فصل: وفي هذا الباب أيض

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار ***


باب الحسبة في المصيبة

511- مالك عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم هذا الإسناد من أجود أسانيد الآحاد وفي هذا الحديث على حسب ما قيده مالك ‏(‏رحمه الله‏)‏ في ترجمته من ذكر الحسبة وهي الصبر والاحتساب والرضا والتسليم أن المسلم تكفر خطاياه ويغفر له ذنوبه بالصبر على مصيبته ولذلك خرج عن النار فلم تمسه وقد ذكرنا في التمهيد أحاديث تعضد هذا المعنى وتشده منها حديث أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم ذكر في الحديث لم يبلغوا الحنث يعني لم يبلغوا أن تجري عليهم الأقلام بالسيئات فإذا كان الآباء يدخلون الجنة بفضل رحمة الله لأطفالهم دل على أن أطفال المسلمين في الجنة لأنه يستحيل أن يرحموا من أجل من ليس بمرحوم ألا ترى إلى قوله بفضل رحمته إياهم وعلى هذا جمهور علماء المسلمين إلا المجبرة فإنهم يقولون هم في المشيئة وشهد بهذا ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال إني مكاثر بكم الأمم حتى بالسقط يظل محبنطئا يقال له ادخل الجنة فيقول لا حتى يدخلها أبواي فيقال له ادخل الجنة أنت وأبواك ومثل ذلك أيضا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صغاركم دعاميص الجنة وأبين من هذا حديث شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن رجلا من الأنصار مات له بن صغير فوجد عليه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما يسرك ألا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا وجدته يستفتح لك فقالوا له يا رسول الله أله خاصة أم للمسلمين عامة قال بل للمسلمين عامة وروي عن علي ‏(‏رضي الله عنه‏)‏ في قول الله تعالى ذكره ‏(‏كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين‏)‏ ‏[‏المدثر 38‏]‏‏.‏

39 قال أطفال المسلمين وسنذكر الآثار التي يحتج بها فرق الإسلام أهل السنة والمجبرة وغيرهم في الأطفال في باب جامع الجنائز بعد من هذا الكتاب إن شاء الله‏.‏

وأما قوله في حديث مالك إلا تحلة القسم فهو لفظ مخرج في التفسير المسند لأن القسم المذكور فيه معناه عند العلماء قول الله عز وجل ‏(‏وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا‏)‏ ‏[‏مريم 71‏]‏‏.‏

قال الحسن وقتادة ‏(‏حتما مقضيا‏)‏ واجبا وكذلك قال السدي ورواه عن مرة الهمداني عن بن مسعود وقد اختلف العلماء في الورود المذكور في هذه الآية فقال منهم قائلون الورود الدخول وممن قال ذلك عبد الله بن رواحة وعبد الله بن عباس على أنه قد اختلف في ذلك عن بن عباس وقد ذكرنا الأسانيد بذلك عنهما في التمهيد ذكر بن جريج عن عطاء عن بن عباس قال الورود الذي ذكره الله تعالى في القرآن الدخول ليردها كل بر وفاجر ثم قال بن عباس في القرآن أربعة أوراد قوله تعالى ‏(‏فأوردهم النار‏)‏ ‏[‏هود 98‏]‏‏.‏

وقوله ‏(‏حصب جهنم أنتم لها واردون‏)‏ ‏[‏الأنبياء 98‏]‏‏.‏

وقوله ‏(‏ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا‏)‏ ‏[‏مريم 86‏]‏‏.‏

وقوله ‏(‏وإن منكم إلا واردها‏)‏ ‏[‏مريم 71‏]‏‏.‏

قال بن عباس والله لقد كان من دعاء من مضى اللهم أخرجني من النار سالما وأدخلني الجنة غانما وعن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الورود هو الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم فينج الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا يقول في ذلك الموضع يفوز بالسلامة أهل الطاعة ويشقى بالعذاب أولي الكفر والمعصية وقال آخرون الورود الممر على الصراط روى الكعبي عن أبي صالح عن بن عباس في قوله ‏(‏وإن منكم إلا واردها‏)‏ ‏[‏مريم 71‏]‏‏.‏

قال الممر على الصراط وروي ذلك عن عبد الله بن مسعود وكعب الأحبار وخالد بن معدان وأبي نضرة وهو قول السدي وروى إسرائيل وشعبة عن السدي أنه سأل مرة الهمداني عن قول الله عز وجل ‏(‏وإن منكم إلا واردها‏)‏ ‏[‏مريم 71‏]‏‏.‏

قال فحدثني أن عبد الله بن مسعود حدثهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من أحد إلا وهو يرد النار ثم يصدرون منها بأعمالهم فأولهم كالبرق ثم كالريح ثم كخطو الفرس ثم كالراكب في رحله ثم كشد الرجل ثم كمشيه وقفه إسرائيل وكان شعبة ربما رفعه وكان كثيرا يرفعه وقال آخرون هو خطاب للكفار ذكر وكيع عن شعبة عن عبد الرحمن بن السائب عن رجل عن بن عباس أنه قال في قول الله تعالى ‏(‏وإن منكم إلا واردها‏)‏ ‏[‏مريم 71‏]‏‏.‏

قال هو خطاب للكفار روي ذلك عن الحسن قال هو خطاب للمشركين قال أبو عمر يريد وإن منكم يا هؤلاء أو نحو ذلك وقد روي عن بن عباس أنه كان يقرؤها ‏(‏وإن منهم إلا واردها‏)‏ ردا على الآيات التي قبلها من الكفار قول الله تعالى ‏(‏فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا وإن منكم إلا واردها‏)‏‏.‏

68- 71 مريم وقال بن الأنباري وغيره جائز في القصة أن يرجع من مخاطبة الغائب إلى لفظ المواجه كما قال عز وجل ‏(‏وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا‏)‏ ‏[‏الإنسان 21‏]‏‏.‏

22 فأبدل الله من الكاف الهاء قال أبو عمر يرجع من مخاطبة الغائب إلى المواجه ومن المواجه إلى الغائب كما قال عز وجل ‏(‏حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم‏)‏ ‏[‏يونس 22‏]‏‏.‏

وهو كثير في القرآن وأشعار العرب وقال آخرون الورود إشراف على النار بالنظر إليها ثم ينجى منها الفائز ويصلاها من قدر عليه دخولها واحتج هؤلاء أو بعضهم بقوله عز وجل ‏(‏ولما ورد ماء مدين‏)‏ ‏[‏القصص 23‏]‏‏.‏

أي أشرف عليه ورآه وقال الحسن هو كقولك وردت البصرة وليس الورد الدخول واحتج من ذهب هذا المذهب بقوله عز وجل ‏(‏إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون‏)‏ الأنبياء ومن قال الورود الدخول قال من نجا منها كانت عليه بردا وسلاما فقد أبعد عنها واحتجوا أيضا بقوله ‏(‏عليه السلام‏)‏ إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة وقالت طائفة إن المؤمن إذا زحزح عن النار لم يرها ولم يردها ويكون ما يناله في الدنيا من الحمى ورودا لها حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا بن أبي دليم قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا محمد بن سليمان الأنباري قال حدثنا يحيى بن يمان عن عثمان بن الأسود أنه قال حظ المؤمن من النار ثم قرأ ‏(‏وإن منكم إلا واردها‏)‏ فقال الحمى في الدنيا الورود فلا يردها في الآخرة وقد روي عن أبي هريرة أنه قال عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه مريضا كان به وعك فقال له أبشر فإن الله تعالى يقول هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة وفي حديث أبي ريحانة الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الحمى كير من جهنم وهي نصيب المؤمن من النار وإسناد هذين الحديثين في التمهيد‏.‏

وفي هذا الباب

مالك عن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن أبي النضر السلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جنة من النار فقالت امرأة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أو اثنان قال أو اثنان هذا الحديث قد اضطرب فيه رواة الموطأ تقول كما قال يحيى عن أبي النضر وطائفة تقول عن أبي النضر السلمي - منهم القعنبي وهو رجل مجهول لا يعرف في حملة العلم ولا يوقف له على نسب ولا يدرى أصاحب هو أو تابع وهو مجهول ظلمة من الظلمات قيل فيه محمد بن النضر وقيل عبد الله بن النضر وقال فيه أكثرهم السلمي بفتح السين واللام كأنه من بني سلمة في الأنصار وقال بعض المتأخرين فيه إنه أنس بن مالك بن النضر نسب إلى جده النضر قال وكنيه أنس بن مالك أبو النضر وهذا جهل واضح وغباوة بينة وذلك أن أنس بن مالك بن النضر ليس من بني سلمة وإنما هو من بني عدي بن النجار ولم يكن قط بأبي النضر وإنما كنيته أبو حمزة والذي حاله هذا الحديث وله أدخله مالك في موطئه الاحتساب في المصيبة والصبر عليها وكأنه جعل قوله في هذا الحديث ثلاثة من الولد فيحتسبهم تفسيرا للحديث الذي قبله هذا شأنه في كثير من الموطأ وقد روي معنى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه والحمد لله من حديث أبي هريرة وأبي سعيد ومعاذ بن جبل وغيرهم في كتاب بن أبي شيبة وغيره‏.‏

وفي هذا الباب أيض

مالك أنه بلغه عن أبي الحباب سعيد بن يسار عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما يزال المؤمن يصاب في ولده وفي حامته حتى يلقى الله وليست له خطيئة قد ذكرنا من أسند هذا الحديث عن مالك ووصله فجعله عن مالك عن ربيعة عن أبي الحباب عن أبي هريرة في التمهيد وذكرنا آثارا متصلة في معناه هناك والحمد لله وفيه من الفقه تكفير الخطايا والذنوب بما ينال المؤمن من مصائب الدنيا في بنيه وقرابته وماله والله أعلم لقوله عليه السلام من يرد الله به خيرا يصب منه ولما حدثنا أحمد بن قاسم وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا سعيد بن عامر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال البلاء بالمؤمن في نفسه وماله وولده حتى يلقى الله وليست له خطيئة‏.‏

وأما قوله فيه وحامته فقد روى حبيب عن مالك قال حامته بن عمه وصاحبه من جلسائه وقال غيره حامته قرابته ومن يحزنه موته وقد ذكرنا في التمهيد خبر عمر بن الخطاب مع الأعرابي الذي رآه يطوف بالبيت وهو حامل امرأته فسأله عنها فكان من قوله إنها أكول قامة ما تبقي لنا حامة ومعنى قوله ‏(‏قامة‏)‏ أي تقم كل شيء لا تشبع ومعنى قوله ‏(‏ما تبقي لنا حامة‏)‏ يقول لا تبقي لنا أحدا قاربها ممن يحرم بها إلا شارته‏.‏

باب جامع الحسبة في المصيبة

514- مالك عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليعز الناس في مصائبهم المصيبة بي هكذا هذا الحديث في الموطأ عند أكثر الرواة ورواه عبد الرزاق عن مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول يعزي المسلمين في مصائبهم فخالف في الإسناد والمتن وقد روي هذا الحديث مسندا عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى لفظ الموطأ في حديث سهل بن سعد وحديث عائشة وحديث المسور بن مخرمة وروي أيضا مرسلا من وجوه منها ما ذكره بن المبارك عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن عبد الرحمن بن سابط قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصابت أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي وليعزه ذلك من مصيبته وقد ذكرنا طرق الآثار بذلك في التمهيد ونعم العزاء فيه لأمته صلى الله عليه وسلم فما أصيب المسلمون بعده بمثل المصيبة به وفيه العزاء والسلوى وأي مصيبة أعظم من مصيبة من انقطع بموته وحي السماء ومن لا عوض منه رحمة للمؤمنين وقضاء على الكافرين والمنافقين ونهجا للدين وروي عن طائفة من الصحابة أنهم قالوا ما نفضنا أيدينا من تراب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا ولأبي العتاهية شعر يقول‏:‏

وإذا ذكرت محمدا ومصابه *** فاجعل مصابك بالنبي محمد

وله أيضا‏:‏

لكل أخي ثكل عزاء وأسوة *** إذا كان من أهل التقى في محمد

ورحم الله أبا العتاهية فلقد أحسن حيث يقول‏:‏

ركنا إلى الدنيا الدنية بعده *** وكشفت الأطماع منا المساوي

515- مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أصابته مصيبة فقال كما أمر الله إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأعقبني خيرا منها إلا فعل الله ذلك به قالت أم سلمة فلما توفي أبو سلمة قلت ذلك ثم قلت ومن خير من أبي سلمة فأعقبها الله رسوله صلى الله عليه وسلم فتزوجها قد ذكرنا الآثار المسندة في معنى مرسل مالك هذا في التمهيد وفي هذا الحديث تعليم ما يقال عند المصيبة وهو قول لا ينبغي لمن أصيب بمصيبة في مال أو حميم أن يحيد عن ذلك وعليه أن يفزع إليه تأسيا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومعنى قوله إلا فعل الله ذلك به أي آجره في مصيبته وأعقبه منها الخير كما قال ‏(‏من جاء بالحسنة فله خير منها‏)‏ ‏[‏القصص 84‏]‏‏.‏

أي منها خير قال بن جريج ما يمنع الرجل ألا يستوجب على الله ثلاث خصال كل خصلة منهن خير من الدنيا وما فيها صلوات من الله وهدى ورحمة وقال سعيد بن جبير ما أعطيت أمة ما أعطيت هذه الأمة قوله تعالى ‏(‏الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة‏)‏ ‏[‏البقرة 156‏]‏‏.‏

157 ولو أعطيها أحد أعطيها يعقوب لقوله ‏(‏يا أسفي على يوسف‏)‏ ‏[‏يوسف 84‏]‏‏.‏

ذكر سنيد عن إسماعيل بن علية عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال نعي إلى بن عباس أخوه قثم وهو في سفر فاسترجع وتنحى عن الطريق فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول ‏(‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏)‏ ‏[‏البقرة 153‏]‏‏.‏

قال‏.‏

وأخبرنا هشيم قال أخبرنا خالد بن صفوان عن زيد بن علي عن بن عباس أنه كان في سفر فنعي بعض ولده فاسترجع ثم نزل فصلى ركعتين ثم قال فعلنا ما أمرنا الله به ثم تلا ‏(‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏)‏ البقرة 183‏.‏

516- وذكر مالك في هذا الباب عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد أنه قال هلكت امرأة لي فأتاني محمد بن كعب القرظي يعزيني بها فقال إنه كان في بني إسرائيل رجل فقيه عالم عابد مجتهد وكانت له امرأة وكان بها معجبا ولها محبا فماتت فوجد عليها وجدا شديدا ولقي عليها أسفا حتى خلا في بيت وغلق على نفسه واحتجب من الناس فلم يكن يدخل عليه أحد وإن امرأة سمعت به فجاءته فقالت إن لي إليه حاجة أستفتيه فيها ليس يجزيني فيها إلا مشافهته فذهب الناس ولزمت بابه وقالت ما لي منه بد فقال له قائل إن ها هنا امرأة أرادت أن تستفتيك وقالت إن أردت إلا مشافهته وقد ذهب الناس وهي لا تفارق الباب فقال ائذنوا لها فدخلت عليه فقالت إني جئتك أستفتيك في أمر قال وما هو قالت إني استعرت من جارة لي حليا فكنت ألبسه وأعيره زمانا ثم إنهم أرسلوا إلي فيه أفأؤديه إليهم فقال نعم والله فقالت إنه قد مكث عندي زمانا فقال ذلك أحق لردك إياه إليهم حين أعاروكيه زمانا فقالت أي يرحمك الله أفتأسف على ما أعارك الله ثم أخذه منك وهو أحق به منك فأبصر ما كان فيه ونفعه الله بقولها قال أبو عمر ليس في قول المرأة ولا ما ذكرته من العارية على جهة ضرب المثل ما يدخل في مذموم الكذب بل ذلك من الخير المحمود عليه صاحبه وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالكاذب من قال خيرا أو نمى خيرا أو أصلح بين اثنين وهذا خبر حسن عجيب في التعازي ليس في كل الموطأت وليس فيه ما يحتاج إلى شرح ولا تفسير ولا اجتهاد وفي معنى هذا الخبر من النظم قول لبيد‏:‏

وما المال والأهلون إلا ودائع *** ولا بد يوما أن ترد الودائع

وقول محمد بن دينار‏:‏

إنما أنفسنا عارية *** والعواري مصيرها أن تسترد

نحن للآفات اعتراض فإن *** أخطأتنا فلناا الموت رصد

وباب التعازي باب لا تحاط أقوال الناس فيه وخير القول قول صادف قبولا فنفع ومن أحسن ما جاء في هذا المعنى ما عزى به عمرو بن عبيد سهم بن عبد الحكم بن عبد الحميد على بن هلك فقال إن أباك كان أصلك وإن ابنك كان فرعك وإن امرءا ذهب أصله وفرعه لحري أن يقل بقاؤه وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز أما بعد يا أمير المؤمنين فإن طول البقاء إلى فناء ما هو فخذ من فنائك الذي لا يبقى لبقائك الذي لا يفنى والسلام‏.‏

باب في المختفي وهو النباش

قال الأصمعي وأهل المدينة يسمون النباش المختفي‏.‏

517- مالك عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن أنه سمعها تقول لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المختفي والمختفية يعني نباش القبور‏.‏

518- مالك أنه بلغه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقول كسر عظم المسلم ميتا ككسره وهو حي تعني في الإثم‏.‏

وأما حديث أبي الرجال فقد روي مسندا من حديث مالك وغيره عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرناه في التمهيد لمالك مسندا هكذا وليس في الموطأ إلا مرسلا عن عمرة وهو الصحيح فيه عن مالك وإنما سمي النباش مختفيا والله أعلم لإظهاره الميت وإخراجه إياه بعد دفنه من قبره لأن أخفيت تكون بمعنى سترت وبمعنى أظهرت وقيل خفيت أظهرت وأخفيت سترت وقد قرئت هذه الآية ‏(‏إن الساعة ءاتية أكاد أخفيها‏)‏ و‏(‏أخفيها‏)‏ ‏[‏طه 15‏]‏‏.‏

فمن قرأ ‏(‏ أخفيها‏)‏ يريد أكاد أخفيها في النفس ومن قرأ ‏(‏أخفيها‏)‏ أي أظهرها وقد ذكرت الشواهد من الشعر على ذلك في التمهيد وفي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النباش دليل على تحريم فعله والتغليظ فيه كما لعن شارب الخمر وبائعها وآكل الربا ومؤكله واختلف الفقهاء في قطع النباش فرأى جماعة من أهل العلم قطعة مالك وأصحابه واحتج بن القاسم وغيره بقول الله عز وجل ‏(‏ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا‏)‏ ‏[‏المرسلات 25‏]‏‏.‏

وقالوا القبر حرز وستر للكفن كأنه بيت للحي وقد أتى في أحاديث كثيرة أن القبر بيت وقال الكوفيون لا قطع على النباش وعليه العقوبة لأن الميت لا يملك ولا يصح القطع إلا على من سرق من ملك ملك في حوزة‏.‏

وأما قول عائشة كسر عظم المسلم الحديث فقد روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم رواه عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن سعيد بن أبي سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كسر عظم الميت ككسره حيا وقوله يعني في الإثم تفسير حسن لأنهم مجمعون على رفع القود في ذلك والدية فلم يبق إلا الإثم‏.‏

باب جامع الجنائز

519- ذكر فيه مالك عن هشام بن عروة عن عباد بن عبد الله بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت وهو مستند إلى صدرها وأصغت إليه يقول اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى هذا حديث مسند صحيح وفيه الندب في الدعاء بالغفران والرحمة تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا كان هو الداعي بذلك وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فأين غيره منه والدعاء مخ العبادة لما فيه من الإخلاص والخضوع والضراعة والرجاء وذلك صريح الإيمان واليقين وإنما يخشى الله من عباده العلماء والمؤمن خوفه ورجاؤه معتدلان ومعلوم أن الأنبياء والرسل أشد خوفا لله وأكثر إشفاقا ووجلا ولذلك كانوا أرفع درجات وأعلى منازل وقد أثنى الله على الذين كانوا يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة‏.‏

وأخبر الله ‏(‏عز وجل‏)‏ عن دعاء الأنبياء بالرحمة والعصمة بما فيه شفاء لذوي النهى‏.‏

وأما قوله وألحقني بالرفيق الأعلى فمأخوذ عندهم من قول الله ‏(‏عز وجل‏)‏ ‏(‏مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا‏)‏ ‏[‏النساء 69‏]‏‏.‏

وقيل الرفيق الجنة وقيل الرفيق الأعلى ما على فوق السماوات السبع وهي الجنة والله أعلم قول عائشة بعد هذا من بلاغات مالك‏.‏

520- أنه بلغه أن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من نبي يموت حتى يخير قالت فسمعته يقول اللهم الرفيق الأعلى فعرفت أنه ذاهب يفسر ما قبله كأنها قالت إنه خير بين البقاء في الدنيا وبين المصير إلى الله فاختار الرفيق الأعلى وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخير بين الدنيا والآخرة إلا اختار الآخرة لأن الدنيا فانية وما مضى منها وإن كان طويلا فكالحلم إذا انقضى ودار البقاء في الخير الدائم أولى باختيار ذوي النهي وليس في مسند مالك ذكر التخيير وإنما ذكره فيما بلغه وقد ذكرناه فيما في بلاغاته في التمهيد مسندا من حديث إبراهيم بن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن عروة عن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من نبي مرض إلا خير بين الدنيا والآخرة قالت فلما كان في مرضه الذي قبض فيه أخذته بحة شديدة فسمعته يقول ‏(‏مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا‏)‏ ‏[‏النساء 69‏]‏‏.‏

فعلمت أنه خير وهذا يقتضي معنى حديث بلاغ مالك ويعضده وقد روي من وجوه أن الله ‏(‏عز وجل‏)‏ خيره صلى الله عليه وسلم بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة من حديث مالك وغيره عن أبي النضر وخير أن يؤتى مفاتيح خزائن الأرض أو ما عند الله فاختار ما عند الله والآثار في ذلك كثيرة صحاح ذكرنا منها في التمهيد حديث عائشة خاصة لقول مالك إنه بلغه عن عائشة‏.‏

521- وذكر الحديث مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة هكذا قال يحيى في هذا الحديث حتى يبعثك الله يوم القيامة وهو معنى مفهوم على معنى التفسير والبيان لحتى يبعثك الله وقال القعنبي حتى يبعثك الله يوم القيامة وهذا أثبت وأوضح من أن يحتاج فيه إلى قول وقال فيه بن القاسم حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة وهذا أيضا بين يريد حتى يبعثك الله إلى ذلك المقعد وإليه تصير وهو عندي أشبه لقوله عرض عليه مقعده لأن معنى مقعده عندي - والله أعلم مستقره وما يسير إليه من جنة أو نار وكذلك رواه بن بكير كما روى بن القاسم وقد روي عن بن بكير حتى يبعثك الله لم يزد واختلف في هذا الحديث أيضا على عبيد الله بن عمر قريبا من الاختلاف فيه على مالك فيما وصفنا ويحتمل أن تكون الهاء في قوله حتى يبعثك الله إليه راجعة على الله تعالى ذكره أي إلى الله فإلى الله المصير وإليه ترجع الأمور والأول أظهر عندي والله أعلم وفي هذا الحديث دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان كما يقول جماعة أهل السنة وهم الجماعة الذين هم الحجة أهل الرأي والآثار ويدل على ذلك قول الله ‏(‏عز وجل‏)‏ ‏(‏ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة‏)‏ ‏[‏البقرة 35‏]‏‏.‏

وقوله تعالى ‏(‏لا يفتنكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة‏)‏ ‏[‏الأعراف 27‏]‏‏.‏

وقال ‏(‏إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ‏)‏ ‏[‏طه 117‏]‏‏.‏

وقال لإبليس ‏(‏فاخرج منها فإنك رجيم‏)‏ ‏[‏الحجر 34‏]‏‏.‏

وقال ‏(‏عز وجل‏)‏ في آل فرعون ‏(‏النار يعرضون عليها غدوا وعشيا‏)‏ ‏[‏غافر 46‏]‏‏.‏

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتكت النار إلى ربها الحديث وقوله ‏(‏عليه الصلاة والسلام‏)‏ اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها المساكين واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء وقوله دخلت الجنة فأخذت منها عنقودا وقوله عليه السلام لما خلق الله الجنة حفها بالمكاره وخلق النار فحفها بالشهوات والآثار في أن الجنة والنار قد خلقتا كثيرة جدا ومما يدل على أن المراد في هذا الحديث الجنة والنار ما حدثنا محمد بن خليفة قال حدثنا محمد بن الحسين قال حدثنا الفريابي قال حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم الدمشقي قال حدثنا بن أبي فديك قال حدثنا بن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالوا اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان فذكر الحديث وفيه قال فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ويفرج له فرجة إلى النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضا فيقال له انظر إلى ما وقاك الله ثم يفرج له فرجة إلى الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها فيقال له هذا مقعدك وذكر تمام الحديث وفيه بيان وتفسير حديث البراء وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد وفيه قال فتعاد روحه إلى جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له من ربك فيقول ربي الله ويقولان له ما دينك فيقول ديني الإسلام ويقولان له من نبيك فيقول نبيي محمد عليه السلام فينادي مناد من السماء صدق عبدي فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة قال فيأتيه من طيبها وروحها ويفتح له في قبره مد بصره الحديث وفيه في الكافر أنه يفتح له باب إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه وهذا الحديث يفسر أيضا حديث بن عمر المذكور في هذا الباب ويبين المراد منه والله أعلم والأحاديث بهذا المعنى كثيرة جدا‏.‏

وأما قوله إن أحدكم فإن الخطاب موجه إلى أصحابه وإلى المنافقين والله أعلم فيعرض على المؤمن مقعده من الجنة وعلى المنافق مقعده من النار وفي هذا الحديث الإقرار بالموت والبعث بعده والإقرار بالجنة والنار وكذا يستدل به من ذهب إلى أن الأرواح على أفنية القبور وهو أصح ما ذهب إليه في ذلك والله أعلم لأن الأحاديث بذلك أحسن مجيئا وأثبت نقلا من غيرها والمعنى عندي أنها قد تكون على أفنية قبورها لا على أنها لا تريم ولا تفارق أفنية القبور بل هي كما قال مالك - رحمه الله - أنه بلغه أن الأرواح تسرح حيث شاءت وعن مجاهد أنه قال الأرواح على القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارق ذلك والله أعلم‏.‏

522- مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل بن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب تابع يحيى قوم على قوله تأكله الأرض وقالت طائفة يأكله التراب والمعنى واحد وعجب الذنب معروف وهو العظم في الأسفل بين الإليتين الهابط من الصلب يقال لطرفه العصعص ويقال عجب الذنب وعجم الذنب وهو أصله وظاهر هذا الحديث وعمومه يوجب أن يكون بنو آدم في ذلك كلهم سواء إلا أنه قد روي في أجساد الأنبياء وأجساد الشهداء أن الأرض لا تأكلهم وحسبك ما جاء في شهداء أحد وغيرهم وهذا دليل على أن اللفظ في ذلك لفظ عموم يراد به الخصوص والله أعلم فكأنه قال كل من تأكله الأرض فإنه لا يؤكل منه عجب الذنب وإذا جاز أن لا تأكل الأرض عجب الذنب جاز أن لا تأكل الشهداء وذلك كله حكم الله وحكمته وليس في حكمه إلا ما شاء وإنما يعرف من هذا ما عرفنا به ويسلم له إذا جهل عليه لأنه ليس برأي ولكنه قول من يجب التسليم له صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا في التمهيد حديث جابر قال استصرخ بنا إلى قتلانا يوم أحد وأجرى معاوية بن أبي سفيان العين واستخرجناهم بعد ست وأربعين سنة لينة أجسادهم تمشي أطرافهم‏.‏

وأما قوله منه خلق وفيه يركب فيدل على أنه ابتدأ خلقه وتركيبه من عجب الذنب وهذا لا يدرك إلا بخبر ولا خبر عندنا فيه مفسر وإنما فيه جملة ما جاء في هذا الخبر‏.‏

وأما الأحاديث في خلق آدم عليه السلام فقد ذكرنا منها في التمهيد بعض ما وصلنا‏.‏

523- مالك عن بن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه اختلف أصحاب الزهري عنه في هذا الحديث فروته طائفة عن بن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كما رواه مالك ورواه آخرون عن بن شهاب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك وروته طائفة أخرى عن بن شهاب عن بن كعب بن مالك ولم يسموه عن كعب وقد ذكرناهم في التمهيد والقول عندي في ذلك قول مالك ومن تابعه والله أعلم وقد ظن قوم أن هذا الحديث يعارضه ظاهر حديث بن عمر المتقدم ذكره قوله إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي الحديث وقالوا إذا كان يسرح في الجنة ويأكل منها فهو في الجنة في جميع أحيانه فكيف يعرض عليه منها مقعده بالغداة والعشي خاصة وهذا عندي ليس كما ظنوا لأن حديث كعب بن مالك هذا معناه في الشهداء خاصة وحديث بن عمر في سائر الناس والدليل على ذلك أن سفيان بن عيينة روى هذا الحديث عن عمرو بن دينار عن بن شهاب عن بن كعب بن مالك عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أرواح الشهداء طير خضر يعلق في شجر الجنة وقد ذكرنا إسناده عن بن عيينة في التمهيد وذكرنا حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الشهداء يغدون ويروحون إلى رياض الجنة ثم يكون مأواهم إلى قناديل معلقة بالعرش الحديث ذكرناه من طرق هناك والحمد لله وروى بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد سمع بن عباس يقول إن أرواح الشهداء تجول في طير خضر تعلق من ثمر الجنة فهذا أكله فهذا نص يخص أرواح الشهداء دون سائر الناس فالشهيد يسرح في الجنة ويأكل منها يقول الله ‏(‏عز وجل‏)‏ في الشهداء إنهم ‏(‏أحياء عند ربهم يرزقون‏)‏ آل عمران 169 فخصهم بهذه الفضيلة فلا يشركهم فيها غيرهم والنسمة الأرواح تذهب وتجيء وتسبح وتأكل كأنها طير - قد قيل - خضر وهذا هو الصحيح لا رواية من روى في أجواف طير لأنه لا يجتمع في جسد روحان روح المؤمن وروح الطير هذا محال تدفعه العقول لمخالفته الأصول وإنما الرواية الصحيحة والله أعلم رواية من روى في أرواح الشهداء كأنها طير لا في جوف طير وهو ظاهر حديث مالك هذا في قوله إنما نسمه المؤمن طائر ولم يقل في جوف طائر وروى الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال سئل عبد الله بن مسعود عن أرواح الشهداء قال أرواح الشهداء عند الله كطير خضر في قناديل تحت العرش تسرح في الجنة حيث شاءت ثم ترجع إلى قناديلها فيتطلع إليها ربها فيقول ماذا تريدون فيقولون نريد أن نرجع إلى الدنيا فنقتل مرة أخرى وفي هذا الحديث عن بن مسعود قوله كطير حسن أيضا وفي قول بن مسعود تسرح في الجنة ما يعضد رواية من روى تعلق بفتح اللام لأن معنى ذلك تسرح ومن روى تعلق بضم اللام فالمعنى فيه عند أهل اللغة تأكل وترعى ونحو هذا ولمجاهد في قول الله ‏(‏عز وجل‏)‏ في الشهداء ‏(‏أحياء عند ربهم يرزقون‏)‏ آل عمران 169 قال ليس هم في الجنة ولكن يأكلون من ثمارها ويجدون ريحها قال أبو عمر ظاهر حديث مالك يرد قول مجاهد هذا لأن فيه إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة ومن ادعى أن شجر الجنة وثمرها في غيرها فقد أحال ظاهر الحديث وقد استوعبنا القول في شرح معنى هذا الحديث ولفظه في التمهيد والحمد لله‏.‏

وأما قوله نسمة المؤمن فالنسمة الروح عند جماعة العلماء على ظاهر الحديث وحجتهم قوله في الحديث حتى يرجعه الله إلى جسده وقد قيل إن النسمة الإنسان لقوله صلى الله عليه وسلم من أعتق نسمة مؤمنة وقال علي ‏(‏رضي الله عنه‏)‏ لا والذي خلق الحبة وبرأ النسمة قال ذو الرمة‏:‏

بأعظم منه تقى في الحساب *** إذا النسمات نقضن الغبار

والعرب تعبر عن المعنى الواحد بألفاظ شتى وعن معان متقاربة بمعنى واحد هذا كثير في لغتها حدثنا عبد الوارث وسعيد قالا حدثنا قاسم قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا معاوية عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال سألنا بن مسعود عن هذه الآية ‏(‏ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون‏)‏ آل عمران 169 فقال أما إنا قد سألنا عن ذلك أرواحهم طير خضر تسرح في الجنة في أيها شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش وذكر تمام الخبر وذكر بن أبي الدنيا قال حدثنا خالد بن خداش قال سمعت مالك بن أنس يقول بلغني أن أرواح المؤمنين مرسلة تذهب حيث شاءت‏.‏

524- مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه وإذا كره لقائي كرهت لقاءه قال أبو عبيد في معنى هذا الحديث ليس وجهه عندي أن يكون الإنسان يكره الموت وشدته فإن هذا لا يكاد يخلو منه أحد نبي ولا غيره ولكن المكروه من ذلك إيثار الدنيا والركون إليها وكراهية أن يصير إلى الله تعالى والدار الآخرة ويريد المقام في الدنيا ومما يبين ذلك أن الله تعالى قد عاب قوما بحب الحياة الدنيا فقال ‏(‏إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها‏)‏ يونس وقال في اليهود ‏(‏ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة‏)‏ ‏[‏البقرة 96‏]‏‏.‏ وقال ‏(‏ولا يتمنونه أبدا‏)‏ ‏[‏الجمعة 7‏]‏‏.‏

فهذا يدل على أن كراهة لقاء الله ليس كراهة للموت وإنما كراهة النقلة من الدنيا إلى الآخرة قال أبو عمر الذي أقول في معنى هذا الحديث ما شهدت به الآثار المرفوعة وهي الملجأ والحجة لمن لجأ إليها وذلك والله أعلم عند معاينة الإنسان ما يعانيه عند حضور أجله فإذا رأى ما يكره لم يحب الخروج من الدنيا ولا لقاء ما عاين مما يصير إليه وأحب لو بقي في الدنيا ليتوب ويعمل صالحا وإن رأى ما يحب أحب لقاء الله والإسراع إلى رحمته لحسن ما يعاين من ذلك حدثنا سعيد وعبد الوارث قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب لقاء الله احب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه قالوا يا رسول الله ما منا أحد إلا وهو يكره الموت ويقطع به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان ذلك كشف له حدثنا خلف بن قاسم حدثنا حمزة بن محمد قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا هناد بن السري عن أبي زبيد عن مطرف عن عامر الشعبي عن شريح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه قال شريح فأتيت عائشة فقلت يا أم المؤمنين سمعت أبا هريرة يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا إن كان كذلك فقد هلكنا فقالت وما ذاك قلت من احب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه وليس منا أحد إلا وهو يكره الموت قالت قد قاله رسول الله ولكن ليس الذي يذهب إليه ولكن أرى إذا شخص البصر وحشرج الصدر واقشعر الجلد فعند ذلك من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فهذه الآثار قد بان فيها أن ذلك عند حضور الموت ومعاينة ما هنالك وذلك حين لا تقبل توبة التائب إن لم يتب قبل ذلك وروى شيبان عن قتادة في قوله ‏(‏عز وجل‏)‏ ‏(‏ولتعلمن نبأه بعد حين‏)‏ ‏[‏ص 88‏]‏‏.‏

قال بعد الموت قال وقال الحسن يا بن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين وروى الزنجي مسلم بن خالد عن بن جريج ‏(‏ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر‏)‏ ‏[‏القيامة 18‏]‏‏.‏

قال عند الموت يعلم ما له من خير وشر‏.‏

525- مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا مات فحرقوه ثم أذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم به فأمر الله البر فجمع ما فيه ثم قال لم فعلت هذا قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم قال فغفر له قد ذكرنا اختلاف الرواية عن مالك في رفع هذا الحديث وتوقيفه في التمهيد والصواب رفعه لأن مثله لا يكون رأيا وقد ذكرنا في التمهيد طرقا كثيرة لحديث أبي هريرة هذا وذكرنا من رواه معه من الصحابة رضي الله عنهم وفي رواية أبي رافع عن أبي هريرة في هذا الحديث أنه قال قال رجل لم يعمل خيرا قط إلا التوحيد وهذه اللفظة ترفع الإشكال في إيمان هذا الرجل والأصول كلها تعضدها والنظر يوجبها لأنه محال أن يغفر الله للذين يموتون وهم كفار لأن الله عز وجل قد أخبر أنه لا يغفر أن يشرك به وقال ‏(‏قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف‏)‏ ‏[‏الأنفال 38‏]‏‏.‏

فمن لم ينته عن شركه ومات على كفر لم يك مغفورا له قال الله عز وجل ‏(‏وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار‏)‏ النساء 18‏.‏

وأما قوله لم يعمل حسنة قط وقد روي لم يعمل خيرا قط أنه لم يعذبه إلا ما عدا التوحيد من الحسنات والخير بدليل حديث أبي رافع المذكور وهذا شائع في لسان العرب أن يؤتى بلفظ الكل والمراد البعض وقد يقول العرب لم يفعل كذا قط يريد الأكثر من فعله ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام لا يضع عصاه عن عاتقه يريد أن الضرب للنساء كان منه كثيرا لا أن عصاه كانت ليلا ونهارا على عاتقه وقد فسرنا هذا المعنى في غير موضع من كتابنا هذا والدليل على أن الرجل كان مؤمنا قوله حين قال له لم فعلت هذا قال من خشيتك يا رب والخشية لا تكون إلا لمؤمن يصدق بل ما تكاد تكون إلا من مؤمن عالم قال الله تعالى ‏(‏إنما يخشى الله من عباده العلماء‏)‏ ‏[‏فاطر 28‏]‏‏.‏

قالوا كل من خاف الله فقد آمن به وعرفه ويستحيل أن يخاف من لا يؤمن به وقد ذكرنا من الآثار في التمهيد ما يوضح ما قلنا وبالله توفيقنا‏.‏

وأما قوله لئن قدر الله علي فقد اختلف العلماء في ذلك فقال بعضهم هذا رجل جهل بعض صفات الله تعالى وهي القدرة قالوا ومن جهل صفة من صفات الله ‏(‏عز وجل‏)‏ وآمن به وعلم سائر صفاته أو أكثر صفاته لم يكن بجهله بعضها كافرا وإنما الكافر من عاند الحق لا من جهله والشواهد على هذا من القرآن كثيرة قد ذكرناها في باب عبد الله بن دينار من التمهيد ومنها قول الله ‏(‏عز وجل‏)‏ ‏(‏يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون‏)‏ آل عمران 70 وقال ‏(‏يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون‏)‏ آل عمران وقال ‏(‏ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‏)‏ آل عمران 75 وقال ‏(‏فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون‏)‏ ‏[‏البقرة 2‏]‏‏.‏

وقال ‏(‏وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم‏)‏ ‏[‏الصف 5‏]‏‏.‏

وقال ‏(‏وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم‏)‏ ‏[‏النمل 14‏]‏‏.‏

فهذا هو الكفر المجتمع عليه في الاسم الشرعي والاسم اللغوي والدليل على أن من جهل صفة من صفات الله تعالى لا يكون بها كافرا إذا كان مصدقا بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر وغيره سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القدر ومعناه قدم العلم أنه مكتوب عنده ما سبق في علمه وفي ذلك يجري خلفه لا فيما يستأنف بل ما قد جف به القلم وكل صغير وكبير مسطر في اللوح المحفوظ فأعلمهم أنه ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم ومعلوم أنهم في حين سؤالهم وقبله كانوا مؤمنين وقد ذكرنا الآثار بهذا المعنى عنهم في التمهيد ولا يسع مسلما أن يقول فيه غير ذلك ولو كان لا يسعه جهل صفة من صفات الله تعالى وهي قدم العلم لعلمهم بذلك مع الشهادة بالتوحيد ويجعله عمودا سادسا للإسلام وقال آخرون أراد بقوله لئن قدر الله علي أي لئن كان قدر الله عليه والتخفيف في هذه اللفظة والتشديد سواء في اللغة فقدر هنا عند هؤلاء من القدر الذي هو الحكم وليس من باب القدرة والاستطاعة في شيء وهو مثل قوله ‏(‏عز وجل‏)‏ ‏(‏وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه‏)‏ ‏[‏الأنبياء 87‏]‏‏.‏

وللعلماء في تأويل هذه اللفظة في هذه الآية قولان أحدهما أنها من التقدير والقضاء والآخر أنها من التقتير والتضييق وقد ذكرنا من شواهد الشعر العربي على الوجهين جميعا في التمهيد ما فيه كفاية والمعنى في قول هؤلاء والله أعلم لئن ضيق الله علي وبالغ في محاسبتي ولم يغفر لي وجازاني على ذنوبي ليكونن ما ذكر والوجه الآخر كأنه قال لئن كان قد سبق في قدر الله وقضائه أن يعذب كل ذي جرم على جرمه ليعذبنني على ذنوبي عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين غيري وهذا منه خوف ويقين وإيمان وتوبيخ لنفسه وخشية لربه وتوبة على ما سلف من ذنوبه هذا كله لا يكون إلا لمؤمن مصدق مؤمن بالبعث والجزاء وفي القدر لغتان مشهورتان قدر الله ‏(‏بالتشديد‏)‏ وقدر الله ‏(‏بالتخفيف‏)‏ ذكره بن قتيبة عن الكسائي وذكره ثعلب وغيره وقد ذكرناه والشواهد عليه في التمهيد والحمد لله‏.‏

526- مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه كما تناتج الإبل من بهيمة جمعاء هل تحس فيها من جدعاء قالوا يا رسول الله أرأيت الذي يموت وهو صغير قال الله أعلم بما كانوا عاملين وروي هذا الحديث عن النبي ‏(‏عليه السلام‏)‏ من وجوه صحاح ثابتة من حديث أبي هريرة وغيره ممن رواه عن أبي هريرة عبد الرحمن الأعرج وسعيد بن المسيب وأبو سلمة وحميد ابنا عبد الرحمن بن عوف وأبو صالح السمان وسعيد بن أبي سعيد ومحمد بن سيرين ولم يروه مالك عن بن شهاب فيما علمت وليس فيه غير روايته عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة واختلف أصحاب بن شهاب عنه فيه على ما قد ذكرناه عنهم في التمهيد وزعم الذهلي أن الطرق فيه عن بن شهاب صحاح كلها‏.‏

وأما قوله في حديث مالك وغيره في هذا الحديث كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه الحديث فإن أهل العلم اختلفوا في معنى قوله كل مولود فقالت طائفة من الذاهبين إلى أن الفطرة الإيمان والإسلام ليس في قوله كل مولود ما يقتضي العموم لأن المعنى في ذلك أن كل من ولد على الفطرة وكان له أبوان على غير الإسلام فإن أبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه قالوا وليس المعنى أن جميع المولودين من بني آدم أجمعين مولودون على الفطرة بل المعنى أن المولود على الفطرة بين الأبوين الكافرين محكوم له بحكمهما في كفرهما حتى يعبر عنه لسانه ويبلغ مبلغ من يكسب على نفسه وكذلك من لم يولد على الفطرة وكان أبواه مؤمنين حكم له بحكمهما ما دام لم يحتلم فإذا بلغ ذلك كان حكم نفسه واحتج قائلو هذه المقالة بحديث أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن بن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الغلام الذي قتله الخضر طبعه الله يوم طبعه كافرا وبحديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ألا إن بني آدم خلقوا طبقات فمنهم من يولد مؤمنا ويحيى مؤمنا ويموت مؤمنا ومنهم من يولد كافرا ويحيى كافرا ويموت كافرا ومنهم من يولد مؤمنا ويحيى مؤمنا ويموت كافرا ومنهم من يولد كافرا ويحيى كافرا ويموت مؤمنا وقد ذكرنا خبر أبي بن كعب وخبر أبي سعيد الخدري من طرق في التمهيد قالوا ففي حديث أبي وحديث أبي سعيد ما يدل على أن المعنى في قوله كل مولود يولد على الفطرة أبواه نصرانيان أو يهوديان فأبواه يهودانه أو ينصرانه أي يحكم له بحكمهما في الميراث وفي دفنه مع أبويه ونحو ذلك ما دام صغيرا ثم يصير عند بلوغه إلى ما يحكم به عليه قالوا وألفاظ الحفاظ على نحو حديث مالك هذا ودفعوا رواية من روى كل بني آدم يولد على الفطرة قالوا ولو صح هذا اللفظ ما كان فيه حجة لما ذكرنا لأن الخصوص جائز دخوله على هذا اللفظ في لسان العرب ألا ترى قوله تعالى ‏(‏تدمر كل شيء بأمر ربها‏)‏ ‏[‏الأحقاف 25‏]‏‏.‏

ولم تدمر السماوات والأرض وقوله ‏(‏فتحنا عليهم أبواب كل شيء‏)‏ ‏[‏الأنعام 44‏]‏‏.‏

ولم يفتح عليهم أبواب جهنم ومثله كثير وذكروا من ألفاظ الحديث في ذلك رواية الأوزاعي عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه وقد ذكرنا اختلاف ألفاظ بن شهاب فيه في التمهيد ومما احتجوا به أيضا ما رواه أبو رجاء العطاردي عن سمرة بن جندب في الحديث الطويل حديث الرويا وفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإبراهيم‏.‏

وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة وقال آخرون كل مولود من بني آدم فهو يولد على الفطرة أبدا وأبواه يحكم له بحكمهما وإن كان قد ولد على الفطرة حتى يكون ممن يعبر عنه لسانه قالوا والدليل على أن المعنى ما وصفنا رواية من روى كل بني آدم يولد على الفطرة وما من مولود إلا ويولد على الفطرة وحق الكلام أن يحمل على عمومه حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ قال أخبرنا مطلب بن شعيب قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثنا الليث قال حدثني جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل بني آدم يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه الحديث على نحو ما ذكره مالك وكذلك رواه خالد الواسطي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كل بني آدم يولد على الفطرة ورواه الليث بالإسناد المتقدم قال حدثني يونس عن بن شهاب قال أخبرني أبو سلمة أن أبا هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم قال أبو هريرة اقرؤوا ‏(‏فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم‏)‏ ‏[‏الروم 30‏]‏‏.‏

وذكروا حديث سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الرؤيا فيه والشيخ الذي في أصل الشجرة إبراهيم ‏(‏عليه السلام‏)‏ والولدان حوله أولاد الناس فقالوا هذه الأحاديث تدل ألفاظها على أن المعنى في حديث مالك وما كان مثله ليس كما تأوله المخالف على ما ذكرنا عنه بل الجميع من أولاد الناس مولودون على الفطرة قال أبو عمر الفطرة المذكورة في هذا الحديث اختلف العلماء فيها واضطربوا في معناها وذهبوا في ذلك مذاهب متباينة وادعت كل فرقة منهم في ذلك ظاهر آية أو ظاهر سنة وسنبين ذلك كله ونوضحه ونذكر ما فيه من الآثار والأقوال عن السلف والخلف إن شاء الله وقد سأل أبو عبيد القاسم بن سلام محمد بن الحسن الفقيه صاحب أبي حنيفة عن معنى هذا الحديث فما أجابه فيه بأكثر من أن قال كان هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد قال أبو عبيد وقال بن المبارك يفسره آخر الحديث الله أعلم بما كانوا عاملين هذا ما ذكره أبو عبيد في تفصيل قوله صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة الحديث عن محمد بن الحسن وبن المبارك ولم يزد في ذلك عنهما ولا عن غيرهما‏.‏

وأما ما ذكره عن بن المبارك فقد روي عن مالك نحو ذلك وليس فيه مقنع من التأويل ولا شرح مذهب في أمر الأطفال ولكنها جملة تؤدي إلى الوقوف عن القطع فيهم بكفر أو إيمان أو جنة أو نار ما لم يبلغوا‏.‏

وأما ما ذكره عن محمد بن الحسن فأظنه حاد عن الجواب إما لإشكاله عليه أو لجهله به أو لكراهة الخوض في ذلك‏.‏

وأما قوله إن ذلك القول كان من النبي ‏(‏عليه السلام‏)‏ قبل أن يؤمر الناس بالجهاد فليس كما قال ليس في حديث الأسود بن سريع ما يبين أن ذلك كان بعد الأمر بالجهاد وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد من طريق الحسن والأحنف جميعا عن الأسود بن سريع وروى عوف الأعرابي عن أبي رجاء العطاردي عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كل مولود يولد على الفطرة فناداه الناس يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين قال أبو عمر أما اختلاف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث فقال جماعة من أهل العلم والنظر أريد بالفطرة المذكورة في هذا الحديث الخلقة التي خلق عليها المولود في المعرفة بربه فكأنه قال كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفة ذلك واحتجوا على أن الفطرة الخلقة والفاطر الخالق بقوله ‏(‏عز وجل‏)‏ ‏(‏فاطر السماوات والأرض‏)‏ ‏[‏فاطر 1‏]‏‏.‏

يعني خالقهن وقوله ‏(‏وما لي لا أعبد الذي فطرني‏)‏ ‏[‏يس 22‏]‏‏.‏

يعني خلقني وما كان مثله من أي القرآن وأنكروا أن يكون المولود فطر على كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار وقالوا إنما يولد المولود على السلامة في الأغلب خلقة وبنية وطبعا ليس معها إيمان ولا كفر ولا إنكار ولا معرفة ثم يعتقدون الإيمان أوالكفر بعد أذا ميزوا واحتجوا بقوله في الحديث كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء - يعني سالمة - هل تحسون فيها من جدعاء يعني مقطوعة الأذن فمثل قلوب بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخلق ليس فيها نقصان ولا آفة ثم تقطع آذانها بعد وتشق وتثقب أنوفها ويقال هذه بحائر وهذه سوائب وكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم سالمة ليس لهم كفر ولا إيمان ولا معرفة ولا إنكار فلما بلغوا استهوتهم الشياطين وكفر أكثرهم وعصم الله أقلهم قالوا ولو كان الأطفال قد فطروا على شيء من الكفر أو الإيمان في أولية أمرهم ما انتقلوا عنه أبدا كما لا ينتقلون عن خلقتهم وقد نجدهم يؤمنون ثم يكفرون ويكفرون ثم يؤمنون قالوا ويستحيل في المعقول أن يكون الطفل في حين ولادته يعقل كفرا أو إيمانا لأن الله عز وجل أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا قال أبو عمر هذا القول أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الناس عليها والله أعلم وذلك أن الفطرة السلامة والاستقامة بدليل حديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم حاكيا عن ربه ‏(‏عز وجل‏)‏ إني خلقت عبادي حنفاء يعني على استقامة وسلامة والحنيف في كلام العرب المستقيم السالم وإنما قيل للأعرج أحنف على جهة التفاؤل كما قيل للقفر مفازة فكأنه والله أعلم أراد الذين خلصوا من الآفات كلها من المعاصي والطاعات بلا طاعة منهم ولا معصية إذ لم يعملوا بشيء من ذلك ألا ترى إلى قول موسى -عليه السلام- في الغلام الذي قتله الخضر ‏(‏أقتلت نفسا زكية بغير نفس‏)‏ ‏[‏الكهف 74‏]‏‏.‏

لما كان عنده أن من لم يبلغ لم يكسب الذنوب وقد زدنا هذا المعنى بيانا وحجة في التمهيد وقال آخرون الفطرة ها هنا الإسلام قالوا وهو المعروف عند عامة السلف من أهل العلم بالتأويل قالوا في قول الله عز وجل ‏(‏فطرة الله التي فطر الناس عليها‏)‏ ‏[‏الروم 30‏]‏‏.‏

يعني الإسلام واحتجوا بحديث أبي هريرة اقرؤوا إن شئتم ‏(‏فطرة الله التي فطر الناس عليها‏)‏ ‏[‏الروم 30‏]‏‏.‏

وذكروا عن عكرمة ومجاهد والحسن وإبراهيم والضحاك وقتادة قالوا ‏(‏فطرة الله التي فطر الناس عليها‏)‏ ‏[‏الروم 30‏]‏‏.‏

دين الله الإسلام ‏(‏لا تبديل لخلق الله‏)‏ ‏[‏الروم 30‏]‏‏.‏

قالوا لدين الله واحتجوا أيضا بحديث محمد بن إسحاق عن ثور بن يزيد عن يحيى بن جابر عن عبد الله بن عائذ الأزدي عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس يوما ألا أحدثكم بما حدثني الله في الكتاب إن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين الحديث بطوله وكذلك رواه بكر بن مجاهد عن ثور بن يزيد بإسناده وقال فيه حنفاء المسلمين وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد ورواه قتادة عن مطرف بن الشخير عن عياض بن حمار ولم يسمعه قتادة من مطرف لأن همام بن يحيى روى عن قتادة قال لم أسمعه من مطرف ولكنه حدثني ثلاثة عقبة بن عبد الغافر ويزيد بن عبد الله بن الشخير والعلاء بن يزيد كلهم يقول حدثنا مطرف بن عبد الله بن الشخير عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث قال فيه إني خلقت عبادي حنفاء كلهم لم يقل مسلمين وكذلك رواه عوف الأعرابي عن الحسن عن مطرف عن عياض بن حمار ولم يقل فيه مسلمين وإنما قال حنفاء فقط وقد روى هذا الحديث محمد بن إسحاق عن من لا يتهم عنده عن قتادة عن مطرف عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه إني خلقت عبادي كلهم حنفاء وساق الحديث ولم يقل فيه مسلمين فدل هذا على حفظ محمد بن إسحاق وإتقانه وضبطه أنه ذكر مسلمين في روايته عن ثور بن يزيد لهذا الحديث وأسقطه من رواية قتادة وكذلك رواه شعبة وهشام ومعمر عن قتادة عن مطرف عن عياض عن النبي ‏(‏عليه السلام‏)‏ يقولون فيه مسلمين وقد اختلف العلماء في تأويل قوله تعالى ‏(‏حنفاء‏)‏ فروي عن الضحاك والسدي في قوله ‏(‏ حنفاء‏)‏ قالا حجاجا روي عن الحسن قال الحنيفية حج البيت وعن مجاهد قال حنفاء متبعين هذا كله يدل على أن الحنيفية الإسلام ويشهد أن ذلك قوله ‏(‏ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما‏)‏ آل عمران 67 وقال ‏(‏هو سماكم المسلمين من قبل‏)‏ ‏[‏الحج 78‏]‏‏.‏

قالوا أول من تسمى مسلم وسمى من اتبعه المسلمين ‏(‏إبراهيم‏)‏ عليه السلام في الحديث خلقت عبادي حنفاء أي سالمين من آفات الجحد والإنكار والكفر قالوا فلا وجه لإنكار من أنكر رواية من روى حنفاء مسلمين قال أبو عمر يعني والله أعلم موحدين لا على دين إبراهيم في شريعته بل على دين إبراهيم في نفي الشرك ودفع عبادة الأوثان وكل ما يعبد من دون الله ثم بعث الله نبيهم صلى الله عليه وسلم بالإسلام دين إبراهيم وشرع له منهاجا ارتضاه ليس له منه شيء ينفي دين إبراهيم والمسلمون كلهم حنفاء على الاتساع قال الشاعر وهو الراعي‏:‏

أخليفة الرحمن إنا معشر *** حنفاء نسجد بكرة وأصيل

عرب نرى لله في أموالنا *** حق الزكاة منزلا تنزيل

فهذا قد وصف الحنيفية بالإسلام بإسناد وقد قيل الحنيف من كان على دين إبراهيم ثم سمي من كان يختتن ويحج البيت في الجاهلية حنيفا والحنيف اليوم المسلم ويقال إنما سمي إبراهيم حنيفا لأنه كان حنف عما كان يعبد أبوه وأمه من الآلهة إلى عبادة الله أي عدل عن ذلك ومال وأصل الحنف ميل من إبهامي القدمين كل واحدة على صاحبتها واحتجوا بقوله ‏(‏عليه السلام‏)‏ إنها خمس من الفطرة وعشر من الفطرة يعني من سنن الإسلام وممن ذهب إلى أن الفطرة في معنى هذا الحديث الإسلام أبو هريرة وبن شهاب قال الأوزاعي سألت الزهري عن رجل عليه رقبة مؤمنة أيجزئ عنه الصبي إن يعتقه وهو يرضع قال نعم لأنه ولد على الفطرة يعني الإسلام وعلى هذا الفعل يكون في الحديث قوله من بهيمة جمعاء هل تحسون من جدعاء يقول خلق الطفل سليما من الكفر مؤمنا مسلما على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم ‏(‏عليه السلام‏)‏ حين أخرجهم من صلبه وأشهدهم على أنفسهم ‏(‏ألست بربكم قالوا بلى ‏)‏ ‏[‏الأعراف 172‏]‏‏.‏

قال أبو عمر يستحيل أن تكون الفطرة المذكورة في الحديث الإسلام لأن الإسلام والإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح لا يجهل ذلك أحد والفطرة لها معان ووجوه من كلام العرب وإنما أجزأ الطفل المرضع عند من أجاز عتقه في الرقاب الواجبة لأن حكمه حكم أبويه وخالفهم آخرون فقالوا لا يجزئ في الرقاب الواجبة إلا من صام وصلى وقال آخرون معنى قوله ‏(‏عليه الصلاة والسلام‏)‏ كل مولود يولد على الفطرة يعني على البداية التي ابتدأهم عليها أي على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم بالحياة للموت وللشقاء والسعادة إلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من ميولهم عن آبائهم واعتقادهم ما لا بد من مصيرهم إليه قالوا والفطرة في كلام العرب البدأة والفاطر المبدئ والمبتدئ فكأنه قال صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على ما ابتدأه الله عليه من الشقاء والسعادة مما يصير إليه وذكروا عن بن عباس قال لم أكن أدري ما ‏(‏فاطر السماوات والأرض‏)‏ ‏[‏فاطر 1‏]‏‏.‏

حتى أتانا أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها أي ابتدأتها واحتجوا بقول الله ‏(‏عز وجل‏)‏ ‏(‏كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة‏)‏ ‏[‏الأعراف 29‏]‏‏.‏

30 وذكروا ما يروى عن علي بن أبي طالب في بعض دعائه اللهم جبار القلوب على فطرتها شقيها وسعيدها قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي وهذا المذهب شبيه بما حكاه أبو عبيد في قوله عن عبد الله بن المبارك في قوله كل مولود يولد على الفطرة أنه قال يفسره آخر الحديث حين سئل عن أولاد المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين قال المروزي قد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول ثم تركه قال أبو عمر ما رسمه مالك في الموطأ وذكره في أبواب القدر منه يدل على أن مذهبه نحو ذلك والله أعلم وقد ذكرنا في التمهيد عن سعيد بن جبير عن محمد بن كعب القرظي ومجاهد وغيرهم في قول الله ‏(‏عز وجل‏)‏ ‏(‏كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة‏)‏ ‏[‏الأعراف 29‏]‏‏.‏

30 قالوا شقيا وسعيدا وقال بعضهم يبعث المسلم مسلما والكافر كافرا وقال الربيع بن أنس عن أبي العالية ‏(‏كما بدأكم تعودون ‏[‏الأعراف 29‏]‏‏.‏

قالوا عادوا إلى علمه فيهم ‏(‏فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة‏)‏ ‏[‏الأعراف 30‏]‏‏.‏

وقال محمد بن كعب من ابتدأ الله خلقه للضلالة سيره إلى الضلالة وإن عمل بأعمال الهدى ومن ابتدأ الله ‏(‏عز وجل‏)‏ خلقه على الهدى سيره إلى الهدى وإن عمل بأعمال أهل الضلالة ابتدأ خلق إبليس على الضلالة وعمل بعمل السعداء مع الملائكة ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه من الضلالة قال وكان من الكافرين وابتدأ خلق السحرة على الهدى وعملوا بعمل أهل الضلالة ثم هداهم الله إلى الهدى والسعادة وتوفاهم عليها وقال محمد بن كعب في قول الله تعالى ‏(‏وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم‏)‏ ‏[‏الأعراف 172‏]‏‏.‏

يقول فأقرت له بالإيمان والمعرفة الأرواح قبل أن تخلق أجسادها واحتجوا أيضا بحديث عمر بن الخطاب من رواية مالك وغيره أنه سئل عن هذه الآية ‏(‏وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم‏)‏ ‏[‏الأعراف 172‏]‏‏.‏

الحديث على ما في الموطأ قال أبو عمر ليس في قوله ‏(‏كما بدأكم تعودون‏)‏ ‏[‏الأعراف 29‏]‏‏.‏

ولا في أن الله ‏(‏عز وجل‏)‏ يختم للعبد بما قضاه له وقدر عليه حين أخرج ذرية آدم من ظهره دليل على أن الطفل يولد حين يولد مؤمنا أو كافرا بما شهدت به العقول إنه في ذلك الوقت ليس ممن يعقل إيمانا ولا كفرا والحديث الذي جاء أن الناس خلقوا طبقات فمنهم من يولد مؤمنا ومنهم من يولد كافرا على حسب ما تقدم ذكره في هذا الباب ليس من الأحاديث التي لا مطعن فيها لأنه انفرد به علي بن زيد بن جدعان وقد كان شعبة يقول فيه كان رفاعا على أنه يحتمل قوله يولد مؤمنا أي يولد ليكون مؤمنا ويولد ليكون كافرا على سابق علم الله فيه والعرب تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه وليس في قوله في الحديث خلقت هؤلاء للجنة وخلقت هؤلاء للنار أكثر من مراعاة ما يختم به لهم لأنهم في حين طفولتهم ممن يستحق جنة أو نارا أو يفعل كفرا أو إيمانا وقال آخرون معنى قوله ‏(‏عليه الصلاة والسلام‏)‏ كل مولود يولد على الفطرة أن الله قد فطرهم على الإنكار والمعرفة والكفر والإيمان فأخذ من ذرية آدم ميثاقا حين حلفهم فقال ‏(‏ألست بربكم‏)‏ قالوا جميعا بلى فأما أهل السعادة فقالوا بلى على معرفة به طوعا من قلوبهم‏.‏

وأما أهل الشقاء فقالوا بلى كرها لا طوعا قال وتصديق ذلك قوله تعالى ‏(‏وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها‏)‏ آل عمران وكذلك قوله تعالى ‏(‏كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة‏)‏ ‏[‏الأعراف 29‏]‏‏.‏

30 قال المروزي سمعت إسحاق بن إبراهيم بن راهويه يذهب إلى هذا المعنى واحتج بقول أبي هريرة اقرؤوا إن شئتم ‏(‏فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله‏)‏ ‏[‏الروم 30‏]‏‏.‏

قال إسحاق يقول لا تبديل لخلقته التي جبل عليها ولد آدم كلهم يعني من الكفر والإيمان والمعرفة والإنكار واحتج إسحاق أيضا بقوله ‏(‏عز وجل‏)‏ ‏(‏وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم‏)‏ ‏[‏الأعراف 172‏]‏‏.‏

قال إسحاق أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد فاستنطقهم وأشهدهم على أنفسهم ‏(‏ألست بربكم قالوا بلى ‏)‏ فقال انظروا أن لا تقولوا ‏(‏إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم‏)‏ ‏[‏الأعراف 172‏]‏‏.‏

173 واحتج إسحاق أيضا بحديث أبي بن كعب مرفوعا في الغلام الذي قتله الخضر أنه كان طبع كافرا وبأن بن عباس كان يقرأ ‏(‏وأما الغلام فكان كافرا‏)‏ وقد ذكرنا ما للعلماء في تأويل قول الله ‏(‏عز وجل‏)‏ ‏(‏وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم‏)‏ في التمهيد وسئل حماد بن سلمة عن قوله ‏(‏عليه السلام‏)‏ كل مولود يولد على الفطرة فقال هذا عندنا حيث أخذ العهد عليهم من أصلاب آبائهم وهو نحو ما تقدم من قول إسحاق وقد كان أحمد حينا يقول به وحينا يحيد عنه وقد تقصينا عن العلماء أهل الأثر الآثار الشاهدة لأقوالهم في التمهيد‏.‏

وأما أهل البدع فمنكرون لما قاله العلماء في تأويل قول الله ‏(‏عز وجل‏)‏ ‏(‏وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم‏)‏ ‏[‏الأعراف 172‏]‏‏.‏

قالوا ما أخذ الله من آدم وذريته شيئا قط قبل خلقه إياهم وما خلقهم قط إلا في بطون أمهاتهم وما استخرج قط من ذرية آدم دونه مخاطب ولو كان ذلك لأحياهم ثلاث مرات قالوا وكيف يخاطب الله من لا يعقل وكيف يجيب من لا عقل له وكيف يحتج عليهم بميثاق لا يذكرونه وهو ‏(‏تعالى ذكره‏)‏ لا يؤاخذهم بما نسوا قالوا ولا نجد أحدا يذكر له أنه عرض له او كان منه قالوا وإنما أراد الله ‏(‏عز وجل‏)‏ بقوله ‏(‏وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم‏)‏ ‏[‏الأعراف 172‏]‏‏.‏

إخراجه إياهم في الدنيا وخلقه لهم وإقامته عليهم الحجة بأن فطرهم ونبأهم فطرة إذا بلغوا وعقلوا علموا أن الله ربهم وخالقهم وقال بعضهم أخرج الذرية قرنا بعد قرن وعصرا بعد عصر وأشهدهم على أنفسهم بما جعل في عقولهم مما تنازعهم فيه أنفسهم إلى الإقرار بالربوبية حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم ‏(‏ألست بربكم قالوا بلى ‏)‏ ‏[‏الأعراف 172‏]‏‏.‏

وقال بعضهم قال لهم ألست بربكم على ألسنه أنبيائه وكلهم يقولون إن الحديث المأثور عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليس بتاويل للآية ثم اختلف القائلون بهذا كله في المعرفة هل تقع ضرورة أو اكتسابا وليس هذا موضع ذكر ذلك ولله الحمد وكل ما ذكرنا قد ذكره أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي فيما وصفنا في معنى الحديث المذكور وبالله التوفيق‏.‏

وأما اختلاف العلماء في الأطفال فقالت طائفة أولاد الناس كلهم المؤمنين منهم والكافرين إذا ماتوا أطفالا صغارا ما لم يبلغوا في مشيئة الله ‏(‏عز وجل‏)‏ يصيرهم إلى ما شاء من رحمة أو عذاب وذلك كله عدل منه وهو أعلم بما كانوا عاملين وهو قول جماعة من أهل الأثر منهم حماد بن زيد وهو الذي يدل عليه موطأ مالك وهذا القول نسبه أهل الكلام إلى أهل الأخبار وحجة من ذهب إلى هذا حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأطفال فقال الله أعلم بما كانوا عاملين وحديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله ‏(‏عز وجل‏)‏ وكل بالرحم ملكا يقول يا رب نطفة يا رب علقة يا رب مضغة فإذا أراد أن يقضي خلقه قال أذكر أم أنثى أشقي أم سعيد وما الرزق وما الأجل فيكتب في بطن أمه وحديث بن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق أن بن آدم يمكث في بطن أمه أربعين يوما ثم يصير علقة أربعين يوما ثم يصير مضغة أربعين يوما ثم يبعث الله إليه ملكا فيقول يا رب أذكر أم أنثى أشقي أم سعيد وما الأجل وما الأثر فيوحي الله ويكتب الملك حتى أن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع أو قيد ذراع فيغلب عليه الكتاب الذي سبق فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو قيد ذراع فيغلب عليه الكتاب الذي سبق فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة وقد روى هذا المعنى جماعة من الصحابة وقد ذكرنا الآثار عنهم في التمهيد وقد روي عن بن عباس بالأسانيد الصحاح عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين ورواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وطرقه عن أبي هريرة صحاح ثابتة وهي أثبت من جهة النقل من كل ما روي في هذه الأبواب وقد ذكرناها في التمهيد ومن جهة من ذهب إلى هذا المذهب أيضا حديث عائشة قالت أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي من صبيان الأنصار ليصلي عليه فقلت طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل سوءا ولم يدركه ذنب فقال النبي صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك يا عائشة إن الله تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلها وخلقهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلها وخلقهم في أصلاب آبائهم وهو حديث رواه طلحة بن يحيى وفضيل بن عمرو عن عائشة بنت طلحة عن عائشة وليس ممن يعتمد عليه عند بعض أهل الحديث ومن حجتهم أيضا حديث بن عباس عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا وهذا خبر لم يروه عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن بن عباس عن أبي مرفوعا إلا رقبة بن مسقلة وعبد الجبار بن عباس الهمداني ولم يرفعه شعبة والثوري وهو مذهب بن عباس في كتابه إلى نجدة الحروري حيث قال له‏.‏

وأما الغلمان فإن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر من الغلام فاقتلهم على أنه قد روي عن عكرمة وقتادة أن الذي قتله الخضر رجل وكان قاطع طريق وهذا خلاف ما يعرفه أهل اللغة في لفظ الغلام لأن الغلام عندهم هو الصبي الصغير يقع عليه عند بعضهم اسم الغلام من حين يفهم إلى سبع سنين وعند بعضهم يسمى غلاما وهو رضيع إلى سبع سنين ثم يصير يافعا ويفاعا إلى عشر سنين ثم يصير حزورا إلى خمس عشرة سنة واختلف في تسمية منازل سنة بعد ذلك إلى أن يصير هما فانيا كبيرا مما لا حاجة بنا إلى ذكره وقد ذكرنا آثار هذا الباب بأسانيدها وما كان من معنى طرقها في التمهيد وقال آخرون ‏(‏وهم الأكثر‏)‏ أطفال المسلمين في الجنة وأطفال الكفار في المشيئة ومن حجتهم حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من المسلمين من يموت له ثلاث من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهم الله وإياه الجنة بفضل رحمته تجاوبهم يوم القيامة فيقال لهم ادخلوا الجنة فيقولون لا حتى يدخل آباؤنا فيقال لهم ادخلوا أنتم وآباؤكم بفضل رحمتي ومعلوم أن من أدركته الرحمة من أجل غيره وشفع فيه غيره أنه قد كان مرحوما قبله وكان أرفع حالا وأسلم ممن شفع فيه وحديث شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه أن رجلا جاء بابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أتحبه فقال أحبك الله يا رسول الله كما أحبه فتوفي الصبي ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال أين فلان قالوا يا رسول الله توفي ابنه ثم دخل الرجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما ترضى أن لا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا جاءه يسعى يفتحه لك فقالوا يا رسول الله أله وحده ‏!‏ أم لنا كلنا قال بل لكم كلكم رواه يحيى القطان وبن مهدي ومحمد بن جعفر وعلي بن الجعد وغيرهم عن شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في ابنه إبراهيم أن له مرضعا في الجنة وحديث أبي هريرة أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول صغاركم دعاميص الجنة وحديث أبي هريرة أيضا أولاد المسلمين في جبل تكفلهم سارة وإبراهيم فإذا كان يوم القيامة دفعوهم إلى آبائهم واحتجوا أيضا بما روي عن علي بن أبي طالب في قول الله ‏(‏عز وجل‏)‏ ‏(‏كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين‏)‏ ‏[‏المدثر 38‏]‏‏.‏

39 قال هم أطفال المسلمين وقد ذكرنا هذه الآثار بأسانيدها في التمهيد وقال آخرون حكم الأطفال كلهم كحكم آبائهم في الدنيا والآخرة منهم مؤمنون بإيمان آبائهم وكافرون بكفر آبائهم فأطفال المسلمين في الجنة وأطفال الكفار في النار وحجتهم حديث بن عباس عن الصعب بن جثامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أطفال الكفار هم من آبائهم وهذا عندي لا حجة فيه لأنه إنما ورد في أحكام الدنيا أنهم إن أصيبوا في التبييت والغارة فلا قود فيهم ولا دية وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان في دار الحرب واحتجوا أيضا بحديث الشعبي عن علقمة بن قيس عن سلمة بن يزيد الجعفي قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن أمنا ماتت في الجاهلية وكانت تقري الضيف وتصل الرحم وتفعل وتفعل فهل ينفعها من عملها شيء قال لا قلنا إن أمنا وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث فهل ذلك نافع أختنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الوائدة والموؤودة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فيغفر لها وروى بقية بن الوليد عن محمد بن زياد الألهاني قال سمعت عبد الله بن أبي قيس يقول سمعت عائشة تقول سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذراري المؤمنين فقال هم مع آبائهم قلت فلا عمل قال الله أعلم بما كانوا عاملين وسألته عن ذراري المشركين فقال هم مع آبائهم قلت فلا عمل قال الله أعلم بما كانوا عاملين وقد روي هذا الحديث عن عائشة أيضا من وجهين غير هذا هما أضعف من هذا وفي حديث أبي عقيل يحيى بن المتوكل عن بهية عن عائشة زيادة في أولاد المشركين أنه قال والذي نفسي بيده لئن شئت لأسمعتك تضاغيهم في النار وأبو عقيل ضعيف متروك وقد ذكرنا أسانيد هذه الآثار وما كان مثلها في التمهيد ولو صح في هذا الباب شيء احتمل أن يكون خصوصا لقوم من المشركين ويدل على ذلك أيضا قوله لئن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار وهذا لا يكون إلا فيمن مات وصار في النار على أن التخصيص ليس له حظ من النظر والأولى بأهل النظر أن يعرضوا لهذه الآثار بما هو أقوى مجيئا منها عن النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة للأطفال كلهم بالجنة وقد احتج من ذهب إلى أن أطفال الكفار في النار وأطفال المسلمين في الجنة بقوله تعالى ‏(‏والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء‏)‏ ‏[‏الطور 21‏]‏‏.‏

وقوله ‏(‏عز وجل‏)‏ لنوح ‏(‏عليه السلام‏)‏ ‏(‏وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن‏)‏ ‏[‏هود 36‏]‏‏.‏

فلما قيل لنوح ذلك وعلم أنهم لا يؤمنون وأنهم على كفرهم يموتون دعا عليهم بهلاكهم جميعا فقال ‏(‏رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا‏)‏ ‏[‏نوح 26‏]‏‏.‏

27 وهذا عندي لا حجة فيه لأنه في قوم بأعيانهم يلدون الفجار والكفار ولا يصح الفجور والكفر إلا ممن تجري عليه الأقلام ويلحقه التكليف وقال آخرون أولاد المسلمين وأولاد الكفار إذا ماتوا صغارا في الجنة وقال بعضهم هم خدم أهل الجنة يعني أولاد المشركين خاصة وحجتهم ما حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا عوف عن خنساء امرأة من بني صريم عن عمها قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الأنبياء في الجنة والشهداء في الجنة والمولود في الجنة والوليد في الجنة ومن حديث عائشة قالت سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال هم مع آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال الله أعلم بما كانوا عاملين ثم سألته بعد ذلك فنزلت ‏(‏ولا تزر وازرة وزر أخرى ‏)‏ ‏[‏الأنعام 164‏]‏‏.‏

فقال هم على الفطرة وهم في الجنة وفي حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت ربي عن اللاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم فأعطانيهم قال أبو عمر إنما قيل للأطفال اللاهين لأن أعمالهم كاللهو واللعب من غير عمد ولا قصد من قولهم لهيت عن الشيء إذا لم أعتقده كقوله تعالى ‏(‏لاهية قلوبهم‏)‏ ‏[‏الأنبياء 3‏]‏‏.‏

ومن حديث سلمان قال أطفال المشركين خدم أهل الجنة وقد روي ذلك مرفوعا من حديث أنس وروى أبو رجاء العطاردي عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث الطويل حديث الرويا وفيه قوله ‏(‏عليه السلام‏)‏‏.‏ وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم ‏(‏عليه السلام‏)‏‏.‏

وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة قال فقيل يا رسول الله ‏!‏ وأولاد المشركين فقال وأولاد المشركين وفي رواية أخرى عن أبي رجاء عن سمرة في هذا الحديث والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم والصبيان حوله أولاد الناس فهذا يقتضي ظاهره وعمومه جميع الناس وآثار هذا الباب معارضة لحديث الوائدة والموؤودة في النار وما كان مثله وإذا تعارضت الآثار وجب سقوط الحكم بها ورجعنا إلى أن الأصل أنه لا يعذب أحد إلا بذنب لقوله تعالى ‏(‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا‏)‏ ‏[‏الإسراء 15‏]‏‏.‏ وقوله ‏(‏ألم يأتكم رسل منكم‏)‏ ‏[‏الزمر 71‏]‏‏.‏

وآيات القرآن كثيرة في هذا المعنى على أني أقول إن الله ليس بظلام للعبيد ولو عذبهم لم يكن ظالما لهم ولكن جل من تسمى بالغفور الرحيم الرؤوف الحكيم أن تكون صفاته إلا حقيقة لا إله إلا هو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وقال آخرون يمتحنون في الآخرة واحتجوا بحديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهالك في الفترة والمعتوه والمولود قال يقول الهالك في الفترة لم يأت كتاب ولا رسول ثم تلا قوله تعالى ‏(‏ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك‏)‏ ‏[‏طه 134‏]‏‏.‏

ويقول المعتوه يا رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا قال ويقول المولود رب لم أدرك العقل والعمل قال فترفع لهم نار فيقال لهم ردوها وادخلوها قال فيردها أو يدخلها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل قال فيقول الله ‏(‏عز وجل‏)‏ إياي عصيتم فكيف برسلي لو أتتكم وقد روي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل معنى هذا الحديث وقد روي أيضا من حديث معاذ بن جبل مثله ومعناه وهي كلها أسانيد ليست بالقوية ولا يقوم بها حجة وقد ذكرناها بأسانيدها في التمهيد وأهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب لأن الآخرة دار جزاء وليست دار عمل ولا ابتلاء وكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين والله لا يكلف نفسا إلا وسعها ولا يخلو أمر من مات في الفترة من أن يموت كافرا أو غير كافر إذا لم يكفر بكتاب الله ولا رسول فإن كان قد مات كافرا جاحدا فإن الله قد حرم الجنة على الكافرين فكيف يمتحنون وإن كان معذورا بأن لم يأته نذير ولا أرسل إليه رسول فكيف يؤمر أن يقتحم النار وهي أشد العذاب والطفل ومن لا يعقل أحرى بأن لا يمتحن بذلك وإنما ادخل العلماء في هذا الباب النظر لأنه لم يصح عندهم فيه الأثر وبالله التوفيق لا شريك له وقد ذكره بن عباس ومحمد بن الحنفية وجماعة من أهل الكلام في الأطفال والقدر ذكر إسحاق بن راهويه قال حدثنا يحيى بن آدم قال أخبرنا جرير بن حازم عن أبي رجاء العطاردي قال سمعت بن عباس يقول لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو متقاربا حتى يتكلموا أو ينظروا في الأطفال والقدر قال يحيى بن آدم فذكرته لابن المبارك فقال أيسكت الإنسان على الجهل قلت فيأمر بالكلام فسكت وذكر المروذي قال حدثنا عمرو بن زرارة قال أخبرنا إسماعيل بن علية عن بن عون قال كنت عند القاسم بن محمد إذ جاءه رجل فقال له ماذا كان بين قتادة وبين حفص بن عدي في أولاد المشركين قال وتكلم ربيعة الرأي في ذلك فقال القاسم إذا الله نهى عن شيء فانتهوا وقفوا عنده قال فكأنما كانت نارا فأطفئت وقد سمع بن عباس رجلين يتكلمان في القدر فقال كلاكما زائغ قال أبو عمر قد ذكرنا والحمد لله ما بلغنا عن العلماء في معنى الفطرة التي يولد المولود عليها واختصرنا القول لأنا بسطناه في التمهيد وكل ما ذكرناه من ذلك فإنما هو أحكامهم في الآخرة وبقيت أحكامهم في الدنيا فمن ذلك ما أجمع عليه العلماء وما اختلفوا فيه ونحن نذكر ذلك ها هنا بعون الله وفضله لا شريك له أجمع العلماء فيما علمت قديما وحديثا على ان أحكام الأطفال في الدنيا كأحكام آبائهم ما لم يبلغوا فإذا بلغوا فحكمهم حكم أنفسهم هذا في أطفال المسلمين وأطفال أهل الذمة كآبائهم في المواريث والنكاح والصلاة على أطفال المسلمين منهم‏.‏

وأما أطفال الحربيين فإن حكمهم مخالف لحكم آبائهم لأن آباءهم يقتلون وهم يسبون ولا يقتلون إلا أن يقاتلوا إلا أنهم اختلفوا في الطفل الحربي يسبى ومعه أبواه أو أحدهما أو يسبى وحده فذهب مالك - في رواية المصريين عنه وهو المشهور عندنا من مذهبه أن الطفل من أولاد الحربيين وسائر الكفار لا يصلى عليه إن مات سواء كان معه أبواه أو لم يكونا حتى يعقل الإسلام ويلقنه فيلقنه ويسلم وهو عنده أنه على دين أبويه حتى يبلغ ويعبر عنه لسانه فإن اختلف دينه على دين أبويه فهو عنده على دين أبيه دون أمه ومن الحجة لمذهبه إجماع العلماء على أنه ما دام مع أبويه ولم يلحقه سباء فحكمه حكم أبويه حتى يبلغ فكذلك إذا سبي وحده لا يصير السبي حكمه حتى يبلغ فيعبر عنه لسانه وهو قول الشعبي وعبد الله بن عون ذكر أبو إسحاق الفزاري عن سلمة بن تمام قال قلت للشعبي إني بخراسان أبتاع السبي فيموت بعضهم أفأصلي عليه قال إذا صلى فصل عليه قال الفزاري وسألت هشاما وبن عون عن السبي يموتون وهم صغار في ملك المسلمين فقال هشام يصلى عليهم وقال بن عون لا يصلى عليهم حتى يصلوا وذكر عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون عن أبيه ومالك المخزومي وبن دينار وغيرهم أنهم كانوا يذهبون إلى أن الصبيان من السبي إذا كان معهم آباؤهم فهم على دين أبيهم إن أسلم أبوهم صاروا مسلمين بإسلامه وإن يمت على الكفر فهم على دينه ولا يعتد فيهم بدين الأم على حال لأنهم لا ينتسبون إليها وإنما ينتسبون إلى أبيهم وبه يعرفون قال عبد الملك هذا ما لم يفرق بينهم السباء فيقعون في قسم مسلم وملكه بالبيع والقسم فإذا فرق بينهم وبين آبائهم بالبيع أو القسمة فأحكامهم حينئذ أحكام المسلمين في الصلاة عليهم والدفن في مقابر المسلمين والموارثة وغيرها قال أبو عمر قول عبد الملك وروايته هذه عن أصحابه مالك وغيره من أهل المدينة كمذهب الأوزاعي وأهل الشام قال الأوزاعي في الصبيان يموتون من السبي بعد أن اشتروا قال يصلى عليهم وإن كانوا لم يباعوا لم يصل عليهم يريد إذا كانوا في ملك مسلم فملكه لهم أولى بهم من حكم آبائهم قال بن الطباع على هذا فتيا أهل الثغر وهو قول سليمان بن موسى ورواية الحارث عن الأوزاعي وذكر أبو المغيرة عن صفوان بن عمرو قال سمعت أصحابنا ومشيختنا يقولون ما ملك المسلمون من صبيان العدو فماتوا يصلى عليهم وإن لم يصلوا لأنهم مسلمون ساعة يملكهم المسلمون وقال تمام بن نجيح كنت مع سليمان بن موسى بأرض الروم وهو على السبي فكانوا يموتون صغارا فلا يصلي عليهم فقلت أليس كان يقال ما أحرز المسلمون يصلى عليهم قال ذاك إذا اشتراه مسلم فصار في ملكه قال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما وهو قول حماد بن أبي سليمان حكم الطفل حكم أبويه إذا كانا معه أو كان معه أحدهما وسواء الأب والأم في ذلك فإن لم يكونا معه ولا أحدهما فصار في ملك مسلم فحكمه حكم المسلمين ودينه دين سيده المسلم واختلف عن الثوري فروي عنه مثل قول أبي حنيفة وروى عنه بن المبارك أنه قال يصلى على الصبي وإن كان معه أبواه كافرين لأن الملك أغلب عليه وأملك به وهذا كقول الأوزاعي وقال الفزاري عن سفيان إذا دخلوا فئة المسلمين صلي عليهم وإذا صاروا في ملك المسلمين صلى عليهم‏.‏

وقال أبو ثور إذا سبي الطفل مع أبويه أو أحدهما أو وحده ثم مات قبل أن يختار الإسلام لم يصل عليه وذكر أبو عبيد قول الأوزاعي لأن دين سيده أحق به من دين والديه والإسلام يعلو ولا يعلى عليه قال ولما لم يكن على دين أبويه إذا كانا ميتين أو غائبين وكذلك إذا كانا حيين قال أبو عبيد ويختلفون عن مالك فيه‏.‏

وقال أحمد بن حنبل إذا سبي معه أبواه أو أحدهما ثم مات لم يصل عليه وهو على دينهما قال وإن لم يكن معه أبواه صلى عليه المسلمون هم يلونه وحكمه حكمهم قال وإن كان معه أبواه جاز أن يفدى به مسلم وإن لم يكونا معه لم يجز وكان بن حنبل يتعجب من قول أهل الثغور في ذلك لأنهم لم يلتفتوا إلى أبويه في حال من الأحوال وجعلوا حكمه حكم سيده المسلم قال ثم جعل يحتج عليهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم فأبواه يهودانه أو ينصرانه‏.‏

527- مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه قال أبو عمر قد ظن بعض الناس أن هذا الحديث معارض لنهيه صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت لقوله ‏(‏عليه السلام‏)‏ لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ولقول خباب بن الأرت لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به قال وفي الحديث إباحة تمني الموت وليس كما ظن وإنما هذا خبر أن ذلك سيكون لشدة ما ينزل بالناس من فساد الحال في الدين وضعفه وخوف ذهابه لا لضر ينزل بالمؤمن يحط خطاياه وقوله لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه إخبار عن تغير الزمان وما يحدث فيه من المحن والبلاء والفتن وقد ذكرنا في التمهيد حديث زاذان أبي عمر عن عليم الكندي قال كنت مع عبس الغفاري على سطح له فرأى قوما يتحملون من الطاعون فقال يا طاعون خذني إليك ثلاثا يعيدها فقال له عليم لم تقول هذا ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتمنين أحدكم الموت فإنه عند انقطاع عمله ولا يرد فيستعتب فقال عبس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بادروا بالموت ستا إمرة السفهاء وكثرة الشرط وبيع الحكم واستخفافا بالدم وقطيعة الرحم ونشوا يتخذون القرآن مزامير يقدمون الرجل يغنيهم بالقرآن وإن كان أقلهم فقها وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إذا أردت بالناس فتنة أو أردت في الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ما يوضح لك معنى هذا الباب ومثل هذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه اللهم قد ضعفت قوتي وكبرت سني وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط وروى شعبة عن سلمة بن كهيل قال سمعت أبا الزعراء يحدث عن عبد الله قال ليأتين عليكم زمان يأتي الرجل القبر فيقول يا ليتني كنت مكان هذا ليس به حب الله ولكن يشده ما يرى من البلاء ومر عمر بن عبد العزيز بمجلس فقال لأهله ادعوا الله لي بالموت قال فدعوا له فما مكث إلا أياما حتى مات‏.‏

528- مالك عن محمد بن عمرو بن حلحلة الديلي عن معبد بن كعب بن مالك عن أبي قتادة بن ربعي أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فقال مستريح ومستراح منه قالوا يا رسول الله ما المستريح وما المستراح منه قال العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب ليس في هذا الحديث معنى يشكل ولا ما يحتاج إلى تفسير ولا ما يحتمله من خلاف التأويل وقد ذكرنا في التمهيد سماع كل من في إسناده بعضهم من بعض ورواه محمد بن إسحاق عن معبد بن كعب بن مالك عن أبي قتادة الأنصاري قال بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه آت فقال يا رسول الله ‏!‏ مات فلان فقال عبد الله دعي فأجاب مستريح ومستراح منه فقال يا رسول الله مستريح ماذا قال عبد الله المؤمن استراح من الدنيا ونصبها وهمومها وأحزانها وأفضى إلى رحمة الله قلنا ومستراح منه ماذا قال عبد الله الرجل الشر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أبي قال حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا محمد بن إسحاق فذكره‏.‏

529- مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات عثمان بن مظعون ومر بجنازته ذهبت ولم تلبس منها بشيء هكذا هو في الموطأ مرسلا مقطوعا لم يختلفوا في ذلك عن مالك روى بن وهب عن عمرو بن الحارث أن أبا النضر حدثه عن زياد عن بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عثمان بن مظعون حين مات فأكب عليه ثم رفع رأسه ثم جثا الثانية ثم رفع رأسه ثم جثا الثالثة ثم رفع رأسه وله شهيق فعرفوا أنه يبكي فبكى القوم فقال أستغفر الله اذهب أبا السائب فقد خرجت منها ولم تلبس منها بشيء وقد رويناه متصلا مسندا من وجه صحيح حسن ذكرته في التمهيد من حديث يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت لما مات عثمان بن مظعون كشف النبي صلى الله عليه وسلم الثوب عن وجهه وقبل بين عينيه وبكى بكاء طويلا فلما رفع على السرير قال طوبى لك يا عثمان لم تلبسك الدنيا ولم تلبسها وقوله صلى الله عليه وسلم ذهبت ولم تلبس منها بشيء ثناء منه صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون وتفضيل له وكان واحد الفضلاء والعباد الزاهدين في الدنيا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان هو وعلي يذهبان يترهبا ويتركا النساء ويقبلا على العبادة ويحرما طيب الطعام على أنفسهما فنزلت ‏(‏يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم‏)‏ ‏[‏المائدة 87‏]‏‏.‏

ذكره معمر وغيره عن قتادة قال نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون وغيرهما أرادوا أن يتخلوا من الدنيا ويتركوا النساء ويترهبوا وذكر بن جريج عن عكرمة أن علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون وبن مسعود والمقداد بن عمرو وسالما مولى أبي حذيفة تبتلوا وجلسوا في البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح وحرموا طيبات ما أحل لهم يعني النساء والطعام واللباس وفي الحديث من الفقه إباحة الثناء على المرء بما فيه من الأعمال الزاكية وفيه مدح الزهد في الدنيا والتقلل منها وفي ذلك ذم الرغبة فيها والاستكثار منها‏.‏

530- مالك عن علقمة عن أمه أنها قالت سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فلبس ثيابه ثم خرج قالت فأمرت جاريتي تتبعه فتبعته حتى جاء البقيع فوقف في أدناه ما شاء الله أن يقف ثم انصرف فسبقته بريرة فأخبرتني فلم أذكر له شيئا حتى أصبح ثم ذكرت ذلك له فقال إني بعثت إلى أهل البقيع لأصلي عليهم قال أبو عمر يحتمل أن تكون الصلاة ها هنا الدعاء فإن كان ذلك ففيه دليل على أن زيارة القبور والدعاء لأهلها عندها أفضل وأرجى لقبول الدعاء فكأنه أمر أن يستغفر لهم ويدعو بالرحمة كما قيل له ‏(‏واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات‏)‏ ‏[‏محمد 19‏]‏‏.‏

ويحتمل أن تكون الصلاة ها هنا الصلاة على الموتى فإن كان ذلك خصوص لهم فإجماع المسلمين على أنه لا يصلي أحد على قبر مرتين ولا يصلي أحد على قبر من لم يصل عليه إلا أن يكون بحدثان ذلك وأكثر ما قالوا في ذلك ستة أشهر وقد بينا هذا المعنى عند ذكر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر المسكينة من هذا الكتاب ويحتمل أن يكون هذا ليعلمهم بالصلاة منه عليهم لأنه ربما دفن من لم يصل عليه كالمسكينة ومثلها ليكون مساويا بينهم في صلاته عليهم ولا يؤثر بعضهم بذلك ليتم عدله فيهم لأن صلاته على من صلى عليه رحمة وبركة ورفعة ومن هذا المعنى قسم صلاة الخوف بالطائفتين ولم يقدم أحدا من أصحابه يصلي بالطائفة الأخرى ليشملهم عدله ولا يؤثر بعضهم لنفسه وقد قيل إن خروجه للبقيع للصلاة على أهله كان كالمودع للأحياء والأموات وقوله إني بعثت إلى أهل البقيع لأصلي عليهم فهو عندي كلام خرج مخرج العموم ومعناه الخصوص كأنه قال بعثت إلى البقيع لأصلي على من لم أصل عليه من أصحابي ليعمهم بذلك وفيه لبريرة فضيلة وفيه الاستخدام بالعتق والاستخدام بالليل وذلك عندي فيما خف أو فيه طاعة الله عز وجل وحسن أن يجازيه على ذلك ويكافئه لاستخدامه به وفيه ما كانوا عليه من مراعاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا ونهارا وقد روى أبو مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القصة حديثا حسنا يدل على أن ذلك كان منه ‏(‏عليه السلام‏)‏ حين خيره الله بين الدنيا والآخرة ونعيت إليه نفسه فاختار ما عند الله حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إبراهيم بن زهير قال حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق قال حدثني عبد الله بن عمر بن علي العبدي عن عبيد بن جبير مولى الحكم بن أبي العاص عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال أخبرني أبو مويهبة مولى النبي صلى الله عليه وسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا مويهبة إني أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فاستغفر لهم ثم انصرف فأقبل علي وقال يا أبا مويهبة إن الله قد خيرني في مفاتيح خزائن الأرض والخلد فيها ثم الجنة أو لقاء ربي فاخترت لقاء ربي فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الليلة فبدأه وجعه الذي مات منه‏.‏

531- مالك عن نافع أن أبا هريرة قال أسرعوا بجنائزكم فإنما هو خير تقدمونه إليه أو شر تضعونه عن رقابكم هكذا روى هذا الحديث جمهور رواة الموطأ موقوفا على أبي هريرة ورواه الوليد بن مسلم عن مالك عن نافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتابع ذلك عن مالك ولكنه مرفوع من غير رواية مالك عن أبي هريرة من طرق ثابتة وهو محفوظ أيضا من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا وقد ذكرنا الأسانيد بذلك - عن نافع عن أبي هريرة وعن سعيد عن أبي هريرة - من طرق في التمهيد‏.‏

وأما الذي جاء به هذا الحديث فمعناه عندي ترك التراخي وكراهية المطيطاء والتبختر والتباطؤ والزهو في المشي مع الجنازة وغيرها وعلى هذا جماعة العلماء والعجلة أحب إليهم من الإبطاء ويكره الإسراع الذي يشق على ضعفه من يتبعها وقد قال إبراهيم النخعي خضوا فيها ولا تدبوا دبيب اليهود والنصارى وروي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وجماعة من السلف أنهم أمروا أن يسرع بهم وهذا عندي على ما استحبه الفقهاء ولكل شيء قدر وهو أمر خفيف إن شاء الله وقد تأول قوم في قوله في هذا الحديث أسرعوا بجنائزكم أنه أراد تعجيل الدفن بعد استيقان الموت ومن حجة من ذهب إلى هذا التأويل في حديث أبي هريرة هذا حديث الحصين بن وحوح أن طلحة بن البراء مرض فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله وحديث علي بن أبي طالب ان النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا علي ثلاثة لا تؤخرها الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت لها كفؤا قال أبو عمر إلا أن قوله ‏(‏عليه السلام‏)‏ إنما هو خير تقدمونه إليه أو شر تضعونه عن رقابكم يدل على المشي وهيئته لا الدفن هذا ظاهر الحديث وكل ما احتمل المعنى فليس ببعيد في التأويل وروى شعبة عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي بكرة أنه أسرع في المشي في جنازة عثمان بن أبي العاص وأمرهم بذلك وقال قد رأيت وإنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏ عليه السلام‏)‏ نرمل رملا وعن بن مسعود أنه قال سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المشي مع الجنازة فقال دون الخبب إن يكن خيرا يعجل به وإن يكن غير ذلك فبعدا لأهل النار‏.‏