فصل: باب ما جاء فيمن أحصر بغير عدو

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار ***


باب ما يجوز للمحرم أن يفعله

760- مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن ربيعة بن أبي عبد الله بن الهدير أنه رأى عمر بن الخطاب يقرد بعيرا له في طين بالسقيا وهو محرم قال أبو عمر تقريد البعير نزع القراد عنه ورميه وكان عمر يدفنها في الطين لئلا ترجع إلى البعير وليكون أعون له على قتلها وأدخل مالك هذا الخبر عن عمر بعد ما ترجم الباب ب ‏(‏ما يجوز للمحرم أن يفعله‏)‏ ثم قال بأثر عمر هذا قال مالك وأنا أكرهه‏.‏

761- ثم أدخل في هذا الباب عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يكره أن ينزع المحرم حلمة أو قرادا عن بعيره قال مالك وذلك أحب ما سمعت إلي في ذلك قال أبو عمر كأنه رأى أن قول بن عمر أحوط فمال إليه ولم يتابعه جمهور العلماء عليه لأن القراد ليس من الصيد فيدخل في معنى قول الله ‏(‏ عز وجل‏)‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم‏)‏ ‏[‏المائدة 95‏]‏‏.‏

ولا هو ممن يعتبر به المحرم في نفسه من الصبر مما يغير به المحرم في نفسه من الصيد على أذاه وليس في جسده ولا في رأسه ولم يتعد كونه في هوام جسد بعيره فليس لقول بن عمر وجه ولا معنى صحيح في النظر وقد قال بن عباس لا بأس أن يقتل المحرم القراد والحلم والبراغيث قال أبو عمر على قول بن عباس في هذا اكثر الناس قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري والليث والأوزاعي لا بأس أن يقرد المحرم بعيره وهو قول جابر بن زيد وعطاء وبه قال أبو ثور وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وداود والطبري‏.‏

762- مالك عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه أنها قالت سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تسأل عن المحرم أيحك جسده فقالت نعم فليحككه وليشدد ولو ربطت يداي ولم أجد إلا رجلي لحككت قال أبو عمر لا خلاف بين العلماء في أن للمحرم أن يحك جسده وأن يحك رأسه حكا رقيقا لئلا يقتل قملة أو يقطع شعرة وإنما قالت عائشة والله أعلم يحك المحرم جسده وليشدد لأن شعر الجسد حق عند أهل العلم وهم لا يرون على من حك رأسه شيئا إلا أن يستيقن أنه قتل قملا أو قطع شعرا ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز للمحرم أخذ شيء من شعر رأسه وجسده لضرورة ما دام محرما فإن فعل فقد تجاوز له بعض العلماء في اليسير من الشعر مثل الشعرة والشعرتين قال عطاء ليس في الشعرة ولا في الشعرتين شيء قال عطاء فإن كن شعرات ففيهن الكفارة قال أبو عمر الكفارة ما أوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على كعب بن عجرة وسيأتي القول في هذا في بابه من هذا الكتاب إن شاء الله‏.‏

وقال الشافعي إذا قطع المحرم من رأسه أو جسده ثلاث شعرات أو نتفهن فعليه فدية وإن نتف شعره فعليه مد وإن نتف شعرتين فمدان وبه قال أبو ثور ولم يحد مالك في ذلك شيئا‏.‏

وقال مالك فيمن نتف شعر أنفه أو إبطيه أو اصطلى بنورة أو حلق عن شجة في رأسه لضرورة أو حلق قفاه لموضع المحاجم وهو محرم ناسيا أو جاهلا فعليه الفدية قال أبو عمر قول مالك أصوب لأن الحدود في الشريعة لا تصح إلا بتوقيف ممن يجب التسليم له‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه إن أخذ المحرم من شعر رأسه أو لحيته فعليه صدقة أو نتف شعرات فإن نتف إبطيه فعليه دم وإن حلق موضع المحاجم فعليه دم في قول أبي حنيفة وفي قول أبي يوسف ومحمد عليه صدقة وروي عن الحسن البصري أن عليه في شعرة واحدة دما وهذا إسراف والله أعلم‏.‏

63- مالك عن أيوب بن موسى أن عبد الله بن عمر نظر في المرأة لشكو كان بعينيه وهو محرم قال أبو عمر لم يرو مالك هذا الخبر عن نافع وقد رواه عبيد الله وعبد الله العمريان عن نافع عن بن عمر ورواه أيوب السختياني عن نافع عن بن عمر ذكره معمر عن أيوب عن نافع قال رأيت بن عمر نظر في المرآة وهو محرم قال أبو عمر روي عن مالك أنه كره النظر في المرآة للمحرم من غير شكوى وكأنه دخل قوله في بن عمر لشكوى كانت بعينيه يريد أنه لم يكن نظره فيها رفاهية ولا زينة ولا لدفع شيء من الشعث وعن الحسن وبن سيرين وعطاء وطاوس ومجاهد أنه لا بأس للمحرم أن ينظر في المرآة وقد روي عن عطاء أنه كرهه إذا كان ذلك لزينة واختلف عن بن عباس فروى بن جريج عن عطاء الخرساني أن بن عباس كره أن ينظر المحرم في المرآة وروى هشام بن حسان عن عكرمة عن بن عباس قال لا بأس أن ينظر المحرم في المرآة قال أبو عمر على هذا الناس لأن الله تعالى لم ينه عن ذلك ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا في الأصول شيء يمنع منه‏.‏

764- مالك عن محمد بن عبد الله بن أبي مريم أنه سأل سعيد بن المسيب عن ظفر له انكسر وهو محرم فقال سعيد اقطعه وهذا أيضا لا بأس به عند العلماء وذكر عبد الرزاق عن معمر والثوري عن أيوب عن عكرمة عن بن عباس قال المسلم ينزع ضرسه وإن انكسر ظفره طرحه أميطوا عنكم الأذى فإن الله تعالى لا يصنع بأذاكم شيئا وسئل مالك عن الرجل يشتكي أذنه أيقطر في أذنه من البان الذي لم يطيب وهو محرم فقال لا أرى بذلك بأسا ولو جعله في فيه لم أر بذلك بأسا قال أبو عمر ما ليس بطيب فلا يختلف العلماء في أنه مباح ويحل للمحرم مباشرته والتداوي به قال مالك ولا بأس أن يبط المحرم خراجه ويفقأ دمله ويقطع عرقه إذا احتاج إلى ذلك قال أبو عمر الأصل في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم من أذى كان به وفي ذلك إباحة التداوي بقطع العرق وشبهه من بط الخراج وفقء الدمل وقلع الضرس وما كان مثل ذلك كله وعلى ذلك فتوى جماعة الفقهاء وعلى ذلك مضى من قبلهم من التابعين وسلف العلماء وقد أجمعوا على نزع الشوكة وشبهها للمحرم وقد مضى معنى هذا الباب والله الموفق للصواب‏.‏

باب الحج عمن يحج عنه

765- مالك عن بن شهاب عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس قال كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر فقالت يا رسول الله إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال نعم وذلك في حجة الوداع قال أبو عمر وهذا الحديث قد سمعه سليمان بن يسار من عبد الله بن عباس من رواية الأوزاعي وبن عيينة عن الزهري حدثني سعيد قال حدثني قاسم قال حدثني الزهري قال حدثني الحميدي‏.‏

وحدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني بكر قال حدثني مسدد قالا حدثنا سفيان قال حدثني الزهري قال سمعت سليمان بن يسار يقول سمعت بن عباس يقول إن امرأة من خثعم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة النحر والفضل رديفه فقالت إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة هل ترى أن أحج عنه قال نعم قال الحميدي‏.‏

وحدثني سفيان قال كان عمرو بن دينار حدثناه أولا عن الزهري عن سليمان بن يسار عن بن عباس وزاد فيه فقالت يا رسول الله أو ينفعه ذلك قال نعم كما لو كان على أحدكم دين فقضاه غيره عنه قال فلما جاءنا الزهري تفقدت هذا فلم يقله قال أبو عمر هذه الرواية التي رواها عمرو بن دينار عن الزهري بإسناده المذكور محفوظة من وجوه كثيرة من حديث الزهري وغيره وليس ما سمعه بن عيينة من عمرو بن دينار عن الزهري بدون ما سمعه هو من الزهري وعمرو أحد الأئمة الحفاظ وفي هذا الحديث من الفقه ركوب شخصين على دابة هذا مما لا خلاف فيه جوازه إذا أطاقت الدابة ذلك وفيه إباحة الارتداف وذلك من التواضع وأفعال رسو ل الله صلى الله عليه وسلم كلها سنن مرغوب فيها يحسن التأسي بها على كل حال وجميل الارتداف بالجليل من الرجال وفيه بيان ما ركب في الآدميين من شهوات النساء في الرجال والرجال في النساء وما يخاف من النظر إليهن وكان الفضل بن عباس من أجمل الشبان في زمانه وفيه أن على العالم والإمام أن يغير من المنكر كل ما يمكنه بحسب ما يقدر عليه إذا رآه وليس عليه ذلك فيما غاب عنه وفيه دليل على أنه يجب على الإمام أن يحول بين الرجال والنساء اللواتي لا يؤمن عليهن ولا منهن الفتنة ومن الخروج والمشي منهن في الحواضر والأسواق وحيث ينظرن إلى الرجال وينظر إليهن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء وفيه دليل على أن إحرام المرأة في وجهها وقد مضى القول في هذا المعنى وقد زعم بعض أصحابنا أن في هذا الحديث دليلا على أن للمرأة أن تحج وإن لم يكن معها ذو محرم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمرأة الخثعمية حجي عن أبيك ولم يقل إن كان معك ذو محرم وهذا ليس بالقوي من الدليل لأن العلم ما نطق به لا ما سكت عنه وقد قال صلى الله عليه وسلم لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر إلا مع ذي محرم أو زوج‏.‏

وأما اختلاف أهل العلم في معنى هذا الحديث الذي له سن وذلك حج المرء عن من لا يطيق الحج من الأحياء فإن جماعة منهم ذهبوا إلى أن هذا الحديث مخصوص به أبو الخثعمية لا يجوز أن يتعدى به إلى غيره بدليل قول الله ‏(‏عز وجل‏)‏ ‏(‏ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا‏)‏ آل عمران 97 ولم يكن أبو الخثعمية ممن يلزمه الحج لما لم يستطع إليه سبيلا فخص بأن يقضى عنه وينفعه ذلك وخصت ابنته أيضا أن تحج عن أبيها وهو حي وممن قال بذلك مالك وأصحابه قالوا خص أبو الخثعمية والخثعمية بذلك كما خص سالم مولى أبي حذيفة برضاعه في حال الكبر وهذا مما يقول به المخالف فيلزمه وروي معنى قول مالك عن عبد الله بن الزبير وعكرمة وعطاء والضحاك قال بن الزبير والاستطاعة القوة وقال عكرمة الاستطاعة الصحة وقال أشهب قيل لمالك الاستطاعة الزاد والراحلة قال لا والله وما ذاك إلا على قدر طاقة الناس فرب رجل يجد زادا وراحلة ولا يقدر على المسير وآخر يقوى يمشي على راحلته وإنما هو كما قال الله ‏(‏عز وجل‏)‏ ‏(‏من استطاع إليه سبيلا‏)‏ قال أبو عمر وذهب آخرون إلى أن الاستطاعة تكون في البدن والقدرة وتكون أيضا بالمال لمن لم يستطع ببدنه واستدلوا بهذا الحديث وما كان مثله وممن قال بذلك الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وسعيد بن جبير والحسن وعمرو بن دينار والسدي كلهم وجماعة سواهم يقولون السبيل الزاد والراحلة وهذا يدل على أن فرض الحج على البدن والمال وروي عن النبي ‏(‏عليه السلام‏)‏ أنه قال السبيل الزاد والراحلة من وجوه منها مرسلة ومنها ضعيفة والاستطاعة في لسان العرب تكون بالمال وتكون بالبدن وتقول العرب أنا أستطيع أن أبني داري يعني بماله وكذلك سائرها يشبهه ذلك والاحتجاج لكلا الفريقين يطول وليس هنا مما قصد به إلى ذلك وقد أوضحنا أصول ذلك في التمهيد‏.‏

وأما اختلافهم في المعضوب الذي لا يستطيع أن يثبت على الراحلة لكبر أو لضعف أو لزمانة فقال مالك لا حج على من هذه حاله وإن كان واجدا لما يبلغه الحج من ماله‏.‏

وقال أبو حنيفة والشافعي هو مستطيع إذا وجد من يحج عنه بمال أو بغير مال قال الشافعي الاستطاعة على وجهين أحدهما أن يكون مستطيعا ببدنه والآخر من ماله ما يبلغه الحج زاد وراحلة قال والوجه الآخر أن يكون معضوبا ببدنه لا يقدر على مركب بحال وهو قادر على من يطيعه إذا أمره أن يحج عنه بطاعته له أو باستحبابه له فيكون ممن يلزمه الحج واحتج بحديث الخثعمية قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حجي عن أبيك فإن ذلك يجزئ كما لو كان عليه دين فقضيته عنه قال أبو عمر احتج بعض أصحابنا المالكيين بحديث عبد الرزاق عن الثوري عن سليمان بن الشيباني عن يزيد بن الأصم عن بن عباس أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحج عن أبي قال نعم إن لم تزده خيرا لم تزده شرا قال أبو عمر هذا الحديث قد أنكروه على عبد الرزاق وخطؤوه فيه لأنه حديث لم يروه أحد عن الثوري غيره فلا يوجد في غير كتاب عبد الرزاق وقالوا هذا حديث منكر لا يشبه ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم ومحال أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يدري أينفع أم لا حدثني خلف بن سعيد قال حدثني عبد الله بن محمد قال حدثني أحمد بن خالد قال حدثني عبيد بن محمد الكشوري قال لم يرو حديث الشيباني عن يزيد بن الأصم عن بن عباس أحد غير عبد الرزاق عن الثوري لم يروه عن الثوري كوفي ولا بصري ولا حجازي ولا أحد غير عبد الرزاق قال أبو عمر لما لم يوجد عند من هو أعرف بالثوري من عبد الرزاق مثل القطان وبن مهدي ووكيع وأبي نعيم وبن المبارك والفريابي والأشجعي وغيرهم علم أن عبد الرزاق قد وهم فيه لفظا وأشبه عليه وقد روى شعبة عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبي رزين العقيلي أنه قال يا رسول الله ‏!‏ إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن قال حج عن أبيك واعتمر وقد روى هشيم وغيره عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أختي نذرت أن تحج فماتت أفأحج عنها قال نعم أرأيت لو كان عليها دين فقضيه الله أولى بالوفاء وفي هذا الحديث الحج عن الميت وفي هذا الباب أحاديث كثيرة قد ذكرنا أكثرها في التمهيد وقد أجمعوا أن لا تقضى الصلاة عن حي ولا ميت واختلفوا في الصيام لاختلاف الآثار في ذلك والله أعلم ففي هذا الحديث مع إيجاب الحج على من قدر عليه بماله وضعف عن إقامته ببدنه جواز حج الرجل عن غيره وقد اختلف العلماء في ذلك فقال الحسن بن صالح بن حي لا يحج أحد عن أحد إلا عن ميت لم يحج حجة الإسلام وهو قول مالك والليث‏.‏

وقال أبو حنيفة للصحيح أن يأمر من يحج عنه يكون ذلك في ثلثه وإن تطوع رجل بالحج عنه بعد الموت أجزاه ولا يجوز عنده أن يؤاجر أحد نفسه في الحج وقول الثوري نحو قول أبي حنيفة قال سفيان الثوري إذا مات الرجل ولم يحج فليوص أن يحج عنه فإن هو لم يوص فحج عنه ولده فحسن فإنما هو دين يقضيه قال وقد كان يستحب لذي القرابة أن يحج عن قرابته فإن كان لا قرابة له فمواليه إن كان له موالي فإن ذلك يستحب فإن أحجوا عنه رجلا تطوعا فلا بأس قال سفيان وإذا أوصى الرجل أن يحج عنه فليحج عنه ولا ينبغي لرجل أن يحج عن غيره إذا لم يحج عن نفسه وقال بن أبي ليلى والأوزاعي والشافعي يحج عن الميت وإن لم يوص به ويجزيه قال الشافعي ويكون ذلك من رأس المال‏.‏

وقال مالك يجوز أن يحج عن الميت من لم يحج قط ولكن الاختيار أن يحج عن نفسه أولا ثم يحج عن غيره وهو قول أبي حنيفة والأوزاعي والثوري وقال لا يحج عن الميت إلا من حج عن نفسه وكان يكره أن تحج المرأة عن الرجل ولا يكره للرجل أن يحج عن المرأة لأن المرأة تلبس والرجل لا يلبس‏.‏

وقال الشافعي لا يحج عن الميت إلا من حج عن نفسه فإن حج عن الميت صرورة كانت نيته للنفل لغوا‏.‏

وقال الشافعي جائز أن يؤاجر نفسه في الحج ولست أكرهه‏.‏

وقال مالك وأكره أن يؤاجر نفسه في الحج فإن فعل جاز وهكذا كان قول الشافعي بالعراق وعند أبي حنيفة لا يجوز الاستئجار على الحج قربة إلى الله ‏(‏عز وجل‏)‏ ولا يصح أن يعمله غير المتقرب به واحتج بعض أصحابه بالإجماع على أنه لا يجوز أن يستأجر الذمي بأن يحج عن مسلم وذلك لأنه قربة للمسلم ومن حجة مالك والشافعي على جواز ذلك إجماعهم على كتب المصحف وبناء المسجد وحفر القبر وصحة الاستئجار في ذلك وهو قربة إلى الله ‏(‏عز وجل‏)‏ فكذلك عمل الحج عن الغير والصدقات قربة إلى الله ‏(‏عز وجل‏)‏ وقد أباح للعامل عليها الأجر على عمالته ويدخل عليهم في احتجاجه بالإجماع على أن الذمي لا يجوز لمسلم أن يستأجره على أداء الحج عن نفسه إجماعهم أيضا أنه لا يجوز استئجار الذمي في التطوع بالحج وهم يحرمونه للمسلم في التطوع فكذلك الفرض وفي حديث الخثعمية حديث مالك هذا رد على الحسن بن صالح بن حي في قوله أن المرأة لا يجوز أن تحج عن الرجل وهو حجة لمن أجاز ذلك‏.‏

وأما حجة من أبى من جواز حج الرجل وهو صرورة عن غيره حتى يحج عن نفسه ما حدثني عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثني إسحاق بن إسماعيل الطالقاني قال حدثني عبدة بن سليمان عن بن أبي عروبة عن قتادة عن عزرة عن سعيد بن جبير عن بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة قال من شبرمة قال أخ لي أو قريب لي فقال حججت عن نفسك قال لا قال فحج عن نفسك ثم حج عن شبرمة ومن أبى القول بهذا الحديث علله بأنه قد روي هذا الحديث موقوفا على بن عباس أنه سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة الحديث لم يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم وبعضهم يرويه عن قتادة عن سعيد بن جبير لا يذكر عزرة والذي يقبله يحتج بأن الذي رفعه حافظ قد حفظ ما فسر عنه غيره فوجب قبول زيادته وبالله التوفيق هو حسبي ونعم الوكيل‏.‏

باب ما جاء فيمن أحصر بعدو

766- قال مالك من حبس بعدو فحال بينه وبين البيت فإنه يحل من كل شيء وينحر هديه ويحلق رأسه حيث حبس وليس عليه قضاء مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حل هو وأصحابه بالحديبية فنحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت وقبل أن يصل إليه الهدي ثم لم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا يعودوا لشيء‏.‏

767- مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال حين خرج إلى مكة معتمرا في الفتنة إن صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بعمرة من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بعمرة عام الحديبية ثم إن عبد الله نظر في أمره فقال ما أمرهما إلا واحد ثم التفت إلى أصحابه فقال ما أمرهما إلا واحد أشهدكم إني قد أوجبت الحج والعمرة ثم نفذ حتى جاء البيت فطاف طوافا واحدا ورأى ذلك مجزيا عنه وأهدى قال مالك فهذا الأمر عندنا فيمن أحصر بعدو كما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأما من أحصر بغير عدو فإنه لا يحل دون البيت قال أبو عمر الإحصار عند أهل العلم منها المحصر بعدو وبالسلطان الجائر ومنها بالمرض وأصل الأسر في اللغة الحبس والمنع قال الخليل وغيره حصرت الرجل حصرا منعته وحبسته قال وأحصر الرجل عن بلوغ مكة والمناسك من مرض أو نحوه هكذا قالوا جعلوا الأول ثلاثيا من حصرت والثاني رباعيا من أحصرت في المرض وعلى هذا خرج قول بن عباس لا حصر إلا حصر العدو ولم يقل لا إحصار إلا إحصار العدو وقال جماعة من أهل اللغة يقال أحصر من عدو ومن المرض جميعا وقالوا حصر وأحصر بمعنى واحد في المرض والعدو ومعنى أحصر حبس واحتج من قال هذا من الفقهاء بقول الله ‏(‏عز وجل‏)‏ ‏(‏فإن أحصرتم‏)‏ ‏[‏البقرة 196‏]‏‏.‏

وإنما نزلت هذه الآية في الحديبية وكان حبسهم ومنعهم يومئذ بالعدو قال أبو عمر إما قول مالك فيمن أحصر بعدو أنه يحل من إحرامه ولا هدي عليه ولا قضاء إلا أنه إن كان ساق هديا نحره فقد وافقه الشافعي على أنه في الموضع الذي حيل فيه بينه وبين الوصول إلى البيت وأنه لا قضاء عليه إلا أن يكون صرورة فلا يسقط ذلك عنه فرض الحج وخالفه في وجوب الهدي عليه فقال الشافعي عليه الهدي ينحره في المكان الذي حبس فيه ويحل وينصرف وهو قول مالك في المحصر بعدو أنه ينحر هديه حيث حصر في الحرم وغيره إلا أنه إن لم يسق هديا لم يوجب عليه هديا وعند الشافعي لا بد له من الهدي فإذا نحره في موضعه حل وهو قول أشهب واتفق مالك والشافعي أن المحصر بعدو ينحر هديه حيث حبس وصد ومنع في الحل كان أو في الحرم وخالفهما أبو حنيفة وأهل الكوفة وسنذكره بعد واختلف في نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية هل كان في الحل أو الحرم فكان عطاء يقول لم ينحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه يوم الحديبية إلا في الحرم وهو قول بن إسحاق وقال غيره من أصحاب المغازي وغيرهم لم ينحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه يوم الحديبية إلا في الحل وهو قول الشافعي واحتج بقول الله ‏(‏عز وجل‏)‏ ‏(‏هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله‏)‏ ‏[‏الفتح 25‏]‏‏.‏

وذكر يعقوب بن سفيان الفسوي قال بن أبي أويس عن مجمع بن يعقوب عن أبيه قال لما حبس رسول الله وأصحابه نحروا بالحديبية وحلقوا فبعث الله تعالى ريحا عاصفا فحملت شعورهم فألقتها في الحرم وهذا يبين أنهم حلقوا بالحل قال أبو عمر قوله ‏(‏عز وجل‏)‏ في يوم الحديبية ‏(‏ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله‏)‏ ‏[‏البقرة 196‏]‏‏.‏

يعني حتى تنحروا ومحله هذا نحره‏.‏ وأما قوله في البدن ‏(‏ثم محلها إلى البيت العتيق‏)‏ ‏[‏الحج 33‏]‏‏.‏ فهذا لمن لم يمنع من دخول مكة ومكة كلها ومنى مسجد لمن قدر على الوصول إليها وليس البيت بموضع النحر‏.‏

وقال أبو حنيفة على المحصر أن يقدم الهدي ولا يجوز له أن ينحره إلا في الحرم‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وأكثر أهل العراق الإحصار بالمرض والإحصار بعدو سواء وتبيين مذهبهم في ذلك في الباب بعد هذا إن شاء الله‏.‏

وقال مالك والشافعي لا حصر إلا حصر العدو وهو قول بن عباس يريدون أن حصر العدو لا يشبهه حصر المرض ولا غيره لأنه من حصر بالعدو خاصة يحل في موضعه على ما وصفنا دون الوصول إلى البيت والمحصر بمرض لا يحله إلا الطواف والسعي بين الصفا والمروة ولا قضاء عند مالك والشافعي على المحصر بعدو إذا فاته ما دخل فيه بخلاف من فاته الحج وبخلاف المريض إلا أن يكون صرورة ولم يحج حجة الإسلام فإن كان كذلك لم يجزه ذلك من حجة الإسلام وجملة قول أبي حنيفة في المحصر بعدو أو مرض أنهما عنده سواء ينحر كل واحد منهما هدية في الحرم ويحل يوم النحر إن شاء وعليه حجة وعمرة وهو قول الطبري وقال أبو يوسف ومحمد ليس ذلك له ولا يتحلل دون يوم النحر وهو قول الثوري والحسن بن صالح واختلفوا فيمن حصره العدو بمكة فقال مالك يتحلل بعمل عمرة كما لو حصره العدو في الحل إلا أن يكون مكيا فيخرج إلى الحل ثم يتحلل بعمرة وقد قال مالك أهل مكة في ذلك كأهل الآفاق قال الشافعي الإحصار بعدو بمكة وغيرها سواء ينحر هديه ويحل مكانه‏.‏

وقال أبو حنيفة إذا أتى مكة محرما بالحج فلا يكون محصرا‏.‏

وقال مالك من وقف بعرفة فليس بمحصر ويقيم على إحرامه حتى يطوف بالبيت ويهدي وهو قول أبي حنيفة‏.‏

وقال الشافعي يكون محصرا وهو قول الحسن بن حي وللشافعي فيها قول آخر كقول مالك سواء‏.‏

وأما حديث بن عمر في هذا الباب ففيه من الفقه معان كثيرة منها إباحة الإهلال والدخول في الإحرام على أنه إن سلم نفذ وإن منعه مانع صنع ما يجب له في ذلك وسنذكر مسألة الاشتراط في الحج عند الإحرام به في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله وفيه ركوب الطريق في الخوف وهذا إذا كان الأغلب فيه سلامة المهجة لأن بن عمر لم يخف في الفتنة إلا منع الوصول إلى البيت خاصة دون القتل لأنهم لم يكونوا في فتنتهم يقتلون من لا يقاتلهم‏.‏

وأما قوله ما أمرهما إلا واحد أشهدكم أني قد أوجبت الحج مع العمرة وقد كان أحرم بعمرة ففيه جواز إدخال الحج على العمرة وقد مضى القول في ذلك في موضعه من هذا الكتاب وقد ذكرنا هناك ما للعلماء في إدخال الحج على العمرة وإدخال العمرة على الحج وفي إدخال الحج على الحج وفي إدخال العمرة على العمرة وجمهور العلماء مجمعون على أنه إذا أدخل الحج على العمرة في أشهر الحج قبل الطواف بالبيت أنه جائز ويكون قارنا ويلزمه ما يلزم من أهل بهما معا وقالت طائفة من أصحاب مالك له أن يدخل الحج على العمرة وإن أكمل الطواف بالبيت ما لم يسع بين الصفا والمروة وقال بعضهم له أن يدخل الحج على العمرة وأن يسعى بعد الطواف ما لم يركع ركعتي الطواف وهذا شذوذ لا نظر فيه ولا سلف له وقال أشهب متى طاف لعمرته شوطا واحدا لم يكن له إدخال الحج عليها وهذا هو الصواب إن شاء الله واختلف الفقهاء أيضا فيمن أدخل الحج على العمرة بعد أن أخذ في الطواف فقال مالك من أدخل الحج على العمرة بعد أن يفتتح الطواف لزمه وصار قارنا وروي ذلك عن أبي حنيفة والمشهور عنه أن ذلك لا يجوز إلا قبل الأخذ بالطواف‏.‏

وقال الشافعي لا يكون قارنا وذكر أن ذلك قول عطاء وبه قال أبو ثور وأحمد وإسحاق‏.‏

وأما قوله في حديث بن عمر ثم نفذ حتى جاء البيت فطاف به طوافا واحدا ورأى أن ذلك مجزيا عنه وأهدى ففيه حجة لمالك في قوله إن طواف الدخول إذا وصل بالسعي يجزئ عن طواف الإفاضة لمن تركه جاهلا أو لسنة ولم يؤده حتى رجع إلى بلده وعليه الهدي ولا أعلم أحدا قاله غير مالك ومن اتبعه من أصحابه والله أعلم على أن تحصيل مذهبه عند أكثر أصحابه انه لا يجزئ عن طواف الإفاضة إلا ما كان من الوقوف بعرفة قبل الجمرة أو بعدها وهو قول إسماعيل ومن بعده من البغداديين من المالكيين وقال أبو الفرج هو الذي لا يجوز غيره وأنكر رواية المصريين عن مالك وجمهور العلماء على أن طواف القدوم لا يجزئ عن طواف الإفاضة لأن طواف قبل عرفة ساقط عن المكي وعن المراهق وهم مجمعون على أن طواف الإفاضة الذي يجزئ عن طواف القدوم إذا وصل بالسعي بين الصفا والمروة للناسي والجاهل إذا رجع إلى بلده وعليه دم فإن كان مراهقا أو مكيا فلا دم عليه ولا شيء وهذا ما لا خلاف فيه عن مالك وغيره وهذا يدلك من قول مالك ومن قول الجمهور على أن الطواف المفترض في الحج طواف واحد لا غير وما سواه سنة إلا أن حكم طواف الإفاضة وسنته أن يكون يوم النحر مما بعده إلى آخر أيام التشريق وفيما ذكرنا أيضا عن بن عمر حجة لمالك والشافعي وأكثر أهل الحجاز في أن القارن يجزئه طواف واحد لحجة وعمرته وسنذكر اختلاف العلماء في ذلك عند ذكر حديث عائشة وقولها فيه‏.‏

وأما الذين أهلوا بالحج أو جمعوا الحج مع العمرة فإنما طافوا طوافا واحدا في موضعه من هذا الكتاب وقال القعنبي في حديث بن عمر في هذا الباب ورأى أن ذلك مجزيا عنه وأهدى شاة ولم يقله في الموطأ يحيى ولا بن القاسم ولا أبو المصعب واختلف الفقهاء فيما على القارن من الهدي أو الصيام فروي عن بن عمر أن القارن أو المتمتع على كل واحد منهما هدي بدنة أو بقرة وكان يقول ‏(‏فما استيسر من الهدي‏)‏ ‏[‏البقرة 196‏]‏‏.‏

بدنة أو بقرة يريد بدنه دون بدنه أو بقرة من بقره وهذا من مذهبه مشهور معلوم محفوظ وهو يرد رواية القعنبي في حديث بن عمر هذا ويشهد بأنه وهم في قوله وأهدى شاة إلا أن جمهور العلماء قالوا في معنى قول الله ‏(‏عز وجل‏)‏ ‏(‏فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي‏)‏ ‏[‏البقرة 196‏]‏‏.‏

قالوا شاة روي ذلك عن عمر وعلي وبن عباس وغيرهم وعليه جماعة أهل الفتوى بالأمصار وكان مالك يقول في القارن إن لم يجد الهدي صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع هو والمتمتع في ذلك سواء‏.‏

وقال الشافعي يجزئ القارن في ذلك شاة قياسا على المتمتع قال وهو أخف شأنا من المتمتع‏.‏

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد يجزئه شاة والبقرة أفضل ولا يجزئه عندهم إلا الدم عن المعسر وغيره في ذلك عندهم سواء قياسا على من جاوز الميقات غير محرم وهو يريد الحج أو رمي الجمار حتى مضت أيامها أن عليه دما ولا يجزئه منه صيام قال أبو عمر قياس القارن على المتمتع أولى وأقرب وأصوب من قياسه على من جاوز الميقات أو ترك رمي الجمار لأن المعنى الموجب للدم على المتمتع هو موجود في القارن وهو سقوط السعي عنه لحجه أو لعمرته من بلده واحتج من أوجب القضاء على المحصر بعدو بما أخبرنا به عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا النفيلي قال حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن ميمون قال سمعت أبا حاضر الحميري يحدث أبي ميمون بن مهران قال خرجت معتمرا عام حاصر بن الزبير أهل الشام بمكة وبعث معي رجالا من قومي بهدي فلما انتهيت إلى أهل الشام منعوني أن أدخل الحرم فنحرت الهدي مكاني ثم حللت ثم رجعت فلما كان من العام المقبل خرجت لأقضي عمرتي فأتيت بن عباس فسألته فقال أبدل الهدي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء قوله خرجت العام المقبل لأقضي عمرتي ليس فيه قول غير قوله والخبر عن نفسه لا عن بن عباس وليس في قوله حجة وبن عباس إنما قال له أبدل الهدي وذلك حجة للشافعي وأشهب في إيجابهما الهدي على المحصر دون القضاء واحتج أيضا من قال بإيجاب القضاء على المحصر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا في العام المقبل من عام الحديبية قضاء لتلك العمرة قالوا ولذلك قيل لها عمرة القضاء واستدلوا بحديث الحجاج بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى وعمرة قالوا وكذلك كل ممنوع محبوس ممنوع من الوصول إلى البيت بعدو أو بغير عدو يحل وعليه حجة أخرى إن كان حاجا أو عمرة إن كان معتمرا ومن زعم أن المحصر بعدو ينحر هديه ويحلق رأسه قد حل بفعله ذلك من كل شيء ولا شيء عليه احتج بان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل لواحد منهم في العام المقبل إن هذه العمرة لي ولكم قضاء عن العمرة التي صددنا عنها وحصرنا ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضى عام الحديبية قريشا على أن يحج في العام المقبل وقولهم عمرة القضاء وعمرة القضية سواء إن شاء الله وبالله التوفيق لا شريك له ولا أعلم خلافا فيمن حصره العدو أنه إذا غلب عليه رجاؤه في الوصول إلى البيت وأدرك الحج أنه يقيم على إحرامه حتى ييأس فإذا يئس حل عند مالك والشافعي وأبي ثور وإن كان معه هدي نحر وقصر ورجع ولا قضاء عليه إلا أن يكون صرورة وخالفهم العراقيون فأوجبوا عليه القضاء وهو قول مجاهد وعكرمة وإبراهيم والشعبي‏.‏

باب ما جاء فيمن أحصر بغير عدو

768- مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر أنه قال المحصر بمرض لا يحل حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة فإذا اضطر إلى لبس شيء من الثياب التي لا بد له منها أو الدواء صنع ذلك وافتدى‏.‏

769- وعن يحيى بن سعيد أنه بلغه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول المحرم لا يحله إلا البيت‏.‏

770- وعن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن رجل من أهل البصرة كان قديما أنه قال خرجت إلى مكة حتى إذا كنت ببعض الطريق كسرت فخذي فأرسلت إلى مكة وبها عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر والناس فلم يرخص لي أحد أن أحل فأقمت على ذلك الماء سبعة أشهر حتى أحللت بعمرة قال أبو عمر هذا الرجل الذي ذكر مالك في حديثه أنه من أهل البصرة هو أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي شيخ أيوب السختياني ومعلمه روى حماد بن زيد هذا الحديث عن أيوب عن أبي قلابة قال خرجت معتمرا حتى إذا كنت ببعض المياه وقعت على رجلي فكسرت فأرسلت إلى بن عمر وبن عباس فسئلا فقالا العمرة ليس لها وقت كوقت الحج يكون على إحرامه حتى يصل إلى البيت قال فبقيت على ذلك الماء ستة أشهر أو سبعة محرما حتى وصلت إلى البيت‏.‏

771- مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر أنه قال من حبس دون البيت بمرض فإنه لا يحل حتى يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أن سعيد بن حزابة المخزومي صرع ببعض طريق مكة وهو محرم فسأل من يلي على الماء الذي كان عليه فوجد عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم فذكرت لهم الذي عرض له فكلهم أمره أن يتداوى بما لا بد له منه ويفتدي فإذا صح اعتمر فحل من إحرامه ثم عليه حج قابل ويهدي ما استيسر من الهدي قال مالك وعلى هذا الأمر عندنا فيمن أحصر بغير عدو وقد أمر عمر بن الخطاب أبا أيوب الأنصاري وهبار بن الأسود حين فاتهما الحج وأتيا يوم النحر أن يحلا بعمرة ثم يرجعا حلالا ثم يحجان عاما قابلا ويهديان فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله قال مالك وكل من حبس عن الحج بعد ما يحرم إما بمرض أو بغيره أو بخطأ من العدد أو خفي عليه الهلال فهو محصر عليه ما على المحصر وسئل مالك عمن أهل من أهل مكة بالحج ثم أصابه كسر أو بطن متحرق أو امرأة تطلق قال من أصابه هذا منهم فهو محصر يكون عليه مثل ما على أهل الآفاق إذا هم أحصروا قال مالك في رجل قدم معتمرا في أشهر الحج حتى إذا قضى عمرته أهل بالحج من مكة ثم كسر أو أصابه أمر لا يقدر على أن يحضر مع الناس الموقف قال مالك أرى أن يقيم حتى إذا برأ خرج إلى الحل ثم يرجع إلى مكة فيطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ثم يحل ثم عليه حج قابل والهدي قال مالك فيمن أهل بالحج من مكة ثم طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة ثم مرض فلم يستطع أن يحضر مع الناس الموقف قال مالك إذا فاته الحج فإن استطاع خرج إلى الحل فدخل بعمرة فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة لأن الطواف الأول لم يكن نواه للعمرة فلذلك يعمل بهذا وعليه حج قابل والهدي فإن كان من غير أهل مكة فأصابه مرض حال بينه وبين الحج فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة حل بعمرة وطاف بالبيت طوافا آخر وسعى بين الصفا والمروة لأن طوافه الأول وسعيه إنما كان نواه للحج وعليه حج قابل والهدي قال أبو عمر أما قول بن عمر في المحصر بمرض إنه لا يحله إلا الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة فهو الذي عليه جمهور أهل الحجاز وهو قول بن عمر وبن عباس وعائشة وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وما أعلم لابن عمر مخالفا من الصحابة في هذه المسألة إلا بن مسعود فإنه قال في المحصر بمرض إذا بعث بهدي وواعد صاحبه ثم يوم ينحره جاز له أن يحل وهو بموضعه قبل أن يصل إلى البيت وقد روي مثل ذلك عن زيد بن ثابت من طريق منقطع لا يحتج به وهو قول جمهور العلماء وهو قول عطاء وبه قال أبو ثور في رواية عنه وشذت طائفة قالت من أحصر بمرض أو كسر أو عرج فقد حل بالموضع الذي عرض له هذا فيه ولا هدي عليه وعليه القضاء وممن قال بهذا أبو ثور وداود وحجتهم حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى رواه الحجاج بن أبي عثمان الصواف قال حدثني يحيى بن أبي كثير قال حدثني عكرمة قال حدثني الحجاج بن عمرو فذكره قال عكرمة حدثت به بن عباس وأبا هريرة فقالا صدق هكذا رواه إسماعيل بن علية ويحيى بن سعيد القطان عن الحجاج بن أبي عثمان الصواف بإسناده المذكور ورواه معمر بن راشد ومعاوية بن سلام عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن الحجاج بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم فأدخلوا بين عكرمة وبين الحجاج بن عمرو عبد الله بن رافع وقد ذكرنا الأسانيد بذلك عنهم في التمهيد وهذا يحتمل عند العلماء معنى قوله فقد حل أي فقد حل له أن يحل بما يحل به المحصر من النحر أو الذبح لا أنه قد حل بما نزل به من إحرامه قالوا وإنما ذلك مثل قولهم قد حلت فلانة للرجال إذا انقضت عدتها يريدون بذلك حل للرجال أن يخطبوها ويتزوجوها بما تحل به الفروج في النكاح من الصداق وغيره هذا تأويل من ذهب مذهب الكوفيين وتأول من ذهب مذهب الحجازيين أي فقد حل إذا وصل إلى البيت حلا كاملا وحل له بنفس الكسر والعرج أن يفعل ما شاء من إلقاء التفث ويفتدي وليس الصحيح أن يفعل ذلك وقد تقدم قول مالك في هذا الباب وتبين فيه مذهبه وهو مذهب الشافعي والحجازيين‏.‏

وأما أهل العراق فنذكر نصوص أقوالهم ليوقف كذلك على مذاهبهم قول سفيان الثوري إذا أحصر المحرم بالحج بعث بهدي فنحر عنه يوم النحر وإن نحر قبل ذلك لم يجزه وجملة قول أبي حنيفة وأصحابه أنه إذا أحصر الرجل بعث به وواعد المبعوث معه يوما يذبحه فيه فإذا كان ذلك اليوم حلق عند أبي يوسف أو قصر وحل ورجع فإن كان مهلا بحج قضى حجة وعمرة لأن إحرامه بالحج صار عمرة وإن كان قارنا قضى حجة وعمرتين وإن كان مهلا بعمرة قضى عمرة وسواء عندهم المحصر بعدو أو بمرض وذكر الجوزجاني قال قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد من أهل بحج فأحصر فعليه أن يبعث بثمن هدي فيشتري له بمكة فيذبح عنه يوم النحر ويحل وعليه حجة وعمرة وليس عليه تقصير في قول أبي حنيفة ومحمد لأن التقصير نسك وليس عليه من النسك شيء وقال أبو يوسف يقصر فإن لم يفعل فلا شيء عليه وقالوا إن فعل فالهدي فإن شاء أقام مكانه وإن شاء انصرف وإن كان مهلا بعمرة بعث فاشتري له الهدي وتواعدهم يوما فإذا كان ذلك اليوم حل وكان عليه عمرة مكانها قالوا وإذا كان المحصر قارنا فإنه يبعث فيشترى له هديان فينحران عنه ويحل وعليه عمرتان وحجة فإن شاء قضى العمرتين متفرقتين والحجة بعد ذلك وإن شاء ضم العمرتين إلى الحجة وهكذا عندهم المحصر بأي كان بعدو أحصر أو بمرض يذبح هديه في الحرم ويحل قبل يوم النحر إن ساق هديا وعليه حجة وعمرة هذا قول أبي حنيفة وهو قول الطبري وقال أبو يوسف ومحمد ليس له ذلك ولا يتحلل دون يوم النحر إن كان حاجا وهو قول الثوري والحسن بن صالح وروي مثل ذلك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في المحصر بعمرة متى شاء وينحر هديه سواء بقي الإحصار إلى يوم النحر أو زال وروى زفر عن أبي حنيفة أنه إن بقي الإحصار إلى يوم النحر جزى ذلك عنه وكان عليه قضاء حجة وعمرة وإن صح قبل فوت الحج لم يجزه وكان محرما بالحج على حاله قال ولو صح في العمرة بعد أن بعث بالهدي نظر فإن قدر على إدراك الهدي قبل أن يذبح مضى حتى يقضي عمرته وإن لم يقدر حل إذا نحر عنه الهدي قال أبو عمر أما قول الكوفيين ففيه ضعف وتناقض لأنهم لا يجيزون لمحصر بعدو ولا بمرض أن يحل حتى ينحر هديه في الحرم وإن أجازوا للمحصر بمرض أن يبعث بهدي ويواعد حامله يوم ينحره فيه فيحلق ويحل فقد أجازوا له أن يحل على غير يقين من نحر الهدي وبلوغه وحملوه على الإحلال بالظنون والعلماء متفقون على أنه لا يجوز لمن لزمه شيء من فرائضه أن يخرج منه بالظن والدليل على أن ذلك ظن قولهم لو عطب ذلك الهدي أو ضل أو سرق فحل مرسله وأصاب النساء وصاد أنه يعود حراما وعليه جزاء ما صاد فأباحوا له فساد الحج بالجماع وألزموه ما يلزم من لم يحل من إحرامه وهذا ما لا خفاء به من التناقض وضعف المذهب وإنما بنوا مذهبهم على قول بن مسعود ولم ينظروا في خلاف غيره له‏.‏

وأما قول عائشة في هذا الباب المحرم لا يحله إلا البيت فمعناه المحرم يمرض لا يقدر أن يصل إلى البيت فإنه يبقى على حاله فإن احتاج إلى شيء يتداوى به وافتدى فإذا برأ أتى البيت فطاف به وسعى ولا يحل بشيء غير ذلك وهو كقول بن عمر سواء ومثله قول بن عباس والناس في حديث مالك عن أيوب وحديثه عن بن شهاب عن سالم عن بن عمر مثله أيضا‏.‏

وأما حديثه عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أن سعيد بن حزابة صرع بطريق مكة وهو محرم فسأل من يلي على الماء الذي كان به فوجد عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم فمعناه أيضا معنى ما تقدم سواء عن بن عمر وبن عباس وعائشة‏.‏

وأما قوله فيه فإذا صح اعتمر فإنه أراد إذا صح أتى مكة فعمل عمرة هو الطواف والسعي ثم عليه حج قابل ويهدي ما استيسر من الهدي قال مالك وعلى هذا الأمر عندنا فيمن أحصر بغير عدو يريد أنه يقضي حجه إن كان حاجا أو عمرته إن كان معتمرا بخلاف من حصره العدو‏.‏

وأما قول مالك وقد أمر عمر بن الخطاب أبا أيوب الأنصاري وهبار بن الأسود حين فاتهما الحج وأتيا أن يحلا بعمرة ثم يرجعا حلالا ثم يحجان عاما قابلا ويهديان إلى آخر قوله فإنه أرسل هذا حجة لمذهبه بأن المحصر لا يحله إلا البيت يطوف به ثم يسعى بين الصفا والمروة إذا كان محصرا حابس له عن إدراك الحج وهو كالذي فاته الحج بغير مرض من خطأ عدد أو عذر يفعل ما يفعله الذي يفوته الحج وهو عمل العمرة وقد أمر عمر بن الخطاب أبا أيوب وهبار بذلك ثم أبان مذهبه في ذلك بما لا مزيد فيه فقال كل من حبس عن الحج بعد ما يحرم إما بمرض أو بغيره أو بخطأ من العدد أو خفي عليه الهلال فهو محصر عليه ما على المحصر ولا خلاف عن مالك أن المحصر بمرض ومن فاته الحج حكمهما سواء كلاهما يتحلل بعمرة وعليه دم لا يذبحه إلا بمكة أو منى وهو قول أبي حنيفة ينحره حيث حبس في حل كان أو حرم وقال بعض أصحابه إنما ينحره في الحل إذا قدر على الحرم والمعروف عن الشافعي أنه قال في المحصر ينحر هديه حيث أحصر لأنه خارج من قول الله ‏(‏عز وجل‏)‏ ‏(‏ثم محلها إلى البيت العتيق‏)‏ ‏[‏الحج 33‏]‏‏.‏

بدليل نحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه يوم الحديبية في الحل وقول الله ‏(‏عز وجل‏)‏ ‏(‏والهدي معكوفا أن يبلغ محله‏)‏ ‏[‏الفتح 25‏]‏‏.‏

فدل ذلك أن البلوغ على من قدر لا على من أحصر وعند مالك والشافعي وأبي ثور في المكي والغريب يحصر بمكة أنه يحل بالطواف والسعي قال مالك إذا بقي المكي محصورا حتى فرغ الناس من حجهم فإنه يخرج إلى الحل فيلبي ويفعل ما يفعل المعتمر ويحل فإذا كان قابل حج وأهدى وهو قول أبي حنيفة في الذي يفوته الحج أنه يتحلل بعمرة ولا هدي عليه وعليه الحج قابلا فقط‏.‏

وقال أحمد بن حنبل يحل بعمرة مجرد لها الطواف وقال بن شهاب الزهري فيمن أحصر في مكة من أهلها لا بد له من أن يقف بعرفة وقال أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن بكير المالكي في قول مالك في المحصر المكي أن عليه ما على أهل الآفاق من إعادة الحج والهدي هذا خلاف ظاهر الكتاب لقول الله ‏(‏عز وجل‏)‏ ‏(‏ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام‏)‏ ‏[‏البقرة 196‏]‏‏.‏

قال والقول في هذا عندي قول الزهري في أن الإباحة من الله ‏(‏عز وجل‏)‏ لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أن يقيم لبعد المسافة يتعالج وإن فاته الحج فأما من كان بينه وبين المسجد الحرام ما لا تقصر في مثله الصلاة فإنه يحضر المشاهد لقرب المسافة قال وقد عارض مالك الزهري بمعارضة غير صحيحة فقال أرأيت إن كانت امرأة تطلق أو بطن متحرق قال وهذا لا تقع عليه الإباحة لأن الإباحة لا تقع إلا لمن في طاقته فعل الشيء الذي أبيح له أن يفعله فأما من ليس في طاقته فعل ذلك الشيء فإنه لا تقع الإباحة لمثله والقول في هذه الآية قول عروة والزهري قال عروة في الرجل إذا أحصر بكسر أو لدغ فامتنع من المصير حتى يفوت وقت الحج أنه إن شاء بعث بهدي فيحل له حلق رأسه ولبس ثيابه وما كان في معناهما ويبقى محرما من النساء حتى يصل إلى الكعبة متى وصل ويطوف ويسعى ويحل ويكون عليه حج قابل والهدي قال فعلى قول عروة الهدي الأول غير الثاني لأن الأول يتحلل به في حلاق الشعر وإلقاء التفث والهدي الثاني قوله تعالى ‏(‏فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي‏)‏ ‏[‏البقرة 196‏]‏‏.‏

قال والمعنى إن أحصرتم فأردتم أن تحلقوا رؤوسكم قبل أن يبلغ الهدي محله فعليكم ما استيسر من الهدي ‏(‏فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي‏)‏ ‏[‏البقرة 196‏]‏‏.‏

فهذا هدي ثان لأن الهدي الأول للمتمتع بالحلاق وما كان مثله قال‏.‏

وقال مالك الهدي الأول هو الثاني ثم احتج بذلك فطال قال أبو عمر ظاهر الكتاب يشهد لما قاله مالك ومن تابعه بأنه هدي واحد على المحصر قال الله تعالى ‏(‏وأتموا الحج والعمرة لله‏)‏ ‏[‏البقرة 196‏]‏‏.‏

فأجمع العلماء على أن تمام الحج الوقوف بعرفة والطواف بالبيت طواف الإفاضة وفي العمرة الدخول من الحل إلى البيت للطواف به والسعي بين الصفا والمروة ولا يحل ولا يتم حجه ولا عمرته إلا بما وصفنا وإن كانوا قد اختلفوا في هذه الآية في معان قد ذكرناها والحمد لله قال وإن أحصر متمتع من الوصول في الحج إلى عرفة في الفترة من الوصول إلى الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة فعلى من منع من الوصول إلى ما وصفنا في الحج وما ذكرنا في العمرة بمرض أو غير مرض من كل ما يمنعه من ذلك وعند الكوفيين وعند الحجازيين من كل مانع غير العدو أن يبقى على حاله فيصل إلى البيت فيحل بعمل عمرة ويهدي كالذي يفوته الحج سواء فإن احتاج إلى لبس ثياب أو حلق شعر فتلك فدية الهدي وقد أجمعوا أن الفدية ما جاءت به السنة في كعب بن عجرة من التخيير في الصيام أو الصدقة أو النسك والنسك ها هنا لمن ليس يهدي وما قاله مالك أولى من قول الزهري والله أعلم فليس ها هنا أمر يهدي فيما قاله مالك لمن شاء أن لا ينسك بشاة وإنما هو صيام وصدقة فإن شاء أن ينسك بشاة كان له ذلك وليس هذا حل من لزمه الهدي عند جماعة الفقهاء أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثني عبد الله بن محمد بن علي قال‏.‏

وحدثنا بن أبي تمام قال حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال حدثني أنس بن عياض عن موسى بن عقبة عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول لا يحل محرم بحج ولا عمرة حبسه بلاء حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة إلا من حبسه عدو فإنه يحل حيث حبس قال أبو عمر هذا معنى قول بن عباس لا حصر إلا ما أحصر العدو أي لا يحل لمحصر أن يحل دون البيت إلا من أحصره العدو‏.‏

باب ما جاء في بناء الكعبة

772- مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق أخبر عبد الله بن عمر عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم قالت فقلت يا رسول الله أفلا تردها على قواعد إبراهيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت قال فقال عبد الله بن عمر لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم‏.‏

773- مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن عائشة أم المؤمنين قالت لا أبالي أصليت في الحجر أم في البيت‏.‏

774- مالك أنه سمع بن شهاب يقول سمعت بعض علمائنا يقول ما حجر الحجر فطاف الناس من ورائه إلا إرادة أن يستوعب الناس الطواف بالبيت كله قال أبو عمر أما حديث عائشة المسند في أول هذا الباب ففيه وجوب معرفة بناء قريش للكعبة وأن بنيانهم لها لم يتم على قواعد إبراهيم والقواعد أسس البيت واحدتها قاعدة عند أهل اللغة قالوا والواحدة من النساء اللاتي قعدت عن الولادة قاعد بغير هاء والجمع فيهما جميعا قواعد قال الله ‏(‏عز وجل‏)‏ ‏(‏وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت‏)‏ ‏[‏البقرة 127‏]‏‏.‏

قال ‏(‏والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا‏)‏ ‏[‏النور 60‏]‏‏.‏

وقد ذكرنا بنيان إبراهيم وإسماعيل البيت ومن بناه أيضا قبلهما على حسب ما روي قبل ذلك فقد قيل آدم أول من أمر ببنيانه وقيل بل شيث بن آدم وقد ذكرنا هذا هناك ونذكر ها هنا بنيان قريش له خاصة وهم القوم الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله لعائشة ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم وفي هذا الحديث أيضا حديث الرجل مع أهله في باب العلم وغيره من أيام الناس وغير ذلك من معاني الفقه وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستلم الركنين اللذين يليان الحجر وذلك والله أعلم لأنهما كسائر حيطان البيت التي لا تستلم لأنهما ليسا بركنين على حقيقة بناء إبراهيم ‏(‏عليه السلام‏)‏‏.‏

وأما بنيان قريش للبيت الحرام فلا خلاف في ذلك وقد اختلف في تاريخ بنائهم له فذكر موسى بن عقبة عن بن شهاب قال كان بين الفجار وبناء الكعبة خمس عشرة سنة وذكر بن وهب عن بن لهيعة عن بن الأسود محمد بن عبد الرحمن قال إن الله ‏(‏عز وجل‏)‏ بعث محمدا على رأس خمس عشرة سنة من بنيان الكعبة وقال محمد بن جبير بن مطعم بني البيت بعد خمس وعشرين سنة بعد الفيل وقال بن إسحاق على رأس خمس وثلاثين سنة وقد ذكرنا الآثار عن هؤلاء كلهم في التمهيد وذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن مجاهد قال كان البيت عريشا تقتحمه العنز حتى إذا كان قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس عشرة سنة بنته قريش وعن معمر عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الطفيل قال كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم ليس فيها مدد وكانت قدر ما تقتحمها العناق وكانت ثيابها توضع عليها تسدل سدلا وكان الركن الأسود موضوعا على سورها باديا وكانت ذات ركنين هيئة هذه الحلقة فأقبلت سفينة من الروم تريد الحبشة حتى إذا كانوا قريبا من جدة انكسرت السفينة فخرجت قريش ليأخذوا خشبها فوجدوا روميا عندها فأخذوا الخشب وقدموا بالرومي فقالت قريش نبني بهذا الخشب بيت ربنا فلما أرادوا هدمه إذا هم بحية على سور البيت مثل قطعة الجائز سوداء الظهر بيضاء البطن فجعلت كلما أتى أحد إلى البيت ليهدمه أو يأخذ من حجارته سعت إليه فاتحة فاها فاجتمعت قريش عند المقام فعجوا إلى الله تعالى فقالوا ربنا لم ترع أردنا تشريف بيتك وتزيينه فإن كنت ترضى بذلك وإلا فما بدا لك فافعل فسمعوا خواتا في السماء يعني صوتا ورجة فإذا هم بطائر أعظم من النسر أسود الظهر أبيض البطن والرحلين فغرز مخالبه في قفا الحية فانطلق بها تجر ذنبها أعظم من كذا وكذا حتى انطلق بها نحو أجياد فهدمتها قريش وجعلوا يبنونها بالحجارة حجارة الوادي تحملها قريش على رقابها فرفعوها في السماء عشرين ذراعا فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل حجارة من أجياد وعليه نمرة ضاقت عليه النمرة فذهب يضع النمرة على عاتقه فترى عورته من صغر النمرة فنودي يا محمد ‏!‏ خمر عورتك فلم ير عريانا بعد ذلك وكان بين بنيان الكعبة وبين ما أنزل عليه خمس سنين وبين مخرجه من مكة وبنيانها خمس عشرة سنة فلما جيش الحصين بن نمير فذكر حريقها في زمن بن الزبير فقال بن الزبير إن عائشة أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لولا حداثة قومك بالكفر لهدمت الكعبة فإنهم تركوا منها سبعة أذرع في الحجر ضاقت بهم النفقة والخشب قال بن خثيم فأخبرني بن أبي مليكة عن عائشة أنها سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت وقال النبي ‏(‏عليه السلام‏)‏ وجعلت له بابين شرقيا وغربيا يزحفون من هذا ويخرجون من هذا ففعل ذلك بن الزبير وكانت قريش قد جعلت لها درجا يرقى عليها من يأتيها فجعلها بن الزبير لاصقة بالأرض قال بن خثيم‏.‏

وأخبرني بن سابط أن زيدا أخبره أنه لما بناها بن الزبير كشفوا عن القواعد فإذا الحجر مثل الخلقة والحجارة مشتبكة بعضها ببعض إذا حركت بالعتلة تحرك الذي بالناحية الأخرى قال بن سابط فأراني ذلك ليلا بعد العشاء في ليلة مقمرة فرأيتها أمثال الخلف متشبكة أطراف بعضها ببعض قال معمر‏.‏

وأخبرني الزهري قال لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلم أجمرت امرأة الكعبة فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة فاحترقت فتشاورت قريش في هدمها وهابوا هدمها فقال لهم الوليد بن المغيرة ما تريدون بهذا الإصلاح أم الفساد فقالوا الإصلاح قال فإن الله تعالى لا يهلك المصلح قالوا فمن الذي يعلوها قال الوليد بن المغيرة أنا أعلوها فأهدمها فارتقى الوليد بن المغيرة على ظهر البيت ومعه الفأس فقال اللهم إنا لا نريد إلا الإصلاح ثم هدم فلما رأته قريش قد هدم منها ولم يأتهم ما خافوا من العذاب هدموا معه حتى إذا بنوها فبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن أي القبائل تلي رفعه حتى كاد يشجر بينهم فقالوا تعالوا نحكم أول من يطلع علينا من هذه السكة فاصطلحوا على ذلك فاطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب ثم أمر سيد كل قبيلة فأعطاها ناحية من الثوب ثم ارتقى فرفع إليه الركن فكان هو يضعه صلى الله عليه وسلم وذكر بن جريج عن مجاهد معنى حديث أبي الطفيل المتقدم ذكره ومعنى حديث الزهري هذا وحديثهما أكمل وأتم وفي هذا الباب حديث تفرد به إبراهيم بن طهمان عن مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد هممت أن أهدم الكعبة وأبنيها على قواعد إبراهيم وأجعل لها بابين وأسويها بالأرض فإنهم إنما رفعوها أن لا يدخلها إلا من أحبوا وروينا أن هارون الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بنى الحجاج من الكعبة وأن يرده إلى بنيان بن الزبير لما جاء في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وامتثله بن الزبير فقال له مالك ناشدتك الله يا أمير المؤمنين أن تجعل هذا البيت ملعبة للملوك لا يشاء أحد منهم إلا نقض البيت وبناه فتذهب هيبته من صدور الناس قال أبو عمر في حديث مالك عن بن شهاب عن سالم في هذا الباب دليل على أن الحجر من البيت وإذا صح ذلك فواجب إدخاله في الطواف وأجمع العلماء أن كل من طاف بالبيت لزمه أن يدخل الحجر في طوافه واختلفوا فيمن لم يدخل الحجر في طوافه فالذي عليه جمهور أهل العلم أن ذلك لا يجزئ وأن فاعل ذلك في حكم من لم يطف الطواف كاملا وأن من لم يطف الطواف الواجب كاملا يرجع من طوافه حتى يطوفه وهو طواف الإفاضة وممن قال ذلك الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود وهو قول بن عباس وعطاء وكان بن عباس يقول الحجر من البيت ‏(‏وليطوفوا بالبيت العتيق‏)‏ ‏[‏الحج 29‏]‏‏.‏

ويقول طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر قال مالك والشافعي ومن وافقهما من لم يدخل الحجر في طوافه ولم يطف من ورائه شوطا أو شوطين أو أكثر ألغى ذلك وبنى على ما كان طاف طوافا كاملا قبل أن يسلك في الحجر ولا يعتد بما سلك في الحجر‏.‏

وقال أبو حنيفة من سلك في الحجر ولم يطف من ورائه وذكر ذلك وهو بمكة أعاد الطواف فإن كان شوطا قضاه وإن كان أكثر قضى ما بقي عليه من ذلك فإن خرج من مكة وانصرف إلى الكوفة فعليه دم وحجة تام وروي عن الحسن البصري نحو ذلك قال من فعل ذلك فعليه الإعادة فإن حل أهراق دما‏.‏

وأما حديثه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت ما أبالي أصليت في الحجر أم في البيت فليس فيه أكثر من أن الحجر من البيت وأن من صلى فيه كمن صلى في البيت وسنذكر اختلاف العلماء في الصلاة في البيت في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله وقد اختلف العلماء في صلاة ركعتي الطواف في الحجر فأكثر العلماء على أن ذلك جائز لا بأس به وهو مذهب عطاء وبه قال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وروي ذلك عن بن عمر وبن الزبير وسعيد بن جبير وغيرهم وكل هؤلاء يرى الصلاة في البيت جائزة نافلة وفريضة وإن كان منهم من يستحب أن تصلى الفريضة خارج البيت والنافلة أيضا‏.‏

وقال مالك لا يصلي أحد صلاة واجبة في البيت ولا في الحجر قال ومن ركع ركعتي الطواف الواجب في الحجر أعاد الطواف والسعي بين الصفا والمروة وإن لم يركعهما حتى بلغ بلده أهراق دما ولا إعادة عليه‏.‏

وأما قول بن شهاب عن بعض علمائهم فإنما فيه الشهادة بأن الحجر من البيت وأنه من لم يطف به من ورائه لم يستكمل الطواف بالبيت ولا خلاف عليه بين العلماء أنه من لم يدخل الحجر في طوافه لا يجزيه ذلك الطواف ما دام بمكة لأنه لم يستوعب الطواف بالبيت واختلفوا هل ينوب عنه الدم لمن رجع إلى بلاده أم لا بد له من الرجوع إليه على ما ذكرناه والحمد لله‏.‏

باب الرمل في الطواف

775- مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف قال مالك وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا‏.‏

776- مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يرمل من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود ثلاثة أطواف ويمشي أربعة أطواف‏.‏

777- مالك عن هشام بن عروة أن أباه كان إذا طاف بالبيت يسعى الأشواط الثلاثة يقول‏:‏

اللهم لا إله إلا أنتا *** وأنت تحيي بعد ما أمتا

يخفض صوته بذلك‏.‏

778- مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه رأى عبد الله بن الزبير أحرم بعمرة من التنعيم قال ثم رأيته يسعى حول البيت الأشواط الثلاثة‏.‏

779- مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا أحرم من مكة لم يطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى وكان لا يرمل إذا طاف حول البيت إذا أحرم من مكة قال أبو عمر لا اعلم خلافا أن الرمل - وهو الحركة والزيادة في المشي - لا يكون إلا في ثلاثة أطواف من السبعة في طواف دخول مكة خاصة للقادم الحاج أو المعتمر وفي هذا الحديث دليل على أن الطائف يبتدئ طوافه من الحجر وهذا ما لا خلاف فيه أيضا وروى بن وهب عن يونس عن بن شهاب عن سالم عن أبيه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقدم مكة يستلم الركن أول ما يطوف قال أبو عمر إذا بدأ من الحجر مضى على يمينه وجعل البيت عن يساره وذلك أن الداخل من باب بني شيبة أو غيره أول ما يبتدئ به أن يأتي الحجر يقصده فيقبله إن استطاع أو يمسحه بيمينه ويقبلها بعد أن يضعها عليه فإن لم يقدر قام بحذائه فكبر ثم أخذ في طوافه ثم يمضي على يمينه كما وصفت لك على باب الكعبة إلى الركن الذي لا يستلم ثم الذي يليه مثله ثم الركن الثالث وهو اليماني الذي يستلم وهو يلي الأسود ثم إلى ركن الحجر الأسود هذا حكم كل طواف واجب وغير واجب وهذه طوفة واحدة يفعل ذلك ثلاثة أطواف يرمل فيها ثم أربعة مثلها لا يرمل فيها إذا كان هذا كله في طواف الدخول وهذا كله إجماع من العلماء أنه من فعل هكذا فقد فعل ما ينبغي فإن لم يطف كما وصفنا وجعل البيت عن يمينه ومضى من الركن الأسود على يساره فقد نكس طوافه ولم يجزه ذلك الطواف عندنا واختلف الفقهاء فيمن طاف الطواف الواجب منكوسا فقال مالك والشافعي وأصحابهما لا يجزئه الطواف منكوسا وعليه أن ينصرف من بلاده فيطوف لأنه كمن لم يطف وهو قول الحميدي وأبي ثور‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه يعيد الطواف ما دام بمكة فإذا بلغ الكوفة أو أبعد كان عليه دم ويحزئه وكلهم يقول إذا كان بمكة أعاد وكذلك القول عند مالك والشافعي فيمن نسي شوطا واحدا من الطواف أنه لا يجزئه وعليه أن يرجع من بلاده على بقية إحرامه فيطوف‏.‏

وقال أبو حنيفة إن بلغ بلده لم ينصرف وكان عليه دم قال أبو عمر حجة من لم يجز الطواف منكوسا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استلم الركن في أول طوافه وأخذ عن يمينه وجعل البيت عن يساره وقال خذوا عني مناسككم فمن خالف فعله فليس بطائف وفعله مردود عليه لقوله صلى الله عليه وسلم من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد وحجة أبي حنيفة أنه طواف قد حصل بالبيت سبعا ولم يأت به على سنته فيجبر بالدم إذا رجع إلى بلده أو أبعد لأن سنن الحج تجبر بالدم‏.‏

وأما الرمل فهو المشي خببا يشتد فيه دون الهرولة وهيئته أن يحرك الماشي منكبيه لشدة الحركة في مشيه هذا حكم الثلاثة الأشواط في الطواف بالبيت طواف دخول لا غيره‏.‏

وأما الأربعة الأشواط تتمة السبعة فحكمها المشي المعهود هذا أمر مجتمع عليه أن الرمل لا يكون إلا في ثلاثة أطواف من طواف الدخول للحاج والمعتمر دون طواف الإفاضة وغيره إلا أن العلماء اختلفوا في الرمل هل هو سنة من سنن الحج لا يجوز تركها أم ليس بسنة واجبة لأنه كان لعلة ذهبت وزالت فمن شاء فعليه اختيارا فروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية أن الرمل سنة لكل قادم مكة حاجا أو معتمرا في الثلاثة الأطواف الأول وقال آخرون ليس الرمل بسنة ومن شاء فعله ومن شاء لم يفعله روي ذلك عن جماعة من التابعين منهم عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وسالم والقاسم وسعيد بن جبير وهو الأشهر عن بن عباس وقد روي عنه مثل قول عمر ومن تابعه وحجة من لم ير الرمل سنة حديث أبي الطفيل عن بن عباس روى فطر عن أبي الطفيل قال قلت لابن عباس زعم قومك أن رسول الله رمل بالبيت وقال ذلك سنة فقال صدقوا وكذبوا ‏!‏ قلت ما صدقوا وما كذبوا قال صدقوا رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طاف بالبيت وكذبوا ليس ذلك بسنة إن قريشا زمن الحديبية قالوا إن به وبأصحابه هزلا وقعدوا على قعيقعان ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه أرملوا أروهم أن بكم قوة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمل من الحجر الأسود إلى اليماني فإذا توارى عنهم مشى قال أبو عمر قد روى بن المبارك عن عبيد الله بن أبي زياد عن أبي الطفيل عن بن عباس قال رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر وهذا معناه في حجة الوداع أو في عمرته لا عام الحديبية وروى حماد بن سلمة عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الطفيل عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر من الجعرانة فرمل بالبيت ثلاثة ومشى أربعة ففي هاتين الروايتين عن أبي الطفيل عن بن عباس أن رسول الله رمل الأشواط الثلاثة كلها وهذا مع حديث جابر في حجة الوداع يرد قول من قال يمشي بين الركن اليماني والأسود وقد اختلف عن بن عمر في ذلك وجمهور العلماء على أن الرمل من الحجر إلى الحجر على ما في حديث جابر في الأشواط الثلاثة وقد روى عطاء وطاوس وعكرمة عن بن عباس معنى حديث أبي الطفيل هذا وقد ذكرنا الأحاديث عنهم بذلك في التمهيد واحتجوا أيضا بحديث الحجاج بن أرطأة عن أبي جعفر وعكرمة عن بن عباس قال لما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ أهل مكة أن بأصحابه هزلا فلما قدم مكة قال لأصحابه شدوا مآزركم وأرملوا حتى يرى قومكم أن بكم قوة ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرمل قال أبو عمر هذا ليس بشيء لأن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رمل في حجته حجة الوداع من الحجر إلى الحجر ثلاثة أشواط ومشى أربعة من حديث مالك وغيره عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وقد ذكرنا جماعة رووه بإسناده كذلك في التمهيد وهذا يدل على ضعف ما رواه الحجاج بن أرطأة من قوله ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرمل وروى هشام عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال في الرمل لا تدع شيئا صنعناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت عن عمر وبن مسعود وبن عمر أنهم كانوا يرملون في الطواف ثلاثا طواف القدوم فصار سنة معمولا بها لا يضرها من جهلها وأنكرها وروى الشافعي قال حدثني أنس بن عياض عن موسى بن عقبة عن نافع عن بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة يعني في حجته قال أبو عمر هذا خير من حديث العلاء بن المسيب عن الحكم عن مجاهد عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل في العمرة ومشى في الحج وأصح وأثبت إن شاء الله وروى مالك وأيوب وعبد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر بمعنى واحد أنه كان إذا قدم مكة رمل بالبيت وطاف بين الصفا والمروة إلى يوم النحر قال أبو عمر على هذا جماعة العلماء بالحجاز والعراق من أئمة الفتوى وأتباعهم وهم الحجة على من شذ عنهم وقد مضى حديث جابر بما يغني عن الدلائل والتأويل واختلف قول مالك وأصحابه فيمن ترك الرمل في الطواف بالبيت طواف الدخول أو ترك الهرولة في السعي بين الصفا والمروة ثم ذكر ذلك وهو قريب فمرة قال مالك يعيد ومرة قال لا يعيد وبه قال بن القاسم واختلف قوله أيضا هل عليه دم إن أبعده فقال مرة لا شيء عليه ومرة قال عليه دم وقال بن القاسم وهو خفيف ولا أرى فيه شيئا وكذلك روى بن وهب عن مالك في موطئه أنه استخفه قال ولم ير فيه شيئا وروى معن بن عيسى عن مالك أن عليه دما وهو قول الحسن البصري وسفيان الثوري وقال بن القاسم رجع عن ذلك مالك وذكر بن حبيب عن مطرف وبن الماجشون وبن القاسم أن عليه في قليل ذلك وكثيره دما واحتج بقول بن عباس من ترك من نسكه شيئا فعليه دم قال أبو عمر الحجة لمن لم ير فيه شيئا واستخفه أنه شيء مختلف فيه لم تثبت به سنة وألزمه على البراءة حتى يصح ما يجب إثباته فيها وقد روي عن بن عباس فيمن ترك الرمل أنه لا شيء عليه وهو قول عطاء وبن جريج والشافعي وأبي حنيفة والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأجمعوا أنه ليس على النساء رمل في طوافهن بالبيت ولا هرولة في سعيهن بين الصفا والمروة وكذلك أجمعوا على أن لا رمل على من احرم بالحج من مكة من غير أهلها وهم المتمتعون لأنهم قد رملوا في حين دخولهم حين طافوا للقدوم واختلفوا في أهل مكة إذا حجوا هل عليهم رمل أم لا فكان بن عمر لا يرى عليهم رملا إذا طافوا بالبيت وقال بن وهب كان مالك يستحب لمن حج من مكة أن يرمل حول البيت‏.‏

وقال الشافعي كل طواف قبل عرفة كل طواف يوصل بينه وبين السعي فإنه يرمل فيه وكذلك العمرة قال أبو عمر قد دخل فيما ذكرنا في هذا الباب جميع معاني الآثار المرسومة من جنسه‏.‏

وأما قول عروة في الطواف‏:‏

اللهم لا إله إلا أنتا *** وأنت تحيي بعد ما أمتا

فإن الموزون من الكلام وما يكره كغير الموزون‏.‏

وأما قول عروة في الطواف‏:‏

اللهم لا إله إلا أنتا *** وأنت تحيي بعد ما أمتا

فإن الموزون من الكلام وما يكره كغير الموزون‏.‏

وأما الشعر الذي يجري مجرى الذكر وكان شاعرا ‏(‏رحمه الله‏)‏ والشعر ديوان العرب وألسنتهم به رطبة وقد كان الحسن يقول في مثل هذا‏:‏

يا فالق الإصباح أنت ربي *** وأنت مولاي وأنت حسبي

فأصلحن باليقين قلبي *** ونجني من كرب يوم الكرب

وقد أوضحنا ما يجوز من الشعر ومن رفع العقيرة به وما يكره من الغناء وشبهه في كتاب الجامع من هذا الديوان عند ذكر رفع بلال عقيرته‏:‏

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة *** بواد وحولي إذخر وجليد