدعو الله لنفسي ولأهلي وأسميهم بأسمائهم قال نعم وعن معمر قال سئل الزهري عن التسبيح والتكبير والإمام يخطب قال كان يؤمر بالصمت قلت فإن ذهب الإمام في غير ذكر الله في الجمعة قال تكلم إن شئت قال معمر وقال قتادة إن حدثوا فلا تحدث وقد مضى في التمهيد من هذا كثير وممن يرى أنه إذا أخذ الإمام في غير ذكر الله والموعظة أن يتكلم الليث بن سعد وعروة بن الزبير وابنه عبد الله بن عروة والأسانيد عنهم في التمهيد‏.‏

وأما عكرمة وعطاء بن عبد الله الخرساني فقالا من قال صه والإمام يخطب فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له قال أبو عمر يريد في تمام أجر الذي شاهد الخطبة صامتا أي لا جمعة له مثل جمعة هذا والله أعلم لأن الفقهاء في جميع الأمصار يقولون إن جمعته مجزية عنه ولا يصلي أربعا قال بن وهب من لغا كانت صلاته ظهرا يعني في الفضل قال ولم تكن له جمعة وحرم فضلها وقال بن جريج قلت لعطاء هل تعلم شيئا يقطع جمعة الإنسان حتى يجب عليه أن يصلي أربعا من كلام أو تخطي رقاب الناس أو غير ذلك قال لا وعلى هذا جماعة الفقهاء لأن الصلاة وإن كانت قصرت للخطبة كما زعم بعض الفقهاء فإنها لا يفسدها ما كان قبل الإحرام منها فقد يدرك المصلي من الجمعة ركعة وتفوته الخطبة فتجزيه صلاة ركعتين وقال بعض الفقهاء لو أدركه في التشهد صلى ركعتين وسيأتي القول في ذلك في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله واختلفوا في تشميت العاطس ورد السلام في الخطبة فقال مالك وأصحابه لا يرد السلام ولا يشمت العاطس والإمام يخطب إلا أن يرد إشارة كما يرده في الصلاة وهو قول أكثر أهل المدينة منهم سعيد بن المسيب وعروة وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه قالوا لا يرد السلام ولا يشمت العاطس وقال الثوري والأوزاعي وغيرهما لا بأس برد السلام وتشميت العاطس والإمام يخطب وهو قول الحسن البصري والنخعي والحكم وحماد والشعبي والزهري واختلف في ذلك قول الشافعي فقال بالعراق كقول مالك وقال بمصر ولو سلم رجل لم يسمع الخطبة كرهت ذلك ورأيت أن يرد عليه بعضهم لأن رد السلام فرض قال ولو شمت عاطسا قد حمد الله رجوت أن يسعه فضله لأن التشميت سنة واختاره المزني وحكى البويطي عنه أنه لا بأس برد السلام وتشميت العاطس والإمام يخطب في الجمعة وغيرها وكذلك حكى إسحاق بن منصور عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وكذلك حكى الأثرم عن أحمد أيضا وقد روى عن أحمد أيضا إذا لم يسمع الخطبة شمت ورد السلام وهو قول عطاء وقال الطحاوي لما كان مأمورا بالإنصات للخطبة كما هو مأمور بالإنصات في الصلاة لم يشمت كما لا يشمت في الصلاة قال فإن قيل رد السلام فرض والصمت للخطبة سنة قيل له الصمت فرض لأن الخطبة فرض وإنما يصح بالخاطب والمخطوب عليهم قال أبو عمر الذي عليه أصحابنا أن الصمت فرض واجب بسنة النبي عليه السلام وهي سنة مجتمع عليها معمول بها وقد أجمعوا أن من تكلم ولغا لا إعادة عليه للجمعة ولا يقال له صلها ظهرا فلما أجمعوا على ما وصفنا دل على أن الإنصات ليس من فرائضها لأن الشأن في فرائض الصلاة أن يفسد العمل بتركها فهذا يدلك على أن الإنصات ليس بفرض والله أعلم‏.‏

201- وذكر مالك أيضا في هذا الباب عن بن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنه أخبره أنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذنون ‏(‏قال ثعلبة‏)‏ جلسنا نتحدث فإذا سكت المؤذنون وقام عمر يخطب أنصتنا أنصتنا فلم يتكلم منا أحد قال بن شهاب فخروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام قال أبو عمر ألا ترى إلى قول ثعلبة أنصتنا فلم يتكلم منا أحد وقول بن شهاب كلام الإمام يقطع الكلام وهذا كله يدل على أن الأمر بالإنصات ليس برأي وإنما هو سنة يحتج بها كما احتج بن شهاب لأن قوله خروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام خبر عن علم علمه لا عن رأي اجتهده وهو يرد عند أصحابنا حديث جابر وحديث أبي سعيد وحديث أبي هريرة أن النبي عليه السلام أمر من جاء والإمام يخطب أن يصلي ركعتين أمر بذلك سليكا الغطفاني وغيره واختلف الفقهاء في المسألة فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والليث بن سعد إلى أن من جاء يوم الجمعة والإمام يخطب ودخل المسجد أن يجلس ولا يركع لحديث بن شهاب هذا وهو سنة وعمل مستفيض في زمن عمر وغيره ويشهد بصحة ما ذهبوا إليه في ذلك من حديث النبي عليه السلام ما رواه الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا منازلهم الأول فالأول فإذا خرج الإمام طويت الصحف واستمعوا الخطبة فهذا يدل على أنه لا عمل إذا خرج الإمام إلا استماع الخطبة لطي الصحف فيما عدا ذلك والله أعلم وما رواه عبد الله بن بسر عن النبي صلى الله عليه وسلم في معنى ذلك أيضا حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هارون بن معروف قال حدثنا بشر بن السري قال حدثنا معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية قال كنا مع عبد الله بن بسر صاحب النبي عليه السلام فجاء رجل يتخطى رقاب الناس فقال عبد الله بن بسر جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي عليه السلام يخطب فقال النبي عليه السلام اجلس فقد آذيت قال أبو عمر لم يأمره بالركوع بل أمره أن يجلس دون أن يركع وذهب الشافعي وبن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود والطبري إلى أن كل من دخل المسجد والإمام يخطب أن يركع لحديث جابر وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي عليه السلام لما ذكرنا ولحديث أبي قتادة عن النبي عليه السلام إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس يريد في كل وقت لم ينه فيه عن الصلاة ونذكر منه ها هنا طرقا فنقول إن نهيه عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر وعند طلوع الشمس وغروبها يقتضي الإباحة كذلك فيما عدا هذه الأوقات وحديث أبي قتادة مبني على ذلك ومعنى حديث أبي قتادة أمره عليه السلام من دخل يوم الجمعة والإمام يخطب أن يركع ركعتين حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا أحمد بن زهير قال محمد بن محبوب قال حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي سفيان عن داود عن أبي صالح عن أبي هريرة قال جاء سليك الغطفاني ورسول الله يخطب يوم الجمعة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم صليت قال لا قال صل ركعتين وتجوز فيهما قال أبو عمر روى هذا الحديث عن النبي عليه السلام جابر بن عبد الله الأنصاري من رواية عمرو بن دينار وأبي الزبير وأبي سفيان طلحة بن نافع كلهم عن جابر ورواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام ورواه عياض بن عبد الله بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري عن النبي عليه السلام وهو عند أبي عيينة عن محمد بن عجلان عن عياض عن أبي سعيد وعن عمرو بن دينار عن جابر وكان سفيان بن عيينة إذا جاء يوم الجمعة والإمام يخطب صلى ركعتين ورواه عن عمرو بن دينار حماد بن زيد أيضا وغيره قال أبو عمر قد قدمنا قوله عليه السلام للذي تخطى الرقاب اجلس واستعمال الحديثين يكون بأن الداخل إن شاء ركع وإن شاء لم يركع كما قال مالك بإثر حديث أبي قتادة قال وذلك حسن وليس بواجب‏.‏

وأما قوله في حديث بن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك إنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب إذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذن فهذا موضع فيه بعض الإشكال على من لم تتسع عنايته بعلم الآثار عن السلف فإنه قد شبه على قوم من أصحابنا في موضع الأذان في يوم الجمعة وأنكروا أن يكون الأذان يوم الجمعة بين يدي الإمام كان في زمن النبي عليه السلام وأبي بكر وعمر وزعموا أن ذلك حدث في زمن هشام بن عبد الملك وهذا قول يدل على قلة علم قائله بذلك وروى عن السائب بن يزيد قال كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي عليه السلام وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء هكذا ذكر البخاري عن آدم بن أبي إياس عن بن أبي ذئب عن الزهري وقال فيه النداء الثالث وكذلك رواه بن وهب عن يونس عن بن شهاب عن السائب بن زيد مثله سواء وجعل النداء الذي أحدثه عثمان على الزوراء نداء ثالثا وذكره أبو داود وغيره من طريق بن وهب وغيره والنداء الثالث هو الإقامة ورواه معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال كان الأذان يوم الجمعة على عهد رسول الله عليه السلام وأبي بكر وعمر أذانا واحدا حين يخرج الإمام فلما كان عثمان كثر الناس فزاد الأذان الأول وأراد أن يتهيأ الناس للجمعة فهذا يدل على أن الأذان الذي زاده عثمان إنما هو أذان ثان على الزوراء قبل الأذان بين يدي الإمام وكذلك تدل الآثار كلها عن السائب بن يزيد عن سعيد بن المسيب أن الأذان إنما كان بين يدي الإمام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وقد رفع الإشكال في ذلك رواية بن إسحاق عن الزهري عن السائب بن يزيد حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا المعلى قال حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن السائب بن يزيد قال كان يؤذن بين يدي النبي عليه السلام إذا جلس على المنبر يوم الجمعة وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء على الزوراء فهذا نص في الأذان يوم الجمعة بين يدي الإمام وعلى هذا العمل عند العلماء في أمصار المسلمين بالعراق والحجاز وغيرهما من الآفاق واختلف الفقهاء هل يؤذن بين يدي الإمام مؤذن واحد أو مؤذنون فذكر بن عبد الحكم عن مالك قال إذا جلس الإمام على المنبر ونادى المنادي منع الناس من البيع تلك الساعة وهذا يدل على أن النداء عنده واحد بين يدي الإمام ويشهد لهذا حديث بن شهاب عن السائب بن يزيد أنه لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مؤذن واحد وهذا يحتمل أن يكون أراد بلالا المواظب على الأذان دون بن أم مكتوم وغيره والذي في المدونة من قول بن القاسم روايته عن مالك قال فإذا جلس الإمام على المنبر وأخذ المؤذنون في الأذان حرم البيع فذكر المؤذنين بلفظ الجمع ويشهد بهذا حديث بن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر فإذا خرج وجلس على المنبر وأذن المؤذنون هكذا بلفظ الجماعة ومعلوم عند العلماء أنه جائز أن يكون المؤذنون واحدا وجماعة في كل صلاة إذا كان مترادفا لا يمنع من إقامة الصلاة في وقتها‏.‏

وأما حكاية قول الشافعي فقال أحب إلي أن يكون الأذان يوم الجمعة حين يجلس الإمام على المنبر بين يديه فإذا قعد أخذ المؤذن في الأذان فإذا فرغ قام الإمام يخطب فذكر المؤذن بلفظ الواحد على نحو رواية بن عبد الحكم قال وكان عطاء ينكر أن يكون عثمان أحدث الأذان الثاني ويقول أحدثه معاوية قال الشافعي وأيهما كان فالأذان الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي وهو الذي ينهى عنده عن البيع‏.‏

وأما قول أبي حنيفة وأصحابه فإن الطحاوي حكى عنهم في مختصره قال إذا زالت الشمس يوم الجمعة جلس الإمام على المنبر وأذن المؤذنون بين يديه وامتنع الناس من البيع والشراء وأخذوا في السعي إلى الجمعة فإذا فرغ المؤذنون من الأذان قام الإمام فخطب خطبتين هكذا قال وأذن المؤذنون بين يديه بلفظ الجماعة وقد أجمع الفقهاء أن الأذان بعرفة يكون بين يدي الإمام وفيما أوردنا من الأثر عن السلف وعن أئمة الفقهاء ما فيه بيان وشفاء إن شاء الله‏.‏

202- وأما حديث مالك بن أبي عامر عن عثمان بن عفان في تسوية الصفوف فهو أمر مجتمع عليه والآثار عن النبي عليه السلام كثيرة فيه منها حديث حميد عن أنس قال أقيمت الصلاة فأقبل علينا النبي عليه السلام بوجهه قبل أن يكبر فقال تراصوا وأصلحوا صفوفكم إني أراكم من وراء ظهري وحديث شعبة عن قتادة عن أنس عن النبي عليه السلام قال سووا صفوفكم فإن ذلك من تمام الصلاة وحديث عائشة عن النبي عليه السلام قال إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف وحديث البراء بن عازب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة مسح صدورنا وقال رصوا المناكب بالمناكب والأقدام بالأقدام فإن الله يحب في الصلاة ما يحب في القتال كأنهم بنيان مرصوص‏.‏

وأما قوله إنه كان لا يكبر حتى يأتيه رجال قد وكلهم بتسوية الصفوف فيخبرونه أن قد استوت فيكبر فيه من الفقه أنه لا بأس بالكلام بين الإقامة والإحرام وفيه أن العمل بالمدينة على خلاف ما رواه العراقيون أن بلالا كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبقني بآمين واستدلوا بذلك على أنه كان عليه السلام يكبر قبل فراغ بلال من الإقامة وقالوا يكبر الإمام إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة وقد ذكرنا هذه المسألة فيما مضى من هذا الكتاب فلا معنى لإعادتها والمعنى في ذلك أنهما وجهان في حين تكبير الإمام‏.‏

203- وأما حديثه عن نافع عن بن عمر أنه رأى رجلين يتحدثان والإمام يخطب يوم الجمعة فحصبهما أن اصمتا ففيه تعليم كيف الإنكار لذلك لأنه لا يجوز أن ينكر عليهما الكلام بالكلام في وقت لا يجوز فيه الكلام وفيه أنه لا يفسد ذلك عليهما صلاتهما كما ذكرنا لأنه لم يأمرهما بإعادة الصلاة ظهرا ولا غيرها‏.‏

204- وكذلك حديث سعيد بن المسيب في الذي شمت العاطس قال له لا تعد ولم يأمر بإعادة الصلاة وهذا القول إنما كان من سعيد ومن السائل له بعد السلام من الصلاة وسؤال مالك لابن شهاب عن الكلام يوم الجمعة إذا نزل الإمام عن المنبر قبل أن يكبر قال لا بأس بذلك يدل على علم مالك باختلاف الناس في هذه المسألة قديما وهي مأخوذة عند العراقيين من حديث بلال المذكور لكن العمل والفتيا عند أهل المدينة بخلاف ما ذهب إليه العراقيون في ذلك والأمر عندي فيه مباح كله والحمد لله‏.‏

باب فيمن أدرك ركعة يوم الجمعة

205- مالك عن بن شهاب أنه كان يقول من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى قال بن شهاب وهي السنة قال مالك وعلى ذلك أدركت أهل العلم ببلدنا‏.‏

206- وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أدرك من ا لصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة قال أبو عمر احتج مالك لمذهبه في ذلك بأنه العمل المعمول به ببلده وأن الفتيا عليه عنده وأتى بالدليل في ذلك من عموم السنة لأنها لم يخص فيها جمعة من غيرها وفي ذلك دليل على علمه باختلاف السلف في هذه المسألة فمن الخلاف فيها أن جماعة من التابعين منهم عطاء بن أبي رباح وطاوس ومجاهد ومكحول قالوا من فاتته الخطبة يوم الجمعة صلى أربعا وحجتهم أن الإجماع منعقد أن الإمام لو لم يخطب بالناس لم يصلوا إلا أربعا وفي هذه المسألة قول آخر وذلك أن مالكا والشافعي وأصحابهما والثوري والحسن بن حي والأوزاعي وزفر بن الهذيل ومحمد بن الحسن في الأشهر عنه والليث بن سعد وعبد العزيز بن أبي سلمة وأحمد بن حنبل قالوا من أدرك ركعة من صلاة الجمعة مع الإمام صلى إليها أخرى ومن لم يدرك ركعة تامة معه صلى أربعا قال أحمد بن حنبل إذا فاته الركوع صلى أربعا وإذا أدرك ركعة صلى إليها أخرى وروى ذلك عن غير واحد من أصحاب النبي عليه السلام منهم بن مسعود وبن عمر وأنس قال أبو عمر قد ذكرنا عنهم في التمهيد وعن إبراهيم النخعي وسعيد بن المسيب والزهري وعلقمة والحسن البصري وعبيدة السلماني وقال بن شهاب هو السنة وهو قول إسحاق وأبي ثور وقال الزهري هي السنة حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا محمد بن معاوية حدثنا إسحاق بن أبي حسان حدثنا هشام بن عمار حدثنا عبد الحميد بن حبيب حدثنا الأوزاعي قال سألت الزهري عن رجل فاتته خطبة الإمام يوم الجمعة وأدرك الصلاة فقال حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة قال‏.‏

207- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها وروى بن عيينة عن معمر قال سألت الزهري عن الرجل يدرك من الجمعة ركعة فقال يضيف إليها أخرى لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة وفي المسألة قول ثالث قال أبو حنيفة وأبو يوسف إذا أحرم في الجمعة قبل سلام الإمام صلى ركعتين روى ذلك عن النخعي أيضا وهذا قول الحكم وحماد وبه قال داود وحجتهم قوله عليه السلام ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا قالوا ومن أدرك من الصلاة جزءا قبل السلام فهو مأمور بالدخول فيها مع الإمام ومعلوم أن الذي فاته ركعتان فإنما يقضي ما فاته وذلك ركعتان لا أربع قال أبو عمر في قوله عليه السلام من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة وقد أجمعوا أن إدراكها بإدراك الركوع مع الإمام دليل على أن من لم يدرك من الصلاة ركعة فلم يدركها هذا مفهوم الخطاب ومن لم يدركها لزمه أن يصلي ظهرا أربعا وقد جعل رسول الله الذي لا يدرك منها ركعة تامة في حكم من لم يدرك منها شيئا وهو أولى ما قيل في هذا الباب والله الموفق للصواب‏.‏

وأما قول مالك في الذي يصيبه الزحام يوم الجمعة فيركع ولا يقدر على أن يسجد حتى يقوم الإمام أو يفرغ من صلاته إنه إن قدر على أن يسجد إن كان قد ركع فليسجد إذا قام الناس وإن لم يقدر على أن يسجد حتى يفرغ الإمام من صلاته فإنه أحب إلي أن يبتدئ صلاته ظهرا أربعا قال أبو عمر من زوحم عن ركعة لم تتم له مع الإمام حتى سلم ولا كان ممن عقد مع إمامه في الجمعة ركعة غيرها فهذا رجل يجب عليه أن يصلي ظهرا أربعا لأنه لم يدرك من صلاته ركعة مع إمامه فيبني عليها فهذا واجب عليه الابتداء عند الفقهاء لا يقولون فيه يستحب ذلك له ووجه الاستحباب من مالك ها هنا فهو على معنى اختياره ومذهب من مذاهب من قبله من الفقهاء الذين وصفنا أقوالهم وذلك واجب عنده وعند أصحابه وإذا كان ذلك فوجهه عند أصحابه الابتداء بالظهر في الذي زوحم ولم يدرك غير تلك الركعة التي زوحم عند سجودها حتى سلم الإمام والله أعلم‏.‏

باب فيمن رعف يوم الجمعة

قال مالك من رعف يوم الجمعة والإمام يخطب فخرج ولم يرجع حتى فرغ الإمام من صلاته فإنه يصلي أربعا‏.‏

وقال مالك في الذي يركع مع الإمام ركعة يوم الجمعة ثم يرعف فيخرج ثم يأتي وقد صلى الإمام الركعتين كلتيهما أنه يبني بركعة أخرى ما لم يتكلم قال مالك ليس على من رعف أو أصابه أمر لابد له من الخروج أن يستأذن الإمام يوم الجمعة إذا أراد أن يخرج قال أبو عمر لم يختلف قول مالك وأصحابه إن الراعف في صلاة الجمعة وغيرها وفي خطبة الجمعة يخرج فيغسل الدم عنه ثم يرجع فيصلي مع الإمام ما أدرك ثم يقضي ما فاته ولا يضره عمل ذلك من استدبار القبلة وغسل الدم فإن عمر غير ذلك استأنف وكذلك إن تكلم عامدا لم يبن فإن لم يتكلم بنى إذا كان قد عقد ركعة وأكملها مع إمامه ثم رعف لأن الجمعة لا يعملها إلا في المسجد أو في رحابه حيث تؤدى الجمعة ولا يبني الراعف عند مالك وجمهور أصحابه إلا إذا أتم ركعة يسجد فيها مع الإمام ثم رعف في الجمعة وغيرها ومن رعف في الجمعة قبل إكمال ركعة بسجدتيهما أو في الخطبة ولم يطمع في إدراك الركعة الثانية معه لم يكن عليه أن يأتي المسجد وابتدأ صلاته ظهرا فإن عاد إلى المسجد فأدرك الركعة بسجدتيهما مع الإمام بنى عليها ركعة وتمت له جمعة فإن صلى ركعة وبعض أخرى ثم رعف خرج وغسل الدم وابتدأ الثانية من أولها وبنى على الأولى وقال محمد بن مسلمة وعبد الملك بن عبد العزيز يبني على ما مضى من الثانية وقد أوضحنا مسائل هذا الباب وذكرنا ما اختلف فيه أصحاب مالك هنا وفي كتاب اختلاف قول مالك وأصحابه ومضى في باب الرعاف معان من هذا الباب وأوضحناه في التمهيد والحمد لله‏.‏

وأما قوله ليس على من رعف أو أصابه أمر لابد له من الخروج أن يستأذن الإمام يوم الجمعة إذا أراد أن يخرج قال أبو عمر رأى ذلك قوم من التابعين وتأولوا في ذلك قوله تعالى ‏(‏وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستئذنوه‏)‏ ‏[‏النور 62‏]‏‏.‏

وتأول أكثر أهل العلم ذلك على السرايا تخرج من العسكر لا تخرج إلا بإذن الإمام والفقهاء اليوم على ما قاله مالك لأنه كان يضيق على الناس ويعجزهم مع كبار المساجد وكثرة الناس وما جعل الله في الدين من حرج والآية عندهم معناها في الغزو وخروج السرايا وقد روى سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن محمد بن سيرين قال كانوا يستأذنون الإمام يوم الجمعة في الرجل يحدث أو يرعف والإمام يخطب يوم الجمعة فلما كان زمان زياد كثر ذلك فقال زياد من أخذ بأنفه فهو إذن‏.‏

باب ما جاء في السعي يوم الجمعة

208- مالك أنه سأل بن شهاب عن قول الله عز وجل ‏(‏يأيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله‏)‏ ‏[‏الجمعة 9‏]‏‏.‏

فقال بن شهاب كان عمر بن الخطاب يقرؤها إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فامضوا إلى ذكر الله قال أبو عمر روى هذا الخبر سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه قال ما سمعت عمر يقرؤها قط ‏(‏فامضوا إلى ذكر الله‏)‏ قال أبو عمر قد احتج مالك في هذا الباب لمعنى السعي في هذا الموضع أنه ليس الاشتداد والإسراع وأنه العمل نفسه بما فيه كفاية من كتاب الله فأحسن الاحتجاج وفي هذا الحديث دليل على ما ذهب إليه العلماء من الاحتجاج بما ليس في مصحف عثمان على جهة التفسير فكلهم يفعل ذلك ويفسر به مجملا من القرآن ومعنى مستغلقا في مصحف عثمان وإن لم يقطع عليه بأنه كتاب الله كما يفعل بالسنن الواردة بنقل الآحاد العدول وإن لم يقطع على منعها وقد كان بن مسعود يقرؤها كما كان يقرؤها عمر ‏(‏فامضوا إلى ذكر الله‏)‏ وكان بن مسعود يقول لو قرأتها ‏(‏فاسعوا إلى ذكر الله‏)‏ لسعيت حتى يسقط ردائي والسعي أيضا في اللغة الإسراع والجري وذلك معروف في لسان العرب كما أنه معروف فيه أنه العمل ألا ترى إلى قوله عليه السلام إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون أي تجرون وتسرعون وتشتدون ومن السعي الذي هو العمل قوله تعالى ‏(‏ومن أراد الأخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ‏[‏الإسراء 19‏]‏‏.‏

وقال ‏(‏إنما جزؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ‏[‏المائدة 33‏]‏‏.‏

وقال ‏(‏الذين ضل سعيهم فى الحيوة الدنيا ‏[‏الكهف 104‏]‏‏.‏

وهو كثير في القرآن قال زهير ‏(‏سعى بعدهم قوم فلم يدركوهم‏.‏‏.‏‏.‏ ولم يفعلوا ولم يلاموا ولم يألوا‏.‏

باب ما جاء في الإمام ينزل بقرية يوم الجمعة في السفر

قال مالك إن كانت القرية مما تجب فيها الجمعة يعني لكبرها وكثرة الناس فيها وأنها ذات سوق ومجمع للناس فإنه يجمع بهم بخطبة ويجزيه ويجزيهم قال وإن كانت القرية لا تجب فيها الجمعة لم يجمع بهم وإن جمع فليست جمعة له ولا لمن معه من المسافرين ولا لأهل تلك القرية ويتم أهل تلك القرية صلاتهم يبنون على الركعتين اللتين صلوا معه ظهرا وكذلك ذكر بن عبد الحكم عنه يبنون وليس عليهم أن يبتدئوا وتجزيه صلاته كل مسافر معه إلا أنها ليست جمعة وإنما هي صلاة سفر وقال بن نافع عن مالك يتمون بعد إمامهم وصلاتهم جائزة وقال بن نافع فيما روى يحيى بن يحيى عنه وقال بن القاسم في المدونة لا جمعة له ولا لهم ويعيد ويعيدون لأنه جهر عامدا وذكر بن المواز عن بن القاسم أنه قال أما فصلاته تامة‏.‏

وأما هم فعليهم الإعادة‏.‏

وأما قوله ليس على مسافر جمعة فإجماع لا خلاف فيه وقد روي ذلك عن النبي عليه السلام من أخبار الآحاد وسيأتي القول في مقدار السفر الذي تقصر فيه الصلاة في موضعه إن شاء الله قال أبو عمر الصواب ما رواه بن نافع وبن عبد الحكم في هذا الباب وهو ظاهر ما في الموطأ وهذا الذي لا يصح عندي غيره وليس جهره من باب تعمد الفساد وإنما هو من باب الاجتهاد في التأويل فلا يضره‏.‏

باب ما جاء في الساعة التي في يوم الجمعة

209- مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يقللها هكذا يقول عامة رواة الموطأ في هذا الحديث إلا قتيبة بن سعيد وبن وأبي أويس وعبد الله بن يوسف التنيسي وأبا المصعب فإنهم لم يقولوا في روايتهم لهذا الحديث عن مالك وهو قائم يصلي وهو محفوظ في حديث أبي الزناد هذا من رواية مالك وغيره عنه وفي رواية أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة وقد ذكرنا ذلك في التمهيد وفي هذا الحديث دليل على فضل يوم الجمعة على سائر الأيام ودليل على أن فيه ساعة هي أفضل من سائر ساعاته والفضائل لا تورد بقياس وإنما فيها التسليم لمن ينزل عليه الوحي بما غاب عنه فأما قوله وهو قائم يصلي فإنه يحتمل القيام المعروف ويحتمل أن يكون القيام هنا المواظبة على الشيء لا الوقوف من قوله تعالى ‏(‏ما دمت عليه قائما آل عمران 75 أي مواظبا بالاختلاف والاحتضار وعلى هذا التأويل يخرج جماعة الآثار ولا يبعد أن يكون على قول من قال إنها بعد العصر لأنه ليس بوقت صلاة ولكنه وقت مواظبة في انتظارها قال الأعشى ‏(‏يقوم على الوغم ‏(‏3‏)‏ في قومه‏.‏‏.‏‏.‏ فيعفوا إذا شاء أو ينتقم لم يرد بقوله يقوم ها هنا الوقوف وإنما أراد المطالبة بالذحل والمداومة على طلب الوتر حتى يدركه‏.‏

وأما الساعة المذكورة في يوم الجمعة فاختلفت فيها الآثار المرفوعة وكذلك اختلف فيها العلماء وقال قوم قد رفعت وهذا ليس بشيء عندنا لحديث بن جريج عن داود بن أبي عاصم عن عبد الله بن يحنس مولى معاوية قال قلت لأبي هريرة زعموا أن الساعة التي في يوم الجمعة لا يدعوا فيها مسلم إلا استجيب له قد رفعت قال كذب من قال ذلك قلت فهي في كل جمعة استقبلها قال نعم قال أبو عمر على هذا تواترت الآثار وبه قال علماء الأمصار إلا أنهم اختلفوا فذهب عبد الله بن سلام إلى أنها بعد العصر إلى غروب الشمس وقال بقوله ذلك جماعة ومن حجتهم حديث يرويه بن وهب عن عمرو بن الحارث عن الجلاح مولى عبد العزيز بن مروان عن أبي سلمة عن جابر عن النبي عليه السلام قال يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة فيها ساعة لا يوجد مسلم يسأل الله فيها شيئا إلا أعطاه فالتمسوها آخر ساعة في العصر وقد قيل إن قوله في هذا الحديث فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر هو من قول أبي سلمة وقال آخرون الساعة المذكورة يوم الجمعة هي ساعة الصلاة وحينها من الإحرام فيها إلى السلام منها واحتجوا بحديث عمرو بن عوف المزني قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن في الجمعة ساعة من النهار لا يسأل العبد فيها شيئا إلا أعطي بقوله قيل أية ساعة هي فقال من حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها وهو حديث لم يروه فيما علمت إلا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده وليس ممن يحتج به وقال آخرون الساعة المذكورة يوم الجمعة من حين يفتتح الإمام الخطبة إلى الفراغ من الصلاة واحتجوا بحديث أبي موسى عن النبي عليه السلام قال إن في الجمعة ساعة لا يسأل العبد فيها ربه إلا أعطاه قيل يا رسول الله أي ساعة هي قال من حين يقوم الإمام أو من حين يجلس الإمام إلى أن تقوم الصلاة رواه بن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه عن أبي بردة عن أبيه عن النبي عليه السلام وروى روح بن عبادة عن عوف عن معاوية بن قرة عن أبي بردة بن أبي موسى أنه قال لابن عمر هي الساعة التي يخرج فيها الإمام إلى أن تقضى الصلاة فقال بن عمر أصاب الله بك وروى عبد الرحمن بن حجيرة عن أبي ذر أن امرأته سألته عن الساعة التي يستجاب فيها يوم الجمعة للعبد المؤمن فقال لها مع زيغ الشمس بيسير إلى ذراع فإن سألتنى بعدها فأنت طالق وروى وكيع عن محمد بن قيس قال تذاكرنا عند الشعبي الساعة التي ترجى في يوم الجمعة قال هي ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل وروى جرير عن إسماعيل بن سالم عن الشعبي أنه كان يقول في الساعة التي ترجى في يوم الجمعة هي ما بين خروج الإمام إلى انقضاء الصلاة وقال بن سيرين هي الساعة التي كان يصلي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روى حصين عن الشعبي عن عوف بن حصيرة قال الساعة التي ترجى في الجمعة من حين تقام الصلاة إلى انصراف الإمام وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث كلها في التمهيد ويشهد لهذه الأقاويل ما جاء في حديث مالك في هذا الباب قوله وأشار بيده يقللها‏)‏‏)‏ أي يصغرها ويحتج أيضا من ذهب إلى هذا بحديث علي عن النبي عليه السلام أنه قال إذا زالت الشمس وفاءت الأفياء وراحت الأرواح فاطلبوا إلى الله حوائجكم فإنها ساعة الأوابين ثم تلا ‏(‏فإنه كان للأوابين غفورا ‏[‏الإسراء 17‏]‏‏.‏

واحتج أيضا من قال ذلك بحديث أبي هريرة هذا عن النبي عليه السلام قوله وهو قائم يصلي قال وبعد العصر لا صلاة في ذلك الوقت ولا يجوز لأحد أن يقوم فيصلي في ذلك الوقت وظاهر الحديث أولى من ادعاء الباطن فيه وممن قال إنها بعد العصر إلى غروب الشمس بن عباس رواه سعيد بن جبير عن بن عباس قال الساعة التي تذكر يوم الجمعة ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس وكان سعيد بن جبير إذا صلى العصر لم يكلم أحدا حتى تغرب الشمس‏.‏

210- وأما حديث مالك عن يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنه قال خرجت إلى الطور فلقيت كعب الأحبار وساق الحديث إلى آخره ثم قال بصرة بن أبي بصرة الغفاري فلم يقل في هذا الحديث فيما علمت فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري في حديث مالك هذا عن يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبي سلمة عن أبي هريرة غيره وسائر الرواة إنما فيه عن أبي هريرة قال لقيت أبا بصرة لا بصرة بن أبي بصرة وأظن الوهم جاء فيه من يزيد والله أعلم وقد ذكرنا بصرة وأباه أبا بصرة في كتاب الصحابة بما ينبغي والحمد لله وفي هذا الحديث من العلم وجوه منها الخروج إلى المواضع التي يتبرك بشهودها والصلاة فيها لما بان من بركتها وليس في ذلك ما يعارض قوله لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد على مذهب أبي هريرة وإن كانع بصرة بن أبي بصرة قد خالفه في ذلك فرأى قوله لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد قولا عاما فيها سواها والله أعلم وكأن أبا هريرة لم ير النهي عن إعمال المطي فيما عدا الثلاثة المساجد إلا في الواجب من النذر وكأن عنده إعمال المطي في سائر السنن والمباح كزيارة الأخ في الله وشبهه غير داخل في النهي عن إعمال المطي وقد قال مالك وجماعة من أهل العلم فيمن نذر رباطا في ثغر يسده فإنه يلزمه الوفاء به حيث كان الرباط لأنه طاعة لله تعالى فأما من نذر صلاة في مسجد لا يصل إليه إلا برحلة وراحلة فلا يفعل ويصلي في مسجده إلا في الثلاثة المساجد المذكورة فإنه من نذر الصلاة فيها خرج إليها قال مالك من نذر أن يصلي في مسجد لا يصل إليه إلا برحلة فإنه يصلي في مسجد بلده إلا أن ينذر ذلك في مسجد مكة والمدينة وبيت المقدس فإن نذر في هذه المساجد الثلاثة الصلاة فعليه السير إليها وقد يجوز أن يكون خروج أبي هريرة إلى الطور لحاجة عنت هناك من أمور دنياه وما يعنيه منها فإن كان كذلك فليس خروجه من باب لا تعمل المطي في شيء‏.‏

وأما كعب الأحبار فهو كعب بن مانع الحميري من ذي رعين من حمير وقيل من ذي هجر من حمير يكنى أبا إسحاق أسلم في زمن عمر وتوفي في آخر خلافة عثمان وقد ذكرنا طرفا من خبره في التمهيد وفي هذا الحديث أيضا إباحة الحديث عن التوراة لمن علمها علم ثقة ويقين وكان كعب عالما بها لأنه كان حبرا من أحبار يهود وإن كان عربي النسب فإن من العرب كثيرا تنصر وكثيرا تهود وقد أفردنا بابا كافيا في الحديث عن أهل الكتاب وكيف المعني فيما جاء عنهم في كتاب جامع بيان العلم وفيه أن خير الأيام يوم الجمعة وفي ذلك فضل بعض الأيام على بعض ولا يعلم ذلك إلا بتوقيف وقد صح فضل يوم الجمعة ويوم عاشوراء ويوم عرفة وجاء في يوم الاثنين والخميس ما جاء وروى الأعمش عن مجاهد عن عبد الله بن ضمرة عن كعب الأحبار قال الصدقة يوم الجمعة تضاعف وقد روى حصين عن هلال بن يساف عن كعب الأحبار في يوم الجمعة قال تضاعف فيه الحسنة والسيئة وأنه يوم القيامة وفيه الخبر عن خلق آدم وهبوطه إلى الأرض وفي ذلك جواز الحديث عن أمور ابتداء الخلق وعمن كان قبلنا من الأنبياء وعن بني إسرائيل وغيرهم وأهل العلم يرون رواية ذلك عن كل أحد لأنه ليس في حكم ولا في دم ولا فرج ولا مال ولا حلال ولا حرام وقد أوضحنا هذا المعنى في صدر كتاب التمهيد وفيه أن آدم تيب عليه يوم الجمعة وإن كان في القرآن المحكم أنه ‏(‏فتلقى ءادم من ربه كلمت فتاب عليه ‏[‏البقرة 37‏]‏‏.‏

ليس فيه أن ذلك كان يوم جمعة وفيه إباحة الحديث عن المستقبل من الأمور وإن كان من علم الغيب إذا كان ذلك عمن يوثق به في علمه ودينه وكان الخبر مما لا يرده أصل من أصول الشريعة لأن كل ما ترده أصول شريعتنا فباطل وليس في قوله إن الساعة تقوم يوم الجمعة دليل على أن الخبر بذلك من علم الساعة الذي لا يعلمه إلا هو لأن يوم الجمعة متكرر مع أيام الدنيا فليس في ذكره ما يوجب متى هي وقد سأل عنها رسول الله جبريل عليه السلام فقال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل وقال تعالى ‏(‏قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو‏)‏ ‏[‏الأعراف 187‏]‏‏.‏ وقد ظهر كثير من أشراطها وقال تعالى ‏(‏لا تأيتكم إلا بغتة‏)‏ ‏[‏الأعراف 187‏]‏‏.‏

وقوله وما من دابة إلا وهي مصيخة فالإصاخة الاستماع وهو ها هنا سماع حذر وإشفاق خشية الفجأة والبغتة وأصل الكلمة الاستماع قال أعرابي‏:‏

وحديثها كالقطر يسمعه *** راعي سنين تتابعت جدب

فأصاخ يرجو أن يكون حيا *** ويقول من فرح أيا رب

وقال أمية بن أبي الصلت‏:‏

وهم عند رب ينظرون قضاءه *** يصيخون بالأسماع للوحي ركد

وقال‏:‏

كم من مصيخ إلى أوتار غانية *** ناحت عليه وقد كانت تغنيه

وقال غيره يصف ثورا بحريا‏:‏

ويصيخ أحيانا كما استمع *** المضل لصوت ناشد

والمضل الذي قد أضل دابته أو بعيره أو غلامه يقال منه أضل سببه فهو مضل والناشد الطالب يقال منه نشدت ضالتي أنشدها إذا طلبتها وناديت عليها‏.‏

وأما المنشد فهو المعرف بالضالة وقيل هو الدال عليها والمعنى متقارب وفي الحديث دليل على أن الإنس والجن لا يعرفون من أمر الساعة ما تعرف الدواب وهذا أمر تقصر عنه أفهامنا وهذا العلم وشبهه لم نؤت منه إلا قليلا‏.‏

وأما قوله فيها ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله إلا أعطاه إياه فقد اختلف في تلك الساعة وقد قدمنا من ذلك ما فيه كفاية إن شاء الله تعالى وقول عبد الله بن سلام فيها أثبت شيء إن شاء الله وقد تابعه بن عباس وغيره وفي سكوت أبي هريرة لعبد الله بن سلام عند ما ألزمه في ذلك وأدخل عليه في مناظرته إياه دليل على متابعة أبي هريرة له وتسليمه لقوله والله أعلم وقد روي بنحو قول عبد الله بن سلام أحاديث مرفوعة منها حديث موسى بن وردان عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم التمس الساعة التي في يوم الجمعة بعد العصر إلى غروب الشمس ومنها حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الساعة التي يتحرى فيها الدعاة يوم الجمعة هي آخر ساعة من يوم الجمعة وحديث أبي هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة بعد العصر إلى غروب الشمس وحديث جابر عن النبي عليه السلام التمسوها آخر ساعة بعد العصر وحديث شعبة عن إبراهيم بن ميسرة قال أخبرني من أرسله عمرو بن أوس إلى أبي هريرة يسأله عن الساعة التي في يوم الجمعة فقال هي بعد العصر وشعبة عن الحكم عن بن عباس مثله وشعبة عن يونس بن خباب عن أبي هريرة مثله وجرير عن ليث عن مجاهد وطاوس عن أبي هريرة أنه قال في الساعة التي في يوم الجمعة بعد العصر حتى تغرب الشمس أو بعد الصبح حتى تطلع الشمس قال وكان طاوس إذا صلى العصر لا يكلم أحدا ولا يلتفت مشغولا بالدعاء والذكر حتى تغيب الشمس وقد ذكرنا هذه الأحاديث بأسانيدها في التمهيد وذكرنا هناك عن عبد الله بن سلام وكعب هذه الساعة التي خلق الله فيها آدم وهي آخر ساعة من يوم الجمعة بالإسناد الحسن عنهما أيضا وعن طاوس أن الساعة من يوم الجمعة التي تقوم فيها الساعة والتي أنزل فيها آدم والتي لا يدعو فيها المسلم بدعوة صالحة إلا استجيب له من حين تصفر الشمس إلى حين تغيب‏.‏

وأما قوله فقال كعب هي في كل سنة مرة فقلت بل في كل جمعة ثم قرأ كعب التوراة فقال صدق رسول الله ففيه دليل على أن العالم يخطئ وأنه ربما قال على أكثر ظنه فيخطئه ظنه وفيه أن من سمع الخطأ وهو يعلمه ينكره ويرد على من سمعه منه إذا كان عنده في رده أصل صحيح يركن إليه كما صنع أبو هريرة في إنكاره على كعب وفيه أن العالم إذا رد عليه قوله طلب التثبت فيه والوقوف على صحته حيث رجاه في مظانه ومواضعه حتى يصح له أو يصح قول مخالفه فينصرف إليه وفه دليل على أن الواجب على كل من سمع الحق وعرفه الانصراف إليه‏.‏

وأما قوله عن أبي هريرة في هذا الحديث فلقيت بصرة بن أبي الغفاري إلى آخر قصته معه فهكذا في الموطأ بصرة بن أبي بصرة لم يختلف عن مالك في ذلك ولا عن يزيد بن الهادي فيما علمت‏.‏

وأما غير مالك وغير شيخه يزيد بن الهادي فإنهم يقولون في هذا الحديث فلقيت أبا بصرة الغفاري وأبو بصرة اسمه جميل بن بصرة على اختلاف عنه قد ذكرته عند ذكري له في كتاب الصحابة وروى القعبني عن الدراوردي عن زيد بن أسلم عن المقبري عن أبي هريرة أنه خرج إلى الطور يصلي فيه ثم أقبل فلقي جميل بن بصرة الغفاري فذكر الحديث على ما ذكرناه في التمهيد من طرق وفي قول عبد الله بن سلام كذب كعب ثم قال صدق كعب دليل على ما كان القوم عليه من إنكار ما يجب إنكاره والإذعان إلى الحق والرجوع إليه والاعتراف به ومعنى قوله كذب كعب أي غلط كعب وكذلك هو معروف للعرب في أشعارها ومخاطباتها فمن ذلك قول أبي طالب‏:‏

كذبتم وبيت الله يبزى محمد *** ولما نطاعن دونه ونناضل

ألا ترى أن هذا ليس من باب الكذب الذي هو ضد الصدق إنما هو من باب غلط الإنسان فيما يظنه فكأنه قال كذبكم ظنكم ومثل هذا قول زفر بن الحارث العبسي‏:‏

كذبتم وبيت الله لا تقتلونه *** ولما يكن يوم أغر محجل

وقال بعض شعراء همدان‏:‏

كذبتم وبيت الله لا تأخذونها *** مراغمة ما دام للسيف قائم

ومن هذا ما رواه حماد بن زيد عن أيوب قال سألت سعيد بن جبير عن الرجل يأذن لعبده في التزويج بيد من الطلاق قال بيد العبد قال إن جابر بن زيد يقول بيد السيد قال كذب جابر ومن هذا قول عبادة كذب أبو محمد فمعنى قول عبد الله بن سلام كذب كعب أي أخطأ ظنه وقوله صدق كعب أي أصاب وفي قول عبد الله بن سلام قد علمت أي ساعة هي دليل على أن للعالم أن يقول قد علمت كذا وأنا أعلم كذا إذا لم يكن على سبيل الفخر وما الفخر بالعلم إلا حديث بنعمة الله وفي قول أبي هريرة أخبرني بها ولا تضن علي أي لا تبخل علي دليل على ما كان القوام عليه من الحرص على العلم والبحث عنه وفي مراجعة ابي هريرة لعبد الله بن سلام حين قال هي آخر ساعة من يوم الجمعة واعتراضه عليه بأنها ساعة لا يصلى فيها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يوافقها عبد مؤمن وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه دليل على إثبات المعارضة والمناظرة وطلب الحجة وموضع الصواب وفي إدخال عبد الله بن سلام عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة وإذعان أبي هريرة إلى ذلك دليل واضح على ما كان عليه القوم من البصر بالاحتجاجات والاعتراضات والإدخال والإلزامات في المناظرة وهذا سبيل أهل العلم وعن بن عباس مثل قول عبد الله بن سلام في ذلك سواء وقد ذكرنا كل ذلك في التمهيد والحمد لله‏.‏

باب الهيئة وتخطي الرقاب واستقبال الإمام يوم الجمعة

211- مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته هكذا هو عند أكثر رواة الموطأ وذكر بن وهب عن مالك عن يحيى بن سعيد وربيعة بن أبي عبد الرحمن أن رسول الله عليه السلام قال ما على أحدكم أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته وهو مرسل منقطع يتصل من وجوه حسان وقد ذكرتها في التمهيد والمهنة الخدمة بفتح الميم قال الأصمعي ولا يقال بالكسر وأجاز الكسائي فيه الكسر مثل الجلسة والركبة ومعنى ثوبي مهنته أي ثوبي بذلته يقال منه امتهنني القوم أي ابتذلوني والثوبان والله أعلم قميص ورداء أو جبة ورداء وفي هذا الحديث الندب لكل من وجد سعة أن يتخذ الثياب الحسان للأعياد والجمعات ويتجمل بها وكان رسول الله يفعل ذلك ويعتم ويتطيب ويلبس أحسن ما يجد في الجمعة والعيد وفيه الأسوة الحسنة وكان يأمر بالطيب والسواك والدهن قال رسول الله عليه السلام إذا أنعم الله على عبد نعمة أحب أن يرى أثرها عليه وقال عمر بن الخطاب إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم جمع امرؤ عليه ثيابه وقال إنه ليعجبني أن أنظر إلى القارئ أبيض الثياب‏.‏

212- وذكر في هذا الحديث أيضا عن نافع عن بن عمر كان لا يروح إلى الجمعة إلا ادهن وتطيب إلا أن يكون محرما وهي سنة مسنونة معمول بها عند جماعة العلماء‏.‏

213- وأما قول أبي هريرة في هذا الباب لأن يصلي أحدكم بظهر الحرة خير له من أن يقعد حتى إذا قام الإمام يخطب جاء يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة فإن هذا المعنى مرفوع إلى النبي عليه السلام من حديث أبي هريرة وغيره في تخطي رقاب الناس يوم الجمعة فمن ذلك حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي عليه السلام من اغتسل يوم الجمعة واستن ومس طيبا إن كان عنده ولبس أحسن ثيابه ثم خرج حتى أتى المسجد فلم يتخط رقاب الناس وأنصت إذا خرج الإمام كانت كفارة ما بينه وبين الجمعة التي تليها وحديث عبد الله بن عمرو بن العاصي عن النبي عليه السلام قال يحضر الجمعة ثلاثة نفر فرجل حضرها يلغو وهو حظه منها ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله إن شاء أعطاه وإن شاء منعه ورجل حضرها بإنصات ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام الحسنة بعشر أمثالها وحديث عبد الله بن بسر قال جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والإمام يخطب فقال له رسول الله أجلس فقد آذيت وحديث الأرقم بن أبي الأرقم عن النبي عليه السلام من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة بعد خروج الإمام وفرق بين اثنين فكأنما يجر قصبه في النار وهو حديث ضعيف الإسناد وروى بن أبي ذئب عن المقبري عن أبيه عن عبد الله بن وديعة عن سلمان الفارسي عن النبي عليه السلام قال لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويمس طيبا من بيته ثم راح ولم يفرق بين اثنين ثم صلى ما كتب له ثم أنصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى ذكره بن أبي شيبة عن شبابة عن بن أبي ذئب في المسند ولم يذكره في المصنف وهو في موطأ بن أبي ذئب رواه أحمد بن صالح عن بن أبي فديك عن بن أبي ذئب وروى بن القاسم عن مالك قال أكره التخطي إذا قعد الإمام على المنبر ولا بأس به قبل ذلك إذا كان بين يديه فرج وقال بن وهب عنه مثل ذلك وزاد تخط قبل خروج الإمام في رفق وذكر الثوري التخطي مطلقا وقال الأوزاعي التخطي الذي جاء فيه القول إنما هو والإمام يخطب حينئذ كره أن يفرق بين اثنين وقال الأوزاعي في الذي يجلس على طريق الناس في المسجد يوم الجمعة تخطوهم فإنهم لا حرمة لهم‏.‏

وقال الشافعي أكره تخطي الرقاب يوم الجمعة قبل دخول الإمام وبعده لما فيه من سوء الأدب وذكر محمد بن الحسن عن مالك أنه قال لا بأس بالتخطي بعد خروج الإمام قال محمد أراه قبل خروج الإمام ولا أراه بعده ولم يحك عن أصحابه خلافا في ذلك وأجمعوا أن التخطي لا يفسد شيئا من الصلاة وقال الأوزاعي هدي المسلمين إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة أن يستقبلوه بوجوههم‏.‏

وأما قوله السنة عندنا أن يستقبل الناس الإمام يوم الجمعة إذا أراد أن يخطب من كان منهم يلي القبلة أو غيرها فهو كما قال سنة مسنونة عند العلماء لا أعلمهم يختلفون في ذلك وأن كنت لا أعلم فيها حديثا مسندا إلا أن وكيعا ذكر عن يونس عن الشعبي قال من السنة أن يستقبل الإمام يوم الجمعة ووكيع عن أبان بن عبد الله البجلي عن عدي بن ثابت قال كان النبي عليه السلام إذا خطب استقبله أصحابه بوجوههم وذكرها أيضا بن أبي شيبة عن وكيع وروى استقبال الإمام إذا خطب يوم الجمعة عن جماعة من العلماء بالحجاز والعراق‏.‏

باب القراء في صلاة الجمعة والاحتباء ومن تركها من غير عذر

214- مالك عن ضمرة بن سعيد المازني عن عبيد الله بن عبد الله ‏(‏بن عتبة بن مسعود‏)‏ أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير ماذا كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على إثر سورة الجمعة قال كان يقرأ ‏(‏هل آتك حديث الغشية‏)‏ ‏[‏الغاشية 1‏]‏‏.‏

قوله على إثر سورة الجمعة دليل على أن سورة الجمعة كان يقرأ بها ولا يترك قراءتها فلم يحتج إلى السؤال عن ذلك لعلمه به وفيه أيضا دليل على أن الركعة الثانية كان يقرأ فيها بغير سورة الجمعة ‏(‏ولو كان يقرأ سورة الجمعة‏)‏ في الركعتين كلتيهما ما كان سؤاله مثل هذا السؤال وكذلك لو كان يقرأ معها شيئا واحدا أبدا لعلمه كما علم سورة الجمعة ولكنه كان مختلفا فلم يقف منه على شيء واحد وسأل عن الأغلب منه فأخبره النعمان بما عنده وقد علم غير النعمان من ذلك خلاف ما علم النعمان وقد أدى عنه ‏(‏صلى الله عليه وسلم أصحابه‏)‏ ما علموا من ذلك وقد اختلف العلماء في هذا الباب على حسب اختلاف الآثار فيه وهذا عندهم من اختلاف المباح الذي ورد ورود التخيير‏.‏

وأما اختلاف الآثار في ذلك فمن ذلك حديث مالك هذا ومنها حديث إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين والجمعة ب سبح اسم ربك الأعلى ‏)‏ ‏[‏الأعلى 1‏]‏‏.‏

‏(‏هل أتك حديث الغشية‏)‏ ‏[‏الغاشية 1‏]‏‏.‏

وإذا اجتمع العيدان في يوم قرأ بهما جميعا ومنها حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن عبد الله بن أبي رافع قال استخلف مروان أبا هريرة على المدينة وخرج إلى مكة فصلى بنا أبو هريرة الجمعة فقرأ بسورة الجمعة في الركعة الأولى وفي الآخرة ‏(‏إذا جاءك المنفقون‏)‏ ‏[‏المنافقون 1‏]‏‏.‏

قال عبيد الله فأدركت أبا هريرة حين انصرف فقلت له إنك قرأت بسورتين كان علي يقرأ بهما في الكوفة فقال أبو هريرة إني سمعت رسول الله يقرأ بهما ومنها حديث الثوري عن محمد بن راشد عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن بن عباس أن النبي عليه السلام كان يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة ‏(‏وإذا جاءك المنافقون ‏(‏2‏)‏‏)‏ ومنها حديث زيد عقبة عن سمرة بن جندب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة ب سبح اسم ربك الأعلى ‏)‏ ‏[‏الأعلى 1‏]‏‏.‏

و‏(‏هل أتك حديث الغشية‏)‏ ‏[‏الغاشية 1‏]‏‏.‏

وهذه آثار صحاح كلها لها طرق كثيرة ورويت من وجوه غير هذه‏.‏

وأما اختلاف الفقهاء في هذه المسألة فقال مالك بما روي في ذلك قال أحب إلي أن يقرأ الإمام يوم الجمعة ‏(‏هل أتك حديث الغشية‏)‏ ‏[‏الغاشية 1‏]‏‏.‏

مع سورة الجمعة وقد روى عنه أنه كان يقرأ ب ‏(‏سبح اسم ربك الأعلى ‏)‏ ‏[‏الأعلى 1‏]‏‏.‏

وذكر بن أبي شيبة عن إسماعيل بن عياش عن محمد بن عجلان قال صليت خلف عمر بن عبد العزيز الجمعة فقرأ في الركعة الأولى بسورة الجمعة وفي الثانية ب سبح اسم ربك الأعلى ‏)‏ وجملة قول مالك في ذلك أن الإمام لا يترك سورة الجمعة في الأولى ويقرأ في الثانية بما شاء إلى أنه يستحب ما وصفنا وروى بن وهب عن مالك أنه سئل عن قراءة سورة الجمعة يوم الجمعة أسنة قال لا أدري ما سنة ولكن من أدركنا كان يقرأ بها يوم الجمعة قيل له فما ترى أن يقرأ معها قال أما فيما مضى ف ‏(‏سبح اسم ربك الأعلى ‏)‏‏.‏

وأما اليوم فيقرؤون بالسورة التي تليها وقال الأوزاعي ما نعلم أحدا من أئمة المسلمين ترك سورة الجمعة يوم الجمعة‏.‏

وقال الشافعي أختار أن يقرأ في الأولى بسورة الجمعة وفي الثانية ‏(‏إذا جاءك المنفقون‏)‏ ‏[‏المنافقون 1‏]‏‏.‏

وهو قول علي وأبي هريرة وجماعة‏.‏

وقال مالك والشافعي وداود لا يترك قراءة سورة الجمعة في الركعة الأولى على كل حال فإن لم يقرأها لم تفسد صلاته وقد أساء وترك ما يستحب له‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه ما قرأ به فحسن وكانوا يكرهون أن يوقتوا في ذلك شيئا من القرآن سورة الجمعة أو غيرها وقال الثوري لا يتعمد أن يقرأ في الجمعة بالسورة التي جاءت في الآثار ولكن يتعمد ذلك أحيانا ويدع أحيانا‏.‏

وأما الاحتباء فذكر في رواية يحيى بن يحيى في ترجمة هذا الباب ولم يذكر في الباب فيه شيئا وذكر في رواية بن بكير وغيره في هذا الباب مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يحتبى يوم الجمعة والإمام يخطب وهذا الحديث قد رواه عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر ولم يرو عن أحد من الصحابة خلافه ولا روي عن أحد من التابعين كراهية الاحتباء يوم الجمعة إلا وقد روي عنه جوازه وأظن مالكا سمع والله أعلم ما روي عن النبي عليه السلام من كراهية الاحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب وأنه قد قال به قوم ولم يصح عنده وصح عنده فعل بن عمر وبلغه فأدخله في كتابه والحديث المسند فيه رواه أبو عبد الرحمن المقبري عن سعيد بن أبي أيوب قال حدثني أبو مرحوم عن سهل بن معاذ عن أبيه أن النبي عليه السلام نهى عن الاحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب وذكره أبو داود وقال حدثنا محمد بن عوف قال حدثنا المقبري فذكره قال أبو داود وكان بن عمر وأنس بن مالك وشريح وصعصعة بن صوحان وسعيد بن المسيب والنخعي ومكحول وإسماعيل بن محمد بن سعد يحتبون يوم الجمعة وقال نعيم بن سلامة لا بأس بها ولم يبلغني أن أحدا كرهها الا عبادة بن نسي وروي في غير الموطأ جواز الاحتباء يوم الجمعة عن جماعة من السلف وهو قول مالك والأوزعي والشافعي والثوري وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود‏.‏

215- وأما حديثه في هذا الباب عن صفوان بن سليم قال مالك لا أدري أعن النبي عليه السلام أم لا أنه قال من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير عذر طبع الله على قلبه فإن هذا الحديث مروي عن النبي عليه السلام من وجوه منها حديث أبي الجعد الضمري وكانت له صحبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ترك الجمعة ثلاث مرات ومنهم من يقول فيه ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه وهو حديث مدني رواه محمد بن عمر بن علقمة عن عبيدة بن سفيان عن أبي الجعد الضمري عن النبي عليه السلام ‏(‏وقد رواه بعضهم عن محمد بن عمر وعن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ والأول عندي أولى بالصواب وقد ذكرناه بالأسانيد في التمهيد وحديث أبي قتادة أيضا مدني عن النبي عليه السلام في معناه رواه الدراوردي وسليمان بن بلال عن أسيد بن أبي أسيد البراد عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر طبع الله على قلبه قال أبو عمر يرويه غير سليمان والدراوردي عن أسيد بن أبي أسيد عن عبد الله بن أبي قتادة عن جابر ورواية سليمان والدراوردي أولى بالصواب إن شاء الله وفيه من غير ضرورة وقد ذكرنا في التمهيد معنى الضرورة وما هي وما الذي يتخلف له الصحيح عن الجمعة وأتينا بما للعلماء في ذلك هنالك والحمد لله‏.‏

وأما التشديد في تركها فروي عن النبي عليه السلام من حديث بن عمر وحديث بن عباس وحديث أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعة أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين وقد ذكرتها بأسانيدها في التمهيد والختم على القلوب مثل الطبع عليها وهذا وعيد شديد لأن من طبع على قلبه وختم عليه لم يعرف معروفا ولم ينكر منكرا وقد قال عبد الله بن مسعود والحسن البصري إن الصلاة التي أراد النبي عليه السلام أن يحرق على من تخلف عنها هي الجمعة ذكره بن أبي شيبة عن الفضل بن دكين عن زهير عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله وعن عفان عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن وهي عن سفيان الثوري وبن المبارك ومراون بن معاوية عن عوف الأعرابي عن سعيد بن أبي الحسن عن عبد الله بن عباس أنه قال من ترك ثلاث جمعات متواليات من غير عذر فقد نبذ الإسلام وراء ظهره وروى جرير وعبد الله بن إدريس عن ليث عن مجاهد أن رجلا سأل بن عباس شهرا كل يوم يسأله عنها ما تقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولا يشهد الجمعة ولا الجماعة فكان بن عباس يقول في ذلك كله صاحبك في النار وهذا يحتمل أن يكون بن عباس عرف حال المسؤول عنه باعتقاد مذهب الخوارج في ترك الصلاة مع الجماعة والتهمة باستحلال دماء المسلمين وتكفيرهم وأنه لذلك ترك الجمعة والجماعة معهم فأجابه بهذا الجواب تغليظا في سوء مذهبه وقد ذكرنا في التمهيد حديث علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبهم فقال في خطبته إن الله فرض عليكم الجمعة في يومي هذا وفي عامي هذا فمن تركها جحودا بها واستخفافا لحقها فلا جمع الله عليه شمله ولا بارك له في أمره ألا ولا صلاة له ولا زكاة له ولا صوم له ولا حج له إلا أن يتوب فمن تاب تاب الله عليه في حديث طويل ذكرته من طرق في التمهيد وقد بان فيه أن الوعيد المذكور إنما هو لمن تركها جحودا بها واستخفافا بحقها وفي قوله تعالى ‏(‏يأيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله‏)‏ ‏[‏الجمعة 9‏]‏‏.‏

كفاية في وجوب الجمعة على من سمع النداء وأجمع علماء الأمة أن الجمعة فريضة على كل حر بالغ ذكر يدركه زوال الشمس في مصر من الأمصار وهو من أهل المصر غير مسافر وأجمعوا أنه من تركها وهو قادر على إتيانها ممن تجب عليه أنه غير كافر بفعله ذلك إلا أن يكون جاحدا لها مستكبرا عنها وأجمعوا أنه بتركها ثلاث مرات من غير عذر فاسق ساقط الشهادة وقيل ذلك فيمن تركها عامدا مرة واحدة من غير تأويل ولا عذر فإن قال بعض أهل الجهل إنه روى بن وهب عن مالك أن شهودها سنة فالجواب عن ذلك أن شهودها سنة على أهل القرى الذين اختلف السلف والخلف في إيجاب الجمعة عليهم‏.‏

وأما أهل الأمصار فلا ونحن نورد ذلك على نصه والرواية في سماع بن وهب عن مالك قال قال لي مالك كل قرية متصلة البيوت وفيها جماعة من المسلمين فينبغي لهم أن يجمعوا إذا كان إمامهم يأمرهم أن يجمعوا أو ليؤمروا رجلا فيجمع بهم لأن الجمعة سنة هذه رواية بن وهب التي شبه بها على من لا علم له ولم يعلم أن من أهل العلم جماعة يقولون إنه لا جمعة إلا في مصر جامع وفي قول مالك في رواية بن وهب هذه إذا كان إمامهم يأمرهم دليل على أن وجوب الجمعة عنده في القرية الكبيرة التي ليست بمصر إنما هو اجتهاد منه سنة وتشبيه لها بالمصر المجتمع على إيجاب الجمعة فيه ومسائل الاجتهاد لا تقوى قوة توجب القطع عليها وقد أخبرتك بالإجماع القاطع للعذر وعليه جماعة فقهاء الأمصار فلهذا أطلق مالك أنها سنة في قرى البادية لما رأى من العمل بها ببلده وإن كان فيها خلاف معلوم عنده وعند غيره وقد ذكرنا الاختلاف في التجميع في القرى الصغار والكبار في التمهيد على أنه يحتمل أن يكون قول مالك سنة أي طريقة الشريعة التي سلكها المسلمون ولم يختلفوا فيها هذا لو أراد الجمعة بالأمصار وقال مكحول السنة سنتان سنة فريضة وسنة غير فريضة فالسنة الفريضة الأخذ بها فريضة وتركها كفر والسنة غير الفريضة الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غير حرج وقد روى بن وهب عن مالك قال سمعت بعض أهل العلم يقول كان الناس في زمن رسول الله ينزلون من العوالي يشهدون الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والعوالي من المدينة على ثلاثة أميال أو نحو ذلك قال ولم يبلغني ان شهودها يجب على أحد أبعد من ذلك قال أبو عمر هذا يدل على أنها واجبة على هؤلاء عنده وعلى من هو أقرب إلى المصر منهم‏.‏

وأما المصر فيه عنده واجبة على أهله وعلى كل من سمع النداء أو كان بمكان يسمع منه أو رأس ثلاثة أميال أو أدنى ومن كان أبعد من ذلك فهو في سعة إن شاء الله وقد روى بن القاسم عن مالك أنه قال في القرى التي تجمع فيها الجمعة ولا يكون لهم وال قال ينبغي أن يقدموا رجلا فيخطب بهم ويصلي قال بن القاسم قال لي مالك إن لله فرائض في أرضه فرائض لا يسقطها الوالى قال بن القاسم يريد الجمعة فهذه الرواية هي التي عليها جماعة العلماء بالفقه والحديث في جميع الأمصار والحمد لله ولم يختلفوا أن الجمعة واجب شهودها على كل بالغ من الرجال حر إذا كان في مصر جامع هذا إجماع من علماء السلف والخلف واختلفوا في القرى الصغار في أنفسها وفي المسافة التي منها يجب قصد المصر للجمعة من البوادي على ما قد ذكرناه في التمهيد ونذكر ها هنا اختلاف فقهاء الأمصار قال مالك من كان بينه وبين الجمعة ثلاثة أميال فعليه إتيان الجمعة وهو قول الليث والشافعي لأنه تجب على أهل المصر وعلى من كان خارج المصر من موضع يسمع فيه النداء والنداء يسمع بالصوت الندي من ثلاثة أميال فيما ذكروا وروى علي بن زياد عن مالك قال عزيمة الجمعة على من كان من المصر بموضع يسمع فيه النداء وذلك ثلاثة أميال‏.‏

وأما اختلافهم في العدد الذي تصح به الجمعة فأما مالك فلم يحد فيه حدا وراعى القرية المجتمعة المتصلة البيوت قال بن القاسم كالروحاء وشبهها فإذا كانت كذلك لزمتهم الجمعة وقال مطرف وبن الماجشون تجب الجمعة على أهل ثلاثين بيتا فما فوق ذلك بوال وبغير وال وعن عمر بن عبد العزيز خمسين رجلا‏.‏

وقال أبو حنيفة والليث ثلاثة سوى الإمام وقال أبو يوسف اثنان سوى الإمام وبه قال الثوري وداود وقال الحسن بن صالح والطبري إن لم يحضر مع الإمام إلا رجل واحد يخطب عليه وصلى الجمعة أجزتهما واعتبر الشافعي وأحمد بن حنبل أربعين رجلا وعن أبي هريرة مائتا رجل وقال طائفة اثنا عشر رجلا لأن الذين بقوا مع النبي عليه السلام فأقام الجمعة بهم إذ تركوه قائما كانوا اثني عشر رجلا ولكل قول وجه يطول الاحتجاج له وبالله التوفيق‏.‏

216- وأما حديثه عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب خطبتين يوم الجمعة وجلس بينهما فهو مرسل في روايته عند جميع رواته وقد أسندناه من طرق في التمهيد صحاح كلها منها حديث عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبتين قائما يفصل بينهما بجلوس وحديث الثوري وغيره عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال كان النبي عليه السلام يخطب قائما ويجلس بين الخطبتين وكانت صلاته قصرا وخطبته قصرا وكان يتلو في خطبته آيات من القرآن واختلف الفقهاء في الجلوس بين الخطبتين ‏(‏هل هو فرض أم سنة فقال مالك وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه الجلوس بين الخطبتين في الجمعة‏)‏ سنة فإن لم يجلس بينهما فقد أساء ولا شيء عليه إلا أن مالكا قال يجلس جلستين إحداهما قبل الخطبة والأخرى بين الخطبتين‏.‏

وقال أبو حنيفة لا يجلس الإمام أول ما يخطب ويجلس بين الخطبتين‏.‏

وقال الشافعي يجلس حين يظهر على المنبر قبل أن يخطب لأنه ينتظر الأذان ولا يفعل ذلك في العيدين لأنه لا ينتظر أذانا فإن ترك الجلوس الأول كراهته ولا إعادة عليه لأنه ليس من الخطبتين ولا فصل بينهما‏.‏

وأما الجلوس بين الخطبتين فلابد منه فإن خطب خطبتين لم يفصل بينهما أعاد ظهرا أربعا‏.‏

وقال أبو ثور يخطب خطبتين ويجلس جلستين واختلفوا أيضا في الخطبتين يوم الجمعة وما يجزئ منهما وهل هي فرض أو سنة فالروايات عن أصحابنا فيها مضطربة والخطبة عندنا في الجمعة فرض وهو قول بن القاسم ولا يجزئ عنده إلا أقل ما يقع عليه اسم خطبة من الكلام المؤلف المبتدإ بالحمد لله‏.‏

وأما تكبيرة أو تهليلة أو تسبيحة كما قال أبو حنيفة فلا تجزئه وذكر بن عبد الحكم عن مالك إن كبر أو هلل أو سبح أجزأه من الخطبة قال بن وهب عن مالك يخطب خطبتين يفصل بينهما بجلوس ويجلس جلستين وقال الثوري لا تكون جمعة إلا بخطبة‏.‏

وقال الشافعي لا تجزئ الجمعة بأقل من خطبتين قائما فإن خطب جالسا وهو يطيق لم يجزه وإن علموا أنه يطيق لم تجزهم جمعة قال وأقل ما يقع عليه اسم خطبة منهما أن يحمد الله في أو كل واحدة منهما ويصلي على النبي عليه السلام ويوصي بتقوى الله ويقرأ شيئا من القرآن في الأولى ويدعو في الآخرة لأن الخطبة جمع بعض الكلام إلى بعض قال وإن خطب خطبة واحدة عاد فخطب ثانية مكانه فإن لم يفعل حتى ذهب الوقت أعاد الظهر أربعا قال ولا تتم الخطبة إلا أن يقرأ في إحداهما بآية أو أكثر ويقرأ في الآخرة أيضا بآية أو أكثر والقراءة في الأولى أكثر وما قدم من الكلام في الخطبة أو القراءة أو أخر لم يضره‏.‏

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف إن خطب الإمام بالناس يوم الجمعة فقال الحمد لله أو قال سبحان الله أو قال لا إله إلا الله أو ذكر الله ولم يزد على هذا شيئا أجزأه من الخطبة وقال محمد لا يجزئه حتى يكون كلاما يسمى خطبة قال أبو عمر قال الله تعالى ‏(‏يأيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ‏[‏الجمعة 9‏]‏‏.‏

والذكر ها هنا الصلاة والخطبة بإجماع فأبان رسول الله الجمعة بفعله كيف هي وفي أي وقت هي وكم ركعة هي ولم يصلها قط إلا بخطبة فكان بيانه ذلك فرضا كسائر ‏(‏بيانه لمجملات الصلوات في ركوعها وسجودها وأوقاتها وفي الزكوات ومقاديرها وغير ذلك من مجملات الفرائض المنصوص عليها في الكتاب وقد استدل بعض أصحابنا على وجوب الخطبة بقوله تعالى ‏(‏وتركوك قائما ‏[‏الجمعة 11‏]‏‏.‏

لأنه عاتب بذلك الذين تركوا النبي صلى الله عليه وسلم قائما يخطب يوم الجمعة وانفضوا إلى التجارة التي قدمت العير بها في تلك الساعة وعابهم بذلك ولا يعاب إلا على ترك الواجب وما قدمناه من القول في وجوبها لازم قاطع والحمد لله وأجمعوا أن الخطبة لا تكون إلا قائما لمن قدر على القيام فإن أعيا وجلس للراحة لم يتكلم حتى يعود قائما وقد كان عثمان ربما استراح في الخطبة ثم يقوم فيتكلم قائما وأول من خطب جالسا معاوية لا يختلفون في ذلك وقد ذكرناه بإسناده في موضعه والحمد لله‏.‏