فصل: باب وضوء النائم إذا قام إلى الصلاة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار ***


باب وضوء النائم إذا قام إلى الصلاة

40- مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏‏(‏إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه ‏(‏1‏)‏ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده‏)‏‏)‏ ولم يختلف الرواة لهذا الحديث عن مالك في الموطأ وغيره في قوله ‏(‏‏(‏فليغسل يده‏)‏‏)‏ ولم يقل مرة ولا مرتين ولا ثلاثا وهي رواية الأعرج عن أبي هريرة وقد ذكرنا في التمهيد من تابعه على ذلك من أصحاب أبي هريرة ومن قال فيه مرتين ومن قال فيه ثلاثا كل ذلك بالأسانيد الصحاح ورواه سفيان بن عيينة عن أبي الزناد بإسناده فقال فيه ثلاثا فقط وجعله على حديثه عن بن شهاب الزهري في ذلك وفي هذا الحديث من الفقه إيجاب الوضوء من النوم لقوله ‏(‏‏(‏فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه‏)‏‏)‏ وهو أمر مجتمع عليه في النائم المضطجع إذا غلب عليه النوم واستثقل نوما‏.‏

41- مالك عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب قال إذا نام أحدكم مضطجعا فليتوضأ‏.‏

42- مالك عن زيد بن أسلم أن تفسير هذه الآية ‏(‏يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين‏)‏ ‏[‏المائدة 6‏]‏‏.‏

أن ذلك إذا قمتم من المضاجع يعني النوم واختلف العلماء فيما يوجب الوضوء من النوم فقال مالك من نام مضطجعا أو ساجدا فليتوضأ ومن نام جالسا فلا وضوء عليه إلا أن يطول نومه وهو قول الزهري وربيعة والأوزاعي في رواية الوليد بن مسلم عنه قال من نام قليلا لم ينتقض وضوؤه فإن تطاول ذلك توضأ وبه قال أحمد بن حنبل وروى الوليد بن مسلم عن الأوزاعي أنه سأل بن شهاب الزهري عن الرجل ينام جالسا حتى استثقل قال إذا استثقل نوما فإنا نرى أن يتوضأ‏.‏

وأما إن كان نومه غرارا ينام ويستيقظ ولا يغلبه النوم فإن المسلمين قد كان ينالهم ذلك ثم لا يقطعون صلاتهم ولا يتوضؤون منه قال الوليد سمعت أبا عمرو الأوزاعي يقول إذا استثقل نوما توضأ وروى محمد بن خالد عن الأوزاعي قال لا وضوء من النوم وإن توضأ ففضل أحدثه وإن ترك فلا حرج ولم يذكر عنه الفصل بين أحوال النائم وسئل الشعبي عن النوم فقال إن كان غرارا لم ينقض الطهارة قال أبو عمر الغرار القليل من النوم قال جرير‏:‏

ما بال نومك بالفراش غرارا *** لو كان قلبك يستطيع لطار

وقال أبو حنيفة وأصحابه لا وضوء إلا على من نام مضطجعا أو متوركا وقال أبو يوسف إن تعمد النوم في السجود فعليه الوضوء وقال الثوري والحسن بن حي لا وضوء إلا على من اضطجع وهو قول حماد بن أبي سليمان والحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وهو ظاهر قول عمر لأنه خصص المضطجع فوجب أن يكون ما عداه بخلافه وروى أبو خالد الدالاني - واسمه يزيد عن قتادة عن أبي العالية عن بن عباس ‏(‏‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما الوضوء على من نام مضطجعا ‏(‏2‏)‏ وهو عند أهل الحديث منكر لم يروه مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي خالد الدالاني عن قتادة بإسناده وقال الليث بن سعد إذا اتضع للنوم جالسا فعليه الوضوء ولا وضوء على القائم والجالس وإذا غلبه النوم توضأ‏.‏

وقال الشافعي على كل نائم الوضوء إلا الجالس وحده فكل من زال عن حد الاستواء ونام فعليه الوضوء وسواء نام قاعدا أو ساجدا أو قائما أو راكعا أو مضطجعا وهو قول الطبري وداود بن علي وروي عن علي وبن مسعود وبن عمر أنهم قالوا من نام جالسا فلا وضوء عليه وروي عن بن عمر أنه قال وجب الوضوء على كل نائم خفق برأسه خفقات وروي عنه خفقة أو خفقتين والخبر عنه بإسناده في التمهيد وقال الحسن وسعيد بن المسيب إذا خالط النوم قلب أحدكم واستغرق نوما فليتوضأ وروي ذلك أيضا عن بن عباس وأبي هريرة وأنس بن مالك وبه قال إسحاق وأبو عبيد وهو معنى قول مالك وروينا عن أبي عبيدة أنه قال كنت أفتي أن من نام جالسا لا وضوء عليه حتى خرج إلى جنبي يوم الجمعة رجل فنام فخرجت منه ريح فقلت له قم فتوضأ فقال لم أنم فقلت بلى وقد خرجت منك ريح تنقض الوضوء فجعل يحلف أنه ما كان ذلك منه وقال لي بل منك خرجت فتركت ما كنت أعتقد في نوم الجالس وراعيت غلبة النوم ومخالطته للقلب وكان عبد الله بن المبارك يقول إن نام جالسا أو ساجدا في صلاته فلا وضوء عليه وإن نام ساجدا في غير الصلاة فعليه الوضوء وكذلك إن تعمد النوم جالسا وهو في صلاة فعليه الوضوء وروي عن أبي موسى الأشعري ما يدل على أن النوم ليس عنده بحدث على أي حال كان حتى يحدث النائم حدثا غير النوم لأنه كان ينام ويوكل من يحرسه وروي عن عبيدة نحو ذلك وهو يشبه ما نزع إليه أصحاب مالك إلا أنهم يوجبون الوضوء مع الاستثقال من أجل ما يداخله من الشك وروي عن سعيد بن المسيب أنه كان ينام مرارا مضطجعا ينتظر الصلاة ثم يصلي وقال المزني صاحب الشافعي النوم حدث كسائر الأحداث قليله وكثيره يوجب الوضوء وحجته حديث صفوان بن عسال المرادي قال ‏(‏‏(‏كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأمرنا ألا ننزع خفافنا من غائط أو بول أو نوم ولا ننزعها إلا من جنابة‏)‏‏)‏ وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد قال ففي هذا الحديث التسوية بين الغائط والبول والنوم مع القياس على ما أجمعوا عليه في أن غلبة النوم وتمكنه حدث يوجب الوضوء فوجب أن يكون قليلة حدثا كما أن كثيرة عند الجمهور حدث وليس فيما ذكرنا عن الأشعري وعبيدة ما يخرق الإجماع وقد بينا ذلك في ‏(‏‏(‏التمهيد‏)‏‏)‏ وكذلك بينا الحجة على المزني هنالك أيضا واحتج من ذهب إلى فعل الأشعري وقول عبيدة بحديث يروى عن النبي -عليه السلام- من حديث علي وحديث معاوية أنه قال ‏(‏‏(‏العينان وكاء ‏(‏1‏)‏ السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء‏)‏‏)‏ وقد احتج بهذا الحديث أصحابنا لمالك أيضا وهما حديثان ضعيفان لا حجة فيهما من جهة النقل وقد ذكرتهما في ‏(‏‏(‏التمهيد‏)‏‏)‏ وأصح ما في هذا الباب من جهة الإسناد حديث بن عمر قال ‏(‏‏(‏شغل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العشاء ليلة فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا ثم رقدنا ثم استيقظنا ثم خرج علينا فقال ليس أحد ينتظر الصلاة غيركم‏)‏‏)‏ ومثله حديث أنس قال ‏(‏‏(‏كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضؤون‏)‏‏)‏ وقد ذكرنا هذين الحديثين مع سائر الأحاديث الواردة في النوم عن النبي -عليه السلام- في ‏(‏‏(‏التمهيد‏)‏‏)‏ وكذلك عن الصحابة والتابعين وكلها تدل على أن من نام جالسا لا شيء عليه ومثله حديث مالك عن نافع عن بن عمر أنه كان ينام جالسا ثم يصلي ولا يتوضأ قال أبو عمر في قوله -عليه السلام- ‏(‏‏(‏فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده‏)‏‏)‏ ما يدل على نوم الليل وشبهه ومعلوم منه في الأغلب الاضطجاع والاستثقال فعلى هذا خرج الحديث والله أعلم‏.‏

وأما قوله في الحديث ‏(‏‏(‏فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه‏)‏‏)‏ فإن أكثر أهل العلم ذهبوا إلى أن ذلك ندب لا إيجاب وسنة لا فرض وكان مالك يستحب لكل من كان على غير وضوء سواء قام من نوم أو غيره أن يغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه وروى أشهب عنه في ذلك تأكيدا واستحبابا وروى بن وهب وبن نافع عن مالك في المتوضئ يخرج منه ريح لحدثان وضوئه ويده طاهرة قال يغسل يده قبل أن يدخلها في الإناء أحب إلي قال بن وهب وقد كان قبل ذلك يقول إن كانت يده طاهرة فلا بأس أن يدخلها في الوضوء قبل أن يغسلها ثم قال أحب إلي أن يغسل يده إذا أحدث قبل أن يدخلها في وضوئه وإن كانت طاهرة وذكر بن عبد الحكم عنه قال من استيقظ من نومه أو مس فرجه أو كان جنبا أو امرأة حائضا فأدخل أحدهم يده في وضوئه فليس ذلك يضره كان الماء قليلا أو كثيرا إلا أن يكون في يده نجاسة قال ولا يدخل أحدهم يده في وضوء قبل أن يغسلها قال أبو عمر الفقهاء على هذا كلهم يستحبون ذلك ويأمرون به فإن أدخل أحد يده بعد قيامه من نومه في وضوئه قبل أن يغسلها ويده نظيفة لا نجاسة فيها فلا شيء عليه ولا يضر ذلك وضوءه وقد ذكرنا في ‏(‏‏(‏التمهيد‏)‏‏)‏ عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يتوضؤون من المطاهر وفي ذلك ما يدلك على أن إدخال اليد السالمة من الأذى في إناء الوضوء لا يضره ذلك وقد كان الحسن البصري فيما روى عنه أشعث الحمراني يقول إذا استيقظ أحدكم من النوم فغمس يده في الإناء قبل أن يغسلها أهراق ذلك الماء وإلى هذا ذهب أهل الظاهر فلم يجيزوا الوضوء به لأنه عندهم ماء منهي عن استعماله لأن عندهم المنهي عنه لا معنى له إلا هذا كأنه قال فلا يدخل يده فإن فعل لم يتوضأ بذلك الماء وإلى هذا المعنى ذهب بعض أصحاب داود ومحصل مذهب داود عند أكثر أصحابه أن فاعل ذلك عاص إذا كان بالنهي عالما والماء طاهر والوضوء به جائز ما لم تظهر فيه نجاسة وروى هشام عن الحسن قال من استيقظ من نومه فغمس يده في وضوئه فلا يهرقه وعلى هذا جماعة الفقهاء واختلف أيضا عن الحسن البصري في الفرق بين نوم الليل والنهار في ذلك فروي عنه أنه كان يسوي بين نوم الليل والنهار في غسل اليد وروي عنه أنه كان لا يجعل نوم النهار مثل نوم الليل ويقول لا بأس إذا استيقظ من نوم النهار أن يغمس يده في وضوئه وإلى هذا ذهب أحمد بن حنبل وقد ذكرنا الإسنادين والروايتين عن الحسن في ‏(‏‏(‏التمهيد‏)‏‏)‏ وذكر أبو بكر الأثرم قال سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن الرجل يستيقظ من نومه فيغمس يده في الإناء قبل أن يغسلها فقال أما بالنهار فليس به عندي بأس‏.‏

وأما إذا قام من النوم بالليل فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها قيل لأحمد فما يصنع بذلك قال إن صب الماء وأبدله فهو أحسن وأسهل قال أبو عمر إنما خرج ذكر المبيت على الأغلب ونوم النهار في معنى نوم الليل في القياس لأنه نوم كله وفي قولهم بت أراعي النجوم دليل على أن المبيت غير النوم وأنه يكون بنوم وبغير نوم واحتج بعض أصحاب الشافعي لمذهبه في الفرق بين ورود الماء على النجاسة وبين ورودها عليه بحديث أبي هريرة هذا قال ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خاف على النائم المستيقظ من نومه أن تكون في يده نجاسة - أمره بطرح الماء من الإناء على يده ليغسلها ولم يأمر بإدخال يده في الإناء ليغسلها فيه بل نهاه عن ذلك فدلنا ذلك مع نهيه عن البول في الماء الذائم وحديث ولوغ الكلب في الإناء وأمره بالصب على بول الأعرابي على أن النجاسة إذا وردت على الماء أفسدته وإذا ورد الماء عليها طهرها إلا أن تغلب عليه لأنها لو أفسدته مع وروده عليها لم تصح طهارة أبدا في شيء من الأشياء وشرطوا أن يكون ورود الماء على النجاسة صبا مهراقا قال أبو عمر هذا خلاف أصلهم أن الشك لا يوجب شيئا وأن كل شيء على أصل حاله حتى يتبين خلافه وينبغي أن تكون اليد على طهارتها حتى تتبين فيها النجاسة وهذا عين الفقه وعليه الفقهاء لأن غسل اليد ها هنا هو عندهم ندب واستحسان واحتياط لا علة كما زعم من قال إن ذلك كان منه -عليه السلام- لأنهم كانوا يستنجون بالأحجار فيبقى للأذى هناك آثار فربما جالت اليد فأصابت ذلك الأذى فندبوا إلى غسل اليد قبل إدخالها في الإناء لذلك وقد يجوز أن يكون الأصل في مخرج النهي ما ذكر ثم ثبت الندب في ذلك لمن استنجى بالماء قياسا على المحدث النائم وينتقض على الشافعي أصله في ورود الماء على النجاسة وورودها عليه باعتبار القلتين لأن النجاسة عنده لو ورد الماء عليها فيما دون القلتين أفسدته إلا أن تكون غسلا وصبا مهراقا وسيأتي القول في حكم الماء في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله‏.‏

وأما معنى قول الله تعالى ‏(‏إذا قمتم إلى الصلاة‏)‏ ‏[‏المائدة 6‏]‏‏.‏

فقال زيد بن أسلم وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي إن ذلك القيام من النوم وروي عن عمر وعلي ما يدل على أن الآية عني بها تجديد الوضوء لكل صلاة فيكون - على هذا - الوضوء لمن قام إلى الصلاة وهو محدث واجبا وعلى غير محدث ندبا وفضلا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة إلا يوما واحدا عام الفتح وكان جماعة من الصحابة يفعلون ذلك وقد ذكرنا الآثار بذلك كله في ‏(‏‏(‏التمهيد وروي عن بن عباس وسعد بن أبي وقاص وأبي موسى الأشعري وجابر بن عبد الله وعبيدة السلماني وأبي العالية الرياحي وسعيد بن المسيب والأسود بن يزيد والحسن البصري وإبراهيم النخعي والسري أيضا - أن الآية عني بها حال القيام إلى الصلاة على غير الطهر وهذا أمر مجتمع عليه لا خلاف بين الفقهاء فيه والحمد لله وروى سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه ‏(‏‏(‏أن النبي -عليه السلام- كان يتوضأ لكل صلاة فلما كان يوم الفتح صلى خمس صلوات بوضوء واحد فقال له عمر يا رسول الله فعلت شيئا لم تكن تفعله ‏!‏ فقال عمدا فعلته يا عمر‏)‏‏)‏ أي ليعلم الناس ذلك ومن الدليل أن الأمر بالوضوء على من وجب عليه القيام إلى الصلاة في قوله عز وجل ‏(‏ إذا قمتم إلى الصلاة‏)‏ الآية - ليس بواجب إلا إن كان محدثا على غير وضوء ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجمع بين الصلاتين في أسفاره ولا يتوضأ إلا للأولى منهما وكذلك فعل بعرفة والمزدلفة في جمعة بين الصلاتين بهما ومن الدليل على ذلك أيضا ما روي في الآثار الصحاح أنه صلى الله عليه وسلم أكل كتفا مستها النار وطعاما مسته النار وقام إلى الصلاة ولم يتوضأ وإنما ذكرنا هذا لأنا قد أوضحنا اختلاف العلماء في الوضوء مما غيرت النار في موضعه من هذا الكتاب وأتينا بالآثار المروية في إيجاب الوضوء على من أكل ما غيرته النار من الطعام وبالله التوفيق وكان بن عمر يتوضأ لكل صلاة فقيل له في ذلك فقال ‏(‏‏(‏سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من توضأ على طهر كتبت له عشر حسنات‏)‏‏)‏ وهذا كله يدلك على معنى الفرض وموضع الفضل وهذا أمر مجمع عليه فسقط القول فيه وفي هذا الحديث من الفقه أيضا الفرق بين ورود النجاسة على الماء وبين ورود الماء عليها لأن النبي -عليه السلام- نهي القائم إلى وضوئه من نومه أن يغمس يده في الإناء لئلا يكون فيها من النجاسة ما يفسد الماء عليه وأمره بصب الماء على يده وغسلها ببعض ماء الإناء الذي نهاه أن يغمس يده فيه فدل على أن الماء يطهر النجاسة بأن يصب عليها حتى تزول بقليل الماء زالت أو كثيرة على حسب المعهود عند الناس من تطهير الأنجاس ولم تعتبر في ذلك قلة ولا كثرة ولا مقدار كما قال عليه السلام في الماء الذي ترد عليه النجاسة وهذا بين لمن وفق وبالله التوفيق قال مالك الأمر عندنا أن لا يتوضأ من رعاف ولا من دم ولا من قيح يسيل من الجسد ولا يتوضأ إلا من حدث يخرج من ذكر أو من دبر أو نوم أما قوله الأمر عندنا إلى آخر كلامه - فإنه لم يرد الأمر المجتمع عليه لأن الخلاف موجود بالمدينة في الرعاف وكلامه هذا ليس على ظاهره عند جميع أصحابه لأنهم لا يختلفون في الملامسة مع اللذة والقبلة مع اللذة أن ذلك يوجب الوضوء وكذلك مس الذكر وسيأتي ذكر ذلك في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله‏.‏

وأما الدم السائل والفصد والحجامة فجمهور أهل المدينة على أن لا وضوء في شيء من ذلك وبه قال الشافعي وهو الحق لأن الوضوء المجتمع عليه لا يجب أن ينتقض إلا بسنة أو إجماع وإنما أوجب العراقيون الوضوء في ذلك قياسا على المستحاضة لقول النبي -عليه السلام- ‏(‏‏(‏إنما ذلك عرق وليس بالحيضة‏)‏‏)‏ ثم أمرها بالوضوء لكل صلاة والكلام عليهم يأتي عند ذكرنا حديث المستحاضة إن شاء الله‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي الفصد والحجامة والرعاف وكل نجس يخرج من الجسد من أي موضع يوجب الوضوء وقال الأوزاعي إذا كان دما عبيطا فعليه الوضوء وإن كان مثل دم اللحم فلا وضوء فيه‏.‏

وأما قوله ولا يتوضأ إلا من حدث يخرج من قبل أو دبر أو نوم فإنه أراد ما كان من الأحداث معتادا وهو البول والرجيع ففيهما وردت الكناية لقوله تعالى ‏(‏أو جاء أحد منكم من الغائط‏)‏ ‏[‏النساء 43‏]‏‏.‏

والمائدة 6 ولا وضوء عنده في الدم الخارج من الدبر ولا في الدود إلا أن يخرج معهما شيء من الأذى لأن ذلك ليس من معنى ما قصد بذكر المجيء من الغائط وذكر بن عبد الحكم عن مالك قال من خرج من دبره دود أو دم فلا وضوء عليه وقال سحنون من خرج من دبر دود فعليه الوضوء لأنها لا تسلم من بلة‏.‏

وقال الشافعي كل ما خرج من السبيلين الذكر والدبر من دود أو حصاة أو دم أو غير ذلك ففيه الوضوء لإجماعهم على أن المذي والودي فيهما الوضوء وليسا من المعتادات التي يقصد الغائط لهما وكذلك ما يخرجه الدواء ليس معتادا وفيه الوضوء بإجماع وقد أجمعوا على أن الريح الخارجة من الدبر حدث يوجب الوضوء واجتمعوا على أن الجشاء ليس فيه وضوء بإجماع وقد أجمعوا على أن الريح الخارجة من الدبر حدث فدل ذلك على مراعاة المخرجين فقط وبقولي الشافعي في ذلك كله يقول بن عبد الحكم قال الشافعي والدود والدم إذا خرجا من غير المخرج فلا وضوء في شيء منهما ووافق أبو حنيفة وأصحابه في الدود وخالفوه في الدم على ما قدمنا عنهم وعن الأوزاعي في الدود روايتان إحداهما كقول الشافعي والأخرى كقول مالك والقيح والدم عند مالك سواء وقد رخص في القيح بعض العلماء‏.‏

وأما النوم فقد مضى حكمه فيما تقدم ويأتي ذكر القلس والرعاف في موضعه إن شاء الله‏.‏

باب الطهور للوضوء

43- مالك عن صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة من آل بني الأزرق عن المغيرة بن أبي بردة وهو من بني عبد الدار أنه سمع أبا هريرة يقول جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ من ماء البحر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏هو الطهور ماؤه الحل ميتته‏)‏‏)‏ اختلف العلماء في هذا الإسناد فقال محمد بن عيسى الترمذي سألت البخاري عنه فقال حديث صحيح فقلت له إن هشيما يقول فيه المغيرة بن أبي برزة فقال وهم فيه إنما هو المغيرة بن بردة وهشيم إنما وهم في الإسناد وهو في المقطعات أحفظ وقال غير البخاري سعيد بن سلمة رجل مجهول لم يرو عنه غير صفوان بن سليم وحده قال ولم يرو عن المغيرة بن أبي بردة غير سعيد بن سلمة قال أبو عمر قد روى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري رواه عنه سفيان بن عيينة وغيره ذكر بن أبي عمرو الحميدي والمخزومي عن بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن رجل من أهل المغرب يقال له المغيرة بن أبي عبد الله بن أبي بردة ‏(‏‏(‏أن ناسا من بني مدلج أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله ‏!‏ إنا نركب البحر‏)‏‏)‏ وساق الحديث بمعنى حديث مالك قد ذكرناه في التمهيد وهو مرسل لا يصح فيه الاتصال ويحيى بن سعيد أحفظ من صفوان بن سليم وأثبت من سعيد بن سلمة وليس إسناد هذا الحديث مما تقوم به حجة عند أهل العلم بالنقل لأن فيه رجلين غير معروفين بحمل العلم في رواية صفوان بن سليم وفي رواية يحيى بن سعيد نحو ذلك في المغيرة بن أبي بردة وقد روي هذا الحديث أيضا عن النبي -عليه السلام- من حديث الفراسي رجل من بني فراس من بني مدلج بإسناد ليس بالقائم أيضا في حديث الليث بن سعد وقد ذكرناه في التمهيد والفراسي مذكور في الصحابة غير معروف قال أبو عمر المغيرة بن أبي بردة كان مع موسى بن نصير في مغازيه بالمغرب وكان موسى يؤمره على الجيوش هنالك وفتح في المغرب فتوحات وهذا إسناد وإن لم يخرجه أصحاب الصحاح فإن فقهاء الأمصار وجماعة من أهل الحديث متفقون على أن ماء البحر طهور بل هو أصل عندهم في طهارة المياه الغالبة على النجاسات المستهلكة لها وهذا يدلك على أنه حديث صحيح المعنى يتلقى بالقبول والعمل الذي هو أقوى من الإسناد المنفرد واختلف رواة الموطأ فبعضهم يقول من آل بني الأزرق كما قال يحيى وبعضهم يقول من آل الأزرق وكذلك قال القعنبي وبعضهم يقول من آل بن الأزرق وكذلك قال بن القاسم وبن بكير وهذا كله غير متضاد وقد جاء عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص كراهية الوضوء بماء البحر وليس في أحد حجة مع خلاف السنة وقد روى قتادة عن موسى بن سلمة الهذلي قال سألت بن عباس عن الوضوء بماء البحر فقال هما البحران يريد قول الله تعالى ‏(‏هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج‏)‏ ‏[‏الفرقان 53‏]‏‏.‏

لا تبال بأيهما توضأت وهذا إجماع من علماء الأمصار الذين تدور عليهم وعلى أتباعهم الفتوى وكذلك عندهم كل ماء مستبحر كثير غير متغير بما يقع فيه من الأنجاس وهذا موضع القول في الماء واختلاف ما فيه للعلماء فأما الكوفيون فالنجاسة تفسد عندهم قليل الماء وكثيره إذا حلت فيه إلا الماء المستبحر الذي لا يقدر آدمي على تحريك جميعه قياسا على البحر الذي قال فيه رسول الله ‏(‏‏(‏هو الطهور ماؤه الحل ميتته‏.‏

وأما مالك فاختلف عنه في ذلك فروى المصريون عنه خلاف رواية أهل المدينة فأما رواية أصحابه المصريين عنه فإن بن القاسم روى عن مالك في الجنب يغتسل في حوض من الحياض التي تسقى فيها الدواب ولم يكن غسل ما به من الأذى إن قد أفسد الماء وكذلك جوابه في إناء الوضوء يقع فيه مثل الإبر من البول إنه يفسده وروي عن مالك في الجنب يغتسل في الماء الدائم الكثير مثل الحياض التي تكون بين مكة والمدينة ولم يكن غسل ما به من الأذى إن ذلك لا يفسد الماء وهذا مذهب بن القاسم وأشهب وبن عبد الحكم كلهم يقول إن الماء القليل يفسده قليل النجاسة وإن الماء الكثير لا يفسده إلا ما غلب عليه من النجاسة أو غيرها فغيره عن حاله في لونه وطعمه وريحه ولم يحدوا حدا بين القليل والكثير ونحو هذا قال الشافعي إلا أنه حد في ذلك حدا لحديث القلتين فقال ما كان دون القلتين فحلت فيه نجاسة أفسدته وإن لم تظهر فيه وإذا بلغ الماء قلتين لم يفسده ما يحل فيه من النجاسة إلا أن تظهر فيه فتغير منه لونا أو طعما أو ريحا وحجته فيما ذهب إليه من ذلك حديث عبد الله بن عمر عن النبي -عليه السلام- أنه قال ‏(‏‏(‏إذا كان الماء قلتين لم تلحقه نجاسة ولم يحمل خبثا‏)‏‏)‏ وبعض رواته يقولون ‏(‏‏(‏إذا كان الماء قلتين أو ثلاثا‏)‏‏)‏ وقد ذكرنا أسانيد هذا الحديث والعلة فيه في ‏(‏‏(‏التمهيد‏)‏‏)‏ واحتج الشافعي بأن الماء القليل تلحقه النجاسة إذا حلت فيه وإن لم يظهر فيه شيء منها بحديث ولوغ الكلب في الإناء وبحديث ‏(‏‏(‏إذا قام أحدكم من نومه‏)‏‏)‏ وبنحو ذلك من الأحاديث والقلتان عنده وعند أصحابه نحو خمس مئة رطل على ما قدرهما بعض رواه هذا الحديث واعتمد فيه على قول بن جريج وهو أحد أئمة الحديث والفقه والتفسير قال فيه قلتان من قلال هجر وقد تكلم إسماعيل في هذا الحديث ورده بكثير من القول في كتاب ‏(‏‏(‏أحكام القرآن‏)‏‏)‏ وقد رد الشافعيون عليه قوله في ذلك بضروب من الرد وممن نقض ذلك منهم أبو يحيى في كتاب ‏(‏‏(‏أحكام القرآن‏)‏‏)‏ ومذهب إسماعيل في الماء هو مذهب أهل المدينة من أصحاب مالك وغيرهم وهو خلاف مذهب البصريين من أصحاب مالك في الماء ولو ذهب إسماعيل في ذلك مذهب المصريين المالكيين ما احتاج إلى رد حديث القلتين ولا إلى الإكثار في ذلك وروى أهل المدينة عن مالك - ذكر ذلك أبو مصعب وأحمد بن المعذل وغيرهما - أن الماء لا تفسده النجاسة التي تحل فيه قليلا كان أو كثيرا في بئر أو مستنقع أو إناء إلا أن تظهر فيه وتغيره وإن لم يكن ذلك فهو طاهر على أصله وهو قول بن وهب من أصحاب مالك المصريين وإلى هذا مال إسماعيل وأبو الفرج والأبهري وسائر المالكيين البغداديين وبه قالوا وله احتجوا وإليه ذهبوا وذكر بن وهب عن بن لهيعة عن خالد بن أبي عمران أنه سأل القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله عن الماء الراكد الذي لا يجري تموت فيه الدابة أيشرب منه أو تغسل منه الثياب فقالا انظر بعينك فإن رأيته لا يغيره ما وقع فيه فنرجوا ألا يكون به بأس قال‏.‏

وأخبرني يونس عن بن شهاب كل ماء فيه فضل عما يصيبه من الأذى حتى لا يغير ذلك لونه ولا طعمه ولا ريحه فهو طاهر يتوضأ به قال‏.‏

وأخبرني عبد الجبار بن عمر عن ربيعة قال إذا وقعت الميتة في البئر فلم تغير طعمها ولا ريحها فلا بأس أن يتوضأ منها وإن رئي فيها الميتة قال وإن تغيرت نزع منها قدر ما يذهب الرائحة عنها وإلى هذا ذهب بن وهب وروى هذا عن بن عباس وبن مسعود وبن المسيب - على اختلاف عنهم - وسعيد بن جبير وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد والحسن بن صالح وإليه ذهب داود بن علي ومن اتبعه وهو مذهب أهل البصرة وهو الصحيح عندنا في النظر وثابت الأثر وقد ذكرنا الآثار بذلك في التمهيد حديث أبي هريرة وأنس في صب رسول الله الذنوب على بول الإعرابي إذ بال في المسجد ومنها حديث بن عباس عن النبي -عليه السلام- أنه قال ‏(‏‏(‏الماء لا ينجسه شيء‏)‏‏)‏ ومنها حديث أبي سعيد الخدري عن النبي -عليه السلام- أنه سئل عن بئر بضاعة فقيل له إنه يطرح فيها لحوم الكلاب والعذرة وأوساخ الناس فقال ‏(‏‏(‏الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب عليه فغيره‏)‏‏)‏ وهذا إجماع لا خلاف فيه إذا تغير بما غلب عليه من نجس أو طاهر أنه غير مطهر وقال سهل بن سعد الساعدي ‏(‏‏(‏سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من بئر بضاعة بيدي‏)‏‏)‏ وقد ذكرنا آثار هذا الباب المسندة وغيرها من أقاويل الصحابة والتابعين في باب إسحاق بن أبي طلحة من التمهيد وذكرنا هناك الحجة لأهل المدينة على الشافعي والكوفيين بما فيه كفاية والحمد لله وقد حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو علي عبد الصمد بن أبي سكينة الحلبي بحلب قال حدثنا عبد العزيز بن أبى حازم عن أبيه عن سهل بن سعد الساعدي قال قالوا يا رسول الله إنك تتوضأ من بئر بضاعة وفيها ما ينجي الناس والمحايض والجنب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏ ‏(‏الماء لا ينجسه شيء‏)‏‏)‏ وهذا اللفظ غريب في حديث سعد ومحفوظ من حديث أبي سعيد الخدري لم يأت به في حديث سهل غير بن أبي حازم والله أعلم وقال قاسم هذا من أحسن شيء روي في بئر بضاعة‏.‏

وأما قوله عليه السلام ‏(‏‏(‏الحل ميتته‏)‏‏)‏ فإن العلماء اختلفوا معنى ذلك على ما جرى به القول عنهم وثبت مفسرا عنهم من مذاهبهم في كتاب الصيد إن شاء الله إذ ذلك أولى به‏.‏

44- مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن حميدة بنت أبي عبيدة بن فروة عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت بن أبي قتادة الأنصاري أنها أخبرتها أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا فجاءت هرة لتشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة فرآني انظر إليه فقال أتعجبين يا ابنة أخي قالت فقلت نعم فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏‏(‏إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات‏)‏‏)‏‏.‏

قال مالك لا بأس به إلا أن يرى على فمها نجاسة هكذا قال يحيى حميدة بنت أبي عبيدة بن فروة ولم يتابعه أحد على قوله ذلك وهو غلط منه‏.‏

وأما سائر رواة الموطأ فيقولون حميدة بنت عبيدة بن رفاعة إلا أن زيد بن الحباب قال فيه عن مالك حميدة بنت عبيدة بن رافع والصواب رفاعة بن رافع الأنصاري وقد ذكرناه في كتابنا في الصحابة بما يجب من ذكره هناك وانفرد يحيى أيضا بقوله عن خالتها كبشة وسائر رواة الموطأ يقولون عن كبشة ولا يذكرون خالتها واختلف في رفع الحاء ونصبها من حميدة فبعضهم يقول حميدة وبعضهم يقول حميدة وهو الأكثر وتكنى حميدة أم يحيى وهي امرأة إسحاق بن عبد الله بن طلحة كذلك ذكر يحيى القطان في هذا الحديث عن مالك وقد ذكرناه بإسناده ومتنه في التمهيد وكذلك قال فيه بن المبارك عن مالك إلا أنه قال كبشة امرأة أبي قتادة وهذا وهم وإنما هي امرأة بن أبي قتادة في هذا الحديث إباحة اتخاذ الهر لانتفاع به ومعلوم أن ما جاز الانتفاع به جاز شراؤه وبيعه إلا ما خص بدليل وهو الكلب الذي نهي عن ثمنه وفيه أن الهر ليس ينجس ما شرب منه وأن سؤره طاهر وهذا قول مالك والشافعي وأصحابهما والأوزاعي وأبي يوسف القاضي والحسن بن صالح بن حي فإن ظهرت في فمه نجاسة في الماء الذي شرب منه فالجواب فيه ما مضى في الحديث الذي قبل هذا عن العلماء على أصولهم في الماء وفيه دليل على أن ما أبيح لنا اتخاذه فسؤره طاهر لأنه من الطوافين علينا ومعنى الطوافين علينا الذين يداخلوننا ويخالطوننا ومنه قوله تعالى في الأطفال ‏(‏ طوافون عليكم بعضكم على بعض‏)‏ ‏[‏النور 58‏]‏‏.‏

ولذلك قال بن عباس في الهر إنها من متاع البيت وقد ذكرنا الخبر عنه بذلك في التمهيد وطهارة الهر دالة على أنه ليس في حي نجاسة إلا ما قام الدليل على نجاسة عينه بالتحريم وهو الخنزير وحده وأن النجاسة إنما هي في الميتات والأبوال والعذرات وإذا لم يكن في حي نجاسة بدليل ما وصفنا دل ذلك على أن الكلب ليس بنجس وأنه لا نجاسة في عينه لأنه من الطوافين علينا وما أبيح لنا اتخاذه للصيد والزرع والماشية فيقاسه الهر وإذا صح هذا صح أن الأمر بغسل الإناء من ولوغه سبعا عبادة لا لنجاسة وسيأتي القول في هذا المعنى عند حديث الكلب إن شاء الله وقد روي عن عائشة عن النبي - عليه السلام ‏(‏‏(‏أنه كان تمر به الهرة فيصغي لها الإناء فتشرب منه ثم يتوضأ بفضلها‏)‏‏)‏ وهو حديث لا بأس به وكذلك حديث أبي قتادة هذا لا بأس بإسناده أيضا وممن روينا عنه أن الهر ليس بنجس ولا بأس بفضل سؤره للوضوء والشرب العباس بن عبد المطلب وعلي وبن عباس وبن عمر وعائشة وأبو قتادة والحسن والحسين وعلقمة وإبراهيم وعكرمة وعمار بن ياسر واختلف في ذلك عن أبي هريرة والحسن البصري فروى عطاء عن أبي هريرة أن الهر كالكلب يغسل منه الإناء سبعا وروى أبو صالح ذكوان عن أبي هريرة قال السنور من أهل البيت وروى أشعث عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا بسؤر السنور وروى يونس عن الحسن أنه قال يغسل الإناء من ولوغه وهذا يحتمل أن يكون رأى في فمه نجاسة ليصح مخرج الروايتين عنه ولا نعلم أحدا من أصحاب رسول الله روى عنه في الهر أنه لا يتوضأ بسؤره إلا أبا هريرة على اختلاف عنه‏.‏

وأما التابعون فروينا عن عطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين أنهم أمروا بإراقة ما ولغ فيه الهر وغسل الإناء منه وسائر التابعين بالحجاز والعراق يقولون في الهر إنه طاهر لا بأس بالوضوء من سؤره وروى الوليد بن مسلم قال أخبرني سعيد عن قتادة عن بن المسيب والحسن أنهما كرها الوضوء بفضل الهر قال الوليد فذكرت ذلك لأبي عمرو الأوزاعي ومالك بن أنس فقالا توضأ فلا بأس به وإن وجدت غيره وقال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي الذي صار إليه جل أهل الفتوى من أهل الأمصار من أهل الأثر والرأي جميعا إنه لا بأس بسؤر السنور اتباعا للحديث الذي رويناه يعني عن أبي قتادة عن النبي -عليه السلام- قال وممن ذهب إلى ذلك مالك في أهل المدينة والليث في أهل مصر والأوزاعي في أهل الشام وسفيان الثوري فيمن وافق من أهل العراق وكذلك قول الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق وأبي عبيدة قال وكان النعمان يكره سؤره وقال أن توضأ به أجزأه وخالفه أصحابه وقالوا لا بأس به قال أبو عمر ما حكاه المروزي عن أصحاب أبي حنيفة فليس كما حكاه عندنا وإنما خالفه من أصحابه أبو يوسف وحده‏.‏

وأما محمد بن الحسن وزفر بن الهذيل والحسن بن زياد وغيرهم فإنهم يقولون بقول أبي حنيفة وأكثرهم يروون أنه لا يجزئ الوضوء بفضل الهر ويحتجون لذلك ويروى عن أبي هريرة وبن عمر أنهما كرها الوضوء بسؤر الهر وهو قول بن أبي ليلى وقد اختلف أيضا عن الثوري في سؤر الهر وذكر في ‏(‏‏(‏جامعه‏)‏‏)‏ أنه يكره سؤر ما لا يؤكل لحمه وهو ممن يكره أكل الهر وذكره المروزي قال حدثنا عمرو بن زرارة قال حدثنا أبو النضر قال حدثني الأشجعي عن سفيان قال لا بأس بفضل السنور ولا أعلم لمن كره سؤره حجة من أنه لم يبلغه حديث أبي قتادة أو لم يصح عنده وبلغه حديث أبي هريرة في الكلب فقاس الهر على الكلب ومن حجتهم أيضا ما رواه قرة بن خالد عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام - أنه قال ‏(‏‏(‏طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين‏)‏‏)‏ شك قرة وهذا الحديث لم يرفعه إلا قرة وحده وقرة ثقة ثبت إلا أنه خالفه فيه غيره فرووه عن بن سيرين عن أبى هريرة قوله وفي هذا الحديث ما يدل أن أبا قتادة مذهبه أن الماء اليسير تفسده النجاسة وإن لم تظهر فيه لأنه احتج على المرأة التي تعجبت من إصغائه الإناء للهر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏‏(‏إنها ليست بنجس‏)‏‏)‏ فلو كانت عند تنجس ما أصغى لها الإناء لأنها كانت تفسده ومعلوم أن شرب الهر لا يظهر منه في الإناء ما يغيره وقد مضى القول في الماء وما في حكمه عند حلول النجاسة فيه كثيرا أو قليلا عند العلماء في الحديث قبل هذا والحمد لله ومعنى إصغاء أبي قتادة للهرة الإناء لتشرب منه امتثال ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏في كل ذي كبد رطبة أجر ولما كانت الهرة وهي سبع يفترس ويأكل الميتة - أنه ليس بنجس دل ذلك أن كل حي لا نجاسة فيه ما دام حيا حاشى الخنزير المحرم العين فإنه قد اختلف فيه فقيل إنه إذا ماس الماء أفسده وهو حي وقيل إنه لا يفسده على حديث في عمر السباع وظاهر قوله عليه السلام ‏(‏‏(‏الماء لا ينجسه شيء‏)‏‏)‏ يعني إلا ما غلب عليه وظهر فيه من النجاسة بدليل الإجماع على ذلك وإلى هذا يذهب أكثر أصحابنا وبه نقول وكذلك الطير كله ما أكل منه الجيف وما لم يأكل لا بأس بسؤره إلا أن تكون في فمه نجاسة تغير الماء اعتبارا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهر وقد روي عن بن عمر أن الكلاب كانت تقبل وتدبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يغسل شيء من أثرها وهذا يدل على أنه ليس في حي نجاسة وإنما النجاسة في الميت وفيما ثبت معرفته عند الناس من النجاسات المجتمع عليها والتي قامت الدلائل بنجاستها كالبول والغائط وسائر ما يخرج من المخرجين والخمر وقد يكون من الميتة ما ليس بنجس وهو كل شيء ليس له دم سائل مثل بنات وردان والزنبور والعقرب والجعلان والصرار والخنفساء ومض أشبه ذلك والأصل فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم يطرحه‏)‏‏)‏ ومنهم من يرويه فليمقله والمعنى سواء وقد ذكرنا الخبر بذلك في التمهيد ومعلوم أن الذباب مع ضعف خلقه إذا غمس في الماء والطعام مات فيه قال إبراهيم النخعي ما ليس له نفس سائله فليس بنجس يعني بالنفس الدم وقد رخص قوم في أكل دود التين وما في الطعام من السوس وفراخ النحل واستجازوا ذلك لعدم النجاسة فيه وكره أكل ذلك جماعة من أهل العلم وقالوا لا يؤكل شيء من ذلك لأنه ليس له حلق ولا لبة فيذكى ولا من صيد الماء فيحل بغير التذكية واحتجوا بحديث النبي -عليه السلام- في حديث الذباب ‏(‏‏(‏فليغمسه ثم ليطرحه‏)‏‏)‏ وقالوا لو كان مباحا لم يأمر بطرحه‏.‏

وأما القملة والبرغوث فأكثر أصحابنا يقولون لا يؤكل طعام ماتا فيه أو أحدهما لأنهما نجسان وهما من الحيوان الذي عيشه من دم الحيوان وكان سليمان بن سالم القاضي الكندي من أصحاب سحنون يقول إن ماتت القملة في الماء طرح ولم يشرب وإن وقعت في الدقيق ولم تخرج في الغربال لم يؤكل الخبز وإن ماتت في شيء جامد طرحت كالفأرة قال غيره من أصحابنا أما البراغيث فهي كالذباب وكلاهما متناول للدم ويعيش منه‏.‏

وأما القملة فهي من الإنسان كدمه والدم ما لم يكن مسفوحا لا يقطع بتحريمه وإن كره قال أبو عمر الذي أقول إن ما لا دم له ولا دم فيه وإن كان يعيش من الدم فالأصل فيه حديث الذباب‏.‏

وأما ما ظهر فيه الدم فهو نجس يعتبر فيه ما أوضحنا من أصول العلماء في الماء وفي قليل الدم وكثيره‏.‏

وأما الماء فقليل النجاسة يفسده وليس كالماء الذي جعله الله طهورا مطهرا طاهرا وبالله التوفيق‏.‏

45- مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضا فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض يا صاحب الحوض ‏!‏ هل ترد حوضك السباع فقال عمر بن الخطاب يا صاحب الحوض ‏!‏ لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا وهذا يدل على أن الماء إذا لم تظهر فيه نجاسة فهو طاهر ويدل على أن الحيوان لا نجاسة فيه ويدل على أن السؤال فيما لا يحتاج إليه يجب إنكاره والاحتجاج عليه وقال غيره إنما رد عمر على عمرو قوله أنه في سعة من ترك السؤال وقالوا إنما نهى عمر صاحب الحوض عن الخبر لأنه لو أخبره بورودها وولوغها ضاق عليه وذكروا ما رواه بن علية وغيره عن بن عون قال قلت للقاسم بن محمد أرأيت الغدير يلغ فيه الكلب ويشرب منه الحمار قال ينتظر أحدنا إذا انتهى إلى الغدير حتى يسأل أي كلب ولغ فيه وأي حمار شرب منه أي ليس علينا أن نسأل عن ذلك قال أبو عمر المعروف من عمر في احتياطه للدين أنه لو كان ولوغ السباع والحمر والكلاب يفسد ماء الغدير لسأل عنه ولكنه رأى ذلك لا يضر والله أعلم‏.‏

46- مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول إن كان الرجال والنساء في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتوضؤون جميعا في هذا الحديث دليل واضح على إبطال قول من قال لا يتوضأ بفضل المرأة لأنه معلوم إذا اغترفا جميعا من إناء واحد كما جاء من غير رواية مالك وقد رواه هشام بن عمار عن مالك كذلك فكل واحد منهما متوضئ بفضل صاحبه وقد صح عن عائشة أنها قالت ‏(‏‏(‏كنت أتوضأ أنا ورسول الله من إناء واحد من الجنابة والأصل في الماء الطهارة لأن الله قد جعله طهورا فهو كذلك حتى يجمع المسلمون أنه نجس بما دخله والمؤمن لا نجاسة فيه والنجاسة فيه أعراض داخلة والمرأة في ذلك كالرجل إذا سلما مما يعرض من النجاسات وللعلماء في هذه المسألة خمسة أقوال أحدها الكراهية لأن يتطهر الرجل بفضل المرأة والثاني أن تتطهر المرأة بفضل وضوء الرجل والثالث أنهما إذا شرعا جميعا في التطهر فلا بأس به وإذا خلت المرأة بالطهور فلا خير في أن يتطهر بفضل طهورها والرابع أنه لا بأس أن يتطهر كل واحد منهما بفضل طهور صاحبه ما لم يكن الرجل جنبا والمرأة حائضا أو جنبا وهو قول بن عمر ‏(‏والذي‏)‏ عليه جماعة فقهاء الأمصار أنه لا بأس بفضل وضوء المرأة وسؤرها حائضا كانت أو جنبا خلت به أو شرعا معا إلا أحمد بن حنبل فإنه قال إذا خلت المرأة بالطهور فلا يتوضأ منه الرجل إنما الذي رخص فيه أن يتوضأ جميعا وذكر حديث الحكم بن عمرو الغفاري حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أحمد بن زهير حدثنا أبي حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا شعبة قال حدثنا عاصم الأحول عن أبي حاجب عن الحكم الغفاري أن النبي عليه السلام ‏(‏‏(‏نهى أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة‏)‏‏)‏ لا يدري فضل سؤرها أو فضل طهورها قال أبو عمر الآثار في الكراهية في هذا الباب مضطربة لا تقوم بها حجة والآثار الصحاح هي الواردة بالإباحة مثل حديث بن عمر هذا ومثل حديث جابر وحديث عائشة وغيرهم كلهم يقول إن الرجال كانوا يتطهرون مع النساء جميعا من إناء واحد وأن عائشة كانت تفعل ذلك وميمونه وغيرهما من أزواجه صلى الله عليه وسلم وعلى ذلك جماعة أئمة الفتوى وقد روي عن بن عباس أنه سئل عن فضل وضوء المرأة فقال هن ألطف بنانا وأطيب ريحا وهذا منه جواب بجواز فضلها على كل حال وهذا قول زيد بن ثابت وجمهور الصحابة والتابعين إلا أن بن عمر كره فضل الجنب والحائض وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله‏.‏

باب ما لا يجب منه الوضوء

47- مالك عن محمد بن عمارة عن محمد بن إبراهيم عن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنها سألت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر قالت أم سلمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏ يطهره ما بعده‏)‏‏)‏ القول في طول الذيل للمرأة وأن ذلك من سنتها - يأتي عند قوله - عليه السلام ‏(‏‏(‏ ترخيه شبرا ولا تزيد على الذراع‏)‏‏)‏ في كتاب ‏(‏‏(‏الجامع‏)‏‏)‏ في حديث مالك عن أبي بكر بن نافع إن شاء الله اختلف الفقهاء في طهارة الذيل للمرأة وأن ذلك سنتها على المعنى المذكور في هذا الحديث فقال مالك معناه في القشب اليابس والقذر الجاف الذي لا يتعلق منه بالثوب شيء فإذا كان هكذا كان ما بعده من المواضع الطاهرة تطهيرا للثوب وهذا عنده ليس تطهيرا للنجاسة لأن النجاسة عنده لا يظهرها إلا الماء وإنما هو تنظيف وهو قول الشافعي وزفر وأحمد بن حنبل كل هؤلاء لا يطهر النجاسة عندهم إلا الغسل بالماء وقال الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن حديث أم سلمة ‏(‏‏(‏يطهره ما بعده‏)‏‏)‏ فقال ليس هذا عندي على أنه أصابه بول فمر بعده على الأرض فطهره ولكنه يمر بالمكان يتقذره فيمر بمكان أطيب منه فيطهره‏.‏

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد كل ما أزال عين النجاسة فقد طهرها والماء وغيره في ذلك سواء قالوا ولو زالت بالشمس أو بغيرها حتى لا تدرك معها ولا يرى ولا يعلم موضعها فذلك تطهير لها وهو قول داود وقد كان يلزم داود أن يقوده أصله فيقول إن النجاسة المجتمع عليها لا تزول إلا بإجماع على زوالها ولا إجماع إلا مع القائلين بأنها لا يزيلها إلا الماء الذي خصه الله بأن جعله طهورا وقد أمر رسول الله بغسل النجاسات بالماء لا بغير وبذلك أمر أسماء فقال لها في إزالة دم الحيض من ثوبها حتيه واقرصيه بالماء وإذا ورد التوقيف والنص على الماء لم يجز خلافه وللكوفيين آثار يحتجون بها منها حديث موسى بن عبد الله بن يزيد عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت ‏(‏‏(‏قلت يا رسول الله ‏!‏ إن لنا طريقا إلى المسجد منتنة فكيف نفعل إذا مطرنا أو تطهرنا قال أليس بعدها طريق أطيب منها قلت بلى فقال فهذه بهذه‏)‏‏)‏ وقد ذكرناه من طرق في التمهيد وهو محتمل للتأويل أيضا ومن حجتهم أيضا قوله عليه السلام ‏(‏‏(‏إذا وطىء أحدكم بخفيه أو نعليه في الأذى فالتراب لها طهور‏)‏‏)‏ وهو حديث مضطرب الإسناد لا يثبت اختلاف فيه على الأوزاعي وعلى سعيد‏)‏ بن أبي سعيد اختلافا لا يسقط به الاحتجاج واحتجوا أيضا بقول عبد الله بن مسعود ‏(‏‏(‏كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نتوضأ من موطئ‏)‏‏)‏ وهذا أيضا يحتمل التأويل واحتجوا بالإجماع على أن الخمر إذا تخللت من ذاتها طهرت وطابت ومعلوم أن طرقها لم يغسل بماء وهذا أيضا يحتمل التأويل وعلى الكوفيين للحجازين حجاج يطول ذكره واعتراضات بعضهم في ذلك على بعض لا سبيل إلى إيرادها في مثل هذا الكتاب مالك أنه رأى ربيعة بن عبد الرحمن يقلس مرارا وهو في المسجد فلا ينصرف ولا يتوضأ حتى يصلي قال يحيى وسئل مالك عن رجل قلس طعاما هل عليه وضوء فقال ليس عليه وضوء وليتمضمض من ذلك وليغسل فاه قال يحيى وسئل مالك هل في القيء وضوء قال لا ولكن ليتمضمض من ذلك وليغسل فاه وليس عليه وضوء وقد تقدم من قول مالك أنه قال لا وضوء إلا مما يخرج من ذكر أو دبر أو نوم يعني ثقيلا وقد تقدم القول في هذا المعنى وما فيه لمالك وسائر العلماء إلا القيء والقلس فنذكره هنا بما فيه من التنازع أما مالك والشافعي وأصحابهما فلا وضوء في القيء والقلس عند واحد منهم‏.‏

وقال أبو حنيفة ومحمد في القيء والقلس كله الوضوء إذا ملأ الفم إلا البلغم وقال أبو يوسف وفي البلغم أيضا إذا ملأ الفم وقال الثوري والحسن بن حي وزفر في قليل القلس والقيء وكثيره الوضوء إذا ظهر على اللسان وقال الأوزاعي لا وضوء فيما يخرج من الجوف إلى الفم من الماء إلا الطعام فإن في قليله الوضوء وهو قول بن شهاب في القيء الوضوء وحجة من أوجب الوضوء في القيء حديث ثوبان ‏(‏‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ قال وأنا صببت له وضوءه‏)‏‏)‏ وهذا حديث لا يثبت عند أهل العلم بالحديث ولا في معناه ما يوجب حكما لأنه يحتمل أن يكون وضوءه ها هنا غسل فمه ومضمضته وهو أصل لفظ الوضوء في اللغة وهو مأخوذ من الوضاءة والنظر يوجب أن الوضوء المجتمع عليه لا ينتقض إلا بسنة ثابتة لا مدفع فيها أو إجماع ممن تجب الحجة بهم ولم يأمر الله تعالى بإيجاب الوضوء من القيء ولا ثبت به سنة عن رسوله ولا اتفق الجميع عليه‏.‏

48- مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر حنط ابنا لسعيد بن زيد وحمله ثم دخل المسجد فصلى ولم يتوضأ وإنما أدخل مالك هذا الحديث إنكارا لما روي عن النبي -عليه السلام- أنه قال ‏(‏‏(‏ من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ‏)‏‏)‏ وهو حديث يرويه بن أبي ذئب عن صالح مولى التوءمة عن أبي هريرة عن النبي -عليه السلام- وقد جاء من غير هذا الوجه أيضا وإعلاما أن العمل عندهم بخلافه ولم يختلف قوله أنه لا وضوء على من حمل ميتا واختلف قوله في الغسل من غسل الميت وسيأتي ذكر ذلك في الجنائز إن شاء الله ومعنى الحديث المذكور عن أبي هريرة -والله أعلم- أن من حمل ميتا فليكن على وضوء لئلا تفوته الصلاة عليه وقد حمله وشيعه لا أن حمله حدث يوجب الوضوء فهذا تأويله والله أعلم‏.‏

باب ترك الوضوء مما مست النار

49- مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ أشبع مالك هذا الباب في موطئه وقواه لقوة الخلاف بين السلف بالمدينة وغيرها فيه فذكر حديثين مسندين حديث بن عباس وحديث سويد بن النعمان أن النبي -عليه السلام- أكل السويق ولم يزد على أن تمضمض وصلى وذكر عن أبي بكر وعمر وعلي وعثمان وبن عباس وعامر بن ربيعة وأبي بن كعب وأبي طلحة الأنصاريين أنهم كانوا لا يرون على من أكل شيئا مسته النار وضوءا وأنهم كانوا يأكلون ذلك ولا يحدثون قبل الصلاة وبعد أكلهم ما مست النار - وضوءا ودل ذلك من فعله على عمله باختلاف الآثار المسندة في هذا الباب فأعلم الناظر في موطئه أن عمل الخلفاء الراشدين بترك الوضوء مما مست النار دليل على أنه منسوخ وأن الآثار الواردة بذلك ناسخة للآثار الموجبة له وقد جاء هذا المعنى عن مالك أيضا وروى محمد بن الحسن أنه سمع مالكا يقول إذا جاء عن النبي -عليه السلام- حديثان مختلفان وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر كان في ذلك دلالة على أن الحق فيما عملا به وقد ذكرت في التمهيد حديث الأوزاعي قال كان مكحول يتوضأ مما مست النار حتى لقي عطاء بن أبي رباح فأخبره عن جابر أن أبا بكر الصديق أكل ذراعا أو كتفا ثم صلى ولم يتوضأ فترك مكحول الوضوء فقيل له أتركت الوضوء فقال لأن يقع أبو بكر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرنا حديث حماد بن زيد قال سمعت أيوب يقول لعثمان البتي إذا سمعت أبدا خلافا عن النبي -عليه السلام- وبلغت فانظر ما كان عليه أبو بكر وعمر فشد به يديك قال حماد بن زيد سمعت خالدا الحذاء يقول كانوا يرون أن الناسخ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان عليه أبو بكر وعمر وذكرنا حديث الليث عن يحيى بن سعيد قال كان أبو بكر وعمر أتبع الناس لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا عبد الرحمن بن يحيى قال حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا محمد بن زبان قال حدثنا زكريا بن يحيى كاتب العمري قال حدثني المفضل بن فضالة عن عياش بن عباس القتباني أنه كتب إلى يحيى بن سعيد الأنصاري يسأله هل يتوضأ مما مست النار فكتب إليه هذا مما يختلف فيه وقد بلغنا عن أبي بكر وعمر أنهما أكلا مما مسته النار ثم صليا ولم يتوضآ وقد حدثنا خلف بن القاسم قال حدثنا بن أبي العقب بدمشق قال حدثنا أبو زرعة قال حدثنا علي بن عياش قال حدثنا بن أحمد عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال ‏(‏‏(‏كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار‏.‏

وأما الآثار الموجبة للوضوء على من أكل شيئا مسته النار فكثيرة منها حديث بن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سفيان بن المغيرة بن الأخنس ‏(‏‏(‏أنه دخل على أم حبيبة فسقته سويقا ثم قام يصلي فقالت توضأ يا بن أخي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول توضؤوا مما مست النار‏)‏‏)‏ رواه معمر ويونس وبن جريج وغيرهم عن بن شهاب ومنها حديث بن أبي ذئب عن بن شهاب عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏ توضؤوا مما غيرت النار‏)‏‏)‏ ورواه أبو عاصم وغيره عن بن أبي ذئب وكانت عائشة تقول ‏(‏‏(‏كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء مما مست النار‏)‏‏)‏ وهذا كان مذهب بن شهاب كان الناسخ هو الأمر بالوضوء مما مست النار ويقول لو كان غير ذلك ما خفي على أم المؤمنين عائشة وأم حبيبة وجاء عن أبي هريرة في هذا الباب نحو مذهب بن شهاب لأن أبا هريرة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏أنه أكل كتف شاة فمضمض وغسل يديه ثم صلى ‏)‏‏)‏ وروي عنه ‏(‏‏(‏توضؤوا مما مست النار‏)‏‏)‏ وكان أبو هريرة يتوضأ مما مست النار وممن روي عنه إيجاب الوضوء مما مست النار زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر - على اختلاف عنه - وأنس بن مالك - على اختلاف عنه - وبه قال خارجة بن زيد بن ثابت وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وابنه عبد الملك ومحمد بن المنكدر وعمر بن عبد العزيز وبن شهاب فهؤلاء كلهم مدنيون وقال به من أهل العراق أبو قلابة والحسن البصري ويحيى بن يعمر وأبو مجلز لاحق بن حميد وكل هؤلاء بصريون ولا أعلم كوفيا قال به حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد قال حدثنا أحمد بن سليمان ببغداد قال أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا عبد الرزاق عن معمر قال كان يتوضأ مما غيرت النار فقال له بن جريج أنت شهابي يا أبا عروة وروى عفان عن همام عن قتادة قال قال لي سليمان بن هشام إن هذا يعني الزهري - لا يدعنا نأكل شيئا إلا أمرنا أن نتوضأ يعني مما مست النار فقلت إني سألت عنه سعيد بن المسيب فقال لي إذا أكلته فهو طيب ليس عليك فيه وضوء فإذا خرج فهو خبيث عليك فيه الوضوء وقد ذكرنا الآثار عن هؤلاء كلهم في التمهيد وذكرنا في حديث بن وهب عن يونس قال قال لي بن شهاب أطعني وتوضأ مما غيرت النار فقلت لا أطيعك وأدع سعيد بن المسيب ورواه الليث عن يونس مثله حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا أبو الميمون عبد الرحمن بن عمر بدمشق قال حدثنا أبو زرعة قال حدثنا علي بن عياش قال حدثنا شعيب بن أبي حمزة قال مشيت بين الزهري ومحمد بن المنكدر في الوضوء مما مست النار وكان الزهري يراه وبن المنكدر لا يراه فاحتج الزهري بأحاديث فلم أزل أختلف بينهما حتى رجع بن المنكدر إلى قول الزهري وقال عبد الرزاق كان معمر يتوضأ غيرت النار فقال بن جريج أنت شهابي يا أبا عروة قال عبد الرزاق وكان بن شهاب يتوضأ مما مست النار وقد قيل لابن شهاب الوضوء مما مست النار كان في أول الإسلام فقال أعيا الفقهاء أن يعرفوا الناسخ والمنسوخ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان منسوخا ما خفي على أم المؤمنين ونحو هذا حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا هارون بن معروف قال حدثنا حمزة عن رجاء بن أبي سلمة عن أبي رزين قال سمعت الزهري يقول أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنسوخه وروى أبو عاصم عن بن أبي ذئب عن بن شهاب عن عبد الملك بن أبي بكر عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏توضؤوا مما غيرت النار‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو عمر ذهب بعض من تكلم في تفسير غريب حديث النبي -عليه السلام- إلى أن قوله -عليه السلام- ‏(‏‏(‏توضؤوا مما غيرت النار‏)‏‏)‏ عني به غسل اليدين لأن الوضوء مأخوذ من الوضاءة وهي النظافة فكأنه قال طهروا أيديكم من غمر ما مسته النار ومن دسم ما مسته النار قال أبو عمر هذا لا معنى له عند أهل العلم ولو كان كما ظنه هذا القائل - لكان دسم ما لم تغيره النار وودكه وغمره لا يتنظف منه ولا تغسل منه اليد وهذا يدلك على ضعف تأويله وسوء نظره وقله علمه بما جاء عن السلف من التنازع في إيجاب الوضوء مما مست النار على ما ذكرنا عنهم في هذا الكتاب وقد أوردنا في التمهيد عند ذكر حديث مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن بن عباس هذا المذكور ها هنا - زيادات في هذا المعنى من جهة الأثر والنظر لم أر أن لذكرها وجها هنا فمن أراد الوقوف عليها تأملها هناك ولما اختلفت الآثار في هذا الباب استدل الفقهاء بما وصفنا من أفعال الخلفاء الراشدين من أنهم علموا الناسخ فعملوا به وتركوا المنسوخ وليس فيما روي عن عائشة وأم حبيبة حجة على عمل الخلفاء قال أبو عمر وقد روي عن أم سلمة في ذلك خلاف ما روي عنهما مما يوافق عمل الخلفاء وقد ذكرنا ذلك عنهما في التمهيد ومن جهة النظر فإن الأصل ألا ينتقض وضوء مجتمع عليه إلا بحديث مجتمع عليه أو بدليل من كتاب أو سنة لا معارض له أخبرنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا بشر بن حماد حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن سفيان قال حدثني بن عون عن عبد الله بن شداد قال قال أبو هريرة ‏(‏‏(‏الوضوء مما غيرت النار‏)‏‏)‏ فقال مروان كيف يسأل أحد عن هذا وهنا أزواج النبي عليه السلام فأرسلني إلى أم سلمة فقالت ‏(‏‏(‏جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد توضأ وضوءه للصلاة فناولته لحما أو كتفا ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ‏)‏‏)‏ وممن قال بإسقاط الوضوء مما مست النار أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وبن عباس وبن مسعود وعامر بن ربيعة وأبي بن كعب وأبو الدرداء وأبو أمامة وعلى ذلك جماعة فقهاء الأمصار مالك وأصحابه والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي وبن أبي ليلى والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وداود بن علي ومحمد بن جرير الطبري إلا أن أحمد وإسحاق وطائفة من أهل الحديث يقولون من أكل شيئا من لحم الجزور خاصة فقد وجب عليه الوضوء وليس ذلك عليه الوضوء في شيء مسته النار غير لحم الجزور‏.‏

وقال أحمد بن حنبل فيه حديثان صحيحان حديث البراء وحديث جابر بن سمرة يعني عن النبي عليه السلام وقد ذكرت الحديثين في التمهيد وممن قال بقول أحمد بن حنبل في إيجاب الوضوء من لحم الجزور إسحاق وأبو ثور ويحيى بن يحيى النيسابوري وأبو خيثمة زهير بن حرب وهو قول محمد بن إسحاق‏.‏

وأما مالك والشافعي وأبو حنيفة والثوري والليث بن سعد والأوزاعي فكلهم لا يرون في شيء مسته النار وضوءا لحم جزور كان أو غيره لأن أكثر الأحاديث فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل خبزا ولحما وأكل كتفا ونحو هذا ولم يخص لحم إبل من غير لحم إبل وفي حديث سويد بن النعمان إباحة اتخاذ الزاد في السفر وفي ذلك رد على الصوفية الذي يقولون لا ندخر بعد فإن غدا له رزق جديد وفي قول الله تعالى للحاج ‏(‏وتزودوا‏)‏ ‏[‏البقرة 197‏]‏‏.‏

ما يغني ويكفي قال أهل التفسير السويق الكعك وفيه ما يلزم من المؤاساة عند نزول الحاجة وأن للسلطان أن يأخذ الناس ببيع فضول ما بأيديهم من الطعام بثمنه إذا اشتدت الحاجة إليه وما كان منه نزرا اجتهد فيه بلا بدل ونحو هذا لأن المسلم أخو المسلم عليه أن ينصره ويواسيه ولا يجوز له ما استطاع ولا يحل له أن يعلم أن جاره طاو إلى جنبه وهو شبعان ولا يرمقه بما يمسك مهجته وقد أوضحنا هذا المعنى في موضعه من هذا الكتاب وقوله في السويق ‏(‏‏(‏فأمر به فثري‏)‏‏)‏ يعني أنه بل بالماء لما كان لحقه من اليبس والقدم وفي حديث عمر دليل على أنه كان معه غيره وفي ذلك إباحة اتخاذ الطعام والدعاء إليه - للسلطان وغيره‏.‏

وأما حديث أنس حيث قال له أبي بن كعب وأبو طلحة أعراقية فقد زعم بعضهم أن عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري الذي روى عن أنس هذا الحديث مجهول وذكر أن حديثه ذلك منكر لأن أبي بن كعب توفي سنة عشرين في خلافة عمر ولم تكن العراق يومئذ ممن يضاف إليها مذهب لأنه لم يكن يومئذ إلا أصحاب محمد الذين افتتحوها ومن صحبهم في ذلك وهو مذهب بالمدينة عند أهل العلم أشهر وأكثر منه بالعراق وهذا كله تحامل من قائله لأن عبد الرحمن بن يزيد هذا هو عندهم عبد الرحمن بن يزيد بن عقبة بن كريم الأنصاري يعرف بالصدق وإن لم يكن مشهورا بحمل العلم فإنه قد روى عنه رجال كبار موسى بن عقبة وبكير بن الأشج وعمرو بن يحيى وأسامة بن زيد الليث وقد روى عنه ثلاثة وقد قيل رجلان فليس بمجهول وأبي بن كعب قد اختلف في وفاته فقيل توفي في خلافة عمر وقيل توفي في خلافة عثمان على حسب ما ذكرنا من ذلك في بابه من كتابنا في الصحابة ومعنى قوله أعراقية أي بالعراق استفدت هذا العلم ولو صح هذا دل على أن ذلك مذهب غير معروف بالمدينة إلا أن هذا المذهب بالمدينة عن زيد بن ثابت وبن عمر وعائشة وغيرهم معروف محفوظ في المصنفات وكذلك أبو طلحة معروف عنه ذلك أيضا وقد ذكرنا في التمهيد حديث همام عن مطرف الوراق عن الحسن عن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏توضؤوا مما غيرت النار‏)‏‏)‏ وذكرنا قول همام قيل لمطرف وأنا عنده عمن أخذ الحسن الوضوء مما مست النار فقال أخذه الحسن عن أنس وأخذه أنس عن أبي طلحة وأخذه أبو طلحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث يعارض حديث عبد الرحمن بن زيد هذا وليس في هذا الباب شيء يعتمد عليه أصح مما قدمنا ذكره من عمل الخلفاء الراشدين وجمهور علماء المسلمين بترك الوضوء مما مست النار وأن ذلك عندهم على العمل بالناسخ وترك المنسوخ وبالله التوفيق‏.‏