فصل: كتاب القبلة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار ***


باب ما جاء في صلاة الكسوف

417- ذكر فيه مالك عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها قالت أتيت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين خسفت الشمس فإذا الناس قيام يصلون وإذا هي قائمة تصلي فقلت ما للناس فأشارت بيدها نحو السماء وقالت سبحان الله فقلت آية فأشارت برأصها أن نعم قالت فقمت حتى تجلاني الغشي وجعلت أصب فوق رأسي الماء فحمد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه ثم قال ما من شيء كنت لم أره إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار ولقد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور مثل أو قريبا من فتنة الدجال ‏(‏لا أدري أيتهما قالت أسماء‏)‏ يؤتى أحدكم فيقال له ما علمك بهذا الرجل فأما المؤمن أو الموقن ‏(‏لا أدري أي ذلك قالت أسماء‏)‏ فيقول هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وآمنا واتبعنا فيقال له نم صالحا قد علمنا إن كنت لمؤمنا‏.‏

وأما المنافق أو المرتاب ‏(‏لا أدري أيتهما قالت أسماء‏)‏ فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فيه من الفقه أن كسوف الشمس يصلى له وقد تقدم بيان ذلك والحمد لله وفيه أن الشمس إذا كسفت بأقل شيء منها وجبت الصلاة لذلك على سنتها ألا ترى إلى قول أسماء ما للناس وأشارت لها عائشة بيدها نحو السماء فلو كان كسوفا بينا ما خفي عن أسماء ولا غيرها حتى تحتاج أن يشار إلى السماء وقد استدل على هذا الحديث بعض أصحابنا في سر القراءة في صلاة الكسوف وفيه أن المصلي إذا كلم أشار وسبح ولم يتكلم لأن الكلام ممنوع منه في الصلاة وفيه أن النساء يسبحن إذا نابهن شيء في الصلاة وذلك حجة لمالك على من قال إن سنتهن التصفيق وقد مضى قوله صلى الله عليه وسلم من نابه شيء في صلاته فليسبح فإنما التصفيق للنساء وقوله صلى الله عليه وسلم التسبيح للرجال والتصفيق للنساء في بابه من هذا الكتاب وفيه أن إشارة المصلي برأسه وبيده لا بأس بها‏.‏

وأما قولها فقمت حتى تجلاني الغشي بمعنى أنها قامت حتى غشي عليها وفي ذلك دليل على طول القيام في صلاة الكسوف‏.‏

وأما قوله فحمد الله وأثنى عليه فذلك كان بعد الفراغ من الصلاة وقد تقدم في الباب قبل هذا اختلاف الفقهاء في الخطبة بعد صلاة الكسوف ومضى القول في رؤيته للجنة والنار بما يغني عن إعادته‏.‏

وأما قوله إنكم تفتنون في قبوركم فإنه أراد فتنة الملكين منكر ونكير حين يسألان العبد من ربك وما دينك ومن نبيك فالآثار بذلك متواترة وأهل السنة والجماعة وهم أهل الحديث والرأي في أحكام شرائع الإسلام كلهم مجمعون على الإيمان والتصديق بذلك إلا أنهم لا يتكلفون فيه شيئا ولا ينكره إلا أهل البدع روى شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى ‏(‏يثبت الله الذين ءامنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الأخرة‏)‏ ‏[‏إبراهيم 27‏]‏‏.‏

قال في القبر إذا سئل من ربك وما دينك ومن نبيك ورواه الأعمش عن سعد بن عبيدة عن البراء موقوفا وفي الحديث الطويل حديث الأعمش ويونس بن جناب عن بن عمر وعن زاذان عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم صفة المؤمن من يعاد روحه إلى جسده وأنه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه ويدخل عليه ملكان فيقولان له ما دينك فيقول الإسلام فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول وأي رجل فيقولان محمد فيقول أشهد أنه رسول الله فينهرانه ويقولان له ما يدريك فيقول إني قرأت كتاب الله فصدقت به وآمنت قال فهي آخر فتنة تعرض على المؤمن وذلك قول الله عز وجل ‏(‏يثبت الله الذين ءامنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الأخرة‏)‏ ‏[‏إبراهيم 27‏]‏‏.‏

وذكر الحديث وفيه في المنافق فينهرانه انتهارا شديدا ويقولان من ربك وما دينك ومن نبيك فيقول لا أدري فيقولان لا دريت ولا تليت وساق تمام الخبر وقد ذكرناه في التمهيد إلى آثار ثابتة صحاح وردت بمعناه والآثار الواردة أيضا بأن اليهود تعذب في قبورها كل ذلك ذكرناه هناك وأوضحنا الفرق بين عذاب القبر وفتنة القبر وأن الفتنة للمؤمن والعذاب للمنافق والكافر وأوردنا فيه من الآثار ما بان به ذلك والحمد لله وللفتنة وجوه في اللغة مذكورة هناك أيضا وفي قوله في حديث مالك مثل أو قرب من فتنة الدجال على أنهم كانوا يراعون الألفاظ في الحديث المسند وقد أفردنا لهذا المعنى بابا في كتاب بيان العلم وفضله وذكرنا اختلاف العلماء في ذلك‏.‏

وأما مالك فكان لا يجيز الإخبار بالمعاني في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قدر على الإتيان بالألفاظ روى الحارث بن مسكين عن يوسف بن عمرو عن بن وهب قال سمعت مالكا سئل عن المسائل إذا كان المعنى واحدا والكلام مختلفا فقال لا بأس به إلا الأحاديث التي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما قوله‏.‏

وأما المنافق والمرتاب فإنما هو شك من المحدث وكذلك قالت فاطمة بنت المنذر لا أدري أي ذلك قالت أسماء والمنافق كافر أظهر الإيمان واعتقد الكفر والمرتاب الشاك‏.‏

كتاب صلاة الاستسقاء

باب العمل في الاستسقاء

418- مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع عباد بن تميم يقول سمعت عبد الله بن زيد المازني يقول خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فاستسقى وحول رداءه حين استقبل القبلة هكذا روى مالك هذا الحديث بهذا الإسناد وهذا اللفظ لم يذكر فيه الصلاة لم يختلف رواة الموطأ في ذلك عليه فيما علمت إلا أن إسحاق بن عيسى روى هذا الحديث عن مالك فزاد فيه إن رسول ا لله صلى الله عليه وسلم بدأ بالاستسقاء في الصلاة قبل الخطبة ولم يقل حول رداءه ذكره النسائي في مسند حديث مالك عن زكريا بن يحيى عن مروان بن عبد الله عن إسحاق ولم يقل ذلك عنه أحد فيما علمت غيره ورواه سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي بكر فذكر فيه الصلاة ورواه بن شهاب وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عباد بن تميم عن عمه عبد ا لله بن زيد عن عاصم الأنصاري المازني وذكرا فيه الصلاة وقد ذكرنا الأحاديث بذلك من طرق في التمهيد وليس في تقصير من قصر عن ذكر الصلاة حجة على من ذكرها والحجة في قول من أثبت وحفظ ومن أحسن الناس سياقة لهذا الحديث الزهري حدثنا عبد الله بن محمد قال أخبرنا محمد بن بكير قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن عباد بن تميم عن عمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يستسقي فاستقبل القبلة فصلى بهم ركعتين جهر فيهما بالقراءة وحول رداءه ورفع يديه واستسقى واستقبل القبلة‏.‏

وحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا يزيد بن هارون عن بن أبي ذئب عن الزهري عن عباد بن تميم عن عمه قال شهدت النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فاستقبل القبلة وولى ظهره الناس وحول رداءه وصلى ركعتين وجهر بالقراءة أخبرنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا سفيان عن عبد الله بن أبي بكر عن عباد بن تميم عن عمه أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى وصلى ركعتين وقلب رداءه‏.‏

وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا عمرو بن علي قال حدثنا يحيى بن سعيد وهو ا لقطان عن يحيى بن سعيد وهو الأنصاري عن أبي بكر بن محمد بن عباد بن تميم عن عمه عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يستسقي فصلى ركعتين واستقبل القبلة وقال أبو عمر أجمع العلماء على أن الخروج للاستسقاء والبروز عن المصر والقرية إلى الله عز وجل بالدعاء والضراعة في نزول الغيث عند احتياجه سنة مسنونة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعملها الخلفاء بعده واختلفوا في الاستسقاء في الصلاة فقال أبو حنيفة ليس في الاستسقاء صلاة ولكن يخرج الإمام بالناس ويدعون الله عز وجل وروي ذلك عن طائفة من التابعين منهم إبراهيم النخعي وغيره ذكر أبو بكر قال حدثنا جرير بن المغيرة عن أسلم العجلي قال خرج أناس يستسقون وخرج إبراهيم معهم فلما فرغوا قاموا يصلون فرجع إبراهيم ولم يصل معهم وحجتهم حديث مالك وما كان مثله لم يذكروا فيه الصلاة منها ما ذكره أبو بكر قال حدثنا يعلى بن عبيد عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى يستسقي فلما دعا يستقبل القبلة وحول رداءه لم يذكر صلاة مثل حديث مالك سواء واحتجوا أيضا بأن عمر بن الخطاب خرج يستسقي فلم يصل ذكره أبو بكر قال حدثنا وكيع عن عيسى بن حفص بن عاصم عن عطاء بن أبي مروان الأسلمي عن أبيه قال خرجنا مع عمر بن الخطاب نستسقي فما زاد على استسقاء وقال حدثنا وكيع عن مطرف بن طريف عن الشعبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج يستسقي فصعد المنبر فقال استغفروا الله ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا واستغفروا ربكم إنه كان غفارا ثم نزل فقالوا يا أمير المؤمنين لو استسقيت فقال لقد طلبته بمجاديح السماء الذي ينزل فيها القطر وروى سفيان بن عيينة قال حدثنا مطرف بن طريف عن الشعبي أن عمر خرج يستسقي بالناس فلم يزد على الاستغفار حتى رجع فقالوا ما رأيناك استسقيت فقال عمر لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي ينزل بها القطر ثم قرأ ‏(‏فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا‏)‏ ‏[‏نوح 10‏]‏‏.‏

11 قال أبو عمر ليس في هذا الحديث عن عمر أنه لم يصل ولا أنه لم ير الصلاة وإنما فيه صفة الدعاء في الاستسقاء وليس من لم يشهر حجة على من شهر وحفظ وقد روي عن عمر أنه خطب في الاستسقاء قبل الصلاة وقال أبو يوسف ومحمد ومالك والشافعي وسائر فقهاء الأمصار صلاة الاستسقاء سنة ركعتان يجهر فيهما بالقراءة وقال الليث بن سعد الخطبة في الاستسقاء قبل الصلاة وقاله مالك ثم رجع عنه إلى أن الخطبة بعد الصلاة كالعيدين وعليه جماعة الفقهاء‏.‏

وقال مالك والشافعي يخطب الإمام بعد الصلاة خطبتين يفصل بينهما بالجلوس وقال أبو يوسف ومحمد يخطب خطبة واحدة وقال عبد الرحمن بن مهدي يخطب خطبة خفيفة يعظهم ويحثهم على الخير وقال الطبري إن شاء خطب واحدة وإن شاء اثنتين‏.‏

وقال الشافعي والطبري يكبر في صلاة الاستسقاء كما يكبر في صلاة العيد وهو قول بن عباس وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وقال داود إن شاء كبر كما يكبر في العيدين وإن شاء كبر تكبيرة واحدة كما يكبر في سائر الصلوات تكبيرة واحدة للافتتاح وقد روى عن أحمد بن حنبل مثل قول الشافعي وحجة من قال التكبير فيها كالتكبير في صلاة العيد حديث بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيها ركعتين كما يصلي في العيد وقد ذكرناه بإسناده وتمام ألفاظه في التمهيد وليس عندي فيه حجة من جهة الإسناد ولا من جهة المعنى لأنه يمكن أن يكون التشبيه فيه بصلاة العيدين من جهة الخطبة إلا أن بن عباس رواه وعمل بالتكبير كصلاة العيد بمعنى ما روى وقد تابعه من ذكرنا معه‏.‏

وقال الشافعي ومالك وأصحابهما يحول الإمام رداءه عند فراغه من الخطبة يجعل اليمين على الشمال وما على الشمال على اليمين ويحول الناس أرديتهم إذا حول الإمام رداءه كما حول الإمام هذا قول الشافعي بالعراق وقال بمصر ينكس الإمام رداءه فيجعل أعلاه أسفله ويجعل ما منه على منكبه الأيمن على منكبه الأيسر قال وإن جعل ما على يمينه على يساره ولم ينكبه أجزأه وقال الليث بن سعد يحول الإمام رداءه ولا يحول أرديتهم وهو قول محمد بن الحسن وكذلك قال أبو يوسف إلا أنه قال يحوله الإمام إذا مضى صدر من الخطبة‏.‏

وقال الشافعي يحول رداءه وهو مستقبل القبلة في الخطبة الثانية عند فراغه منها أو قرب ذلك ويحول الناس قال أبو عمر قوله في الحديث وحول رداءه يقتضي ما عليه جمهور الفقهاء من تحويل ما على اليمين منه على الشمال وقد روي ذلك منصوصا عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا يحيى بن سعيد والمسعودي عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عباد بن تميم عن عمه عبد الله بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج إلى المصلى يستسقي فاستقبل القبلة وقلب رداءه وصلى ركعتين وزاد المسعودي قلت لأبي بكر أجعل الشمال على اليمين أم جعل أعلاه أسفله قال بل جعل الشمال على اليمين واليمين على الشمال‏.‏

وأما الذي ذهب إليه الشافعي فإنما يوجد في حديث عمارة بن غزية عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد قال استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خميصة له سوداء فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه ففي هذا الحديث دليل على أن الخميصة لو لم تثقل عليه لنكسها وجعل أعلاها أسفلها ذكره الشافعي عن الدراوردي عن عمارة بن غزية وذكره أبو داود عن قتيبة بن سعيد عن الدراوردي ولا أعلم خلافا أن الإمام يحول رداءه وهو قائم ويحول الناس وهم جلوس والخروج إلى الاستسقاء وقت خروج الناس إلى العيد عند جماعة العلماء إلا أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم فإنه قال الخروج إليها عند زوال الشمس واختلف العلماء في خروج أهل الذمة إلى الاستسقاء فأجاز ذلك بعضهم وممن أجازه مالك وبن شهاب ومكحول وقال بن المبارك إن خرجوا عزل بهم عن مصلى المسلمين وقال إسحاق لا يؤمروا بالخروج إلا ينهوا عنه وكرهت طائفة من أهل العلم خروجهم إلى الاستسقاء منهم أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما قال الشافعي فإن خرجوا متميزين لم أمنعهم وقال محمد بن الحسن لا يتقرب إلى الله عز وجل ويرجى ما عنده من الخير بدعاء أهل الكفر وكلهم كره خروج النساء الشواب إلى الاستسقاء ورخصوا في خروج العجائز ولم يختلفوا في الجهر في صلاة الاستسقاء‏.‏

وقال مالك لا بأس أن يستسقى في العام الواحد مرة أو مرتين إذا احتاجوا إلى ذلك‏.‏

وقال الشافعي إن لم يسقوا ذلك أحببت أن يتابع الاستسقاء ثلاثة أيام يصنع في كل منها كما صنع في الأول وقال إسحاق لا يخرجون إلى الجبان إلا مرة واحدة ولكن يجتمعون في مساجدهم فإذا فزعوا من الصلاة ذكروا الله عز وجل ودعوا أو يدعو الإمام يوم الجمعة على المنبر ويؤمن الناس‏.‏

باب ما جاء في الاستسقاء

419- ذكر فيه عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم اسق عبادك وبهيمتك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت قد ذكرنا معنى هذا الحديث متصلا في التمهيد وإنما فيه ضرب من الدعاء في الاستسقاء والدعاء في ذلك كثير مختلف الألفاظ متفق المعاني في الرغبة والضراعة إلى الله عز وجل في فضله وغوث عباده برحمته وإنما ذكر مالك هذا الباب بعد الذي قبله لأنه أفرد الأول بسنة الاستسقاء من الصلاة وغيرها على حسب ما أوردنا فيه وأفرد هذا بمعنى الدعاء لأن الاستسقاء هو طلب الماء من الله تعالى والدعاء إليه فيه ومن أحسن ما روي في ذلك حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا في الاستسقاء فقال اللهم اسقينا غيثا مغيثا مريئا مريعا نافعا غير ضار عاجلا غير آجل قال فأطبقت عليهم السماء وحديث بن عباس قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله لقد جئتك من عند قوم ما يتزود لهم راع ولا يخطر لهم فحل فصعد المنبر فحمد الله ثم قال اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريعا مريئا طبقا غدقا عاجلا غير رائت ثم نزل فما يأتيه أحد من وجه من الوجوه إلا قال قد أحييتنا وقد ذكرنا أسانيد هذين الحديثين في التمهيد وروى بن لهيعة عن عقيل عن بن شهاب عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قضى صلاته في الاستسقاء استقبل القوم بوجهه وقلب رداءه ثم جثى على ركبتيه ورفع يديه وكبر تكبيرة قبل أن يستسقي ثم قال اللهم اسقنا وأغثنا الله اسقنا غيثا مغيثا رحبا ربيعا وجدا طبقا غدقا مغدقا مريعا عاما هنيئا مريئا مربعا وابلا شاملا مسبلا نجلا دائما دررا نافعا غير ضار عاجلا غير رائث تحيي به البلاد وتغيث به العباد وتجعله بلاغا للحاضر منا والباد اللهم أنزل علينا في أرضنا زينتها وسكنها وأنزل علينا من السماء ماء طهورا تحيي به بلدا ميتا وأناسي كثيرا وروى سفيان بن عيينة عن عمر بن سعيد أخي سفيان بن منصور بن المعتمر عن سالم بن أبي الجعد قال قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنك دعوت على مضر بالسنة فما يغط لهم بعير فقال صلى الله عليه وسلم اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريعا طيعا مجللا عاجلا غير رائت نافعا غير ضار فما مضى ذلك اليوم حتى مطروا فما مضت السابعة حتى أعطنوا في العشب‏.‏

420- وأما حديث مالك عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هلكت المواشي وتقطعت السبل فادعوا الله فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة قال فجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ‏!‏ تهدمت البيوت وانقطعت السبل وهلكت المواشي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم ظهور الجبال والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر قال فانجابت عن المدينة انجياب الثوب فقد روي عن أنس من وجوه كثيرة بمعان متفاوتة حسان قد ذكرنا بعضها في التمهيد ومن أكملها معنى وأحسنها ألفاظا وسياقه حديث مسلم الملائي عن أنس قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله لقد أتيناك وما لنا بعير يثط ولا صبي يصطبح وأنشد ‏(‏أتيناك والعذراء يدمى لبانها‏.‏‏.‏‏.‏ وقد شغلت أم الصبي عن الطفل‏:‏

وألقى بكفيه الفتى استكانة *** من الجوع ضعفا ما يمر وما يحلي

ولا شيء مما يأكل الناس عندنا *** سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل

وليس لنا إلا إليك فرارنا *** وأين فرار الناس إلا إلى الرسل

قال صاحب العين العلهز اسم للنرجس ويقال للياسمين فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر رداءه حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ورفع يديه إلى السماء فقال اللهم اسقنا غيثا مريعا غدقا طبقا عاجلا غير رائت نافعا غير ضار تملأ به الضرع وتنبت به الزرع وتحيي به الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون قال فما رد رسول الله يديه إلى نحره حتى التقت السماء بأرواقها وجاء أهل البطانة يضجون يا رسول الله الغرق الغرق فرفع يده إلى السماء وقال اللهم حوالينا ولا علينا فانجاب السحاب عن المدينة حتى أحدق بها كالإكليل فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال لله أبو طالب ‏!‏ لو كان حيا قرت عيناه من الذي ينشدنا قوله فقام علي بن أبي طالب فقال يا رسول الله كأنك أردت قوله‏:‏

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاك من آل هاشم‏.‏‏.‏‏.‏ فهم في نعمة وفواضل‏)‏‏:‏

كذبتم وبيت الله يبزى محمد *** ولما نقاتل دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرع حوله *** ونذهل عن أبنائنا والحلائل

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل فقام رجل من كنانة فقال‏:‏

لك الحمد ممن شكر *** سقينا بوجه النبي المطر

فذكر الأبيات على حسب ما كتبتها في التمهيد وقد روى حديث أنس هذا عنه ثابت البناني وحميد الطويل وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ليس في حديث واحد شيء من الشعر وإنما هي على نحو حديث مالك وروى الليث بن سعد هذا الحديث عن سعيد المقبري عن شريك بن أبي نمر عن أنس قال بينا نحن في المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قام رجل فقال يا رسول الله تقطعت السبل وهلكت الأموال وأجدبت البلاد فادع الله أن يسقينا فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه حذاء وجهه وقال اللهم اسقنا وذكر نحو حديث مالك إلا أنه قال حوالينا ولا علينا ولكن الجبال ومنابت الشجر فتفرق السحاب فما نرى منه شيئا‏.‏

وأما قوله في حديث مالك والآكام فهي الكدى والجبال من التراب وهي جمع أكمه مثل رقبة ورقاب وعتبة وعتاب وقد تجمع على آكام مثل آجام ومنابت الشجر مواضع المرعى حيث ترعى البهائم وانجياب الثوب انقطاع الثوب يعني الخلق يقول صارت السحابة قطعا وانكشفت عن المدينة كما ينكشف الثوب عن الشيء يكون عليه وفي الحديث أيضا ما يدل على الدعاء في الاستصحاء عند نوال الغيث كما يستسقى عند احتباسه وينبغي لمن استصحا أن لا يدعو في رفع الغيث جملة ولكن اقتداء بالنبي عليه السلام وما أدب به أمته في ذلك بقوله اللهم حوالينا ولا علينا ثم بين ذلك بقوله منابت الشجر وبطون الأودية يعني حيث لا يخشى هدم بيت ولا هلاك حيوان ولا نبات وروينا من وجوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خرج يستسقي فخرج معه العباس فقال اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك ونستشفع به فاحفظ فينا نبيك كما حفظت الغلامين لصلاح أبيهما وأتيناك مستغفرين مستشفعين ثم أقبل على الناس فقال ‏(‏استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا‏)‏ إلى قوله ‏(‏أنهرا‏)‏ ‏[‏نوح 10‏]‏‏.‏

21 ثم قام العباس وعيناه تنضحان فطال عمر ثم قال اللهم أنت الراعي لا تهمل الضالة ولا تدع الكسير بدار مضيعة فقد ضرع الصغير ورق الكبير وارتفعت إليك الشكوى وأنت تعلم السر وأخفى اللهم فأغثهم بغياثك من قبل أن يقنطوا فيهلكوا فلا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون فنشأت طريرة من سحاب فقال الناس ترون ترون ‏!‏ ثم تلاءمت واستتمت ومشت فيها ريح ثم هدت ودرت فوالله ما برحوا حتى اعتقلوا الحذاء وقلصوا المآزر وطفق الناس بالعباس يمسحون أركانه ويقولون هنيئا لك يا أبا الفضل أخبرنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا الخشني قال حدثنا أحمد بن أبي عمر قال حدثنا بن عيينة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن سعيد بن المسيب قال حدثنا من حضر مع عمر بن الخطاب فقال للعباس بن عبد المطلب ماذا بقي من نوء الثريا فقال العباس العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق بعد سقوطها سبعا قال فما مضت سابعة حتى مطروا‏.‏

وأما قول مالك فيمن فاتته صلاة الاستسقاء وأدرك الخطبة إن شاء صلاها في بيته وإن شاء في المسجد وإن شاء ترك فلأن السنن لا تقضى لزاما فتشبه الفرائض وهي فعل خير يخرج من قضاها‏.‏

باب الاستمطار بالنجوم

421- مالك عن صالح بن كيسان عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن زيد بن خالد الجهني أنه قال صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال أتدرون ماذا قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب‏.‏

وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب الحديبية موضع معروف في آخر الجبل وأول الحرم وفيه كان الصلح بين قريش وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه كانت بيعة الرضوان تحت الشجرة‏.‏

وأما قوله على إثر سماء فإنه يعني بالسماء المطر والغيث وهي استعارة حسنة معروفة للعرب قال حسان بن ثابت‏:‏

عفت ذات الأصابع فالجواء *** إلى عذراء منزلها خلاء

ديار من بني الحسحاس قفر‏.‏‏.‏‏.‏ تعفيها الروامس والسماء‏)‏ يعني ماء السماء وقال غيره فأفرط في المجاز وفي الاستعارة ‏(‏إذا نزل السماء بأرض قوم‏.‏‏.‏‏.‏ رعيناه وإن كانوا غضابا‏.‏

وأما قوله صلى الله عليه وسلم حاكيا عن الله عز وجل أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فمعناه عندي على وجهين ‏(‏أحدهما‏)‏ أن القائل مطرنا بنوء كذا أي بسقوط نجم كذا أو بطلوع نجم كذا إن كان يعتقد أن النوء هو المنزل للمطر والخالق له والمنشئ للسحاب من دون الله فهذا كافر كفرا صريحا ينقل عن الملة وإن كان من أهلها استتيب فإن رجع إلى ذلك إلى الإيمان بالله وحده وإلا قتل إلى النار وإن كان أراد أن الله عز وجل جعل النوء علامة للمطر ووقتا له وسببا من أسبابه كما تحيى بالأرض الماء بعد موتها وينبت به الزرع ويفعل به ما يشاء من خليفته فهذا مؤمن لا كافر ويلزمه مع هذا أن يعلم أن نزول الماء لحكمة الله تعالى ورحمته وقدرته لا بغير ذلك لأنه مرة ينزله بالنوء ومرة بغير نوء كيف يشاء لا إله إلا هو والذي أحب لكل مؤمن أن يقول كما قال أبو هريرة مطرنا بفضل الله ورحمته ويتلو الآية إن شاء روى بن عيينة عن عمرو بن دينار عن بن عباس في قوله عز وجل ‏(‏وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون‏)‏ ‏[‏الواقعة 82‏]‏‏.‏

قال ذلك في الأنواء وهو قول جماعة أهل التفسير للقرآن وروى سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا في بعض أسفاره يقول مطرنا ببعض عثانين الأسد وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبت بل هو سقيا الله عز وجل ورزقه قال سفيان عثانين الأسد الذراع والجبهة وروي عن الحسن البصري أنه سمع رجلا يقول طلع سهيل وبرد الليل فكره ذلك وقال إن سهيلا لم يكن قط بحر ولا برد وكره مالك أن يقول الرجل للغيم والسحابة ما أخلفها للمطر وهذا من قول مالك مع روايتيه إذا أنشأت بحرية يدل على أن القوم احتاطوا فمنعوا الناس من الكلام بما فيه أدنى متعلق من أمر الجاهلية بقولهم مطرنا بنوء كذا وكذا على ما فسرناه والله أعلم‏.‏

وقال الشافعي في كتابه المبسوط في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حاكيا عن الله عز وجل أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر الحديث قال هذا كلام عربي محتمل المعاني وكان صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم وإنما تكلم بهذا الكلام زمن الحديبية بين ظهراني قوم مؤمنين ومشركين فالمؤمن يقول مطرنا بفضل الله ورحمته وذلك إيمان بالله لأنه لا يمطر ولا يعطي ولا يمنع إلا الله وحده لا النوء لأن النوء مخلوق لا يملك لنفسه شيئا ولا لغيره وإنما هو وقت ومن قال مطرنا بنوء كذا يريد في وقت كذا فهو كقوله مطرنا في شهر كذا وهذا لا يكون كفرا ومن قال بقول أهل الشرك من الجاهلية الذين كانوا يضيفون المطر إلى النوء أنه أمطره فهذا كفر يخرج من ملة الإسلام والذي أحب أن يقول الإنسان مطرنا في وقت كذا ولا يقول بنوء كذا وإن كان النوء هو الوقت قال أبو عمر النوء في كلام العرب واحد أنواء النجوم وبعضهم يجعله الطالع وأكثرهم يجعله الساقط وقد سمى منازل القمر كلها أنواء وهي ثمان وعشرون منزلة قد أفردت لذكرها جزءا وقد ذكروا الناس كثيرا وقد أوضحنا القول في الأنواء في التمهيد‏.‏

وأما قوله صلى الله عليه وسلم في حديث بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عتاب بن حنين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو أمسك الله القطر على عباده خمس سنين ثم أرسله لأصبحت طائفة من الناس به كافرين يقول مطرنا بنوء المجدح فمعناه كمعنى حديث مالك هذا‏.‏

وأما المجدح فإن الخليل زعم أنه نجم كانت العرب تزعم أنها تمطر فيقال أرسلت السماء بمجادح الغيث ويقال مجدح ومجدح بالكسر والضم حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد قال حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا أحمد بن الحسن قال قال حدثنا يحيى بن معين قال حدثنا يحيى بن زكريا عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث لن يزلن في أمتي التفاخر بالأنساب والنياحة والأنواء يعني النياحة على الموتى والاستمطار بالنجوم‏.‏

422- وأما حديثه في هذا الباب أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة هذا الحديث لا أعرفه بوجه من الوجوه في غير الموطأ ومن ذكره إنما ذكره عن مالك في الموطأ إلا ما ذكره الشافعي في كتاب الاستسقاء عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن إسحاق بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أنشأت بحرية ثم استحالت شامية فهو أمطر لها وبن أبي يحيى مطعون عليه متروك وإسحاق بن عبد الله هو بن أبي فروة ضعيف أيضا متروك الحديث وهذا الحديث لا يحتج به أحد من أهل العلم بالحديث لأنه ليس له إسناد‏.‏

وقال الشافعي في حديثه هذا بحرية ‏(‏بالنصب‏)‏ كأنه يقول إذا ظهرت السحاب بحرية من ناحية البحر ومعنى نشأت ظهرت وارتفعت يقال أنشأ فلان يقول كذا إذا ابتدأ قوله وأظهره بعد سكوت وكذلك قولهم أنشأ فلان حائط نخل ومنه قول الله عز وجل ‏(‏وله الجوار المنشئات في البحر كالأعلم‏)‏ ‏[‏الرحمن 24‏]‏‏.‏

أي السفن الظاهرة في البحر كالجبال الظاهر في الأرض وقد قيل أنشأت تمطر أي ابتدأت ومنه قيل للشاعر أنشأ يقول وإنما سمى السحابة بحرية لظهورها من ناحية البحر يقول ‏(‏إذا طلعت سحابة من ناحية البحر‏)‏ وناحية البحر بالمدينة الغرب ‏(‏ثم تشاءمت‏)‏ أي أخذت نحو الشام والشام من المدينة في ناحية الشمال يقول إذا مالت السحابة الظاهرة من جهة الغرب إلى الشمال وهو عندنا البحرية ولا تميل كذلك إلا بالريح النكباء التي بين الغرب والجنوب هي القبلة فإنها يكون ماؤها غدقا يعني غزيرا معينا لأن الجنوب تسوقها وتستدرها وهذا معروف عند العرب وغيرهم قال الكميت‏:‏

مرته الجنوب فلما اكفهر *** رحلت عزاليه الشمأل

وأما قوله فتلك عين فالعين مطر أيام لا يقلع كذلك قال أهل العلم باللغة والخبر قالوا والعين أيضا ناحية القبلة والعرب تقول مطرنا بالعين ومن العين إذا كان السحاب ناشئا من ناحية القبلة وقد قيل إن العين ماء عن يمين قبلة العراق وغديقة تصغير غدقة والغدقة الكثيرة الماء قال الله عز وجل ‏(‏ماء غدقا‏)‏ ‏[‏الجن 16‏]‏‏.‏

قال كثير ‏(‏وتغدق أعداد به ومشارب‏)‏ يقول يكثر المطر عليه وأعداد جمع عد وهو الماء الغزير وقد يكون التصغير هنا أريد به التعظيم كما قال عمر في بن مسعود كنيف ملئ علما وقيل إن قول بن عمر كان لصغر قد بن مسعود ولطافة جسمه وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا خرج على العادة المعهودة من حكم الله وفضله لأنه يعلم نزول الغيث حقيقة بشيء من الأشياء قبل ظهور السحاب وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث بن عمر الخمس التي لا يعلمها إلا الله تعالى وقال ‏(‏إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام‏)‏ ‏[‏لقمان 43‏]‏‏.‏

وقد قيل إن هذا الحديث أريد به أن السحابة تحمل الماء من البحر واحتج قائل هذا بقول أبي ذؤيب الهذلي‏:‏

شربن بماء البحر ثم ترفعت *** متى لجج خضر لهن نشيج

وقال الأصمعي الباء في قوله بماء البحر للتبعيض والذي قدمت لك هو قول أهل العلم والدين وكيف كانت الحال فلا ينزل الغيث من حيث نزل ولا ينشئ السحاب ولا يرسل الرياح إلا الله وحده لا شريك له‏.‏

كتاب القبلة

باب النهي عن استقبال القبلة والإنسان على حاجة وباب الرخصة في استقبال القبلة لبول أو غائط

424- ذكر فيه عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن رافع بن إسحاق مولى لآل الشفاء وكان يقال له مولى أبي طلحة أنه سمع أبا أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمصر يقول والله ما أدري كيف أصنع بهذه الكرابيس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب أحدكم الغائط أو البول فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بفرجه‏.‏

425- وعن نافع عن رجل من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تستقبل القبلة لغائط أو بول قد ذكرنا في التمهيد ما يجب من القول في إسناد هذا الحديث والذي قبله ومع ذلك فهما حديثان ثابتان عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يختلف في ثبوتهما لأنهما رويا من وجوه كثيرة صحاح دون علة وإنما اختلف الفقهاء في نسخهما أو تخصيصهما على ما نوضحه هنا إن شاء الله وفي حديث أبي أيوب من الفقه استعمال عموم الخطاب على من سمعه في السنة والكتاب لأن أبا أيوب سمع النهي عن استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط واستعمل ذلك مطلقا عاما في البيوت وغيرها إذ لم يحضر شيء من ذلك في الحديث ألا ترى أن رواية بن شهاب لهذا الحديث عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها قال أبو أيوب فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل القبلة فننحرف ونستغفر الله تعالى وهذا يجب على كل من بلغه شيء أن يسعمله على عمومه حتى يثبت عنده ما يختص به أو ينسخه واختلف العلماء في هذه المسألة قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وهو قول أحمد بن حنبل وأبي ثور لا يجوز استقبال القبلة لغائط أو بول في الصحارى ولا في البيوت ولا في موضع من المواضع واحتج أحمد وجماعة منهم بحديث أبي أيوب هذا وما كان مثله وقالوا أبو أيوب أعلم بما روى وقد رواه معه جماعة من ا لصحابة منهم بن مسعود وسهل بن حنيف وأبو هريرة وسلمان وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي كلهم روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن استقبال القبلة ببول أو غائط ورد أحمد بن حنبل حديث جابر وحديث عائشة الواردين عن النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة في هذا الباب وسنذكرهما فيه بعد إن شاء الله‏.‏

وقال مالك والشافعي وأصحابهما وهو قول بن المبارك وإسحاق بن راهويه أما في الصحارى فلا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها للغائط ولا البول‏.‏

وأما في البيوت فذلك جائز لا بأس به لحديث بن عمر لقد ارتقيت على ظهر بيت لنا فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل القبلة هكذا رواه بن عجلان عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه عن بن عمر‏.‏

426- ورواه مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن بن عمر فقال فيه رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على لبنتين مستقبل بيت المقدس لحاجته وهكذا رواه عبد الوهاب الثقفي ورواه سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد بلفظ حديث مالك ومعناه ورواه عبيد الله بن عمر عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه عن بن عمر فقال فيه فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا على حاجته مستقبل بيت المقدس مستدبر الكعبة وقال فيه حفص بن غياث عن عمرو بن سعيد عن محمد بن يحيى عن عمه عن بن عمر متوجها نحو القبلة لم يقل الكعبة ولا بيت المقدس‏.‏

وقال أحمد بن حنبل في حديث بن عمر هذا إنما نسخ فيه استقبال بيت المقدس واستدباره بالغائط والبول قال هذا الذي لا أشك فيه وأنا أشك في الكعبة قال أبو عمر قد قال في حديث بن عمر من لا مدفع لأحد في نقله وهو عبيد الله بن عمر عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن بن عمر مستقبل بيت المقدس مستدبر الكعبة فدل على أن النهي إنما أريد به الصحارى لا البيوت لما في ذلك من الضيق والحرج وما جعل الله في الدين من حرج ومعلوم أن بيت المقدس إنما ذكر في وقت كونه والله أعلم قبلة فالقبلة البيت الحرام كذلك فكيف وفي نقل الثقات الحفاظ مستقبل بيت المقدس مستدبر الكعبة فجاء بالوجهين جميعا وقد روى حماد بن سلمة وغيره عن خالد بن الصلت عن عراك بن مالك عن عائشة قالت ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم أن قوما يكرهون أن يستقبلوا بفروجهم القبلة فقال فعلوها استقبلوا بمقعدي القبلة وهذا واضح من خصوص البيوت ومعلوم أن المقاعد لا تكون إلا في البيوت فدل على أن الصحاري عليها حرج النهي خاصة والله أعلم وقد ذكرنا أسانيد أحاديث هذا الباب كلها في التمهيد وقد روى مروان الأصفر عن بن عمر أنه رآه أناخ راحلته مستقبل بيت المقدس ثم جلس يبول إليها فقلت يا أبا عبد الرحمن ‏!‏ أليس قد نهي عن هذا فقال إنما نهي عن ذلك في الفضاء وإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس وروى وكيع وعبيد الله بن موسى عن عيسى بن أبي عيسى الخياط وهو عيسى بن ميسرة قال قلت للشعبي إن أبا هريرة يقول لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها وقال بن عمر كانت مني التفاتة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كنيفه مستقبل القبلة فقال الشعبي صدق أبو هريرة وصدق بن عمر قول أبي هريرة في البرية وقول بن عمر في الكنيف قال الشعبي فأما كنفكم هذه فلا قبلة لها هذا حديث وكيع وقد ذكرنا في التمهيد حديث أبي هريرة مسندا وحديث بن عمر من رواية عيسى الحناط وقالت طائفة من أهل العلم منهم داود ومن اتبعه وهو قول عروة بن الزبير جائز استقبال القبلة للبول والغائط في الصحارى والبيوت واحتجوا بحديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط قال ثم رأيته بعد ذلك يستقبل القبلة ببوله قبل موته بعام وقد ذكرت إسناد هذا الحديث في التمهيد قالوا فهذا يبين أن نهيه في ذلك منسوخ وأقل أحوال الآثار في ذلك أن تتعارض فتسقط وأصل الأمور الإباحة حتى يثبت الحظر بما لا معارض له هذا ما نزع به من ذهب مذهب داود وليس حديث جابر الذي عولوا عليه في النسخ مما يحتج به عند أهل العلم بالنقل ولا مما يعتمد على مثله والله أعلم وقد أوضحنا هذا المعنى في التمهيد والحمد لله وكان مجاهد وإبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين يكرهون أن تستدبر إحدى القبلتين أو تستقبل لغائط أو بول الكعبة وبيت المقدس وهؤلاء غاب عنهم وخفي عليهم ما علمه غيرهم وبالله التوفيق قال أبو عمر من الدليل على أن نهيه صلى الله عليه وسلم استقبال القبلة بالبول والغائط إنما عنى به الصحارى والفضاء والفيافي دون كنف البيوت قوله في حديث عائشة استقبلوا بمقعد القبلة والمقعد لا يكون إلا في البيوت ومثل هذا حديث بن عمر كان منه بالمدينة رآه على سطح أشرف عليه منه فرآه على لبنتين يقضي حاجته إلى ناحية القبلة ويدل أيضا على ذلك أن متبرز القوم إنما كان أكثره في الصحراء وخارجا من البيوت ألا ترى أن ما جاء في حديث الإفك من قول عائشة ‏(‏رحمها الله‏)‏ وكانت بيوتنا لا مراحيض لها وإنما أمرنا أمر العرب الأول تعني البعد في البراز وقال بعض أصحابنا إنما وقع النهي عن الصحارى لأن الملائكة تصلي في الصحارى‏.‏

وأما قوله في الحديث كيف أصنع بهذه الكرابيس فهي المراحيض واحدها كرباس مثل سربال وسرابيل وقد قيل إن الكرابيس مراحيض العرب‏.‏

وأما مراحيض البيوت فإنما يقال لها الكنف وفي قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بفرجه دليل على أن القبل يسمى فرجا وأن الدبر أيضا يسمى فرجا واختلف الذين رأوا الوضوء من مس الفرج في مس الدبر على ما قد ذكرناه في موضعه والحمد لله والذي نقول به إنه لما احتمل لفظ الفرج الوجهين كان المبين للمراد منه والقاضي فيه صلى الله عليه وسلم مس ذكره‏.‏

وأما قوله في الحديث لعلك من الذين يسجدون على أوراكهم فإنه يعني الذي يسجد ولا يرتفع عن الأرض لاصقا بها وقد مضى القول فيما يجزئ من السجود والركوع في مواضع من هذا الكتاب ‏(‏منها‏)‏ حديث رفاعة بن رافع وأبي هريرة بمعنى واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للرجل الذي أمره أن يعيد صلاته وعلمه الفرائض فيها ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا الحديث وحديث البراء بن عازب في وصفه لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وكان يقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم وحديث البراء أيضا قال رمقت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فكان قيامه من الركوع وركوعه وقيامه من السجود وسجوده سواء أو قريبا من السواء أخرجهما أبو داود وغيره‏.‏

وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا حفص بن عمرو النمري قال حدثنا شعبة عن سليمان عن عمارة بن عمير عن أبي مسعود البدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجزئ صلاة رجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود‏.‏

باب النهي عن البصاق في القبلة

427- ذكر فيه مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر‏.‏

428- وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بصاقا زاد في حديث هشام أو مخاطا أو نخامة في جدار القبلة فحكه ثم أقبل على الناس فقال إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه فإن الله تبارك وتعالى قبل وجهه إذا صلى قال أبو عمر أما حكه صلى الله عليه وسلم البصاق من القبلة ففيه دليل على تنزيه المساجد من كل ما يستقدر ويستسمج وإن كان طاهرا لأن البصاق طاهر ولو كان نجسا لأمر بغسل أثره ويدلك على طهارته حديث حذيفة وحديث أبي سعيد وحديث أبي هريرة وحديث أنس وكلها قد ذكرتها في التمهيد بمعنى واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح للمصلي أن يبصق ويتنخم في ثوبه وعن يساره ولو كان نجسا ما أباح له حمله في ثوبه ولا أعلم كلاما في طهارة البصاق إلا شيئا روي عن سلمان الجمهور على خلافه والسنن الثابتة وردت برده وفي حك البصاق من المسجد تنزيهه عن أين يؤكل فيه مثل البلوط لقشره والزبيب لعجمه وكل ما له دسم وودك وتلويث وما له حب وتبن ونحو ذلك مما يكنسه المرء من بيته وإذا كان ذلك فالنجاسة أحرى أن لا يقرب المسجد شيء منها وقد ذكرنا في التمهيد حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب والبصاق ما خرج من الفم وفيه لغتان بصاق وبزاق ويكتب بالسين كما يكتب بالصاد والزاي والنخامة ما خرج من الحلق والمخاط ما خرج من الأنف وليس شيء من ذلك نجس ولكن المساجد واجب تنزيهها عن كل ما تستقذره النفس‏.‏

وأما قوله فإن الله قبل وجهه إذا صلى فكلام خرج على شأن تعظيم القبلة وإكرامها كما قال طاوس أكرموا قبلة الله عن أن تستقبل للغائط والبول حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال حدثنا حميد عن أنس قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة في المسجد فشق عليه حتى عرفنا ذلك في وجهه فحكه وقال إن أحدكم إذا قام إلى الصلاة فإنما يناجي ربه وإنما ربه بينه وبين قبلته فليبصق إذا بصق عن يساره أو تحت قدمه وقال صلى الله عليه وسلم البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها وقد ذكرنا إسناده في التمهيد وفي هذا دليل على أن للمصلي أن يبصق وهو في الصلاة إذا لم يبصق قبل وجهه ولا عن يمينه ولا يقطع ذلك صلاته ولا يعيدها وفي ذلك دليل على أن النفخ في الصلاة لا يضرها إذا لم يقصد به صاحبه اللعب والعبث لأن البصاق لا يسلم من شيء من النفخ والتنحنح مثل النفخ إذا لم يكن جوابا ولا أريد به معنى الكلام ولا العبث ولا اللعب واختلف الفقهاء في هذا المعنى فكان مالك يكره النفخ في الصلاة فإن فعله فاعل لا يقطع صلاته ذكره بن وهب عن مالك وذكره بن خواز بنداذ قال قا ل مالك التنحنح والنفخ في الصلاة لا يقطع الصلاة رواه بن عبد الحكم قال قال بن القاسم التنحنح والنفخ في الصلاة يقطع الصلاة قال الشافعي كل ما لا يفهم منه حروف الهجاء فليس بكلام ولا يقطع الصلاة إلا الكلام المفهوم‏.‏

وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن إن كان النفخ يسمع فهو بمنزلة الكلام يقطع الصلاة وقال أبو يوسف لا يقطع الصلاة إلا أن يريد التأفيف ثم رجع فقال صلاته تامة‏.‏

وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه لا إعادة على من نفخ في الصلاة والنفخ مع ذلك مكروه عندهما إلا أن يكون تأوها من ذكر النار وخوف الله تعالى إذا مر بذلك في القرآن وقد زدنا هذا بيانا في التمهيد‏.‏

باب ما جاء في القبلة

429- ذكر فيه عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أنه قال بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة قال أبو عمر أكثر الرواة رووا فاستقبلوها على لفظ الخبر وقد رواها بعضهم على لفظ الأمر ومن روى هذا الحديث عن مالك عن نافع عن بن عمر فقد أخطأ فيه وإنما هو لمالك عن عبد الله بن دينار في جميع الموطآت وجماعة الرواة عنه وفيه دليل على قبول خبر الواحد والعمل به وإيجاب الحكم بما صح منه لأن الصحابة رضي الله عنهم قد استعملوا خبره وقضوا به وتركوا قبلة كانوا عليها لخبر الواحد العدل ولم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك عليهم وحسبك بمثل هذا سنة وعملا من خير القرون وفي حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمخبر الذي أخبر خير القرون أهل قباء هو عباد بن بشر الأنصاري قد ذكرنا الخبر بذلك في التمهيد وفيه أن القرآن كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا بعد شيء وفي حال بعد حال على حسب الحاجة إليه حتى أكمل الله دينه وقبض رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما أنزل القرآن جملة واحدة ليلة القدر إلى سماء الدنيا ثم كان ينزل به جبريل نجما بعد نجم وحينا بعد حين وقال عكرمة وجماعة في قوله تعالى ‏(‏فلا أقسم بموقع النجوم‏)‏ ‏[‏الواقعة 75‏]‏‏.‏

قالوا القرآن نزل جملة واحدة فوضع بمواقع النجوم فجعل جبريل ينزل بالآية والآيتين وقد زدنا هذا المعنى بيانا في التمهيد وقال الله عز وجل ‏(‏إنا أنزلنه في ليلة القدر وما أدرك ما ليلة القدر‏)‏ ‏[‏القدر 1‏]‏‏.‏

2 يعني القرآن قال بن عباس وغيره إلى سماء الدنيا وقال عز وجل ‏(‏وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة وحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلنه ترتيلا‏)‏ ‏[‏الفرقان 32‏]‏‏.‏

وفيه أن الصلاة كانت إلى غير الكعبة ولا خلاف بين علماء الأمة أنها كانت إلى بيت المقدس وكذلك في الآثار عن علماء السلف أشهر وأعرف من أن يحتاج إلى إيراده هنا قال الله عز وجل ‏(‏سيقول السفهاء من الناس ما ولهم عن قبلتهم التي كانوا عليها‏)‏ ‏[‏البقرة 142‏]‏‏.‏

واختلفوا في السفهاء هنا فقيل المنافقون وقيل اليهود وقال الله عز وجل ‏(‏قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضها‏)‏ ‏[‏البقرة 144‏]‏‏.‏

وفي ذلك دليل على أن في أحكام الله تعالى ناسخا ومنسوخا وهو ما لا اختلاف فيه بين العلماء الذين هم الحجة على من خالفهم وقد أوردنا من الآثار في التمهيد ما فيه كفاية في معنى هذه الآية وقد أجمع العلماء على أن أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة وأجمعوا على أن ذلك كان بالمدينة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما صرف عن الصلاة إلى بيت المقدس وأمر بالصلاة إلى الكعبة بالمدينة واختلفوا في صلاته بمكة قبل الهجرة حين فرضت الصلاة عليه فقالت طائفة كانت صلاته إلى بيت المقدس من حين فرضت الصلاة عليه بمكة إلى أن قدم المدينة ثم بالمدينة ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا على حسب اختلاف الرواية في ذلك حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا وجيه بن الحسن قال حدثنا بكار بن قتيبة قال حدثنا يحيى بن حماد قال حدثنا أبو عوانة عن الأعمش عن مجاهد عن بن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس وهو بمكة والكعبة بين يديه وبعد ما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهرا ثم صرف إلى الكعبة وقال آخرون إنما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما افترضت الصلاة عليه إلى الكعبة طول مقامه بمكة ثم لما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا وقيل سبعة عشر شهرا وقيل ثمانية عشر شهرا ثم صرفه الله تعالى إلى الكعبة ذكر سنيد عن حجاج عن بن جريج قال قال بن عباس صلى أول ما صلى إلى الكعبة ثم صرف عنها إلى بيت المقدس فصلت الأنصار نحو بيت المقدس قبل موته صلى الله عليه وسلم ثلاث حجج وصلى بعد قدومه ستة عشر شهرا ثم وجهه الله تعالى إلى الكعبة البيت الحرام وذكر وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا وكان يحب أن يحول إلى الكعبة فأنزل الله تعالى ‏(‏قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضها‏)‏ ‏[‏البقرة 144‏]‏‏.‏

فوجه نحو الكعبة وكان يحب ذلك قال أبو عمر ظاهر هذا الحديث يدل على أنه لما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس لا قبل ذلك والله أعلم وكذلك حديث علي بن أبي طلحة عن بن عباس قال كان أول ما نسخ الله تعالى من القرآن القبلة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا وذلك كما حدثناه سعيد بن نصر وأحمد بن قاسم وعبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا عبد الله بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن بن عباس قال أول ما نسخ الله تعالى من القرآن القبلة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا وكان صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم وكان يدعو الله فينظر إليها فأنزل الله تعالى ‏(‏قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضها فول وجهك شطر المسجد الحرام‏)‏ ‏[‏البقرة 144‏]‏‏.‏

فارتاب من ذلك اليهود وقالوا ‏(‏ما ولهم عن قبلتهم التي كانوا عليها‏)‏ ‏[‏البقرة 142‏]‏‏.‏

فأنزل الله عز وجل ‏(‏قل لله المشرق والمغرب‏)‏ ‏[‏البقرة 142‏]‏‏.‏

وقال ‏(‏فأينما تولوا فثم وجه الله‏)‏ ‏[‏البقرة 115‏]‏‏.‏

وقال الله تعالى ‏(‏وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه‏)‏ ‏[‏البقرة 143‏]‏‏.‏

قال بن عباس وليميز أهل اليقين من أهل الشك والريبة قال الله تعالى ‏(‏وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله‏)‏ ‏[‏البقرة 143‏]‏‏.‏

يعني تحويلها على أهل الشرك لا على المصدقين بما أنزل الله تعالى حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا أحمد بن سلمان النجار ببغداد قال حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث قال حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا آدم بن أبي إياس قال حدثنا أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله عز وجل ‏(‏وإن الذين أوتوا الكتب ليعلمون أنه الحق من ربهم‏)‏ ‏[‏البقرة 144‏]‏‏.‏

يقول إن الكعبة البيت الحرام قبلة إبراهيم والأنبياء ‏(‏صلى الله عليهم‏)‏ ولكنهم تركوها عمدا وقال في قوله ‏(‏وإن فريقا منهم ليكتمون الحق‏)‏ ‏[‏البقرة 146‏]‏‏.‏

يقول يكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم ويكتمون أيضا أن القبلة هي الكعبة البيت الحرام ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ‏(‏فلا تكونن من الممترين‏)‏ ‏[‏البقرة 147‏]‏‏.‏

يقول لا تكن في شك يا محمد أن الكعبة هي قبلتك وكانت قبلة الأنبياء وبهذا الإسناد عن أبي العالية أن موسى ‏(‏عليه السلام‏)‏ كان يصلي عند الصخرة ويستقبل البيت الحرام وكانت الكعبة قبلته وكانت الصخرة بين يديه فقال يهودي بيني وبينك مسجد صالح النبي ‏(‏عليه السلام‏)‏ قال أبو العالية فإني صليت في مسجد صالح وقبلته الكعبة‏.‏

وأخبرني أبو العالية أنه رأى مسجد ذي القرنين وقبلته إلى الكعبة وقد تقدم ما يدل على صحة هذا القول وأن القبلة كانت قبلة إبراهيم وإسماعيل وكل ما دان بدين إبراهيم وإليها صلى النبي ‏(‏عليه السلام‏)‏ مذ فرضت عليه الصلاة حتى هاجر إلى المدينة وذلك واضح بين فيما تقدم في صدر كتاب الصلاة من هذا الديوان وأجمع العلماء على أن القبلة التي أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم وعباده بالتوجه نحوها في صلاتهم هي الكعبة البيت الحرام بمكة قال الله عز وجل ‏(‏فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره‏)‏ ‏[‏البقرة 150‏]‏‏.‏

وأجمعوا على أنه فرض واجب على من عاينها وشاهدها استقبالها بعينها وأنه إن ترك استقبالها وهو معاين لها فلا صلاة له أجمعوا أن على من غاب عنها بعد أو قرب أن يتوجه في صلاته نحوها بما قدر عليه من الاستدلال على جهتها من النجوم والجبال والرياح وغيرها وأجمعوا أن من صلى من غير اجتهاد ولا طلب للقبلة ثم بان له أنه لم يستقبل جهتها في صلاته أن صلاته فاسدة كمن صلى بغير طهارة يعيدها في الوقت وغيره وفي هذا المعنى حكم من صلى إلى غير القبلة في مسجد يمكنه فيه طلب القبلة وعلمها ووجودها بالمحراب وشبهه ولم يفعل وصلى إلى غيرها واختلفوا فيمن غابت عليه القبلة فصلى مجتهدا كما أمر ثم بان له بعد ما فرغ من الصلاة أنه قد أخطأ القبلة بأن استدبرها أو شرق أو غرب ثم بان له ذلك وهو في الصلاة فجملة قول مالك وأصحابه أن من صلى مجتهدا على قدر طاقته طالبا للقبلة باجتهاده يؤم ناحيتها إذا خفت عليه ثم بان له بعد صلاته أنه قد استدبرها أو شرق أو غرب جدا فإنه يعيد صلاته في الوقت فإن خرج الوقت فلا إعادة عليه والوقت في ذلك للظهر والعصر ما لم تصفر الشمس وقد روي عن مالك ما لم تغرب الشمس وفي المغرب والعشاء ما لم ينفجر الصبح وفي صلاة الصبح ما لم تطلع الشمس وقد روي عنه ما لم تسفر جدا ووجه الإعادة في الوقت استدراك الكمال وذلك استحباب مؤكد عندهم فإن علم في الصلاة أنه استدبرها أو شرق أو غرب قطع وابتدأ وإن لم يشرق ولم يغرب ولكنه انحرف انحرافا يسيرا فإنه ينحرف إلى القبلة إذا علم ويتمادى ويجزئه ولا شيء عليه وقال أشهب سئل مالك عن من صلى إلى غير القبلة فقال إن كان انحرف انحرافا شديدا فإن عليه إعادة ما كان في الوقت وقال الأوزاعي من تحرى فأخطأ القبلة أعاد ما كان في الوقت ولا يعيد بعد الوقت وقال الثوري إذا صليت لغير القبلة فقد أجزأك إذا لم تعمد ذلك وإن كنت صليت بعد صلاتك لغير القبلة ثم عرفت القبلة بعد فاستقبل القبلة بقية صلاتك واحتسب بما صليت وقال المزني عن الشافعي إذا صلى إلى الشرق ثم رأى القبلة إلى الغرب استأنف وإن شرق أو غرب منحرفا ورأى أنه منحرف وتلك جهة واحدة فإن عليه أن ينحرف ويعتد بما مضى وذكر الربيع عن الشافعي قال ولو دخل في الصلاة على اجتهاده ثم رأى القبلة في غير الناحية التي صلى إليها فإن كان مشرقا أو مغربا لم يعتد بما مضى من صلاته وسلم واستقبل الصلاة على ما بان له واستيقنه وإن رأى أنه انحرف لم يلغ شيئا من صلاته لأن الانحراف للمجتهد ليس فيه يقين خطأ وإنما هو اجتهاد لم يرجع منه إلى يقين وإنما رجع إلى اجتهاد شك‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه من تحرى القبلة فأخطأ ثم بان له ذلك فلا إعادة عليه في وقت ولا في غيره قالوا وله أن يتحرى القبلة إذا لم يكن على يقين من علم جهتها قالوا ولو صلى قوم على اجتهاد ثم بان لهم بعد ركعة أنهم أخطأوا القبلة صرفوا وجوههم فيما بقي من صلاتهم إلى القبلة وصلاتهم تامة وكذلك لو أتموا ثم علموا بعد لم يعيدوا وقال الطبري من تحرى فأخطأ القبلة أعاد أبدا إذا استدبرها وهو أحد قولي الشافعي قال أبو عمر قد أوضحنا معنى اختلافهم والوجه المختار منه في التمهيد والحمد لله وقول الثوري أشبه بظاهر الحديث هذا الباب والله الموفق للصواب‏.‏

430- وأما حديثه عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال صلى رسول الله بعد أن قدم المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس ثم حولت القبلة قبل بدر بشهرين فقد مضى في هذا الباب معناه مسندا وفي التمهيد كثير من طرقه وفيه دليل على أن العلم بأيام الإسلام وتاريخ ذلك والوقوف عليه من العلم الحسن المندوب إليه ولا غنى للعلماء عنه وأجمع أهل السير أن القبلة حولت سنة اثنتين من الهجرة وأصح ما روي في ذلك ما ذكره مالك عن يحيى بن سعيد مسندا عن سعيد بن المسيب ‏(‏حديثه هذا‏)‏ وكذلك قال بن إسحاق قال صرفت القبلة في رجب بعد سبعة عشر شهرا كذا قال بن إسحاق سبعة عشر شهرا وروي مثل ذلك من حديث البراء بن عازب إلا أنه اختلف فيه فبعضهم يقول ستة عشر أو سبعة عشر شهرا وقد قيل فيه ثمانية عشر شهرا ورواه شعبة عن أبي إسحاق عن البراء قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا بعد قدومه المدينة وهو الأصح والأكثر على ما قاله سعيد بن المسيب ‏(‏رحمه الله‏)‏ وفي هذه المسألة قولان شاذان ‏(‏أحدهما‏)‏ ما رواه أبو عاصم النبيل عن عثمان بن سعيد الكاتب عن أنس قال صرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيت المقدس بعد تسعة أشهر أو عشرة والثاني ما رواه أشعث عن الحسن قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس سنتين ثم حلوت القبلة‏.‏

وأما حديث مالك في هذا الباب‏.‏

431- عن نافع أن عمر بن الخطاب قال ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا توجه قبل البيت فقد وصله عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر قال قال عمر ما بين المشرق والمغرب قبلة وكذلك قال عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس ومحمد بن الحنفية وقد ذكرنا الأسانيد عنهم كذلك في التمهيد وذكرنا حديثا مرفوعا هناك من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما بين المشرق والمغرب قبلة معناه إذا توجه قبل البيت كما قال عمر في رواية مالك وقال الأثرم سألت أحمد بن حنبل عن قول عمر ما بين المشرق والمغرب قبلة فقال هذا في كل البلدان إلا مكة عند البيت فإنه إن زال عنه بشيء وإن قل فقد ترك القبلة قال وليس كذلك قبلة البلدان ثم قال هذا المشرق وأشار بيده وهذا المغرب وأشار بيده وما بينهما قبلة قلت له فصلاة من صلى بينهما جائزة قال نعم وينبغي أن يتحرى الوسط قال أبو عبد الله قد كنا نحن وأهل بغداد نصلي نتيامن قليلا ثم حرفت القبلة منذ سنين يسيرة قال أبو عمر تفسير قول أحمد بن حنبل هذا في كل البلدان يريد أن البلدان كلها لأهلها من السعة في قبلتهم مثل ما لمن كانت قبلته بالمدينة الجنوب التي تقع لهم فيها الكعبة فيستقبلون جهتها ويتسعون يمينا وشمالا فيها ما بين المشرق والمغرب يجعلون المغرب عن أيمانهم والمشرق عن يسارهم وكذلك يكون لأهل اليمن من السعة في قبلتهم مثل ما لأهل المدينة ما بين المشرق والمغرب إذا توجهوا أيضا قبل البيت إلا أنهم يجعلون المشرق عن أيمانهم والمغرب عن يسارهم وكذلك أهل العراق وخراسان لهم من السعة في استقبال القبلة ما بين الجنوب والشمال مثل ما كان لأهل المدينة من السعة فيما بين المشرق والمغرب وكذا هذا العراق على ضد ذلك أيضا وإنما تضيق القبلة كل الضيق على أهل المسجد الحرام وهي لأهل مكة أوسع قليلا ثم هي لأهل الحرم أوسع قليلا ثم هي لأهل الآفاق من السعة على حسب ما ذكرنا قال أحمد بن خالد قول عمر بن الخطاب ما بين المشرق والمغرب قبلة قاله بالمدينة فمن كانت قبلته مثل قبلة المدينة فهو في سعة ما بين المشرق والمغرب ولسائر البلدان من السعة في القبلة مثل ذلك في الجنوب والشمال ونحو ذلك هذا معنى قوله وهو صحيح لا مدفع له ولا خلاف بين أهل العلم فيه‏.‏