فصل: كتاب الجمعة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار ***


باب إتمام المصلي ما ذكر إذا شك في صلاته

183- مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏‏(‏إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا فليصلي ركعة وليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم فإن كانت الركعة التي صلى خامسة شفعها بهاتين السجدتين وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم ‏(‏1‏)‏ للشيطان‏)‏‏)‏ لم يختلف عن مالك في إرسال هذا الحديث إلا ما روي عن الوليد بن مسلم عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي - عليه السلام وقد ذكرنا في التمهيد من وصلة عن زيد بن أسلم من الثقات ومن أرسله عنه وتابع مالكا على ذلك قال الأثرم سألت أحمد بن حنبل عن حديث أبي سعيد في السهو أتذهب إليه قال نعم أذهب إليه قلت إنهم يختلفون في إسناده قال إنما قصر به مالك وقد أسنده عدة منهم بن عجلان وعبد العزيز بن أبي سلمة وفي هذا الحديث من الفقه أصل عظيم جسيم يطرد في أكثر الأحكام وهو أن اليقين لا يزيله الشك وأن الشيء مبني على أصله المعروف حتى يزيله يقين لا شك معه وذلك أن الأصل في الظهر أربع ركعات فإذا أحرم بها لزمه إتمامها فإن شك في ذلك فيقينه أنه على أصل فرضه في أربع ركعات لا يخرجه منه إلا يقين مثله وقد غلط قوم من عوام المنتسبين إلى الفقه في هذا الباب فظنوا أن الشك أوجب على المصلي إتمام صلاته والإتيان بالركعة واحتجوا بذلك لإعمال الشك في بعض نوازلهم وهذا غلط بين بل اليقين بأنها أربع ركعات فرضا أوجب عليه إتمامها ويوضح ذلك أيضا حديث أبي سعيد الخدري أن النبي -عليه السلام- قال ‏(‏‏(‏إذا أتى أحدكم الشيطان في صلاته فقال إنك أحدثت فلا ينصرف حتى يسمع بأذنيه صوته أو يجد بأنفه ريحه‏)‏‏)‏ وكذلك حديث عبد الله بن زيد بن عاصم قال شكا إلى رسول الله -عليه السلام- الرجل يخيل إليه الشيء في الصلاة فقال ‏(‏‏(‏لا تنصرف حتى تسمع صوتا أو تجد ريحا‏)‏‏)‏ ألا ترى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينقله عن أصل طهارته التي كان قد تيقنها بشك عرض له حتى يستيقن الحدث والأصل في هذا وفي البناء على اليقين سواء إلا أن مالكا قال من شك في الحدث بعد يقينه بالوضوء فعليه الوضوء ولم يتابعه على هذا القول أحد غيره إلا من قال بقوله من أصحابه وقد خالف بن نافع مالكا في هذه المسألة فقال لا وضوء عليه وقال أبو الفرج إن ذلك استحباب من مالك واحتياط منه وقال بن خواز منداد اختلفت الرواية عن مالك فيمن توضأ ثم شك هل احدث أم لا فقال عليه الوضوء وقال لا وضوء عليه قال وهو قول سائر الفقهاء قال أبو عمر مذهب الثوري وأبي حنيفة والأوزاعي والشافعي البناء على الأصل حدثا كان أو طهارة وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور وداود والطبري وقد قال مالك إن عرض له ذلك كثيرا فهو على وضوء وقال فيمن وجد في ثوبه احتلاما وقد بات فيه ليالي وأياما إنه لا يعيد صلاته ولا يغتسل إلا من أحدث نوم نامه وأجمع العلماء أن من أيقن بالحدث وشك في الوضوء أن شكه لا يفيد فائدة وأن الوضوء واجب عليه ولا خلاف - علمته - بين أهل المدينة وسائر فقهاء الأمصار أنه لا يرث أحد أحدا بالشك في حياته وموته وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن الزيادة في الصلاة لا تفسدها ما كانت سهوا أو في إصلاح الصلاة لأن الشاك في صلاته إذا أمرناه بالبناء على يقينه وهو يشك هل صلى واحدة أو اثنتين وممكن أن يكون صلى اثنتين فغير مأمون عليه أن يزيد في صلاته ركعة وقد أحكمت السنة أن ذلك لا يضره بل هو مأمور به وإذا كان ما ذكرنا كما ذكرنا بطل قول من قال إن من زاد في صلاته مثل نصفها ساهيا إن صلاته فاسدة وهو قول لبعض أصحابنا ضعيف لا وجه له يصح والصحيح في مذهب مالك غير ذلك وقد أجمع العلماء على أن من شك في صلاة الصبح هل صلى واحدة أو اثنتين حكمه في ذلك حكم من شك في مثل ذلك من صلاة الظهر أو العصر على أصله من قال بالتحري ومن قال بالبناء على اليقين على أن التحري عندنا يعود إلى البناء على اليقين على ما نبينه إن شاء الله وقد صلى رسول الله الظهر خمسا ساهيا فسجد لسهوه وحكم الركعة والركعتين في ذلك سواء في القياس والمعقول والأصول وقد زدنا هذا المعنى بيانا في التمهيد والحمد لله وفي هذا الحديث أيضا أن الساهي في صلاته إذا فعل ما يجب عليه فعله يسجد لسهوه وفيه أن سجود السهو في الزيادة قبل السلام وهذا موضع اختلف فيه العلماء فقال مالك وأصحابه ما قدمنا عنهم ذكره قالوا كل سهو كان نقصانا من الصلاة فالسجود له قبل السلام لحديث بن بحينة عن النبي عليه السلام‏.‏

184- أنه قام من اثنتين دون أن يجلس فسجد لسهوه قبل السلام وقد نقص الجلسة الوسطى والتشهد قال مالك وإن كان السهو زيادة فالسجود له بعد السلام على حديث ذي اليدين لأنه -عليه السلام- سها فسلم من ركعتين يومئذ وتكلم ثم انصرف وبنى فزاد سلاما وعملا وكلاما وهو ساه لا يظن أنه في صلاة ثم سجد بعد السلام وهذا كله قول أبي ثور ويقول مالك هذا ومن تابعه يصح استعمال الخبرين جميعا في الزيادة والنقص واستعمال الأخبار على وجوبها أولى من ادعاء النسخ فيها ومن جهة الفرق بين الزيادة والنقص بين في ذلك لأن السجود في النقصان إصلاح وجبر ومحال أن يكون الإصلاح والجبر بعد الخروج من الصلاة‏.‏

وأما السجود في الزيادة فإنما هو ترغيم للشيطان وذلك ينبغي أن يكون بعد الفراغ وجملة مذهب مالك وأصحابه أن من وضع السجود الذي قالوا إنه بعد - قبل فلا شيء عليه إلا أنهم أشد استثقالا لوضع السجود الذي بعد السلام قبل السلام وذلك لما رئي وعلم من اختلاف أهل المدينة في ذلك‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري السجود كله في السهو زيادة كان أو نقصانا بعد السلام وهو قول أبي سلمة بن عبد الرحمن وعمر بن عبد العزيز وحجة الكوفيين في ذلك حديث بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى خمسا ساهيا وسجد لسهوه بعد السلام وحديث المغيرة بن شعبة أنه قام من اثنتين وسجد بعد السلام وقد ذكرنا هذه الآثار كلها في التمهيد وعارضوا حديث بن بحينة بحديث المغيرة بن شعبة وزعموا أنه أولى لأن فيه زيادة التسليم والسجود بعده وهذا ليس بشيء لأن حديث بن بحينة ثابت بنقل الأئمة وحديث المغيرة ضعيف الإسناد ليس مثله بحجة ومن حجتهم أيضا من جهة النظر إجماعهم على أن حكم من سها في صلاته ألا يسجد في موضع سهو ولا في حاله تلك وأن حكمة أن يؤخر ذلك إلى آخر صلاته لتجمع السجدتان كل سهو في صلاته ومعلوم أن السلام قد يمكن فيه السهو أيضا فواجب أن تؤخر السجدتان عن السلام أيضا كما تؤخر أيضا عن التشهد وقال الأوزاعي الشافعي والليث بن سعد سجود السهو كله في الزيادة والنقصان قبل السلام وهو قول بن شهاب وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري وبن أبي ذئب وقال بن شهاب كان آخر الأمرين من رسول الله السجود قبل السلام والحجة لهم حديث مالك هذا عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار وهو عن أبي سعيد الخدري عن النبي عليه السلام صحيح وفيه البناء على اليقين وإلغاء الشك والعلم محيط بأن ذلك إن لم يكن زيادة لم يكن نقصانا وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من نابه ذلك في صلاته أن يسجد سجدتين قبل التسليم والزيادة مع ذلك ممكنة غير مدفوعة‏.‏

وأما النقصان فلحديث بن بحينة إذ قام من اثنتين وسجد قبل السلام وهو من أثبت ما يروى في باب سجود السهو عن النبي عليه السلام قالوا فعلمنا بهذا أن ليس المعنى في ذلك زيادة ولا نقصانا وأن المعنى في ذلك إصلاح الصلاة وإصلاحها لا يكون إلا قبل الفراغ منها وإنما جاز تأخير السجدتين عن جميع الصلاة ما خلا السلام لأن السلاح يخرج به من أن تكون السجدتان مصلحتين ألا ترى أن مدرك بعض الصلاة مع الإمام لا يشتغل بالقضاء ويتبع الإمام فيما بقي عليه حاشا السلام لما ذكرنا ولكل واحد منهم حجة من جهة النظر يطول ذكرها والمعتمد عليه ما ذكرنا وكل هؤلاء يقول إن المصلي لو سجد بعد السلام لم يضره وكذلك لو سجد بعد السلام فيا قالوا فيه السجود قبل السلام لم يضره ولم يكن عليه شيء‏.‏

وأما بن حنبل فذكر الأثرم قال سألت بن حنبل عن سجود السهو قبل السلام أم بعده فقال في مواضع قبل السلام وفي مواضع بعد السلام على حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين ومن سلم من ثلاث سجد أيضا بعد السلام على حديث عمران بن حصين وفي التحري يسجد بعد السلام على حديث بن مسعود حديث منصور وفي القيام من اثنتين يسجد قبل السلام على حديث بن بحينة وفي الشك يبني على اليقين ويسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد الخدري وحديث عبد الرحمن بن عوف قال أبو عمر قد ذكرنا حديث عبد الرحمن بن عوف أيضا في التمهيد وقال الأثرم قلت لابن حنبل فما كان سوى هذه المواضع قال يسجد فيها كلها قبل السلام لأنه يتم ما نقص من صلاته قال ولولا ما روي عن النبي -عليه السلام- لرأيت السجود كله قبل السلام لأنه من شأن الصلاة فيقضيه قبل السلام ولكن أقول كل ما روي عنه -عليه السلام- أنه سجد فيه بعد السلام فإنه يسجد فيه بعد السلام وسائر السهو يسجد فيه قبل السلام وقال داود لا يسجد أحد للسهو إلا في الخمسة المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلف الفقهاء أيضا فيمن شك في صلاته فلم يدر أواحدة صلى أم اثنتين أو لم يدر اثنتين صلى أم ثلاثا أو لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فقال مالك والشافعي يبني على اليقين ولا يجزيه التحري وروي ذلك عن الثوري وهو قول داود والطبري وحجتهم في ذلك حديث ‏(‏‏(‏أبي سعيد المذكور في هذا الباب وحديث‏)‏‏)‏ عبد الرحمن بن عوف وحديث بن عمر وما كان مثلها في البناء على اليقين‏.‏

وقال أبو حنيفة إذا كان ذلك أول ما شك استقبل صلاته ولم يتحر وإن لقي ذلك غير مرة تحرى وقال الحسن بن حي والثوري في رواية أخرى يتحرى سواء كان أول مرة أو لم يكن وقال الأوزاعي يتحرى قال وإن نام في صلاته فلم يدر كم صلى استأنف وقال الليث بن سعد إن كان هذا شيئا يلزمه ولا يزال يشك أجزأته سجدتا السهو عن التحري وعن البناء على اليقين فإن لم يكن شيئا يلزمه استأنف ركعة بسجدتيها‏.‏

وقال أحمد بن حنبل الشك على وجهين اليقين والتحري فمن رجع إلى اليقين ألغى الشك وسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد الخدري وإذا رجع إلى التحري وهو أكثر الوهم سجد سجدتي السهو بعد السلام على حديث بن مسعود الذي يرويه منصور وبه قال أبو خيثمة زهير بن حرب وقال جماعة من أهل العلم منهم داود التحري هو الرجوع إلى اليقين قال أبو عمر من جعل التحري والرجوع إلى اليقين سواء صح له استعمال الخبرين بمعنى واحد وأي تحر يكون لمن انصرف وهو شاك لم يبن على يقينه ومعلوم أن من تحرى وعمل على أغلب ظنه وأكثره عنده أن شعبة من الشك تصحبه إذا لم يبن على يقينه وقد ذكرنا علة حديث بن مسعود من رواية منصور وغيره في التحري في كتاب التمهيد‏.‏

185- وأما حديث مالك عن عمر بن زيد عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر كان يقول إذا شك أحدكم في صلاته فليتوخ الذي يظن أنه نسي من صلاته فليصله ثم ليسجد سجدتي السهو وهو جالس وهذا عندي هو البناء على اليقين لأنه قد أمره أن يصلي ما ظن أنه نسيه من صلاته وقد وروى هذا الحديث سليمان بن بلال عن عمرو بن محمد عن سالم عن أبيه عن النبي -عليه السلام- مرفوعا - وليس في شيء من الأحاديث المرفوعة والموقوفة عن الصحابة فرق بين من اعتراه ذلك أول مرة أو مرة بعد مرة‏.‏

186- وكذلك حديث مالك عن نافع عن بن عمر أنه كان إذا سئل عن النسيان في الصلاة قال ليتوخ أحدكم الذي يظن أنه نسي من صلاته فليصله هو على ما قلنا والله أعلم وقد تأول الكوفيون ومن قال بالتحري - وهو العمل على أكثر الظن في حديثي بن عمر هذين قوله يتوخى - أنه أراد العمل على أكثر الظن وتأويلنا أحوط وأشبه بالأصول لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏‏(‏من لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فليجعلها ثلاثا‏)‏‏)‏ وهذا المعنى هو ما ذكره مالك عن عفيف بن عمر السهمي عن عطاء بن يسار أنه قال‏.‏

187- سألت عبد الله بن عمرو بن العاص وكعب الأحبار عن الذي يشك في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا فكلاهما قال ليصل ركعة أخرى ثم ليسجد سجدتين وهو جالس وهذا معنى حديث أبي سعيد الخدري عن النبي -عليه السلام- فصار سنة معمولا بها وهذا الباب كله فيه البناء على اليقين والسجود قبل السلام عن النبي -عليه السلام- وعن بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وكعب الأحبار وهو قول من ذكرنا قوله من الفقهاء وما توفيقنا إلا بالله تعالى‏.‏

باب من قام بعد الإتمام أو في الركعتين

188- مالك عن بن شهاب عن الأعرج عن عبد الله بن بحينة أنه قال صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم قام فلم يجلس فقام الناس معه فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبر ثم سجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم ثم سلم وذكر عن يحيى بن سعيد عن الأعرج عن بن بحينة مثله بمعناه وقد ذكرنا بن بحينة في كتاب الصحابة بما فيه كفاية وفي هذا الحديث بيان أن أحدا لا يسلم من الوهم والنسيان لأنه إذا اعترى ذلك الأنبياء فغيرهم بذلك أحرى وقد يكون ذلك منه -عليه السلام- ليسن لأمته كما جاء عنه ‏(‏‏(‏إني لأنسى أو أنسي لأسن‏)‏‏)‏ وفي هذا الحديث من الفقه أن المصلي إذا لم يجلس في اثنتين وقام واعتدل قائما لم يكن له أن يرجع وإنما قلنا واعتدل قائما لأن الناهض لا يسمى قائما حتى يعتدل فالقائم هو المعتدل وفي حديث مالك في هذا الباب ثم قام ولم يجلس وإنما قلنا إنه لا ينبغي له إذا اعتدل قائما ان يرجع إلى الجلوس لأنه معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتدل قائما لا يخلو أمره من أن يذكر بنفسه أو يذكره من خلفه بالتسبيح ولا سيما قوما قد قيل لهم ‏(‏‏(‏من نابه شيء في صلاته فليسبح‏)‏‏)‏ وهم أولو النهي وأولى من عمل بما حفظ ووعى وأي الحالين كان فلم ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجلوس بعد قيامه ذلك فمن ها هنا قلنا لا ينبغي لمن اعتدل قائما أن ينصرف إلى الجلوس وقد روى المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قام من اثنتين واعتدل فسبحوا به فلم ينصرف وتمادى في صلاته ثم سجد لسهوه وفعل ذلك المغيرة وسبحوا به فلم يرجع وقال لهم كذلك صنع رسول الله وعن سعد بن أبي وقاص مثل حديث المغيرة سواء وقد ذكرناها بأسانيدها في التمهيد فإن رجع إلى الجلوس بعد قيامه لم تفسد صلاته عند جمهور العلماء لأنه رجع إلى أصل ما كان عليه وسهوه في قيامه متجاوز عنه وقد بان بالسنة أن الزائد في صلاته ساهيا غير مفسد لها والذي يقصد إلى عمل يظن أنه قد أسقطه من صلاته أحرى بذلك وقد قال بعض المتأخرين تفسد صلاته وهو قول ضعيف لا وجه له واختلف العلماء في هذه المسألة فقال مالك من قام من اثنتين تمادى ولم يجلس وسجد قبل السلام على حديث بن بحينة هذا فإن عاد إلى الجلوس بعد قيامه فصلاته تامة وتجزيه سجدتا السهو قال بن القاسم وأشهب يسجدهما بعد السلام لأنه زاد في صلاته القيام والانصراف وقال علي بن زياد يسجدهما قبل السلام وقد روى عن أشهب لأنه قد وجب ذلك عليه في قيامه ورجوعه إلى الجلوس زيادة فكأنه زاد ونقص قال أبو عمر قول بن القاسم وأشهب أولى بالصواب على أصل مالك إلا أن السجود في الزيادة قبل السلام قد مضى ما جاء فيه في الباب قبل هذا‏.‏

وقال الشافعي إذا ذكر ولم يستتم قائما لم يرجع وهو قول علقمة والأسود وقتادة والضحاك والأوزاعي وفي قول الشافعي إذا رجع إلى الجلوس سجد سجدتي السهو والسجود عنده قبل السلام وفي قول علقمة والأسود لا يسجد إن رجع إلى الجلوس كأنهما يقولان لم ينقص شيئا فيجبره والنبي -عليه السلام- قد أكمل صلاته يوم ذي اليدين وسجد وصلى خمسا وسجد فدل أن السجود للسهو لا للنقصان وقال حسان بن عطية إذا تجافت ركبتاه عن الأرض مضى وقال الحسن البصري ينصرف ويقعد وإن قرأ ما لم يركع قال أبو عمر قد روى سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن المغيرة بن شبيل عن قيس بن أبي حازم عن المغيرة بن شعبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏إذا قام الإمام في الركعتين فإن ذكر قبل أن يستوي قائما فليجلس فإن استوى قائما فلا يجلس وسجد سجدتي السهو‏)‏‏)‏ ذكره أبو داود وقال ليس في كتابي عن جابر الجعفي إلا هذا الحديث قال أبو عمر في حديث بن بحينة هذا وحديث المغيرة بن شعبة عن النبي -عليه السلام- دليل على صحة ما ذهب إليه أصحابنا ومن قال بقولهم في أن الجلسة الوسطى سنة لا فريضة لأنها لو كانت من فرائض الصلاة لرجع الساهي عنها إليها حتى يأتي بها كما لو ترك سجدة أو ركعة ولروعي فيها ما يراعى في السجود والركوع من الموالاة والرتبة وقد سبح برسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرجع إليها وسجد لسهوه وفي حديث بن بحينة أنه علم بها فلم يقضها وسجد لسهوه عنها ولو كانت فرضا لم يسقطها النسيان والسهو لأن الفرائض في الصلاة يستوي في تركها السهو والعمد إلا في المأثم وقد ذهب آخرون إلى الجلسة الوسطى فرض وأنها مخصوصة من بين سائر فروض الصلاة بأن ينوب عنها السجود كالعرايا من المزابنة وكسقوط بعد الإحرام لمن وجد الإمام راكعا وبأنها لا يقاس عليها شيء من أعمال البدن في الصلاة فدل على خصوصها واحتجوا بأنها لو كانت سنة ما كان العامد لتركها تبطل صلاته كما لا تبطل بترك سنن الصلاة إذا أتى بفرائضها وبما أجمعوا عليه في سائر أعمال البدن أنها فرض في الصلاة من أولها إلى آخرها من قيام وقعود وركوع وسجود والقول الأول أصح من جهة الأثر والنظر إن شاء الله وقد أوضحنا معنى القولين وما اخترنا من ذلك مع سائر معاني هذا الباب في التمهيد والحمد لله وشذت فرقة فأوجبتها فرضا وأوجبت الرجوع إليها ما لم يعمل المصلي بعدها ما يمنعه من الرجوع إليها وذلك عند ركعته التي قام إليها برفعه رأسه منها وقولهم هذا ليس بشيء لأن الفرض من عمل البدن في الصلاة ينصرف إليه ويرتب مع ما بعده ولا يسلم من الصلاة إلا أن يؤتى به مع الذكر وهذا أيضا مردود بالسنة في حديث بن بحينة وغيره فلا وجه للاشتغال به واختلفوا في الجلسة الأخيرة هل هي فرض أيضا أم لا فذهب جمهور أهل العلم وجماعة فقهاء الأمصار إلى أنها فرض واجب تفسد صلاة من لم يأت بها ساهيا كان أو عامدا إلا فرقة صغيرة منهم بن علية فإنه ذهب إلى أن الجلسة الآخرة ليست بفرض واجب قياسا على الجلسة الوسطى واحتج بحديث بن بحينة وغيره في القيام من اثنتين وبحديث عبد الله بن عمرو عن النبي عليه السلام أنه قال ‏(‏‏(‏إذا رفع الإمام رأسه من آخر سجدة في صلاته ثم أحدث فقد تمت صلاته‏)‏‏)‏ وهذا لفظ لا يصح في حديث عبد الله بن عمرو عن النبي -عليه السلام- ولا هذا الحديث يصح أصلا لأنه انفرد به الإفريقي عبد الرحمن بن زياد لم يروه غيره وليس بحجة فيما يرويه وينفرد به عند الجميع لضعفه في نقله وهذا اللفظ في رفع الرأس من آخر الصلاة إنما هو مروي عن علي وقال به طائفة والمحفوظ في حديث عبد الله بن عمرو من رواية الإفريقي أن النبي -عليه السلام- قال ‏(‏‏(‏إذا جلس أحدكم في آخر صلاته فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته‏)‏‏)‏ وهذا اللفظ إنما يسقط السلام لا الجلوس وقد عارض هذا الحديث ما هو أقوى منه نقلا وهو قوله عليه السلام ‏(‏‏(‏تحليلها التسليم‏)‏‏)‏ والحجة في السنة لا فيما قال والجمهور حجة على من شذ منهم لأنه لا يجوز على جميعهم جهل ما علمه الشاذ المنفرد على أن بن علية يوجب فساد صلاة من لم يأت بأعمال الصلاة سننها وفرائضها وكل ما عمله النبي -عليه السلام- في الصلاة عنده ولم يختلف عنه فيه فهو واجب عنده تفسد الصلاة بتركه وله إغراق في القياس وشذوذ عن العلماء كثير وليس عندهم ممن يعتمد عليه والله أعلم‏.‏

وأما اختلاف العلماء في سجود السهو فقال بن شهاب ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة بن أبي عبد الرحمن والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي السجود كله قبل السلام وروي هذا القول عن بن عباس وأبي هريرة والسائب بن السائب وعبد الله بن الزبير ومعاوية وبه قال مكحول والحجة لقائلي هذا القول ما تقدم في هذا الباب والباب الذي قبله من سجود رسول الله حين قام من اثنتين وحين أمر بالبناء على اليقين من حديث أبي سعيد وبن عباس وعبد الرحمن بن عوف قبل السلام في الوجهين جميعا والبناء على اليقين ليس فيه نقصان حدثني خلف بن القاسم قال حدثنا أبو الميمون حدثنا أبو زرعة الدمشقي حدثنا أبو مسهر عن محمد بن مهاجر عن أخيه عمرو بن مهاجر أن الزهري قال لعمر بن عبد العزيز السجدتان قبل السلام فقال له أبى ذلك علينا أبو سلمة بن عبد الرحمن يا زهري‏.‏

وحدثنا خلف حدثنا أبو الميمون حدثنا أبو زرعة حدثنا سعيد بن أبي مريم قال أخبرني يحيى بن أيوب قال أخبرني محمد بن عجلان أن بن شهاب أخبره أن عمر بن عبد العزيز صلى للناس المغرب فسها فنهض من ركعتين فقال الناس سبحان الله فلم يجلس فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين بعد السلام ثم انصرف فسأل بن شهاب فقال أصبت إن شاء الله والسنة على غير الذي صنعت فقال له عمر كيف قال تجعلهما قبل السلام قال عمر إني قلت إنه دخل على ولم يدخل عليهم فقال بن شهاب ما دخل عليك دخل عليهم قال سفيان الثوري والحسن بن حي وأبو حنيفة وأصحابه السجود كله بعد السلام وروي ذلك عن علي وبن مسعود وسعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر وعمران بن حصين والمغيرة بن شعبة والضحاك بن قيس واختلف في ذلك عن بن عباس وبن الزبير ومعاوية وبه قال الحسن البصري وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعمر بن عبد العزيز وإبراهيم النخعي وبن أبي ليلى وحجتهم في القيام من اثنتين حديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله قام من اثنتين وسجد بعد السلام وحديث بن مسعود أن رسول الله سجد بعد السلام إذ صلى خمسا ونحو ذلك مما قد ذكرنا في الباب قبل هذا‏.‏

وقال مالك وأصحابه كل سهو كان نقصانا في الصلاة فالسجود له قبل السلام على حديث بن بحينة في هذا الباب وكل سهو كان زيادة فالسجود له بعد السلام على حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين وقد ذكرنا قول بن حنبل في الباب قبل هذا وقول داود أيضا وحديث بن بحينة عند بن حنبل أصح من حديث المغيرة وبه يقول في القيام من اثنتين وحديث المغيرة يدور على بن أبي ليلى وليس بالحافظ ولا ممن يحتج به فيما خولف فيه وقد أوضحنا معاني هذا الباب في التمهيد والحمد لله واختلف الفقهاء أيضا في التشهد في سجدتي السهو والسلام منهما فقالت طائفة لا تشهد فيهما ولا تسليم وروي ذلك عن أنس والحسن البصري ورواية عن عطاء وهو قول الأوزاعي والشافعي لأن السجود كله عندهما قبل السلام فلا وجه عندهما لإعادة التشهد وقد روي عن عطاء إن شاء تشهد وسلم وإن شاء لم يفعل‏.‏

وأما الشافعي فيرى التشهد فيهما واجبا حكاه البويطي عنه وهو ممن يقول هما قبل السلام وقال آخرون يتشهد فيهما ولا يسلم قاله يزيد بن قسيط ورواية عن الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان وإبراهيم النخعي وقال آخرون فيهما تشهد وتسليم روي ذلك عن بن مسعود وإبراهيم النخعي والحكم وحماد وبه قال مالك وأكثر أصحابه والثوري وأبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد‏.‏

وقال أحمد بن حنبل إن سجد قبل السلام لم يتشهد وإن سجد بعد السلام تشهد وبهذا قالت طائفة من أصحاب مالك ورووه أيضا عن مالك وقال بن سيرين يسلم منهما ولا يتشهد فيهما قال أبو عمر من رأى السلام فيهما فعلى أصله من تسليمة واحدة أو تسليمتين وقد صح عن النبي -عليه السلام- أنه سلم من سجدتي السهو في حديث عمران بن حصين إذ سلم من ثلاث ثم سجد بعد السلام وهو حديث صحيح ثابت ومن رأى السجود قبل السلام فلا يحتاج إلى هذا لأن السلام من الصلاة هو السلام على ما في حديث بن بحينة في هذا الباب‏.‏

وأما التشهد في سجدتي السهو فلا أحفظه من وجه صحيح عن النبي -عليه السلام- وأما التكبير في الخفض والرفع فمحفوظ ثابت في حديث بن بحينة من رواية بن شهاب وغيره وقد ذكرنا طرقة عن بن شهاب في ‏(‏‏(‏التمهيد‏)‏‏)‏ وفيما وصفنا من رواية الثقات من أصحاب بن شهاب عنه عن الأعرج عن بن بحينة وفي حديث أبي هريرة يوم ذي اليدين مثل ذلك وقد مضى في بابه والحمد لله‏.‏

وأما اختلاف العلماء في حكم الجلوس الآخر في الصلاة وما الفرض في ذلك فعلى خمسة أقوال أحدها أن الجلسة الآخرة فرض والتشهد فرض والسلام فرض وممن قال بذلك الشافعي وأصحابه وأحمد في رواية وداود وكذلك حكى أبو مصعب في مختصره عن مالك وأهل المدينة وحجتهم أن بيانه عليه السلام في الصلاة فرض لأن الأصل فرضها مجمل مفتقر إلى البيان فكل ما عمله -عليه السلام- فيها فرض إلا ما قام الدليل على أنه سنة لا فرض واحتجوا بالإجماع على وجوب عدد الركعات فيها والسجود وغير ذلك مما هو واجب ببيان النبي -عليه السلام- له بفعله واحتجوا أيضا بقوله -عليه السلام- ‏(‏‏(‏صلوا كما رأيتموني أصلي‏)‏‏)‏ وبأشياء يطول ذكرها والقول الثاني أن الجلوس فيها فرض والسلام فرض واجب وليس التشهد بواجب وممن قال ذلك مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل في رواية وحجتهم أن عمل اليدين كله فرض للإجماع على فرض القيام والركوع والسجود فكذلك كل عمل البدن إلا ما خرج بدليل وهو الجلسة الوسطى ومن حجتهم أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج قط من صلاة إلا بالتسليم وقال ‏(‏‏(‏تحريمها التكبير وتحليلها التسليم‏)‏‏)‏ وقام من اثنتين ولم يتشهد فسقط التشهد لذلك ولأنه ذكر ولا شيء من الذكر واجب غير تكبيرة الإحرام وقراءة أم القرآن والتسليم والقول الثالث أن الجلوس مقدار التشهد فرض وليس التشهد ولا التسليم بواجب فرضا وممن قال بذلك أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين واحتجوا بنحو ما تقدم في بيان عمل الصلاة وعمل البدن بحديث عبد الرحمن بن زياد الإفريقي أن عبد الرحمن بن رافع وبكر بن سوادة حدثاه عن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏إذا جلس الرجل في آخر صلاته فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته‏)‏‏)‏ وهكذا رواه بن المبارك عن الإفريقي وهو أثبت من رواه عنه والقول الرابع أن الجلوس والتشهد واجبان وليس السلام بواجب قاله جماعة منهم إسحاق بن راهويه واحتج إسحاق بحديث بن مسعود حين علمه رسول الله التشهد وقال له إذا فرغت من هذا فقد تسمت صلاتك وقضيت ما عليك‏)‏‏)‏ والقول الخامس أن ليس الجلوس فيها ولا التشهد ولا السلام بواجب وإنما ذلك كله سنة مسنونة وهذا قول بعض البصريين وإليه ذهب بن علية وصرح بقياس الجلسة الآخرة على الأولى فخالف الجمهور وشذ إلا أنه يرى الإعادة على من ترك شيئا من ذلك كله واحتج برواية من روى في حديث الإفريقي بإسناده المذكور ‏(‏‏(‏إذا رفع رأسه وأحدث ولم يذكر جلوسا‏)‏‏)‏ وهو حديث لا حجة فيه لضعفه واختلافهم أيضا في لفظه وبالله التوفيق لا شريك له‏.‏

وأما قول مالك فيمن سها في صلاته فقام بعد إتمامه الأربع فقرأ ثم ركع فلما رفع رأسه من ركوعه ذكر انه قد كان أتم إنه يرجع فيجلس ولا يسجد ولو سجد إحدى السجدتين لم أر أن يسجد الأخرى ثم إذا قضى صلاته فليسجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم - فالأصل في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسا فقال رجل أزيد في الصلاة قال ‏(‏‏(‏وما ذاك‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا صليت خمسا قال فثنى رجله وسجد سجدتين وهذا حديث صحيح رواه شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله وقد أجمعوا أن من زاد في صلاته عامدا شيئا وإن قل من غير الذكر المباح فسدت صلاته وفيما أجمعوا عليه من ذلك ما يصحح لك ما قاله هناك مالك وهذا أصل وإجماع لا مدخل للقول فيه والسجود عنده في الزيادة بعد السلام على ما قدمنا من أصله وقد بينا ذلك كله والحمد لله‏.‏

باب النظر في الصلاة إلى ما يشغلك عنه

189- مالك عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت أهدى أبو جهم بن حذيفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم خميصة شامية لها علم فشهد فيها الصلاة فلما انصرف قال ‏(‏‏(‏ردي هذه الخميصة إلى أبي جهم فإني نظرت إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنني‏)‏‏)‏ هذا الحديث رواه رواة الموطإ كلهم عن مالك عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه عن عائشة وسقط ليحيى وحده عن أمه وقد بينا ذلك في التمهيد واسم أبي جهم عبيد بن حذيفة بن غانم العدوي القرشي من بني عدي بن كعب‏.‏

190- وذكر عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس خميصة لها علم ثم أعطاها أبا جهم وأخذ من أبي جهم أنبجانية له فقال يا رسول الله ولم فقال ‏(‏‏(‏إني نظرت إلى علمها في الصلاة‏)‏‏)‏ وقد روى هذا الحديث بن شهاب عن عروة عن عائشة أن النبي -عليه السلام- صلى في خميصة لها علم فقال ‏(‏‏(‏شغلني أعلام هذه اذهبوا بها إلى أبي جهم وأتوني بأنبجانية‏)‏‏)‏ هكذا هو في حديث الزهري بالتذكير وفي حديث مالك أنبجانية له وإنما هو كساء أنبجاني والكساء لا يؤنث إلا أن يكون أراد خميصة أو شملة أو نحو هذا والخميصة كساء صوف رقيق بعلم أكثر شيء وقد يكون بغير علم والخمائص من لبس الأشراف في أرض العرب وقد يكون العلم فيها أحمر وأصفر وأخضر‏.‏

وأما الأنبجاني فكساء صوف غليظ لا علم فيه وقال بن قتيبة إنما هو كساء منبجاني قال ولا يقال أنبجاني لأنه منسوب إلى منبج قال وفتحت باؤه في النسب لأنه خرج مخرج منظراني ومخبراني وقال ثعلب أنبجانية بكسر الباء وكسرها كل ما كثف والتف قالوا شاة أنبجانية أي كثيرة الصوف ملتفته وغير بن قتيبة يقول جائز أن يقال أنبجاني كما جاء في الحديث لأن رواته عرب فصحاء ومن الأنساب ما يجري على غير قياس وإنما هو مسموع وهذا لو صح أنه منسوب إلى منبج وفي هذا الحديث من الفقه قبول الهدايا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويأكلها ولا يأكل الصدقة والهدية من أفعال المسلمين الكرماء والصالحين والفضلاء ويستحبها العلماء ما لم يسلك بها سبيل الرشوة لدفع حق أو تحقيق باطل أو أخذ على حق يجب القيام به وقد أوضحنا ما يجب من الهدايا لإمام المسلمين وعماله وسائر الناس من قبل المسلمين ومن قبل أهل الذمة والحربيين في موضعه من هذا الكتاب‏.‏

وأما قوله ‏(‏‏(‏نظرت إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنني‏)‏‏)‏ فإن قوله كاد يفتنني دليل على أن الفتنة لم تقع وكاد في اللغة توجب القرب وتدفع والوقوع ولهذا قال بعض العلماء لا يخطف البرق بصر أحد لقوله تعالى ‏(‏يكاد البرق يخطف أبصارهم‏)‏ ‏[‏البقرة 20‏]‏‏.‏

والفتنة التي خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنزل به بسبب تلك الخميصة ونظره إلى علمها - هو الشغل عن إقامة الصلاة بما يجب فيها من خشوع وعمل وفكره فيما هو فيه لأنه بين يدي الرب العظيم لا إله إلا هو حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا محمد بن عبد السلام حدثنا بن أبي عمر حدثنا سفيان عن منصور بن عبد الرحمن عن خاله مسافع بن عبد الله بن شيبة عن صفية بنت شيبة عن امرأة من بني سليم أنها قالت لعثمان بن طلحة لم دعاك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خروجه من البيت فقال قال ‏(‏‏(‏إني رأيت قرني الكبش في البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما ‏(‏2‏)‏ فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل مصليا وسفيان عن منصور وغيره عن إبراهيم أنه كان يكره أن يكون في البيت شيء يشغل مصليا وسفيان عن منصور وغيره عن إبراهيم أنه كان يكره أن يكون في القبلة شيء معلق مصحف أو سيف أو نحوه وسفيان عن الأحوص بن حكيم عن راشد بن سعد قال تقدم أبو الدرداء أن يصلي بالناس بحمص فرأى في القبلة عرقة فقال غطوا عنا هذه العرقة وقال نعيم بن حماد عن سفيان بن عيينة إنما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخميصة إلى أبي جهم لأنه كرهها إذ كانت سبب غفلة وشغل عن ذكر الله كما قال ‏(‏‏(‏ أخرجوا عن هذا الوادي الذي أصابتكم فيه الغفلة فإنه واد به شيطان ‏(‏2‏)‏ قال ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إلى غيره ما يكرهه لنفسه ألا ترى إلى قوله لعائشة ‏(‏‏(‏لا تتصدقي مما لا تأكلين‏)‏‏)‏‏.‏

قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى خلق الله على دفع الوسوسة ولكن كرهها للغفلة عن الذكر هذا كله قول بن عيينة ومما قدمته فيما ظهر إلي أولى بتأويل الحديث إن شاء الله ولأنه معلوم أنه -عليه السلام- لما رد الخميصة إلى مهديها بعد أن أعلمهم وأعلمه بما نابه فيها - كان ذلك دليلا على أنه يستحب لباسها في الصلاة لأنه لا محالة أحرى بأن يخشى على نفسه من الشغل بها في صلاته فوق ما خشيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ولهذا -والله أعلم- كان إخبارهم له بما عرض له في صلاته بالنظر إليها وقد يمكن أن يكون إعلامه بما نابه في الخميصة عند ردها إلى أبي جهم لتطيب نفسه وقد ذهب عنه ما لا يكاد ينفك منه من ردت هديته عليه وفيه دليل على أن الواهب والمهدي إذا ردت عليه عطيته من غير أن يكون هو الذي يرجع فيها فإن له أن يقبلها‏.‏

وأما قوله ‏(‏‏(‏وأتوني بأنبجانية له‏)‏‏)‏ أو بأنبجانية‏)‏‏)‏ على الرواية في ذلك - ففيه دليل على أن من ردت عليه هديته يشق ذلك عليه فلذلك أنسه رسول الله بأن أخذ منه كساء آخر لا علم فيه ليعلم أنه لم يرد عليه هديته استخفافا به ولا قلى له ولا كراهية لكسبه والله أعلم وفيه أن كل ما يشغل المرء في صلاته إذا لم يمنعه من إقامة فرائضها وأركانها لا يفسدها ولا يوجب عليه إعادتها وقد ذكرنا في التمهيد حديث أنس قال كان لعائشة قرام قد سترت به جانب بيتها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏أميطي ‏(‏3‏)‏ عنا قرامك فإنه لا تزال تعرض لي تصاويره في صلاتي وروى علي بن المدني قال حدثني يعقوب بن إبراهيم بن سعد قال حدثني أبي عن بن إسحاق قال حدثني عبد الله بن كعب مولى عثمان بن عفان عن خارجة بن زيد بن ثابت قال سمعت معاذا القارئ يسأل أبي زيد بن ثابت عن الرجل يصلي والرجل في قبلته مستقبله بوجهه فقال إني ما أبالي أعمود من عمد المسجد استقبلني في صلاتي أو استقبلني رجل إن الرجل لا يقطع صلاة الرجل قال أبو عمر إنما كرهه من كرهه خشية أن يشغله النظر إليه عن شيء من صلاته وربما كان منه ما يشغل المصلي الذي يستقبله‏.‏

191- وأما حديثه في هذا الباب عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن أبا طلحة الأنصاري كان يصلي في حائطه فطار دبسي فطفق يتردد يلتمس مخرجا فأعجبه ذلك فجعل يتبعه بصره ساعة ثم رجع إلى صلاته فإذا هو لا يدري كم صلى فقال لقد أصابتني في مالي هذا فتنة وذكر تمام الخبر فإن من لم يدر كم صلى لشغل شغل نفسه أو لما شاء الله من نحو ذلك - فإن السنة قد أحكمت فيه أن يبني على يقينه على ما تقدم في حديث أبي سعيد وغيره وفي هذا الحديث دليل على ما كان عليه أبو طلحة من خوف الله والبدار إلى طاعته ولن يتقرب إلى الله بعد الفرائض بمثل الصدقات فإنها تطفئ غضب الله وتصرف من مصارع السوء إن شاء الله‏.‏

وأما قوله لقد أصابني في مالي هذا فتنة فإن الفتنة هنا ما بلغ به من شغل نفسه حتى لم يدر كم صلى وكل من أصابته مصيبة في دينه فقد فتن على قدر تلك المصيبة وللفتنة في اللغة والشريعة وجوه قد ذكرتها في التمهيد وفيه دليل أن ما جعل الله مطلقا ولم يعين السبيل من سبل الله ما هي أن الإمام والحاكم يضعها حيث رآه من سبل البر ووجوه الخير وينفذ بلفظ الصدقة لله ولذلك قال أهل العلم إن الصدقة لا رجوع فيها لأنها لله وليس لفظ الهبة ولا العطية ولا المنحة كذلك وقالوا في الدبسي إنه طائر يشبه اليمامة وقد قيل إنه اليمامة نفسها وقوله طفق يتردد كقوله جعل يتردد وفيه لغتان طفق يطفق وطفق يطفق‏.‏

192- وأما حديثه الآخر عن عبد الله بن أبي بكر أن رجلا من الأنصار كان يصلي في حائط له بالقف واد من أودية المدينة الحديث فإن الكلام فيه والكلام في الذي قبله سواء إلا أن عثمان بن عفان فهم عن الأنصاري مراده فباع المال بخمسين ألف درهم وتصدق بها عنه ولم يجعل الحائط وقفا وقد اختلف في الأفضل من الصدقات بالرقاب ومن الصدقات الموقوفات وكلاهما خير وعمل صالح وليس الآبار كالعيون والله أعلم إلا أن الدائم جار على صاحبه ما لم تعتره آفة فآفات الدهر كثيرة وفي أحاديث هذا الباب ما يوجب القول في موضع نظر المصلي إلى أين يكون فأما مالك فقال يكون نظر المصلي أمام قبلته وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي والحسن بن حي يستحب أن يكون نظر المصلي إلى موضع سجوده وقال شريك القاضي ينظر في القيام إلى موضع السجود وفي الركوع إلى موضع قدميه وفي السجود إلى أنفه وفي قعوده إلى حجره قال أبو عمر هذا التحديد ليس على النظر في الأصول ما يوجبه وحسب المصلي أن يقبل على صلاته ولا يلتفت يمينا ولا شمالا فإنه مكروه له ومن فكر فيما هو فيه من صلاته وأقبل على ما يعنيه منها شغله ذلك عن النظر إلى غيرها وبالله التوفيق بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏

كتاب السهو

باب العمل في السهو

هذا الباب كله محمول عند مالك وأصحابه على أنه من يكثر عليه الوهم فلا ينفك منه أو لا يكاد ينفك منه فيسمونه المستنكح بكثرة الوهم فمن كانت هذه حاله أجزأه أن يسجد سجدتين بعد التسليم لترغيم الشيطان وفي حديث هذا الباب الذي رواه مالك عن بن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏.‏

193- إن أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس فأخبر أن الشيطان لبس عليه فلذلك يرغمه بالسجدتين لأنه يقال ليس على الشيطان عمل أثقل ولا أصعب من سجود بن آدم لربه وذلك والله أعلم لما لحقه من سخط الله عند امتناعه من السجود لآدم وإنما جاز لهذا ومن كان مثله سجود السهو عند البناء على يقينه لأنه شيء لا ينفك عنه يعتريه أبدا ولا يؤمن عليه فيما يقضيه أن ينوبه مثل ما نابه إذ قد علم من نفسه أنه لا يسلم من الوسوسة في ذلك ولذلك أردف مالك حديثه المسند في هذا الباب بما بلغه عن القاسم بن محمد أن رجلا سأله فقال إني أهم في صلاتي فيكثر ذلك علي فقال القاسم امض في صلاتك فإنه لن يذهب عنك حتى تنصرف وأنت تقول ما أتممت صلاتي قال أبو عمر هذا عندي فيمن يغلب عليه أنه يعتريه ذلك مع إتمام صلاته وأن تلك الوسوسة قد علم من نفسه فيها أنها تعتريه وقد أكمل ما عليه من العمل في الأغلب وأنه لا ينفك منها والأغلب عنده أنها وسوسة تنوبه مع حاله تلك ولم يكن يعرف من نفسه قبل أن يعتريه ذلك إلا الإتمام والله أعلم‏.‏

وأما من كان الأغلب عليه أنه لم يكمل صلاته فالحكم فيه أن يبني على يقينه فإن اعتراه ذلك فيما يبني لها أيضا عنه على ما جاء عن القاسم وغيره ويدلك على أن حديث هذا الباب غير حديث البناء على اليقين أن أبا سعيد الخدري هو الذي روى فيمن لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا أن يصلي ركعة وهو على البناء على اليقين في أصل فرضه ألا يخرج عنه إلا بيقين وقد ذكرنا في الباب قبل هذا عند ذكر حديث مالك عن زيد بن أسلم في البناء على اليقين من قال من العلماء بالتحري في معنى هذا الحديث أيضا فأغنى ذلك عن ذكره ها هنا وقد روى أبو سعيد عن النبي عليه السلام أنه قال إذا صلى أحدكم فلم يدر أزاد أم نقص فليسجد سجدتين وهو قاعد فإذا أتاه الشيطان فقال إنك أحدثت فليقل كذبت إلا أن يجد ريحا بأنفه أو صوتا بأذنه رواه يحيى بن أبي كثير عن هلال بن عياض عن أبي سعيد الخدري وقد أسندناه في التمهيد فهذا أبو سعيد الخدري قد روى في هذا المعنى مثل ما روى أبو هريرة وحصل في ذلك عن أبي سعيد حديثان ومحال أن يكون معناهما واحدا باختلاف ألفاظهما بل لكل واحد منهما موضع وهو ما ذكرنا من أن هذا في الذي يعتريه الشك دأبا لا ينفك منه قد استنكحه ومع ذلك فقد أتم في أغلب ظنه عند نفسه والحديث الآخر على من لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا مثل حديث عبد الرحمن بن عوف وقد ذكرنا أسانيدها كلها في التمهيد وبمعنى ما ذكرنا فسر الليث بن سعد حديث هذا الباب حكاه عنه بن وهب وهو قول مالك وأصحابه وذكر عيسى بن دينار في كتاب الصلاة من كتاب المدونة عن بن القاسم عن مالك قال إذا كثر السهو على الرجل ولزمه ذلك ولا يدري أسها أم لا سجد سجدتي السهو بعد السلام ثم قيل لابن القاسم أرأيت رجلا سها في صلاته ثم نسي سهوة فلا يدري أقبل السلام أم بعده قال يسجد قبل السلام قال أبو مصعب من استنكحه السهو فليله عنه وليدعه ولو سجد بعد السلام لكان حسنا ومذهب الشافعي فيمن وصفنا حاله أن يسجد قبل السلام ولا خرج عند مالك وأصحابه لو سجد قبل السلام وقد ذكرنا في التمهيد من قال من أصحاب بن شهاب في هذا الباب فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين قبل السلام وذكرنا حديث عبد الله بن جعفر عن النبي عليه السلام أنه قال من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعد ما يسلم‏.‏

194- وأما قوله إنه بلغه إن رسول الله عليه السلام قال إني لأنسى أو أنسى لأسن فهذا حديث لا يعرف بهذا اللفظ في الموطأ ولا يأتي مسندا بهذا اللفظ بوجه من الوجوه والله أعلم أو أنسى شك من المحدث‏.‏

وأما قوله لأسن فإنه يريد لأسن لأمتي كيف العمل فيما ينوبهم من السهو ليقتدوا بي ويتأسوا بفعلي وقد ذكرنا في التمهيد عند ذكر بلاغات مالك ما روى عن النبي عليه السلام في معنى قوله إني لأنسى أو أنسى لأسن والله الموفق‏.‏

كتاب الجمعة

باب العمل في غسل يوم الجمعة

195- مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنه ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر فيه الندب إلى الاغتسال يوم الجمعة والأحاديث في غسل الجمعة كثير جدا منها ما ظاهره الوجوب ومنها ما هو ندب وسنبين معنى ذلك كله في هذا الباب‏.‏

وأما ذكره فيه الساعات الخمس وأن الصلاة كانت فى السادسة فإن أهل العلم مختلفون في تلك الساعات فقالت طائفة أراد الساعات من طلوع الشمس وصفائها وهو أفضل البكور في ذلك الوقت إلى الجمعة وهو قول الثوري وأبي حنيفة والشافعي وأكثر العلماء كلهم يستحب البكور إليها قال الشافعي ولو بكر إليها بعد الفجر وقبل طلوع الشمس لكان حسنا وذكر الأثرم قيل لأحمد بن حنبل كان مالك يقول لا ينبغي التهجير يوم الجمعة باكرا ‏!‏ قال هذا خلاف حديث النبي عليه السلام وقال سبحان الله إلى أي شيء ذهب في هذا والنبي عليه السلام يقول كالمهدي جزورا‏.‏

وأما مالك فذكر يحيى بن عمر عن حرملة أنه سأل بن وهب عن تفسير هذه الساعات أهو الغدو من أول ساعات النهار أو إنما أراد بهذا القول ساعات الرواح فقال بن وهب سألت مالكا عن هذا فقال أما الذي يقع في قلبي فإنه إنما أراد ساعة واحدة تكون فيها هذه الساعات من راح في أول تلك الساعة أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة ولو لم يكن كذلك ما صليت الجمعة حتى يكون النهار تسع ساعات في وقت العصر أو قريبا من ذلك وكان بن حبيب ينكر قول مالك هذا ويميل إلى القول الأول وقال قول مالك هذا تحريف في تأويل الحديث ومحال من وجوه قال وذلك أنه لا تكون ساعات في ساعة واحدة قال والشمس إنما تزول في الساعة السادسة من النهار وهو وقت الأذان وخروج الإمام إلى الخطبة فدل ذلك على أن الساعات المذكورات في هذا الحديث هي ساعات النهار المعروفات فبدأ بأول ساعات النهار فقال من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ثم قال في الخامسة بيضة ثم انقطع التهجير وحان وقت الأذان قال فشرح الحديث بين في لفظه ولكنه حرف عن موضعه وشرح بالخلف من القول وما لا يتكون وزهد شارحه الناس فيما رغبهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من التهجير في أول النهار وزعم أن ذلك كله إنما يجتمع في ساعة واحدة قرب زوال الشمس قال وقد جاءت الآثار بالتهجير إلى الجمعة في أول النهار وقد سقنا ذلك في موضعه من كتاب واضح السنن بما فيه بيان وكفاية هذا كله قول بن حبيب قال أبو عمر هذا كله تحامل منه على مالك فهو الذي قال القول الذي أنكره وجعله خلفا من القول وتحريفا من التأويل والذي قاله مالك تشهد له الآثار الصحاح من رواية الأئمة ويشهد له أيضا العمل بالمدينة عنده وهذا مما يصح فيه الاحتجاج بالعمل لأنه أمر متردد كل جمعة لا يخفى على عامة العلماء فمن الآثار التي يحتج بها مالك ما رواه الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام قال إذا كان يوم الجمعة قام على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس الأول فالأول فالمهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ثم الذي يليه كالمهدي بقرة ثم الذي يليه كالمهدي كبشا حتى ذكر الدجاجة والبيضة فإذا جلس الإمام طويت الصحف واستمعوا الخطبة وقد ذكرنا الإسناد إلى الزهري في التمهيد من طرق جلبنا فيها الاختلاف عنه فيه وقد ذكرناه عن غيره أيضا من وجوه ألا ترى إلى ما في هذا الحديث أنه قال يكتبون الناس الأول فالأول المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ثم الذي يليه فجعل الأول مهجرا وهذه اللفظة إنما هي مأخوذة من الهاجرة والهجير وذلك وقت النهوض إلى الجمعة وليس ذلك عند طلوع الشمس لأن ذلك الوقت به هاجرة ولا هجير وفي الحديث ثم الذي يليه ثم الذي يليه ولم يذكر الساعات والطرق بذلك اللفظ كثيرة مذكورة في التمهيد وفي بعضها المتعجل إلى الجمعة كالمهدي بدنة وفي أكثرها المهجر إلى الجمعة كالمهدى بدنة الحديث وفي بعضها ما يدل على أنه جعل الرائح إلى الجمعة في أول الساعة كالمهدى بدنة وفي آخرها كذلك وفي أول الساعة الثانية كالمهدي بقرة وفي آخرها كذلك وهذا كله مذكور في التمهيد والحمد لله وقال بعض أصحاب الشافعي لم يرد النبي عليه السلام بالمهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة الناهض إليها في الهجير والهاجرة وإنما أراد بذلك التارك لأشغاله وأعماله من طلب الدنيا للنهوض إلى الجمعة كالمهدى بدنة وذلك مأخوذ من الهجرة وهي ترك الوطن والنهوض إلى الله ومنه سمي المهاجرون‏.‏

وقال الشافعي أحب التبكير إلى الجمعة ولا تؤتى إلا مشيا‏.‏

وأما قوله في حديث مالك حضرت الملائكة يستمعون الذكر فالذكر هنا الخطبة وقد بين ذلك في حديث بن المسيب عن أبي هريرة قوله يستمعون الخطبة وقد استدل الشافعي وأصحابه بحديث هذا الباب في تفضيل البدن على البقر والبقر على الضأن في الضحايا والهدايا وهذا موضع اختلف فيه الفقهاء فقال مالك وأصحابه أفضل الضحايا فحول الضأن وإناث الضأن أفضل من فحول المعز وفحول المعز أفضل من إناثها وإناث المعز أفضل من الإبل والبقر في الضحايا واحتج بعضهم في ذلك بقوله تعالى ‏(‏وفدينه بذبح عظيم‏)‏ ‏[‏الصافات 107‏]‏‏.‏

وذلك كبش لا جمل ولا بقرة وقال بعضهم لو علم الله حيوانا أفضل من الكبش لفدى به إسحاق وضحى رسول الله بكبشين أملحين وأكثر ما ضحى بالكباش وذكر بن أبي شيبة عن بن علية عن ليث عن مجاهد قال الذبح العظيم الشاة وقد روى الحنيني عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل جبريل في يوم عيد فقلت يا جبريل كيف ترى عيدنا فقال يا محمد لقد تباهى به أهل السماء وقال اعلم يا محمد أن الجذع من الضأن خير من المسن من المعز والبقر والإبل ولو علم الله ذبحا خيرا منه لفدى به إبراهيم ابنه وهذا حديث لا أعلم له إسنادا غير هذا انفرد به الحنيني وليس ممن يحتج به قال أبو عمر الكبش أول قربان تقبله الله من أحد ابني آدم ثم فدى بمثله الذبيح وحسبك بهذا كله فضلا‏.‏

وقال الشافعي الإبل أحب إلي أن يضحى بها من البقر والبقر أحب إلي من الغنم والضأن أحب إلي من المعز‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه الجزور في الأضحية أفضل ما ضحى به ثم يتلوه البقر ثم يتلوه الشاء ومن حجة من ذهب إلى هذا حديث هذا الباب وما كان مثله في تقديم البدن في الفضل مما يتقرب به إلى الله قوله فكأنما قرب بدنة ثم بقرة ثم كبشا حتى الدجاجة والبيضة وإجماعهم على أن أفضل الهدايا الإبل فكان هذا الإجماع يقضي على ما اختلفوا فيه من الضحايا لأنها نسكان شريعة وقربان وقد قالوا أيضا ما استيسر من الهدي شاة فدل على نقصان ذلك عن مرتبة ما هو أعلى منه وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الرقاب فقال أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ومعلوم أن الإبل أنفس وأغلى عند الناس من الغنم قال‏.‏

وأما قوله تعالى ‏(‏وفدينه بذبح عظيم‏)‏ ‏[‏الصافات 107‏]‏‏.‏

فجائز أن يطلق عليه عظيم لما ذكر عن بن عباس أنه رعى في الجنة أربعين خريفا وأنه الذي قربه بن آدم فتقبل منه ورفع إلى الجنة فلهذا قال فيه ‏(‏العظيم‏)‏ والله أعلم‏.‏

196- ثم ذكر مالك في هذا الباب أيضا عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي عليه السلام أنه قال غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم‏.‏

197- وعن سعيد بن أبي سعيد ‏(‏المقبري‏)‏ عن أبي هريرة أنه كان يقول غسل الجمعة واجب على كل محتلم كغسل الجنابة وهذان الحديثان ظاهرهما الوجوب الذي هو لازم ولا أعلم أحدا أوجب غسل الجمعة فرضا إلا أهل الظاهر فإنهم أوجبوه وجعلوا تاركه غامدا عاصيا لله وهم مع ذلك يجيزون صلاة الجمعة دون غسل لها واحتجوا بظاهر الحديثين اللذين ذكرناهما وهما ثابتان ولكن المعنى فيهما غير ظاهرهما بالدلائل الموجبة إخراجهما عن الظاهر فأول ذلك ما ذكرناه في التمهيد من حديث الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أتى الجمعة فتوضأ فيها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل فهذا أبو سعيد قد روى الحديثين معا وفي هذا ما يدل على أن غسل الجمعة فضيلة لا فريضة فلم يبق إلا أنه على الندب كأنه قال واجب في الأخلاق الكريمة وحسن المجالسة كما تقول العرب وجب حقك أي في كرم الأخلاق والبر بالصديق ونحو هذا ومثل هذا حديث سمرة ذكرناه أيضا في التمهيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل وقال أبو عيسى الترمذي قلت للبخاري قولهم إن الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة قال قد سمع منه أحاديث كثيرة وجعل روايته عن سمرة سماعا وصححها ومن حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري قال ثلاث هن على كل مسلم يوم الجمعة الغسل والسواك ويمس طيبا إن وجد ومعلوم أن الطيب والسواك ليس بواجبين فكذلك الغسل والله أعلم‏.‏

وأما قول أبي هريرة كغسل الجنابة فإنه أراد الهيئة والكيفية ففي هذا جاء تشبيهه له بغسل الجنابة لا في الفرض والوجوب بما ذكرنا من الدلائل مع أنه محفوظ معلوم عن أبي هريرة أنه كان يأمر بالغسل ولا يوجبه فرضا ويقول فيه كغسل الجنابة ورواه سفيان وغيره عن عاصم بن عبيد الله عن مولى لبني أدهم عن أبي هريرة أنه خرج إلى المسجد فلقي امرأة قد تطيبت أين تريدين يا أمة الله قالت إلى المسجد قال وله تطيبت قالت نعم قال فارجعي فاغسلي عنك الطيب فإن الله لا يقبل منك حتى ترجعي فتغسليه عنك كغسلك من الجنابة وبعض رواة هذا الحديث عن عاصم يرفعه إلى النبي عليه السلام والحديث المذكور في أول هذا الباب عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى الحديث يشهد أيضا بما وصفنا وبالله توفيقنا وقد ساوى أبو هريرة بين الغسل والطيب للجمعة والطيب قد أجمعوا على أنه ليس بواجب فكذلك الغسل رواه سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس قال سمعت أبا هريرة يقول حق الله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما يغسل كل شيء منه ويمس من طيب إن كان لأهله وهذا الحديث أثبت إسنادا من حديث مالك عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة وقد مضى في الطيب يوم الجمعة في باب السواك ما فيه كفاية والحمد لله‏.‏

وأما قوله في حديث سمرة وأبي سعيد من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت فإن أبا حاتم ذكر عن الأصمعي أنه سأل عن تفسير ذلك فقال فبها أي بالسنة أخذ ونعمت الخصلة هي أو قال ونعمت الخصلة فعل قال أبو حاتم ونعمت بالتاء في الوصل والوقف هنا قال أبو عمر لو كان الغسل للجمعة واجبا فرضا لكان من فرائض الجمعة ألا تجزئ إلا به وقد أجمع العلماء على أن صلاة من شهد الجمعة على وضوء دون غسل جائزة ماضية ويدلك على ذلك أيضا أن عثمان دخل يوم الجمعة وعمر يخطب فقال عمر أية ساعة هذه فقال يا أمير المؤمنين انقلبت من السوق فسمعت النداء فما زدت على أن توضأت فقال عمر الوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل ‏!‏ ولم يأمره بالخروج إلى الغسل ولا بالإعادة إذا صلاها بالوضوء بغير غسل وعثمان قد علم من ذلك ما حمله على شهودها بغير غسل‏.‏

198- وهذا الحديث رواه مالك في هذا الباب عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله أنه قال دخل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد يوم الجمعة وعمر يخطب وذكر الحديث ولم يقل إنه عثمان وصح أنه عثمان من طرق كثيرة لهذا الحديث وقد ذكرتها في التمهيد وذكرنا هناك من وصل الحديث وأسنده ومن قطعه وأرسله وما فيه من المعاني والتوجيهات والحمد لله وقول عمر في هذا الحديث الوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله كان يأمر بالغسل ‏!‏ مثل قوله عليه السلام في حديث بن شهاب عن بن السباق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في جمعة من الجمع يا معشر المسلمين إن هذا يوم قد جعله الله عيدا فاغتسلوا وقد ذكرنا الحديث فيما مضى من هذا الكتاب وذلك في باب السواك وذكرنا في التمهيد أن عمر أول من تسمى بأمير المؤمنين وأوردنا الخبر بذلك وما كان سببه هناك وفي حديث بن شهاب هذا من الفقه أيضا شهود الفضلاء السوق وطلبهم الرزق بالتجارة وفيه أن السوق يوم الجمعة لم يكن الناس يمنعون منه إلا في وقت النداء لقوله تعالى ‏(‏إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله‏)‏ ‏[‏الجمعة 9‏]‏‏.‏

ومن الدليل أيضا على أن الأمر بالغسل للجمعة ليس على الوجوب ما روته عائشة وبن عمر وبن عباس وأبو سعيد في الوجه الذي من أجله أمروا بالغسل يوم الجمعة أول ما أمروا به وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك في التمهيد فمن ذلك أن يحيى بن سعيد الأنصاري قال سألت عمرة عن غسل الجمعة فذكرت أنها سمعت عائشة تقول كان الناس عمال أنفسهم يروحون بهيئتهم فقيل لهم لو اغتسلتم وروى إسماعيل بن أمية عن نافع عن بن عمر قال كان الناس يغدون في أعمالهم فإذا كانت الجمعة جاؤوا وعليهم ثياب درنة وألوانها متغيرة قال فشكوا ذلك إلى رسول الله فقال من جاء منكم الجمعة فليغتسل ويتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته وفي الموطأ لمالك عن نافع عن بن عمر أنه كان لا يروح إلى الجمعة الا ادهن وتطيب إلا أن يكون حراما ولم يذكر غسلا وروى الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة أن ناسا من أهل العراق جاؤوا فقالوا يا بن عباس الغسل يوم الجمعة واجب قال لا ولكنه أطهر وأطيب وخير لمن اغتسل ومن لم يغتسل فلا حرج وسأخبركم كيف بدء الغسل كان الناس مجهودين يلبسون الصوف ويعملون على ظهورهم وكان مسجدهم ضيقا متقارب السقف إنما هو عريش فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حار وقد عرق الناس في ذلك الصوف حتى ثارت منهم رياح أذى بذلك بعضهم بعضا فلما وجد رسول الله تلك الريح قال أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا ثم جاء الله بالخير ولبسوا غير الصوف وكفوا العمل ووسع مسجدهم وذهب الذي كان يؤذي به بعضهم بعضا من العرق وقد تقدم عن أبي سعيد أنه قرنه بالسواك والطيب يوم الجمعة وفي إجماع الجمهور من علماء المسلمين على سقوط وجوب الغسل يوم الجمعة وجوب فرض لاتفاقهم على أن من شهد الجمعة بغير غسل أجزائه الجمعة ما يغني عن كل قول إلا أنهم اختلفوا هل غسل الجمعة سنة مسنونة للأمة أم هو استحباب وفضل أم كان لعلة فارتفعت وليس بسنة فذهب مالك والثوري وجماعة من أهل العلم أن غسل الجمعة سنة مؤكدة لأنها قد عمل بها رسول الله والخلفاء بعده والمسلمون واستحبوها وندبوا إليها وهذا سبيل السنن المؤكدة ومن حجتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالغسل للجمعة بقوله من جاء منكم الجمعة فليغتسل وبما ذكرنا من الآثار بلفظ الأمر والوجوب فيما تقدم من هذا الباب ثم جاءت الآثار المذكورة بجواز شهوده بغير غسل وبأنه أفضل إن اغتسل يدل على أن ذلك أمر سنة لا فرض وروى بن وهب عن مالك أنه سئل عن غسل الجمعة واجب هو قال هو سنة ومعروف قيل له إنه في الحديث واجب قال ليس كل ما جاء في الحديث يكون كذلك وروى أشهب عن مالك أنه سئل عن غسل الجمعة أواجب هو قال هو حسن وليس بواجب وهذه الرواية عن مالك تدل على أنه مستحب وذلك عندهم دون منزله السنة إلا أن رواية بن وهب عنه أنه سنة عليه أكثر أصحابه بن عبد الحكم وغيره وقد قال بن القاسم فيمن أتى الجمعة ولم يغتسل فإنه يخرج من المسجد إذا كان الوقت واسعا ثم يغتسل وقاله بن كنانة قال بن كنانة إنما ترك عمر رد عثمان للغسل لضيق الوقت ولو كان فيه سعة لرده حتى يغتسل ذكر عبد الرزاق عن بن جريج قال سألت عطاء قلت له الغسل واجب يوم الجمعة قال نعم ومن تركه فليس بآثم وقد ذكرنا في التمهيد حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام ومن مس الحصى فقد لغا وهذا حديث ثابت عن النبي عليه السلام ليس فيه إلا الوضوء للجمعة دون غسل رواه أبو معاوية وجماعة من أصحاب الأعمش عن الأعمش هكذا وذكر عبد الرزاق عن بن عيينة عن مسعر عن وبرة عن همام بن الحارث عن بن مسعود قال الغسل يوم الجمعة سنة وكان الشافعي يقول إنه سنة ويحتج في تفسير لفظ الحديث في وجوبه بحديث عائشة كان الناس عمال أنفسهم الحديث وبحديث سمرة ومن اغتسل فالغسل أفضل وقد ذكرناهما وما كان في معناهما فيما تقدم من هذا الباب وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن غسل الجمعة ليس بواجب وجوب سنة ولكنه مستحب مرغب فيه كالطيب والسواك وقال بعضهم الطيب يغني عنه واحتجوا بأنه كان لعلة قد زالت على ما بينا في الآثار عن عائشة وبن عمر وبن عباس وغيرهم وقد ذكرنا في التمهيد عن القاسم بن محمد أنهم ذكروا غسل الجمعة عند عائشة فقالت إنما كان الناس يسكنون العالية فيحضرون الجمعة وبهم وسخ فإذا أصابهم الروح سطعت أرواحهم فتأذى بهم الناس فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أو لا تغتسلون وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش عن إبراهيم قال كانوا لا يرون غسلا واجبا إلا غسل الجنابة وكانوا يستحبون غسل الجمعة وقال عبد الكريم بن مالك الجزري الطيب يجزئ من الغسل يوم الجمعة‏.‏

199- وأما حديثه عن نافع عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل فقد ذكرنا في التمهيد اختلاف الألفاظ عن مالك في ذلك فبعضهم يقول عنه كما قال يحيى إذا جاء أحدكم ومنهم من يقول إذا راح أحدكم إلى الجمعة ومنهم من يقول إذا أتى أحدكم والمعنى كله سواء وذكرنا هناك من جعل الحديث من أصحاب نافع عن نافع عن بن عمر عن النبي عليه السلام كما قال مالك ومن جعله عن نافع عن بن عمر عن حفصة وخالف في لفظه فقال على كل محتلم الرواح إلى الجمعة وعلى من راح إلى صلاة الجمعة الغسل وكلهم يرفعونه إلى النبي عليه السلام من غير خلاف وقد أجمع العلماء على أن من اغتسل بعد صلاة الجمعة يوم الجمعة فليس بمغتسل للسنة ولا للجمعة ولا فاعل لما أمر به فدل ذلك على أن الغسل للجمعة وشهودها لا لليوم ودل على أن حديث جابر عن النبي عليه السلام أنه قال الغسل واجب على كل محتلم في كل أسبوع يوما وهو يوم الجمعة أنه ليس على ظاهره وأن المعنى فيه على ما ذكرنا‏.‏

وأما ألفاظ حديث بن عمر هذا إذا جاء أحدكم الجمعة أو إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل فيدل على أن الغسل إنما يجب عند الرواح والله أعلم وإلى هذا ذهب مالك قال في الموطأ من اغتسل يوم الجمعة أول نهاره وهو يريد بذلك غسل الجمعة فإن ذلك الغسل لا يجزئ عنه حتى يغتسل لرواحه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل قال مالك من اغتسل يوم الجمعة معجلا أو مؤخرا وهو ينوي بذلك غسل الجمعة فأصابه ما ينقض وضوءه فليس عليه إلا الوضوء وغسله ذلك مجزئ عنه ومذهب الليث في ذلك كمذهب مالك على اختلاف عنه وعن الأوزاعي أيضا في ذلك وروي عنهما أنه يجزيه إن اغتسل قبل الفجر للجنابة والجمعة وقال الليث بعد الفجر وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن من اغتسل للجمعة بعد الفجر أجزأه من غسله وهو قول الحسن البصري والنخعي وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور والطبري وهو قول بن وهب صاحب مالك وقال أبو يوسف إذا اغتسل بعد الفجر ثم أحدث فتوضأ ثم شهد الجمعة لم يكن كمن شهد الجمعة على غسل وقال أبو يوسف إن كان الغسل لليوم فاغتسل بعد الفجر ثم أحدث فصلى الجمعة بوضوء فغسله تام وإن كان الغسل للصلاة فإنما شهد الجمعة على وضوء‏.‏

وقال مالك في اغتسل للجمعة عند الرواح ثم أحدث فتوضأ شهد الجمعة أجزأه غسله وإن اغتسل أول النهار يريد الجمعة لم يجزه من غسل الجمعة وقال الثوري إذا اغتسل يوم الجمعة بعد الفجر من جنابة أو غيرها أجزأه من غسل الجمعة قال الطحاوي فهذا يدل على أن الغسل عنده لليوم لا للرواح إلى الجمعة وقال الأوزاعي الغسل هو للرواح إلى الجمعة فإن اغتسل بعد الفجر لم يجزه من غسل الجنابة وهذا خلاف ما تقدم عنه‏.‏

وقال الشافعي الغسل للجمعة سنة ومن اغتسل للفجر للجنابة ولها أجزأه وإن اغتسل لها دون الجنابة وهو جنب لم يجزه وقال بن الماجشون إذا اغتسل ثم أحدث أجزأه الغسل فهذا يمكن أن يكون مذهبه في ذلك كمذهب مالك ويمكن أن يكون كمذهب الثوري وقال الأثرم سئل بن حنبل عن الذي يغتسل سحر الجمعة ثم يحدث أيغتسل أم يجزيه الوضوء فقال يجزيه ولا يعيد الغسل ثم قال ما سمعت في هذا بأعلى من حديث بن أبزى وحديث بن أبزى ذكره بن أبي شيبة قال حدثنا بن عيينة عن عبدة بن أبي لبابة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه أنه كان يغتسل يوم الجمعة ثم يحدث بعد الغسل فيتوضأ ولا يعيد غسلا قال أبو عمر هذا يدل على المداومة وعلى أنه كان غسله قبل الرواح واختلف العلماء فيمن اغتسل للجمعة وهو جنب ولم يذكر جنابته فذهبت طائفة منهم إلى أنه يجزئ من غسل الجنابة وإن كان ناسيا لها في حين الغسل وممن ذهب إلى ذلك بن كنانة وأشهب وبن وهب ومطرف وبن نافع ومحمد بن مسلمة وبن الماجشون وهؤلاء كلهم أصحاب مالك وبه قال المزني صاحب الشافعي وقال آخرون لا يجزيه ذلك عن غسل الجنابة حتى ينوي غسل الجنابة ويكون ذاكرا لجنابته في حين غسله قاصدا إلى الاغتسال منها وممن ذهب إلى هذا بن القاسم وحكاه بن عبد الحكم عن مالك وهو قول الشافعي وأكثر أصحابه وبه قال داود ولم يختلف قول مالك وأصحابه أن من اغتسل للجنابة لا ينوي الجمعة معها أنه غير مغتسل للجمعة ولا يجزيه من غسل الجمعة إلا ما رواه محمد بن الحكم عن أشهب أنه قال يجزيه غسل الجنابة من غسل الجمعة وقد رواه أبو إسحاق البرقي أيضا عن أشهب وهو قول مالك وأصحابه أن من تيمم للفريضة جاز أن يصلي به صلاة السنة والنافلة ولا يجزئ عند واحد منهم أن يتيمم للنافلة فيصلي به الفريضة وهذا يقضي لقول أشهب وقال عبد العزيز بن أبي سلمة والثوري والشافعي والليث بن سعد والطبري المغتسل للجنابة يوم الجمعة يجزيه من غسل الجمعة ومن الجنابة جميعا إذا نوى غسل الجنابة وإن لم ينو الجمعة وأجمعوا على أن من اغتسل ينوي غسل الجنابة والجمعة جميعا في وقت الرواح أنه يجزيه منهما جميعا ولا يضره اشتراك النية في ذلك إلا قوما من أهل الظاهر وبعض المتأخرين فإنهم شذوا فأفسدوا الغسل إذا اشترك فيه الفرض والنفل وهذا لا وجه له ولو نوى بوضوء الفريضة والنافلة لم يضره وقال الأثرم قلت لابن حنبل رجل اغتسل يوم الجمعة من جنابة ينوي به غسل الجمعة فقال أرجو أن يجزيه منهما جميعا قلت له يروى عن مالك أنه قال لا يجزيه عن واحد منهما فأنكره قال أبو بكر حدثنا أحمد بن أبي شعيب قال حدثنا موسى بن أعين عن ليث عن نافع عن بن عمر أنه كان يغتسل للجمعة والجنابة غسلا واحدا‏.‏