فصل: باب واجب الغسل إذا التقى الختانان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار ***


باب الوضوء من قبله الرجل امرأته

80- مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر أنه كان يقول قبله الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة فمن قبل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء‏.‏

81- مالك أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يقول من قبلة الرجل امرأته الوضوء‏.‏

82- مالك عن بن شهاب مثل ذلك قال أبو عمر هذا الباب يقتضي القول في القبلة وسائر الملامسة وفي الملامسة معان ومسائل أحدها هل الملامسة الجماع أو ما دون الجماع مما يجانس الجماع مثل القبلة وشبهها ثم هل هي اللمس باليد خاصة أو بسائر البدن وهل اللذة من شرطها أم لا وكل ذلك قد تنازع فيه العلماء ونحن نذكر فيه من ذلك ما حضرنا على شرط الاختصار والبيان والله المستعان اختلف العلماء من الصحابة فمن بعدهم في معنى الملامسة التي أوجب الله تعالى فيها الوضوء لمن أراد الصلاة بقوله تعالى ‏(‏أو لامستم النساء‏)‏ ‏[‏المائدة 6‏]‏‏.‏

فروي عن عمر بن الخطاب بإسناد ثابت من أسانيد أهل المدينة أنه كان يقبل امرأته ويصلي قبل أن يتوضأ ذكره عبد الرزاق عن بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم عن عبد الله بن عمر أن عاتكة ابنة زيد قبلت عمر بن الخطاب وهو صائم فلم ينهها قال وهو يريد المضي إلى الصلاة ثم صلى ولم يتوضأ وهذا الحديث رواه مالك عن يحيى بن سعيد أن عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل امرأة عمر بن الخطاب كانت تقبل رأس عمر بن الخطاب وهو صائم فلا ينهاها ولم يذكر وضوءا ولا صلاة ولم يقم إسناده وحذف من متنه ما لم يذهب إليه وسنذكر بعد في هذا الباب من لم ير في القبلة وضوءا ومن ذهب إلى معنى قوله تعالى ‏(‏ أو لامستم النساء‏)‏ هو الجماع نفسه لا غيره إن شاء الله ذكر مالك حديث عمر هذا في باب الرخصة في القبلة للصائم رواه بن جريج عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب خرج إلى الصلاة فقبلته امرأته فصلى ولم يتوضأ وروى الدراوردي عن بن أخي بن شهاب عن سالم عن أبيه عن بن عمر أنه قال القبلة من اللمم يتوضأ منها وهذا عندهم خطأ لأن أصحاب بن شهاب يجعلونه عن بن عمر لا عن عمر وذكر إسماعيل بن إسحاق أن مذهب عمر بن الخطاب في الجنب لا يتيمم فدل على أنه كان يرى الملامسة ما دون الجماع كما ذهب بن مسعود فإن صح عن عمر ما ذكر إسماعيل ثبت الخلاف في القبلة عن عمر والله أعلم‏.‏

وأما بن مسعود فلم يختلف عنه أن اللمس ما دون الجماع وأن الوضوء واجب على من قبل امرأته كمذهب بن عمر سواء وهو ثابت عن بن عمر من وجوه من حديث سالم نافع عنه وحديث بن مسعود رواه الأعمش عن إبراهيم عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال يتوضأ الرجل من المباشرة ومن اللمس بيده ومن القبلة إذا قبل امرأته وكان يقول في هذه الآية ‏(‏أو لامستم النساء‏)‏ قال هو الغمز ذكره وكيع عن الأعمش إلا أنهم يقولون لم يسمع أبو عبيدة من أبيه وممن رأى في القبلة الوضوء من التابعين عبيدة السلماني وكان يقول الملامسة باليد منها الوضوء ورأى الوضوء في القبلة عامر الشعبي وسفيان وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي ومكحول الدمشقي وبن شهاب الزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة بن عبد الرحمن ومالك بن أنس وأصحابه ذكر بن وهب عن مالك والليث بن سعد وعبد العزيز بن أبي سلمة قبلة الرجل امرأته الوضوء وهو قول جمهور أهل المدينة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ذكر بن قتيبة عن وكيع عن عبد العزيز بن أبي سلمة قال سألت الزهري عن القبلة فقال كان العلماء يقولون فيها الوضوء قال حدثنا غندر عن شعبة عن الحكم وحماد قالا إذا قبل أو لمس فعليه الوضوء ولم يشترط بن عمر وبن مسعود وعبيدة ولا أحد من هؤلاء في القبلة ولا في اللمسة - وجود لذة ذهب الشافعي إلى أن من لمس امرأة بيده مفضيا إليها ليس بين يده وجسمها ستر ولا حجاب قل أو كثر فعليه الوضوء والتذ أو لم يلتذ لشهوة كان لمسه لها أو لغير شهوة على ظاهر حديث بن عمر وبن مسعود وعبيدة السلماني ومن قال بقولهم في أن معنى الملامسة اللمس باليد ولأنه لمس من في لمسها ولمس مثلها شهوة فسواء وقعت اللذة أو لم تقع قال وهو ظاهر قوله تعالى ‏(‏أو لامستم النساء‏)‏ ولم يقل لشهوة أو لغير شهوة قال ولا معنى للذة من فوق الثوب ولا من تحته قالوا وإنما المعنى في القبلة الفعل لا الشهوة قالوا وكل من لم يفض في ملامسته إلى البشرة بملامس لأنه إنما لمس الثوب وإلى هذا ذهب أبو عبد الله بن نصر المروزي واختاره واحتج بالإجماع في إيجاب الغسل وهي الطهارة الكبرى على المستكرهة والنائمة إذا جاور الختان الختان وإن لم تقع لذة قال أبو عمر الذي ذهب إليه مالك وأصحابه في اشتراط اللذة ووجود الشهوة عند الملامسة - أصح إن شاء الله لأن الصحابة لم يأت عنهم في معنى الملامسة إلا قولان أحدهما الجماع نفسه والآخر ما دون الجماع من دواعي الجماع وما يشبهه ومعلوم في قول القائلين هو ما دون الجماع أنهم أرادوا ما ليس بجماع ولم يريدوا اللطمة ولا قبلة الرجل ابنته رحمة ولا اللمس لغير اللذة ولما لم يجز أن يقال إن اللمس أريد به اللطم وما شاكله لم يبق إلا أن يكون اللمس ما وقع فيه اللذة والشهوة لأنه لا خلاف فيمن لطم امرأته أو داوى جرحها ولا في المرأة ترضع أولادها أنه لا وضوء على واحد من هؤلاء فكذلك من قصد إلى اللمس ولم يلتذ في حكمهم ذكر بن أبي شيبة عن معاوية عن إبراهيم قال إذا قبل لشهوة نقض الوضوء قال حدثنا جرير عن مغيرة عن حماد قال إذا قبل الرجل امرأته وهي لا تريد ذلك فإنما يجب الوضوء عليه وليس عليها وضوء وإن قبلته فإنما يجب الوضوء عليها ولا يجب عليه وإن وجد شهوة وجب عليه الوضوء وإن قبلها وهي لا تريد فوجدت شهوة وجب عليها الوضوء وهذا معنى قول مالك سواء وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن محل الضبي عن إبراهيم قال إذا قبل الرجل لشهوة أو لمس لشهوة فعليه الوضوء فهؤلاء اشترطوا اللذة حتى في القبلة ويحتمل أن يكون ذكر الشهوة في القبلة ورد للفرق بين قبلة الزوجة والأمة وبين قبلة الأم والابنة والله أعلم هذا كله قول مالك وأصحابه والحسن بن حي إلا أنهم من اشترط اللذة في القبلة فأكثرهم يوجبون الوضوء من قبلة الرجل من يحل له وطؤها ومن لا يحل التذ بذلك أو لم يلتذ إلا أن تكون القبلة رحمة كقبلة الرجل الطفلة من بناته‏.‏

وأما الذين ذهبوا إلى أن اللمس هو الجماع نفسه وأن الله كنى عنه بذلك كما كنى عنه بالرفث والمباشرة والمسيس ونحو ذلك - فمنهم عبد الله بن مسعود ومسروق بن الأجدع والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وطاوس اليماني ذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أن عبيد بن عمير وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح اختلفوا في الملامسة فقال سعيد وعطاء هو اللمس والغمز وقال عبيد بن عمير هو النكاح فخرج عليهم عبد الله بن عباس - وهم كذلك - فسألوه‏.‏

وأخبروه بما قالوا فقال أخطأ الموليان وأصاب العربي هو الجماع ولكن الله يعف ويكني وقد ذكرنا هذا المعنى عن بن عباس من وجوه كثيرة في التمهيد ولا خلاف عنه فيه ومحفوظ عنه قوله ما أبالي أقبلت امرأتي أو شممت ريحانا وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وسائر الكوفيين إلا بن حي ورووا عن علي بن أبي طالب مثل ذلك واختلفوا في ذلك عن الأوزاعي فذكر عنه الطحاوي والطبري أن لمس الرجل امرأته لا وضوء فيه على كل حال وذكر عنه المروزي قوله في هذا الباب كقول الشافعي وروى الوليد بن مسلم عن الأوزاعي في الذي يقبل امرأته إن جاء يسألني فقلت يتوضأ فإن لم يتوضأ لم أعب عليه وقال الرجل يدخل رجليه في ثياب امرأته فيمس فرجها وهو على وضوء لم أر عليه وضوءا‏.‏

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد من مس فرجه أو فرج غيره أو قبل أو باشر أو لمس لشهوة أو لغير شهوة فلا وضوء عليه إلا أن يخرج منه مذي وحجة من ذهب إلى هذا - الأثر المرفوع حدثناه أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن قال حدثنا محمد بن العباس الحلبي حدثنا محمد بن عبد الله الطائي بحمص حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد حدثنا شعيب بن شابور حدثنا سعيد بن بشير عن منصور بن زاذان عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها ثم يخرج إلى الصلاة ولا يتوضأ وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ فقلت من هي إلا أنت فضحكت وهذا الحديث عندهم معلول فمنهم من قال لم يسمع حبيب من عروة ومنهم من قال ليس هو عروة بن الزبير وضعفوا هذا الحديث ودفعوه وصححه الكوفيون وثبتوه لروايه الثقات أئمة الحديث له وحبيب بن أبي ثابت لا ينكر لقاؤه عروة لروايته عمن هو أكبر من عروة وأجل وأقدم موتا وهو إمام من أئمة العلماء الجلة وروي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي -عليه السلام- قبل وهو صائم وقال ‏(‏‏(‏إن القبلة لا تنقض الوضوء‏)‏‏)‏ وهذا عند الحجازيين خطأ وإنما هو لا تنقض الصوم وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي روق عن إبراهيم التيمي عن عائشة أن النبي -عليه السلام- قبل ثم صلى ولم يتوضأ وذكر عبد الرزاق عن الثوري مثله وهو مرسل لا خلاف فيه لأنه لم يسمع إبراهيم التيمي عن عائشة ولم يروه أيضا غير أبي روق وليس فيما انفرد به حجة وقال الكوفيون أبو روق ثقة ولم يذكره أحد بجرحه ومراسل الثقات عندهم حجة وإبراهيم التيمي أحد العباد الفضلاء وذكر عبد الرزاق عن الأوزاعي قال أخبرني عمرو بن شعيب عن امرأة أسماها سمعت عائشة تقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يخرج إلى الصلاة فيقبلني ثم يمضي إلى الصلاة فما يحدث وضوءا وهذه المرأة التي روى عمرو بن شعيب عنها هذا الحديث مجهولة قيل هي زينب السهمية ولا تعرف أيضا وذكر عبد الرزاق عن إبراهيم بن محمد عن معبد بن نباتة عن محمد بن عمرو عن عروة عن عائشة قالت قبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى ولم يحدث وضوءا وذكر الزعفراني عن الشافعي قال لو ثبت حديث معبد بن نباتة في القبلة لم أر فيها شيئا ولا في اللمس ولا أدري كيف معبد بن نباتة هذا فإن كان ثقة فالحجة فيما روي عن النبي عليه السلام قال أبو عمر هو مجهول لا حجة فيما رواه عندنا وإبراهيم بن أبي يحيى عند أهل الحديث ضعيف متروك الحديث والحجة لنا على من لم ير الملامسة إلا الجماع أن إطلاق الملامسة زلا تعرف العرب منه إلا اللمس باليد وقد بينا وجه اعتبار اللذة في ذلك قال الله تعالى ‏(‏فلمسوه بأيديهم‏)‏ ‏[‏الأنعام 7‏]‏‏.‏

وقال عليه السلام ‏(‏‏(‏اليدان تزنيان‏)‏‏)‏ وزناهما اللمس ومنه بيع الملامسة وهو لمس الثوب باليد تقول العرب لمست الثوب والحائط ونحو هذا وقرئت الآية ‏(‏أو لامستم النساء‏)‏ وذلك يفيد اللمس باليد وحمل الظاهر والعموم على التصريح أولى من حمله على الكناية وقد روى عبد الله بن عمير عن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن رجل أتى امرأة لا تحل له فأصاب منها ما يصيب الرجل من امرأته إلا الجماع فقال النبي -عليه السلام- ‏(‏‏(‏يتوضأ وضوءا حسنا فأمره بالوضوء لما نال منها ما دون الجماع ‏(‏2‏)‏ وهذا هو المذهب لأن بن أبي ليلى لم يلق معاذا ولا أدركه ولا رآه وسيأتي من القول في لمس ذوات المحارم ذكر عند ذكر أبي قتادة في حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامة ابنة ابنته زينب في الصلاة وهو يبطل ما ذهب إليه الشافعي في أحد قوليه في لمس ذوات المحارم واستدلال بعموم الظاهر ولأنهن من جنس ما يقصد باللمس للذة كالزوجات والأجنبيات ولا معنى لهذا الاعتبار إذا صحت بخلافه الآثار وفي حديث عائشة إذ قالت ‏(‏‏(‏فقدت رسول الله فالتمسته فوقعت يدي على ظاهر قدمه وهو يصلي - دليل على أن كل لمس لا يتولد معه لذة فليس من معنى الآية في الملامسة وقد جعل جمهور السلف القبلة من الملامسة وهي بغير اليد فدل على أن الملامسة وإن كانت في الأغلب في اليد فإن المعنى فيها التقاء البشرتين فبأي عضو وقعت ومعها شهوة فيلتذ وهذا تحصيل مذهب مالك عند جماعة أصحابه واللامس والملموس عند مالك وأصحابه سواء التذ أو من التذ منهما والشعر من أبعاض الملموس سواء عندهم مع وقوع اللذة وخالفنا الشافعي في الشعر وللشافعي في الملموس قولان أحدهما أن لا وضوء عليه لحديث عائشة المذكور وهو قول داود قال لأن الله لم يقل أو لمسكم النساء والقول الآخر عليه الوضوء كقول مالك وأصحابه لأنه ملتذ بلمس يوجب الوضوء وهما متلامسان والمعنى فيهما وجود اللذة وأصحابنا يوجبون الوضوء على من لمس مع الحائل إذا كان رقيقا وكانت اللذة موجودة مع اللمس وجمهور العلماء يخالفونهم في ذلك وهو الحق عندي لأن اللذة إذا تعرت من اللمس لم توجب وضوءا بإجماع وكذا اللمس إذا تعرى من اللذة لم يوجب وضوءا عند أصحابنا ومن لمس الثوب والتذ فقد التذ بغير مباشرة ولا مماسة ولا ملامسة وبالله التوفيق‏.‏

باب العمل في غسل الجنابة

83- مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ بغسل يديه ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه ثم يفيض الماء على جلده كله وروى القاسم بن محمد وجميع بن عمير والأسود بن يزيد عن عائشة عن النبي -عليه السلام- في صفة غسل الجنابة مثل ذلك بمعناه وهذا الحديث في وصف الاغتسال من الجنابة من أحسن ما روي في ذلك وفيه فرض وسنة فأما السنة فالوضوء قبل الاغتسال وثبت ذلك عن النبي -عليه السلام- من وجوه كثيرة من حديث عائشة وحديث ميمونة وغيرهما فإن لم يتوضأ المغتسل للجنابة قبل الغسل ولكنه عم جسده ورأسه ويديه وجميع بدنه بالغسل بالماء وأسبغ ذلك فقد أدى ما عليه إذا قصد الغسل ونواه لأن الله تعالى إنما افترض على الجنب الغسل دون الوضوء بقوله ‏(‏ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا‏)‏ ‏[‏النساء 43‏]‏‏.‏

وقوله ‏(‏وإن كنتم جنبا فاطهروا‏)‏ ‏[‏المائدة 6‏]‏‏.‏

وهذا إجماع من العلماء لا خلاف بينهم فيه والحمد لله إلا أنهم مجمعون أيضا على استحباب الوضوء قبل الغسل للجنب تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه الأسوة الحسنة ولأنه أعون على الغسل‏.‏

وأما الوضوء بعد الغسل فلا وجه له عند أهل العلم وقد روى أبو إسحاق السبيعي عن الأسود بن يزيد عن عائشة قالت كان النبي علي السلام لا يتوضأ بعد الغسل وفي رواية أيوب لحديث مالك هذا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ‏(‏‏(‏فيخلل أصول شعره مرتين أو ثلاثا ثم يفرغ الماء على سائر جسده‏)‏‏)‏ وأيوب ثقة حافظ قال أيوب فقلت لهشام فغسل رجليه بعد ذلك فقال وضوءه للصلاة وهذا يدل على أن أعضاء الوضوء لا يعيد المغتسل غسلها في غسله لأنه قد غسلها في وضوئه والابتداء بالوضوء في غسل الجنابة يقتضي تقديم أعضاء الوضوء في الغسل سنة مسنونة في تقديم تلك الأعضاء خاصة لأنه ليس في الغسل رتبة وليس ذلك من باب السنة التي هي غير الفرض ولذلك لم يحتج أن يعيد تلك الأعضاء بنية الجنابة لأنه بذلك غسلها وقدم الغسل لها على سائر البدن وقد أجمع العلماء على أن الوضوء لا يعاد بعد الغسل من أوجب منهم المضمضة والاستنشاق ومن لم يوجبها فدل على ما وصفنا والحمد لله وقد ذكرنا في التمهيد حديث عائشة وحديث ميمونة من طرق والمعنى فيها كلها متقارب وفي قول عائشة ‏(‏‏(‏يدخل أصابعه في الماء فيخلل أصول شعره‏)‏‏)‏ ما يقتضي تخليل شعر الرأس وشعر اللحية واختلف قول مالك في تخليل الجنب لحيته في غسله فروى بن القاسم عنه - أنه ليس ذلك عليه وروى أشهب أن عليه أن يخلل لحيته من الجنابة وذكر بن عبد الحكم عن مالك قال هو أحب إلينا وكذلك اختلاف الفقهاء في تخليل الجنب لحيته في غسله على هذين القولين وحديث عائشة يشهد بصحة قول من رأى التخليل في ذلك لأنه بيان منه -عليه السلام- لقوله تعالى ‏(‏وإن كنتم جنبا فاطهروا‏)‏ المائدة 6‏.‏

وأما قوله ‏(‏‏(‏ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات‏)‏‏)‏ فالعدد في ذلك استحباب وما أسبغ وعم وبالغ في ذلك أجزأه ذكر عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحاق عن رجل يقال له عاصم أن رهطا أتوا عمر بن الخطاب فسألوه عن الغسل من الجنابة فقال أما الغسل فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اغسل رأسك ثلاث مرات وادلكه ثم أفض الماء على جلدك‏.‏

وأما قوله ‏(‏‏(‏ثم يفيض الماء على جلده كله‏)‏‏)‏ فقد اختلف العلماء في الجنب يغتسل فيصب الماء على جلده ويعمه بذلك ولا يتدلك فالمشهور من مذهب مالك أنه لا يجزئه ذلك حتى يتدلك لأن الله تعالى أمر الجنب بالاغتسال كما أمر المتوضئ بغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ولم يكن بد للمتوضئ من إمرار يديه بالماء على وجهه ويديه إلى المرفقين فكذلك جميع جسد الجنب ورأسه في حكم وجه المتوضئ ويديه وهذا قول المزني واختياره وقال أبو الفرج المالكي وهذا هو المعقول من لفظ الاغتسال في اللغة ومن لم يمر يديه - فلم يفعل غير صب الماء ولا يسميه أهل اللسان العربي غاسلا بل يسمونه صابا للماء ومنغمسا فيه ثم قال ويخرج هذا عندي -والله أعلم- أنه لما كان المعتاد من المنغمس في الماء وصابه عليه - أنهما لا يكادان يسلمان من أن ينكب الماء عن المواضع المأمور بها - وجب لذلك عليهما أن يمرا أيديهما على أبدانهما قال فأما إن طال مكث الإنسان في ماء أو والى صبه عليه من غير أن يمر يديه على بدنه فإنه ينوب ذلك عن إمرار يديه ثم قال وإلى هذا المعنى ذهب مالك هذا كله قول أبي الفرج وقد عاد إلى جواز الغسل للمنغمس في الماء إذا بالغ ولم يتدلك ونقض ما تقدم له وخالف ظاهر قول مالك وأصحابه إلا أن على ذلك جماعة الفقهاء وجمهور العلماء وقد روي عن ميمون بن مهران كقول مالك سواء في ذلك وروي نحوه عن أبي العالية واختلف فيه عن الحسن وعطاء سئل مالك عن الجنب يفيض عليه الماء قال لا بل يغتسل غسلا وقال أبو العالية يجزئ الجنب من غسل الجنابة أن يغوص غوصة غير أنه يمر يديه على جلده وذكر دحيم عن كثير بن هشام عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال إذا اغتسلت من الجنابة فاغسل جلدك وكل شيء تناله يدك‏.‏

وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري والأوزاعي يجزئ الجنب إذا انغمس في الماء ولم يتدلك وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وداود وإسحاق والطبري ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم وهو قول عامر الشعبي وإبراهيم النخعي وبن شهاب الزهري وحماد بن أبي سليمان وعلي بن حسين ومحمد بن علي وروى مروان بن محمد الطاطري - وهو من ثقات التابعين - عن مالك بن أنس مثل ذلك وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد واختلف عن الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح في هذه المسألة على القولين جميعا وقد ذكرنا في التمهيد عنهما مع جماعة من التابعين غيرهما أنهم قالوا إذا انغمس الرجل في نهر انغماسة أجزأه ومن حجتهم أن كل من صب عليه الماء فقد اغتسل لقول العرب غمستني السماء قال أبو عمر أمر الله تعالى المتوضئ بغسل جسده كله وبين ذلك رسول الله باغتساله ونقلت كافة العلماء مثل ما تواترت به أخبار الآحاد العدول بأن فعل رسول الله في غسله وجهه ويديه في وضوئه كان بإمرار كفيه على وجهه ويديه إلى مرفقيه وأن غسله من الجنابة كان بعد وضوئه بإفاضة الماء على جلده كله ولم يذكروا تدلكا ولا عركا بيديه وأمر رسول الله بغسل النجاسات من الثياب فمرة قال لأسماء في دم الحيض اقرصيه واعركيه ومرة أمر في بول الغلام بأن يصب عليه الماء وأن يتبع لبول الماء دون عرك ولا مرور بيد فدل هذا كله على أن الغسل في لسان العرب يكون مرة بالعرك ومرة بالصب والإفاضة كل ذلك يسمى غسلا في اللغة العربية وقد حكي عن بعض العرب غسلتني السماء يعني بما انصب عليه من الماء وإذا كان هذا على ما وصفنا فغير نكير أن يكون الله تعبد عباده في الوضوء بأن يمروا بالماء أكفهم على وجوههم وأيديهم إلى المرافق ويكون ذلك غسلا وأن يفيضوا الماء على أنفسهم في غسل الجنابة والحيض ويكون ذلك غسلا موافقا للسنة غير خارج من اللغة وأن يكون كل واحد من الأمرين أصلا في نفسه لا يجب رد أحدهما إلى صاحبه لأن الأصول لا يرد بعضها إلى بعض قياسا وهذا ما لا خلاف بين الأمة فيه وإنما ترد الفروع قياسا على الأصول وبالله التوفيق وقد وصفت عائشة وميمونة غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم من الجنابة - ولم تذكرا تدلكا وكذلك الحديث الذي ذكر عن عمر بن الخطاب قوله ثم أفض الماء على جلدك ولم يذكر تدلكا وذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم قال سمعت علي بن الحسين يقول ما مس الماء منك وأنت جنب فقد طهر ذلك المكان وقال أبو عمر إذا نوى بصب الماء وانغماسه فيه غسل الجنابة واختلف الفقهاء في الوضوء وفي الغسل من الجنابة بغير نية فقال ربيعة والليث والشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق وأبو عبيدة وداود والطبري لا تجزئ الطهارة للصلاة والغسل من الجنابة ولا التيمم إلا بنية وحجتهم في ذلك قوله تعالى ‏(‏وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين‏)‏ ‏[‏البينة 5‏]‏‏.‏

والإخلاص النية في التقرب إليه والقصد إلى أداء ما افترض وقال صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ‏)‏‏)‏ وهذا يقتضي أن يكون كل عمل بغير نية لا يجزئ‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري أما كل طهارة بماء كالوضوء والغسل من الجنابة فإنها تجزئ بغير نية ولا يجزئ التيمم إلا بنية وقال الأوزاعي والحسن بن حي يجزئ الوضوء والغسل والتيمم بغير نية له ‏(‏واختلف عن زفر فروي عنه لا يجزئ بغير نية‏)‏ كقول أبي حنيفة والثوري وروي عنه أنه يجزئه كقول الحسن بن حي والأوزاعي وروى بن المبارك والفريابي وعبد الرزاق عن الثوري قال إذا علمت الرجل التيمم لم يجزك إلا أن تكون نويته وإن علمته الوضوء أجزاك وإن لم تنوه وروى أبو المغيرة عبد القدوس عن الأوزاعي أنه سئل عن رجل علم آخر التيمم - وهو لا ينوي التيمم لنفسه - فحضرت الصلاة فقال يصلي بتيممه ذلك كما لو توضأ وهو لا ينوي الصلاة كان طاهرا وحجة من أسقط وجوب النية في الطهارة بالماء أن ذلك ليس منه فرض ونافلة فيحتاج المتوضئ فيه إلى نية قالوا وإنما يحتاج إلى النية فيما فيه من الأعمال فرض ونفل ليفرق بالنية بين الفريضة والنفل‏.‏

وأما الوضوء فهو فرض للنافلة وللفريضة ولا يصنعه أحد إلا لذلك فاستغنى عن النية قالوا‏.‏

وأما التيمم فهو بدل من الوضوء فلا بد فيه من النية ومن جمع في ذلك بين التيمم والوضوء فحجته في ذلك واحدة ومن حجتهم أيضا الإجماع على إزالة النجاسات من الأبدان والثياب بغير نية وهي طهارة واجبة فرضا عندهم قالوا وكذلك الوضوء قال أبو عمر الصحيح في هذا الباب قول من قال لا تجزئ طهارة للصلاة إلا بنية لها وقصد إليها لأن المفترضات لا تؤدى إلا بقصد وإرادة ولا يسمى الفاعل فاعلا حقيقة إلا بقصد منه إلى الفعل ومحال أن يتأدى عن المرء ما لم يقصد إلى أدائه وينويه بفعله لأنه لا تكون قربه إلا من متقرب بها قد انطوى ضميره عليها وهو الإخلاص الذي أمر الله به عباده وبالله التوفيق واختلف الفقهاء فيمن اغتسل للجمعة وهو جنب ولم يذكر فقالت طائفة تجزئه لأنه اغتسل للصلاة واستباحها وليس عليه مراعاة الحدث ونحوه كما ليس عليه أن يراعي حدث البول والغائط والريح وغير ذلك من الأحداث وإنما عليه أن يتوضأ للصلاة فكذلك الغسل للصلاة يوم الجمعة يجزئه من الجنابة وممن قال بهذا من أصحاب مالك بن وهب وأشهب وبن نافع وبن كنانة ومطرف وعبد الملك ومحمد بن مسلمة وإليه ذهب المزني من أصحاب الشافعي وقال آخرون لا يجزئ الجنب غسل يوم الجمعة من غسل الجنابة إذا كان ناسيا لجنابته في حين الغسل ولم يقصد إلى ذلك لأن الغسل للجمعة سنة والاغتسال من الجنابة فرض ومحال أن تجزئ سنة عن فرض كما لا تجزئ ركعتا الفجر عن صلاة الصبح ولا أربع ركعات قبل الظهر عن صلاة الظهر وهو قول بن القاسم وبن عبد الحكم عن مالك ولم يختلف أصحاب مالك فيمن اغتسل للجنابة لا ينوي الجمعة أنه غير مغتسل للجمعة ولا يجزئه من غسل الجمعة إلا ما ذكره محمد بن عبد الحكم وأبو إسحاق البرقي عن أشهب أنه قال يجزئه غسل الجنابة من غسل الجمعة وقال عبد العزيز بن أبي سلمة والثوري والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد والطبري من اغتسل للجنابة يوم الجمعة أجزأه غسل الجنابة من غسل الجمعة والجنابة جميعا وأجمعوا في الجنب ينوي بغسله الجنابة والجمعة أنه يجزئه عنهما إلا شيئا روي عن مالك قال به أهل الظاهر أنه لا يجزئ عن واحد منهما إذا خلط النية فيهما قياسا على من خلط الفرض بالنافلة في الصلاة وهذا لا يصح لأهل الظاهر لدفعهم القياس وقول من قال بهذا تعسف وشذوذ من القول ولا سلف لقائله ولا وجه له وذكر أبو بكر الأثرم قال قلت لأحمد بن حنبل رجل اغتسل يوم الجمعة من جنابة ونوى مع ذلك غسل الجمعة فقال أرجو أن يجزئه منهما جميعا قلت له يروى عن مالك أنه قال لا يجزئه عن واحد منهما فأنكره قال أبو بكر حدثنا أحمد بن أبي شعيب قال حدثنا موسى بن أعين عن ليث عن نافع عن بن عمر أنه كان يغتسل للجمعة والجنابة غسلا واحدا حدثنا أحمد بن عبد الله قال حدثني أبي قال حدثنا عبد الله بن يونس حدثنا بقي حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا جرير عن ليث عن نافع عن بن عمر أنه كان يغتسل للجمعة والجنابة غسلا واحدا ولا مخالف له - علمت - من الصحابة‏.‏

84- مالك عن بن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء هو الفرق من الجنابة وقد ذكرنا في ‏(‏‏(‏التمهيد‏)‏‏)‏ من وافق مالكا على لفظه في هذا الحديث ومن زاد فيه من رواته وليس في حديث مالك هذا إلا الاقتصار على ما يكفي من الماء من غير تحديد وأن الإسراف فيه مذموم وذلك رد على الإباضية ومن ذهب مذهبهم في الإكثار من الماء وهو مذهب ظهر قديما وسئل عنه بعض الصحابة والتابعين فلذلك سيق هذا الحديث ومثله وقد ذكرنا من آثار هذا الباب في ‏(‏‏(‏التمهيد‏)‏‏)‏ كثيرا يدل على ما وصفنا والحمد لله وجملة الآثار المنقولة في هذا عن النبي -عليه السلام- يدل على أن لا توقيت فيما يكفي من الماء في الغسل والطهارة ولذلك ما استحب السلف ذكر المقدار من غير كيل روى عبد الرزاق عن بن جريج قال سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير يقول صاع للغسل من غير أن يكال قال‏.‏

وأخبرنا بن جريج قال قلت لعطاء كم بلغك أنه يكفي الجنب قال صاع من ماء من غير أن يكال وقد روى القعنبي عن سليمان بن بلال عن عبد الرحمن بن عطاء أنه سمع سعيد بن المسيب سأله رجل من أهل العراق عما يكفي الإنسان في غسل الجنابة فقال لي سعيد إن لي تورا يسع مدين من ماء أو نحوهما وأغتسل به فيكفيني وتفضل فيه فضلة فقال الرجل والله إني لأستنثر بمدين من ماء فقال سعيد بن المسيب فما تأمرني إن كان الشيطان يلعب بك فقال له الرجل فإن لم يكفني فإني رجل - كما ترى - عظيم فقال له سعيد ثلاثة أمداد فقال إن ثلاثة أمداد قليل قال له فصاع قال عبد الرحمن وقال لي سعيد إن لي ركوة أو قدحا ما تسع إلا نصف المد أو نحوه وإني لأتوضأ منه وربما فضل فضل قال عبد الرحمن فذكرت هذا الحديث الذي سمعت من سعيد بن المسيب لسليمان بن يسار فقال وأنا يكفيني مثل ذلك قال عبد الرحمن فذكرت ذلك لأبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر فقال أبو عبيدة هكذا سمعنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ‏(‏‏(‏التمهيد‏)‏‏)‏ زيادات في هذا المعنى عن جماعة من العلماء ولا خلاف بينهم في هذا الباب والحمد لله‏.‏

وأما الفرق فبتحريك الراء وقد روي عن يحيى وغيره بإسكان الراء قال الخليل بن أحمد الفرق مكيال وقال بن وهب الفرق مكيال من خشب كان بن شهاب يقول إنه يسع خمسة أقساط بأقساط بني أمية وقد فسر محمد بن عيسى الأعشى الفرق بثلاثة أصوع قال وهي خمسة أقساط قال وفي الخمسة أقساط اثنا عشر مدا بمد النبي عليه السلام قال بن مزين قال لي عيسى بن دينار قال لي بن القاسم وسفيان بن عيينة الفرق يحمل ثلاثة أصوع وقال أبو داود سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن الفرق فقال ثلاثة أصوع وهذا كله قريب بعضه من بعض وقد روي عن مجاهد ما يخالف ذلك روى موسى الجهني عن مجاهد أنه أتى بقدح حزرته بثمانية أرطال فقال حدثتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بمثل هذا قال أبو عمر غسل الأعضاء في الوضوء وسائر الجسم في الغسل إنما يكون بمباشرة الماء لذلك وما أمر الله بغسله فلا يجزئ فيه المسح فمن قدر أن يتوضأ بمد أو أقل ويغتسل بصاع أو دون بعد أن يسبغ ويعم فذلك حسن جائز عند جماعة العلماء بالحجاز والعراق ولا يخالف في ذلك إلا ضال مبتدع وبالله التوفيق‏.‏

وأما فعل بن عمر في نضحه الماء في عينيه إذ كان يغتسل من الجنابة - فشيء لم يتابع عليه لأن الذي عليه غسل ما ظهر لا ما بطن وله - رحمه الله - أشياء شذ فيها حمله الورع عليها وفي أكثر الموطآت سئل مالك عن نضح بن عمر الماء في عينيه فقال ليس على ذلك الأمر عندنا وليس هذا عند يحيى‏.‏

85- وأما قول عائشة إذ سئلت عن غسل المرأة من الجنابة فقالت ‏(‏‏(‏لتحفن ‏(‏1‏)‏ على رأسها ثلاث حفنات من الماء ولتضغث رأسها بيديها فذلك إنكار منها قول من رأى أن تنقض المرأة ضفائر رأسها عند غسلها لأن الذي عليها بل شعرها وإيصال الماء إلى أصوله وإسباغ ذلك وعمومه وقد أنكرت على عبد الله بن عمرو بن العاص أمره النساء أن ينقضن رؤوسهن عند الغسل وقالت ما كنت أزيد أن أغرف على رأسي ثلاث غرفات مع رسول الله رواه أيوب بن أبي الزبير عن محمد بن عمير عن عائشة أنه بلغها عن عبد الله بن عمرو وفي حديث أم سلمة يا رسول الله أأنقض رأسي عند الغسل فقال يكفيك أن تصبي على رأسك ثلاث مرات وقال سعيد لكل صبة عصرة‏.‏

وقال مالك اغتسال المرأة من الحيض والجنابة سواء ولا تنقض رأسها‏.‏

باب واجب الغسل إذا التقى الختانان

86- مالك عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل هذا حديث صحيح عن عثمان بأن الغسل يوجبه التقاء الختانين وهو يدفع حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عطاء بن يسار أخبره أن زيد بن خالد الجهني أخبره أنه سأل عثمان بن عفان قال قلت أرأيت إذا جامع الرجل امرأته ولم يمن قال عثمان يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وسأل عن ذلك عليا والزبير وطلحة وأبي بن كعب فأمروه بذلك وهذا حديث منكر لا يعرف من مذهب عثمان ولا من مذهب علي ولا من مذهب المهاجرين انفرد به يحيى بن أبي كثير ولم يتابع عليه وهو ثقة إلا أنه جاء بما شذ فيه وأنكر عليه ونكارته أنه محال أن يكون عثمان سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يسقط الغسل من التقاء الختانين ثم يفتي بإيجاب الغسل منه ولا أعلم أحدا قال بأن الغسل من التقاء الختانين منسوخ بل قال الجمهور إن الوضوء منه منسوخ بالغسل ومن قال بالوضوء منه أجازه وأجاز الغسل فلم ينكره ذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال كان عمر وعثمان وعائشة والمهاجرون الأولون يقولون إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل وقد تدبرت حديث عثمان الذي انفرد به يحيى بن أبي كثير فليس فيه تصريح بمجاوزة الختان الختان وإنما فيه جامع ولم يمس وقد تكون مجامعة ولا يمس فيها الختان الختان لأنه لفظ مأخوذ من الاجتماع يكنى به عن الوطء وإذا كان كذلك فلا خلاف حينئذ فيما قال عثمان إنه يتوضأ وجائز أن يسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكون معارضا لإيجاب الغسل بشرط التقاء الختانين قال أبو بكر الأثرم قلت لأحمد بن حنبل حديث حسين المعلم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عطاء بن يسار عن زيد بن خالد قال سألت ‏(‏عنه‏)‏ خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وعليا وطلحة والزبير وأبي بن كعب فقالوا الماء من الماء أفيه علة تدفعه بها قال نعم ما يروى من خلافه عنهم قلت عن علي وعثمان وأبي بن كعب قال نعم‏.‏

وقال أحمد بن حنبل الذي أرى إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل قيل إنه قد كنت تقول غير هذا ‏!‏ قال ما أعلمني قلت غير هذا قط قيل له قد بلغنا ذلك عنك قال الله المستعان وقال يعقوب بن شيبة سمعت علي بن المديني وذكر هذا الحديث فقال إسناد حسن ولكنه حديث شاذ غير معروف قال علي وقد روي عن عثمان وعلي وأبي بن كعب بأسانيد جياد - أنهم أفتوا بخلافه قال يعقوب بن شيبة هو حديث منسوخ كانت هذه الفتوى في أول الإسلام ثم جاءت السنة بعد ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل قال أبو عمر قول يعقوب بن شيبة هذا مأخوذ مما حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا أحمد بن صالح حدثنا بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن بن شهاب قال حدثني بعض من أرضى أن سهل بن سعد أخبره أن أبي بن كعب أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل ذلك رخصة في أول الإسلام ثم أمر بالغسل ونهى عن ذلك قال أبو داود يعني الماء من الماء قال موسى بن هارون وقد روى أبو حازم هذا الحديث عن سهل بن سعد وأظن بن شهاب منه سمعه لأنه لم يسمعه من سهل بن سعد وقد سمع من سهل أحاديث فإن كان بن شهاب سمعه من أبي حازم فإنه ثقة رضا قال أبو عمر حديث أبي حازم في ذلك ذكره أبو داود أيضا قال حدثنا محمد بن مهران الرازي قال حدثنا مبشر الحلبي عن محمد بن مطرف أبي غسان عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يفتون الماء من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا سهل بن يوسف قال حدثنا شعبة عن سيف بن وهب عن أبي حرب بن أبي الأسود عن عميرة بن يثربي عن أبي بن كعب قال إذا التقى ملتقاهما فقد وجب الغسل وذكره البخاري في تاريخه قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا سهل بن يوسف بإسناده مثله في باب عميرة بن يثربي وفي حديث سيف بن وهب‏.‏

وأما حديث الأعمش عن ذكوان بن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري عن النبي -عليه السلام- قال ‏(‏‏(‏إذا أعجل أحدكم أو أقحط ‏(‏1‏)‏ فلا يغتسل‏)‏‏)‏ - فليس فيه حجة لأنه يحتمل أن يكون جوابا لمن أعجل أو أقحط عن بلوغ التقاء الختانين وكذلك حديث بن شهاب عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏‏(‏ الماء من الماء‏)‏‏)‏ رواه بن وهب عن عمرو بن الحارث عن بن شهاب ورواه جماعة من أصحاب بن شهاب كذلك قال وكان أبو سلمة يفعل ذلك - لا حجة فيه أيضا لأن قوله ‏(‏‏(‏ الماء من الماء‏)‏‏)‏ لا يدفع أن يكون الماء من التقاء الختانين ولا خلاف أن الماء - وهو الاغتسال - يكون من الماء الذي هو الإنزال لأن من أوجب الغسل من التقاء الختانين يوجبه من ‏(‏‏(‏الماء من الماء‏)‏‏)‏ والتقاء الختانين زيادة حكم وقد قيل معنى ‏(‏‏(‏الماء من الماء‏)‏‏)‏ في الاحتلام لا في اليقظة لأنه لا يجب الماء في الاحتلام إلا مع إنزال الماء وهذا مجتمع عليه فيمن رأى أنه يجامع ولا ينزل أنه لا غسل عليه وإنما الغسل في الاحتلام على من أنزل الماء هذا ما لم يختلف فيه العلماء وقد روى شريك عن أبي الجحاف - واسمه داود بن أبي عوف - عن عكرمة عن بن عباس قال إنما الماء من الماء في الاحتلام وإنما الرواية في التقاء الختانين عن المهاجرين من الصحابة فذكر بن أبي شيبة قال حدثنا بن علية عن شعبة عن أبي عون عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه سمع من عمرو أو عن أخيه سمعه من عمرو وقال إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل قال حدثنا بن أبي عيينة عن بن طاوس عن أبيه قال سمعت بن عباس يقول أما أنا فإذا خالطت أهلي اغتسلت قال حدثنا أسامة بن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر قال إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن جابر عن الشعبي قال حدثني الحارث عن علي وعلقمة عن عبد الله ومسروق عن عائشة قالوا إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل وعن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل أن عليا قال كما يجب منه الحد كذلك يجب منه الغسل وعن محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين أن عليا وأبا بكر وعمر قالوا ما أوجب الحدين الجلد والرجم - أوجب الغسل وعن بن جريج وعبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر قال إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل وهو عند مالك عن نافع عن بن عمر وعن الثوري عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن بن مسعود سئل عن ذلك فقال إذا بلغت ذلك اغتسلت قال سفيان والجماعة على الغسل ذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن علي قال إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل قال‏.‏

وحدثنا وكيع عن حنظلة الجمحي عن سالم عن بن عمر قال قال عمر إذا خالط الرجل أهله فقد وجب الغسل قال‏.‏

وحدثنا وكيع عن مسعر عن معبد بن خالد عن علي وعن غالب بن أبي الهذيل عن إبراهيم عن علي قال إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل وكيف يصح عن علي حديث عطاء بن يسار عن زيد بن خالد مع تواتر الطرق بخلاف ذلك‏.‏

وأما أبو بكر وعمر فلم يختلف عنهما في ذلك حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا بن أبي إدريس عن الشيباني عن بكير بن الأخنس عن سعيد بن المسيب قال قال عمر لا أوتي برجل فعله - يعني جامع ولم يغتسل وهو لم ينزل - إلا نهكته عقوبة قال‏.‏

وحدثنا حفص عن حجاج عن أبي بكر قال أجمع المهاجرون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي أن ما أوجب الحد من الجلد والرجم أوجب الغسل وذكر عبد الرزاق أخبرنا مجاهد عن أبيه قال اختلف المهاجرون والأنصار فيما يوجب الغسل فقال الأنصار الماء من الماء وقال المهاجرون ‏(‏‏(‏إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل فحكموا بينهم علي بن أبي طالب واختصموا إليه فقال علي أرأيتم لو أبصرتم رجلا يدخل ويخرج أيجب عليه الحد قالوا نعم قال أفيوجب الحد ولا يوجب صاعا من ماء فقضى للمهاجرين فبلغ ذلك عائشة فقالت ربما فعلنا ذلك أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فقمنا واغتسلنا وهذا أيضا يعارض حديث عطاء بن يسار عن زيد بن خالد قال حدثنا بن علية عن أيوب عن عكرمة قال يوجب الحد والرجم ولا يوجب إناء من ماء وهو قول شريح وأبي هريرة وإليه انصرف أبي وزيد بن ثابت والنعمان بن بشير وسهل بن سعد وبن عباس وعليه عامة الصحابة والتابعين وجمهور فقهاء الأمصار‏.‏

87- مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب الغسل فقالت هل تدري ما مثلك يا أبا سلمة مثل الفروج يسمع الديكة تصرخ فيصرخ معها إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل ففيه دليل على أن أبا سلمة كان عندها ممن يقول بذلك وأنه قلد فيه من لا علم له به فعاتبته بذلك لأنه كان أعلم الناس بذلك لأنه كان أعلم الناس بذلك المعنى لمكانها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم عن أبي سلمة روايته عن عطاء وعن أبي سعيد أنه كان يفعل ذلك ولذلك قرعته عنه بما ذكر مالك في حديثه والله أعلم‏.‏

88- وأما حديث مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن أبا موسى الأشعري أتى عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها لقد شق علي اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أمر إني لأعظم أن أستقبلك به فقالت ما هو ما كنت سائلا عنه أمك فسلني عنه فقال الرجل يصيب أهله يكسل ولا ينزل فقالت إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل فقال أبو موسى الأشعري لا أسأل عن هذا أحدا بعدك أبدا فإنه وإن لم يكن مسندا في ظاهرة - فإنه يدخل في المسند بالمعنى والنظر لأنه محال أن ترى عائشة نفسها حجة على غيرها من الصحابة في حين تنازعهم واختلافهم في هذه المسألة النازلة بينهم ومحال أن يسلم أبو موسى لعائشة قولها من رأيها في مسألة قد خالفها فيها من الصحابة غيرها برأيه لأن كل واحد منهم ليس بحجة على صاحبة عند التنازع في الرأي فلم يبق إلا أن تسليم أبي موسى لها كان لعلمه أن ما احتجت به كان عن رسول الله ومع ما ذكرنا من هذا الاستدلال فقد روي حديثها هذا عنها مسندا عن النبي عليه السلام فمن ذلك ما رواه أبو قرة موسى بن طارق عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي موسى عن عائشة عن النبي -عليه السلام- قال ‏(‏‏(‏إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل‏)‏‏)‏ وروى علي بن زيد عن بن المسيب قال نازع أبو موسى ناسا من الأنصار فقالوا الماء من الماء قال سعيد فانطلقت أنا وأبو موسى حتى دخلنا على عائشة فقال لها أبو موسى الذي تنازعوا فيه فقالت عائشة عندي الشفاء من ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏ ‏(‏إذا جلس بين الشعب الأربع وألصق الختان بالختان فقد وجب الغسل‏)‏‏)‏ وروى حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الله بن رباح عن عبد العزيز بن النعمان عن عائشة قالت ‏(‏‏(‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقى الختانان اغتسل‏)‏‏)‏ وروى القاسم بن محمد وعطاء بن أبي رباح وأم كلثوم بنت أبي بكر كلهم عن عائشة قالت ‏(‏‏(‏كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نفعله فنغتسل‏)‏‏)‏ وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث عن عائشة كلها في التمهيد وهي مرفوعة مسندة فدل على صحة التأويل المذكور وبالله التوفيق وروى مثل ذلك جماعة من الصحابة أيضا فمن ذلك حديث شعبة وسعيد وأبان وهمام وحماد بن سلمة وهشام وكلهم عن قتادة عن الحسن عن رافع عن أبي هريرة عن النبي -عليه السلام- قال ‏(‏‏(‏إذا قعد بين شعبها الأربع وألزق الختان بالختان فقد وجب الغسل‏)‏‏)‏ وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل‏)‏‏)‏ وقد ذكرنا أسانيدها في التمهيد وعلى هذا مذاهب أهل العلم وبه الفتوى في جميع الأمصار فيما علمت وممن قال بذلك من الفقهاء مالك وأصحابه وسفيان الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد والحسن بن حي والشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وأبو عبيد والطبري واختلف أصحاب داود في هذه المسألة فمنهم من قال في هذه المسألة بما عليه الفقهاء والجمهور على ما وصفنا من إيجاب الغسل بالتقاء الختانين ومنهم من قال لا غسل إلا بإنزال الماء الدافق وجعل في الإكسال الوضوء واحتج من ذهب إلى هذا بما رواه يحيى القطان وغيره عن هشام بن عروة قال أخبرني أبو أيوب الأنصاري قال أخبرني أبي بن كعب أنه قال يا رسول الله ‏!‏ إذا جامع الرجل امرأته فلم ينزل قال ‏(‏‏(‏يغسل ما مس المرأة ثم يتوضأ ويصلي‏)‏‏)‏ وهذا الحديث قد صح عن أبي بن كعب وصح بما قدمنا أنه منسوخ وأن الفتيا بذلك كانت في أول الإسلام ثم أمروا بالغسل فلا حجة في هذا عند أحد يعرف ما يقول وفي حديث مالك ما يدل على أن أبي بن كعب كان يفتي بما حدث به عنه أبو أيوب حتى صح عنده بعد ما ذكره عنه سهل بن سعد فنزع عن ذلك ورجع عنه‏.‏

89- مالك عن يحيى بن سعيد عن عبد الله بن كعب مولى عثمان بن عفان أن محمود بن لبيد الأنصاري سأل زيد بن ثابت عن الرجل يصيب أهله ثم يكسل ولا ينزل فقال زيد يغتسل فقال له محمود إن أبي بن كعب كان لا يرى الغسل فقال له زيد بن ثابت إن أبي بن كعب نزع عن ذلك قبل أن يموت وفي رجوع أبي بن كعب عن القول بما سمعه من النبي -عليه السلام- ورواه عنه - ما يدل على أنه كان منسوخا ولولا ذلك ما رجع عنه لأن ما لم ينسخ من الكتاب والسنة لا يجوز تركه ولا الرجوع عنه لأحد صح عنده حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا مطلب بن شعيب قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني الليث قال حدثنا عقيل عن بن شهاب عن سهل بن سعد قال حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يفتون بها قولهم إن الماء من الماء - رخصة كان رسول الله رخص بها في أول الإسلام ثم أمرنا بالغسل بعد وقد تقدم أن بن شهاب لم يسمعه من سهل بن سعد وإنما رواه عن أبي حازم عن سهل بن سعد وهو حديث صحيح ثابت بنقل العدول والثقات له فإن قيل إن رافع بن خديج وأبا سعيد الخدري وعبد الله بن عباس وأبا مسعود وسعد بن أبي وقاص كانوا يقولون الماء من الماء قيل لقائل ذلك قد قلنا إن الماء من الماء يحتمل أن يكون معناه الاحتلام وإن لم ينزل في احتلامه فلا يضره ما رأى من جماعه وقد روى عن بن عباس وسعد بن أبي وقاص وبن مسعود - إيجاب الغسل من التقاء الختانين على خلاف ما حكى هذا القائل عنهم ولا حجة في قول أحد مع السنة وقد ثبت عن النبي -عليه السلام- ما قدمنا ذكره في هذا الباب مما فيه كفاية ومقنع وحجة قاطعة عند ذوي الألباب ولهذه المسألة أيضا حظ من النظر وذلك أن الصلاة لا تجب أن تؤدي إلا بطهارة متيقنة وقد أجمعوا على أنه من اغتسل من الإكسال فقد أدى صلاته بطهارة مجتمع عليها والصلاة يجب أن يحتاط لها وكيف وفي ثبوت السنة بصحيح الأثر ما يغني عن كل نظر وبالله التوفيق‏.‏

باب وضوء الجنب إذا أراد أن ينام أو يطعم قبل أن يغتسل

90- مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أنه قال ذكر عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يصيبه جنابة من الليل فقال له رسول الله ‏(‏‏(‏ توضأ واغسل ذكرك ثم نم‏)‏‏)‏ ‏(‏وهذا من التقديم والتأخير أراد اغسل ذكرك‏)‏ وكذلك رواه سفيان الثوري وشعبة عن عبد الله بن دينار عن بن عمر فقالا فيه يغسل ذكره ويتوضأ وقد رواه عن مالك جماعة كذلك في غير الموطإ ولم يختلف رواة الموطإ أنه كما رواه يحيى توضأ واغسل ذكرك ثم نم ورواية بن جريج لهذا الحديث عن نافع كرواية الثوري وشعبة عن بن عيينة عن عبد الله بن دينار في المعنى قال فيه إن عمر استفتى النبي -عليه السلام- فقال أينام أحدنا وهو جنب قال نعم ليتوضأ ولم يذكر غسل الذكر في الوضوء لا قبل ولا بعد لقول عائشة‏.‏

91- إذا أصاب أحدكم المرأة ثم أراد أن ينام فلا ينم حتى يتوضأ وضوءه للصلاة ليبين أن الوضوء الذي أمر به النبي -عليه السلام- عمر بن الخطاب هو الوضوء للصلاة ثم أتبعه بفعل بن عمر أنه كان لا يغسل رجليه إذا توضأ وهو جنب للأكل أو للنوم ولم يعجب مالكا فعل بن عمر وأظنه أدخله إعلاما أن ذلك الوضوء ليس بلازم وما أعلم أحدا من أهل العلم أوجبه فرضا إلا طائفة من أهل الظاهر‏.‏

وأما سائر الفقهاء بالأمصار فلا يوجبونه وأكثرهم يأمرون به ويستحبونه وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وجماعة الصحابة والتابعين قال مالك لا ينام الجنب حتى يتوضأ وضوءه للصلاة قال وله أن يعاود أهله ويأكل قبل أن يتوضأ إلا أن يكون في يده قذر فيغسلها قال‏.‏

وأما الحائض فتنام قبل أن تتوضأ وقول الشافعي في هذا كله نحو قول مالك وقال الليث بن سعد لا ينام الجنب حتى يتوضأ رجلا كان أو امرأة‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري لا بأس أن ينام الجنب على غير وضوء وأحب إليهم أن يتوضأ قال فإذا أراد أن يأكل مضمض وغسل يديه وهو قول الحسن بن حي وقال الأوزاعي الحائض والجنب إذا أرادا أن يأكلا أو يناما غسلا أيديهما وقال سعيد بن المسيب إن شاء الجنب نام قبل أن يتوضأ قال أبو عمر وقد ذكرنا الآثار المرفوعة عن عمر وعائشة عن النبي -عليه السلام- في وضوء الجنب عند النوم ولم تختلف عنهما الآثار في ذلك إلا من رواية من أخطأ في الحديث عند أهل العلم به على ما بيناه في التمهيد واختلفت الرواية المرفوعة عن عائشة في وضوء الجنب عند النوم وأحسن الأسانيد عن عائشة في ذلك ما رواه بن المبارك وغيره عن يونس عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وإذا أراد أن يأكل ويشرب غسل يديه ثم يأكل ويشرب وقد ذكرنا الاختلاف عنه في هذا الحديث وذكرنا طرق حديث عائشة وطرق حديث بن عمر عن عمر بذلك في التمهيد ورواه الحكم عن إبراهيم عن الحسن عن عائشة أن النبي -عليه السلام- كان إذا أراد أن يأكل أو ينام - وهو جنب - توضأ وذكر أحمد بن زهير عن أحمد بن حنبل عن يحيى القطان قال ترك شعبة حديث الحكم في الجنب إذا أراد أن يأكل‏.‏

وأما حجة من ذهب من الكوفيين وغيرهم إلى أن الجنب لا بأس أن ينام قبل أن يتوضأ فحديث ذكره أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة قال حدثنا عطاء الخرساني عن يحيى بن يعمر عن عمار بن ياسر أن النبي -عليه السلام- رخص للجنب إذا أكل أو شرب أو نام أن يتوضأ وقالوا معناه ألا يتوضأ لأنه في ذلك رخصة وهذا محتمل للتأويل لا حجة فيه قال أبو داود وبين يحيى بن يعمر وعمار بن ياسر فيه رجل وروى سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن الأسود عن عائشة أن النبي -عليه السلام- كان ينام وهو جنب ولا يمس ماء قال سفيان وهذا الحديث خطأ ونحن نقول به وقد أوضحنا قول سفيان هذا في ‏(‏‏(‏التمهيد‏)‏‏)‏ وقد عارض حديث بن عمر وحديث عائشة في هذا الباب بحديث سعيد بن الحويرث عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء فأتى بطعام فقالوا ألا نأتيك بطهر فقال ‏(‏‏(‏لا أصلي فأتطهر‏)‏‏)‏ وبعضهم يقول فيه ألا تتوضأ فقال ‏(‏‏(‏ما أردت الصلاة فأتوضأ‏)‏‏)‏ ثم تناول عرقا فأكل منه ولم يمس ماء وهو حديث صحيح رواه أيوب وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة وبن جريج عن عمرو بن دينار سمع سعيد بن الحويرث سمع بن عباس وقد سمعه بن جريج من سعيد بن الحويرث وطرقه في التمهيد قالوا ففي هذا الحديث أن الوضوء لا يكون إلا لمن أراد الصلاة وذلك رفع الوضوء عند النوم وعند الأكل والله أعلم‏.‏

باب إعادة الجنب الصلاة وغسله إذا صلى ولم يذكر وغسله ثوبه

92- مالك عن إسماعيل بن حكيم أن عطاء بن يسار أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر في صلاة من الصلوات ثم أشار بيديه أن امكثوا فذهب ثم رجع على جلده أثر الماء قد ذكرنا عطاء بن يسار وأخويه بما يجب من ذكر المولد والوفاة والحال واللقاء في التمهيد وهذا حديث منقطع وقد روي متصلا مسندا من حديث أبي هريرة وحديث أبي بكرة وقد ذكرت طرقها في التمهيد وفي بعضها ‏(‏‏(‏أنه كبر‏)‏‏)‏ كما في حديث مالك وفي بعضها أنه ‏(‏‏(‏قام في مصلاه‏)‏‏)‏ وفي بعضها أنه لما انصرف ‏(‏‏(‏كبر‏)‏‏)‏ وفي رواية الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة لهذا الحديث ‏(‏‏(‏فقال لهم مكانكم‏)‏‏)‏ وفي حديث أبي بكرة ‏(‏‏(‏فأومأ رسول الله بيده أن مكانكم‏)‏‏)‏ وكلامه وإشارته في ذلك سواء لأنه كان في غير صلاة أخبرنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الحميد بن أحمد حدثنا الخضر بن داود حدثنا أبو بكر الأثرم قال سألت أحمد بن حنبل عن حديث أبي بكرة أن النبي عليه السلام ‏(‏‏(‏أشار أن امكثوا فذهب ثم رجع وعلى جلده أثر الغسل فصلى بهم‏)‏‏)‏ ما وجهه قال وجهه قال وجهه أنه ذهب فاغتسل قيل له كان جنبا قال نعم ثم قال يرويه بعض الناس أنه كبر وبعضهم يقول لم يكبر قيل له فلو فعل هذا إنسان اليوم أكنت تذهب إليه قال نعم قال أبو عمر من ذكر أنه كبر زاد زيادة حافظ يجب قبولها وفي حديث مالك وغيره أنه كبر على ما قد أوردناه في التمهيد ومن روى أو اعتقد أنه لم يكبر فقد أراح نفسه من الكلام في هذا الباب وإنما القول والتوجيه فيه على من روى أنه كبر ثم قال لهم وأشار إليهم أن امكثوا وقد ظن بعض شيوخنا أن في إشارته إليهم أن امكثوا دليلا على أنه إذا انصرف إليهم بنى بهم لأنه لم يتكلم وهذا جهل وغلط فاحش ولا يجوز عند أحد من العلماء أن يبني أحد على ما صنع من صلاته غير طاهر ولا يخلو أمره عليه السلام إذا رجع من أحد ثلاثة أوجه إما أن يكون بنى على التكبيرة التي كبرها وهو جنب وبنى القوم معهم على تكبيرهم فإن كان هذا فهو منسوخ بالسنة والإجماع أما السنة فقوله عليه السلام ‏(‏‏(‏لا يقبل الله صلاة بغير طهور‏)‏‏)‏ فكيف يبني على ما صلى وهو غير طاهر وتكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة فكيف يجتزئ بها وقد عملها على غير طهارة هذا لا يظنه ذو لب ولا يقوله أحد لأن علماء المسلمين مجمعون على أن الإمام وغيره من المصلين لا يبني أحد منهم على شيء عمله في صلاته وهو على غير طهارة وإنما اختلفوا في بناء المحدث على ما قد صلى وهو طاهر قبل حدثه وقد بينا ذلك فيما مضى من هذا الكتاب في باب بناء الراعف والحمد لله والوجه الآخر أن يكون -عليه السلام- حين انصرف بعد غسله استأنف صلاته واستأنفها أصحابه معه بإحرام جديد وأبطلوا إحرامهم وإن كانوا قد أحرموا معه وكان لهم أن يعتدوا به لو استخلف من يتم بهم فإن كان هذا فليس في الحديث معنى يشكل حينئذ على مذهب من روى أنه كبر ثم أشار إليهم أن امكثوا ثم انصرف‏.‏

وأما من روى أنه لم يكبر أولا وكبر لما انصرف فليس في روايته شيء يحتاج إلى قول غير انتظار الإمام إذا كان في الوقت سعة وهذا أمر مجتمع على جوازه ولا مدخل أيضا للقول فيه والوجه الثالث أن يكون النبي -عليه السلام- كبر محرما مستأنفا لصلاته وبنى القوم خلفه على ما مضى من إحرامهم فهذا وإن كان فيه النكتة المجيزة لصلاة القوم خلف الإمام الجنب لاستجزائهم بإحرامهم فإنه لا يصح ولا يخرج على مذهب مالك لأنه حينئذ يكون إحرام القوم قبل إحرام إمامهم وهذا غير جائز عند مالك وجمهور الفقهاء وإنما أجازه الشافعي في أحد قوليه والصحيح عن الشافعي ما ذكره البويطي وغيره عنه أن إحرام المأموم لا يصح إلا بعد تكبيرة إمامه في إحرامه ومن كبر قبل إمامه فلا صلاة له لا يحتمل الحديث غير هذه الأوجه ولا يخلوا من أحدها وليس في شيء منها ما يدل على جواز صلاة المأموم الطاهر خلف الإمام الجنب على مذهب مالك فتدبره تجده كذلك إن شاء الله‏.‏

وأما الشافعي فيصح الاستدلال بهذا الحديث على أصله في أن صلاة القوم عنده غير مرتبطة بصلاة إمامهم لأن الإمام قد تبطل صلاته وتصح صلاة من خلفه وقد تبطل صلاة المأموم وتصح صلاة الإمام ‏(‏بوجوه أيضا كثيرة‏)‏ فلذلك لم تكن صلاتهما مرتبطة ولذلك لم يضرهم ‏(‏عنده‏)‏ اختلاف نياتهم ونيته في صلاة واحدة لأن كلا يصلي بنفسه ولا يحتمل فرضا عن صاحبه ولذلك أجاز في أحد قوليه إحرام المأمومين قبل إمامهم وإن كان لا يستحب لهم ذلك لأنه مستحيل أن يدخلوا في صلاة إمامهم ولم يدخل فيها بعد ولأصحابه دلائل واحتجاجات للقولين ليس كتابنا هذا موضعا لذكرها وجملة قول مالك وأصحابه في إمام أحرم بقوم فذكر أنه جنب أو على غير وضوء - أنه يخرج ويقدم رجلا فإن خرج ولم يقدم أحدا قدموا لأنفسهم من يتم بهم الصلاة فإن لم يفعلوا وصلوا أفرادا أجزأتهم صلاتهم فإن انتظروه ولم يقدموا أحدا لم تفسد صلاتهم وروى يحيى بن يحيى عن بن نافع قال إذا انصرف الإمام ولم يقدم وأشار إليهم امكثوا - كان حقا عليهم ألا يقدموا أحدا حتى يرجع فيتم بهم قال أبو عمر قوله فيتم بهم لا يصح في الجنب وغير المتوضئ وإنما يصح فيمن أحدث‏.‏

وأما من لم يكن على طهارة فإنه يبتدئ بهم لا يتم وقد أوضحنا هذا بما يغني عن تكراره وقد جعل قوم منهم الشافعي وداود بن علي هذا الحديث أصلا في ترك الاستخلاف لمن أحدث في صلاته فقال الشافعي الاختيار عندي إذا أحدث الإمام حدثا لا تجوز معه الصلاة من رعاف أو انتقاض وضوء أو غيره - أن يصلي القوم فرادى ولا يقدموا أحدا فإن قدموا أو قدم الإمام رجلا فأتم بهم ما بقي من صلاتهم - أجزأتهم صلاتهم قال وكذلك لو أحدث الإمام الثاني والثالث والرابع قال ولو أن إماما كبر وقرأ وركع أو لم يركع حتى ذكر أنه على غير طهارة فكان خروجه أو غسله قريبا - فلا بأس أن يقف الناس في صلاتهم حتى يتوضأ ويرجع فيستأنف ويتمون لأنفسهم كما فعل رسول الله -عليه السلام- حين ذكر أنه جنب فانتظره القوم فاستأنف لنفسه لأنه لا يعتد بتكبيرة كبرها وهو جنب ويتم القوم لأنفسهم لأنهم لو أتموا لأنفسهم حين خرج عنهم إمامهم أجزأتهم صلاتهم قال وإن كان خروج الإمام يتباعد أو طهارته تثقل صلوا لأنفسهم قال وسواء أشار إليهم أن ينتظروه أو كلمهم لأنهم في غير صلاة فإن انتظروه وكان قريبا فحسن وإن خالفوه فصلوا لأنفسهم فرادى أو قدموا غيره أجزأتهم صلاتهم قال والاختيار عندي للمأمومين إذا فسدت على الإمام صلاته أن يبنوا فرادى ولا ينتظروه وليس أحد كرسول الله صلى الله عليه وسلم قال الشافعي ولو أن إماما صلى ركعة ثم ذكر أنه جنب فخرج واغتسل وانتظره القوم فرجع فبنى على الركعة فسدت عليه وعليهم صلاتهم لأنهم يأتمون به عالمين أن صلاته فاسدة وليس له أن يبني على ركعة صلاها جنبا قال ولو علم بعضهم ولم يعلم بعض فسدت صلاة من علم ذلك منهم قال أبو عمر احتج من أجاز انتظار القوم للإمام إذا أحدث بحديث هذا الباب وفيه ما ذكرنا من الاختلاف في تكبيره عليه السلام واحتج أيضا بما حدثنا محمد بن عبد الله بن حكم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب قال حدثنا أبو داود الطيالسي قال حدثنا نافع بن عمر عن بن أبي مليكة أن عمر بن الخطاب صلى بالناس فأهوى بيده فأصاب فرجه فأشار إليهم كما أنتم فخرج فتوضأ ثم رجع فأعاد قال أبو عمر كذا قال ‏(‏‏(‏فأعاد‏)‏‏)‏ وفيه نظر وقد تقدم في مس الذكر في بابه ما يكفي وكذلك في بناء الراعف والمحدث وقال داود إذا أحدث الإمام في صلاته صلى القوم أفرادا‏.‏

وأما أهل الكوفة وأكثر أهل المدينة فقائلون بالاستخلاف لمن نابه شيء في صلاته فإن جهل الإمام ولم يستخلف تقدمهم واحد منهم بإذنهم أو بغير إذنهم وأتم بهم وذلك عندهم عمل مستفيض إلا أن أبا حنيفة إنما يرى الاستخلاف لمن أحرم وهو طاهر ثم أحدث ولا يرى لإمام جنب أو على غير وضوء إذا ذكر ذلك في صلاته أن يستخلف وليس في هذه المسألة عندي موضع للاستخلاف لأن القوم عندهم في غير صلاة هم وإمامهم قال أبو عمر لا تتبين لي حجة من كره الاستخلاف استدلالا بحديث هذا الباب لأن رسول الله ليس في الاستخلاف كغيره إذ لا عوض منه مع سعة الوقت ولا يجوز لأحد أن يتقدم بين يديه إلا بإذنه وقد قال لهم ‏(‏‏(‏مكانكم‏)‏‏)‏ فلزمهم أن ينتظروه وهذا إذا صح أنه تركهم في صلاة وقد قيل إنه لم يكن كبر وقد قال بعض من روى أنه كبر إنهم استأنفوا معه فلو صح هذا بطلت النكتة التي منها نزع من كره الاستخلاف وقد أجمع المسلمون على الاستخلاف فيمن يقيم لهم أمر دينهم ودنياهم والصلاة أعظم الدين وفي حديث سهل بن سعد دليل على جواز الاستخلاف لتأخر أبي بكر وتقدم النبي -عليه السلام- في تلك الصلاة وحسبك بما مضى عليه عمل الناس وسيأتي القول في حديث سهل بن سعد في بابه من هذا الكتاب إن شاء الله ذكر مالك حديث عمر بن الخطاب حين صلى وهو جنب ثم ذكر فاغتسل وغسل ثوبه وأعاد صلاته من أربعة طرق عن هشام بن عروة منها طريقان وطريق عن إسماعيل بن أبي حكيم وطريق عن يحيى بن سعيد وليس في شيء منها أن القوم الذين صلوا خلفه أعادوا وفي جميعها غسل المني من ثوبه واغتساله وإعادته صلاته ولا في شيء منها أنه صلى بالناس إلا في حديث يحيى بن سعيد وهو أحسنها ومعلوم أنه كان إمامهم‏.‏

93- مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب صلى بالناس الصبح ثم غدا إلى أرضه بالجرف فوجد في ثوبه احتلاما فقال لما إنا أصبنا الودك لانت العروق فاغتسل وغسل الاحتلام من ثوبه وعاد لصلاته‏.‏

94- وفي حديثه عن إسماعيل بن أبي حكيم عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب غدا إلى أرضه بالجرف فوجد في ثوبه احتلاما فقال لقد ابتليت بالاحتلام منذ وليت أمر الناس فاغتسل وغسل ما رأى في ثوبه من الاحتلام ثم صلى بعد أن طلعت الشمس وليس في حديثي سليمان بن يسار أنه غسل من ثوبه ما رأى فيه الاحتلام ونضح ما لم ير وذلك في حديثي هشام بن عروة ففي غسل عمر الاحتلام من ثوبه دليل على نجاسته لأنه لم يكن ليشتغل مع شغل السفر بشيء طاهر ولم يختلف العلماء فيما عدا المني من كل ما يخرج من الذكر أنه نجس وفي إجماعهم على ذلك ما يدل على نجاسة المني المختلف فيه ولو لم تكن له علة جامعة بين ذلك إلا خروجه مع البول والمذي والودي مخرجا واحدا لكفى‏.‏

وأما الرواية المرفوعة فيه فروى عمرو بن ميمون بن مهران عن سليمان بن يسار عن عائشة قالت كنت أغسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى همام بن الحارث والأسود عن عائشة كنت أفركه من ثوب رسول الله وحديث همام بن الحارث والأسود أثبت من جهة الإسناد ولا حجة في غسله لأنه جائز غسل المني وفركه عند من رآه طاهرا كما يجوز غسل الطين الطري وفركه إذا يبس‏.‏

وأما اختلاف السلف والخلف في نجاسة المني فروي عن عمر بن الخطاب وجابر بن سمرة أنهم غسلوه من ثيابهم وأمروا بغسله ومثله عن بن عمر وعائشة اختلاف عنهما وروينا عن جبير بن نفير أنه أرسل إلى عائشة يسألها عن المني في الثوب فقالت إن شئت فاغسله وإن شئت فاحككه وروي عن سعيد بن المسيب أنه أمر بغسله وروي عنه أنه قال إذا صلى فيه لم يعد‏.‏

وقال مالك غسل الاحتلام من الثوب أمر واجب مجتمع عليه عندنا وعن الأوزاعي نحوه ولا يجزئ عند مالك وأصحابه في المني ولا في سائر النجاسات إلا الغسل بالماء ولا يجزئ فيه عنده الفرك وأنكره ولم يعرفه‏.‏

وأما أبو حنيفة وأصحابه فالمني عندهم نجس ويجزئ فيه الفرك على أصلهم في النجاسة أنه يطهرها كل ما أزال عينها من الماء وغير الماء وقال الثوري يفرك فإن لم يفركه أجزته صلاته وقال الحسن بن حي لا تعاد الصلاة من المني في الثوب وإن كثر وتعاد من المني في الجسد وإن قل وكان يفتي مع ذلك بفركه من الثوب إذا كان يابسا وبغسله إذا كان رطبا وقال الليث بن سعد هو نجس ويعيد منه في الوقت ولا يعيد بعده ويفركه من ثوبه بالتراب قبل أن يصلي‏.‏

وقال الشافعي المني طاهر ويفركه من ثوبه إذا كان يابسا وإن لم يفركه فلا بأس به‏.‏

وأما النجاسات فلا يطهرها عنده إلا الغسل بالماء كقول مالك سواء والمني عند أبي ثور وأحمد وإسحاق وداود طاهر كقول الشافعي ويستحبون غسله رطبا وفركه يابسا وهو قول سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عباس كان سعد يفرك المني من ثوبه وقال بن عباس هو كالنجاسة أمطه عنك بإذخرة وامسحه بخرقة وكذلك التابعون مختلفون بالحجاز والعراق على هذين القولين منهم من يرى فركه ومنهم من لا يرى إلا غسله ويطول الكتاب بذكرهم‏.‏

وأما قول عمر - رحمه الله - ‏(‏‏(‏أغسل ما أرى وأنضح ما لم أر - فالنضح - لا محالة - ها هنا الرش بدليل قوله أغسل ما رأيت فجعل النضح غير الغسل وهو الظاهر في النضح وإن كان قد يعبر في مواضع بالنضح عن الغسل على حسب ما يفهمه السامع ولا خلاف بين العلماء أن النضح في حديث عمر هذا معناه الرش وهو عند أهل العلم طهارة ما شك فيه كأنهم جعلوه دفعا للوسوسة ندب بعضهم إلى ذلك وأباه بعضهم وقال لا يزيده النضح إلا شرا وفي رواية أخرى لا يزيده النضح إلا قذرا والأصل في الثوب الطهارة وكذلك الأرض وجسد المؤمن حتى يصح حلول النجاسة في شيء من ذلك فمن استيقن حلول المني في ثوبه غسل موضعه منه إذا اعتقد نجاسته كغسله سائر النجاسات على ما قد بينا وإن لم يعرف موضعه غسله كله فإن شك هل أصاب ثوبه شيء منه أم لا نضحه بالماء على ما وصفنا وعلى هذا مذهب الفقهاء لما ذكرنا روى معمر عن الزهري عن طلحة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة أنه كان يقول في الجنابة تصيب الثوب إن رأيت أثره فاغسله وإن خفي عليك فاغسل الثوب كله وإن شككت فلم تدر أصاب الثوب أم لا فانضحه وروي نحو ذلك عن بن عمر وسعيد بن المسيب وأنس بن مالك وبن سيرين والشعبي وجماعة من التابعين وقال عيسى بن دينار من صلى بثوب مشكوك في نجاسته أعاد في الوقت وقال بن نافع لا إعادة عليه وهو الصواب لما قدمنا في كل شيء طاهر أنه على طهارته حتى يصح حلول النجاسة فيه‏.‏

وأما قول عمر ‏(‏‏(‏لقد ابتليت بالاحتلام منذ وليت أمر الناس‏)‏‏)‏ فذلك -والله أعلم- باشتغاله بأمور المسلمين ليلا ونهارا عن النساء‏.‏

وأما قوله لعمرو بن العاص حين قال له دع ثوبك يغسل فقال ‏(‏‏(‏لو فعلتها لكانت سنة‏)‏‏)‏ فإنما كان ذلك لعلمه بمكانه من قلوب المؤمنين ولاشتهار قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ‏(‏‏(‏عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي‏)‏‏)‏ وأنهم كانوا يمتثلون أفعالهم فخشي التضييق على من ليس له إلا ثوب واحد - وكان رحمه الله - يؤثر التقلل من الدنيا والزهد فيها وفي إعادة عمر صلاته وحده دون الذين صلوا خلفه دليل على صحة ما ذهب إليه الحجازيون أنه لا يعيد من صلى خلف الجنب وغير المتوضئ إذا لم يعلموا حاله‏.‏

وأما اختلاف العلماء في القوم يصلون خلف إمام ناس لجنابته فقال مالك وأصحابه والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحابه لا إعادة عليهم وروي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعليه أكثر العلماء وحسبك بحديث عمر فإنه صلى بجماعة من الصحابة صلاة الصبح ثم غدا إلى أرضه بالجرف فوجد في ثوبه احتلاما فغسله واغتسل وأعاد صلاته وحده ولم يأمرهم بإعادة الصلاة وهذا في جماعتهم من غير نكير من واحد منهم وقد روي عنه أنه أفتى بذلك وروى شعبة عن الحكم عن إبراهيم قال قال عمر في جنب صلى بقوم قال يعيد ولا يعيدون قال شعبة وقال حماد أعجب إلي أن يعيدوا وذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو خالد الأحمر عن حجاج عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي في الجنب يصلي بالقوم قال يعيد ولا يعيدون روى أحمد بن حنبل قال حدثنا هشيم عن خالد بن سلمة قال أخبرني محمد بن عمرو بن المصطلق أن عثمان بن عفان صلى بالناس صلاة الفجر فلما أصبح وارتفع النهار فإذا هو بأثر الجنابة فقال كبرت والله كبرت ‏!‏ والله فأعاد الصلاة ولم يأمرهم أن يعيدوا ذكره أبو بكر الأثرم عن أحمد بن حنبل قال وسمعت أحمد يقول يعيد ولا يعيدون قال سألت سليمان بن حرب عن ذلك فقال إذا صح لنا عن عمر شيء اتبعناه ولم نعده نعم يعيد ولا يعيدون وذكر عن الحسن وإبراهيم وسعيد بن جبير مثله وهو قول إسحاق وأبى ثور وداود إلا أن الأثرم حكى عن أحمد قال إذا صلى إمام بقوم وهو على غير وضوء ثم ذكر قبل أن يتم فإنه يعيد ويعيدون ويبتدئون الصلاة فإن لم يذكر حتى يفرغ من صلاته أعاد وحده ولم يعيدوا كأنه استعمل حديث النبي -عليه السلام- وحديث عمر‏.‏

وقال أبو حنيفة عليهم الإعادة لأن صلاتهم مرتبطة بصلاة إمامهم فإذا لم تكن له صلاة لم تكن لهم وهو قول الشعبي وحماد بن أبي سليمان وروي عن علي مثله ذكره عبد الرزاق عن إبراهيم بن زيد عن عمرو بن دينار عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين عن علي رضي الله عنه وهو غير متصل واختلف مالك والشافعي - والمسألة بحالها - في الإمام يتمادى في صلاته ذاكرا لجنابته أو ذاكرا أنه على غير وضوء أو مبتدئا صلاته كذلك وهو مع ذلك معروف بالإسلام فقال مالك وأصحابه إذا عرف الإمام بأنه على غير طهارة وتمادى في صلاته - بطلت صلاة من خلفه لأنه أفسدها عليهم‏.‏

وقال الشافعي صلاة القوم جائزة تامة ولا إعادة عليهم إذا لم يعلموا حال إمامهم لأنهم لم يكلفوا علم ما غاب عنهم وقد صلوا خلف رجل مسلم في علمهم وهو قول أكثر القائلين بأن الإعادة على من صلى خلف إمام جنب ناس لجنابته وإليه ذهب بن نافع صاحب مالك ومن حجتهم أنه لا فرق بين عمد الإمام ونسيانه لأنهم لم يكلفوا علم الغيب في حاله وإنما تفسد صلاتهم إذا علموا بأن إمامهم على غير طهارة فتمادوا خلفه فيكونون حينئذ المفسدين على أنفسهم‏.‏

وأما هو فغير مفسد بما لا يظهر من حاله إليهم لكن حاله في نفسه تختلف فيأثم في عمده إن تمادى بهم ولا إثم عليه إن لم يعلم ذلك وسها عنه‏.‏

وأما قول مالك فيمن رأى في ثوبه احتلاما لا يدري متى كان ولا يذكر شيئا رآه في منامه إنه يغتسل ويعيد ما صلى من أحدث نوم نامه ولم يعد ما كان قبله - فهذا من قول مالك يرد قول يرون على من شك في حدثه بعد أن أيقن بالوضوء إعادة الوضوء قال وذلك أنه صلى بطهارة مشكوك فيها وخالفه أكثر العلماء في ذلك فلم يروا الشك عملا ولا دفعوا به اليقين في الأصل وكان بن خواز منداذ يقول قول مالك فيمن شك في الحدث وهو على طهارة إن عليه الوضوء - استحباب واستحسان وكان عبد الملك بن حبيب يقول الوضوء عليه واجب ويقول في هذه المسألة يلزمه أن يعيد ما صلى من أول نوم نامه في ذلك الثوب إذا كان عليه لا يلبس معه غيره‏.‏