فصل: فصل (ما يترتب على النظر الذي يعقبه إمناء)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر الرائق شرح كنز الدقائق ***


بسم الله الرحمن الرحيم

باب الجنايات

لما كانت الجناية من العوارض أخرها، وهي في اللغة ما تجنيه من شر أي تحدثه تسمية بالمصدر من جنى عليه شرا، وهو عام إلا أنه خص بما يحرم من الفعل، وأصله من جني الثمر، وهو أخذه من الشجر، وفي الشرع اسم لفعل محرم شرعا سواء حل بمال أو نفس إلا أن الفقهاء خصوه بالجناية على الفعل في النفس والأطراف وخصوا الفعل في المال باسم الغصب والمراد هنا خاص، وهو ما يكون حرمته بسبب الإحرام أو الحرم وحاصل الأول أنه الطيب ولبس المخيط وتغطية الرأس أو الوجه، وإزالة الشعر من البدن، وقص الأظفار والجماع صورة، ومعنى أو معنى فقط وترك واجب من واجبات الحج والتعرض للصيد وحاصل الثاني التعرض لصيد الحرم وشجره فبدأ بالأول من الأول فقال‏:‏ ‏(‏تجب شاة إن طيب محرم عضوا، وإلا تصدق أو خضب رأسه بحناء أو أدهن بزيت‏)‏؛ لأن الجناية تتكامل بتكامل الارتفاق وذلك في العضو الكامل فيترتب عليه كمال الموجب وتتقاصر الجناية فيما دونه فوجبت الصدقة، وقال محمد‏:‏ يجب بقدره من الدم اعتبارا للجزء بالكل فإن كان ذلك يبلغ نصف العضو تجب عليه الصدقة قدر نصف قيمة الشاة، وإن كان يبلغ ربعا يجب عليه الصدقة قدر ربع قيمة الشاة، وعلى هذا القياس واختاره الإمام الإسبيجابي مقتصرا عليه من غير نقل خلاف‏.‏ ثم ما اختاره أصحاب المتون من أن الكثير هو العضو والقليل ما دونه هو ما صرح به الإمام محمد عن الإمام في بعض المواضع، وقد أشار في بعض المواضع إلى أن الدم يجب بالتطيب الكثير والصدقة بالقليل، ولم يذكر العضو، وما دونه ففهم من ذلك الفقيه أبو جعفر الهندواني أن الكثرة تعتبر في نفس الطيب لا في العضو فلو كان كثيرا مثل كفين من ماء الورد، وكف من الغالية والمسك بقدر ما يستكثره الناس فإنه يكون كثيرا، وإن كان قليلا في نفسه والقليل ما يستقله الناس، وإن كان في نفسه كثيرا، وكف من ماء الورد يكون قليلا، ووفق بعضهم بين القولين وصححه في المحيط وغيره، وقال في فتح القدير‏:‏ إن التوفيق هو التوفيق بأن الطيب إن كان قليلا فالعبرة للعضو لا للطيب فإن طيب عضوا كاملا لزمه دم، وإن كان أقل فصدقة، وإن كان الطيب كثيرا فالعبرة للطيب لا للعضو حتى لو طيب به ربع عضو يلزمه دم، وفيما دونه صدقة ونظيره ما قاله محمد في تقدير النجاسة الكثيرة اعتبر المساحة في النجاسة الرقيقة واعتبر الوزن في النجاسة الكثيفة‏.‏ ا هـ‏.‏ ما في المحيط‏.‏ وحاصله أن ما في المتون محمول على ما إذا كان الطيب قليلا أما إذا كان كثيرا فلا اعتبار بالعضو، ولا يخفى أن ما ذكره محمد من اعتبار العضو صريح، وما ذكره من الكثرة إشارة يمكن حملها على المصرح به فيتحد القولان ويترجح ما في المتون من اعتبار العضو، وهو كالرأس والساق والفخذ واليد، وفي المبسوط والمحيط إذا خضبت المرأة كفها بحناء يجب عليها دم قال‏:‏ وجعل الكف عضوا كاملا، وحقيقة التطيب أن يلزق ببدنه أو ثوبه طيبا، وما زاده في فتح القدير من فراشه فراجع إليهما والطيب جسم له رائحة طيبة مستلذة كالزعفران والبنفسج والياسمين والغالية والريحان والورد والورس والعصفر، ولا فرق بين أن يلتزق بثوبه عينه أو رائحته فلذا صرحوا أنه لو بخر ثوبه بالبخور فتعلق به كثير فعليه دم، وإن كان قليلا فصدقة؛ لأنه انتفاع بالطيب بخلاف ما إذا دخل بيتا قد أجمر فيه فعلق بثيابه رائحة فلا شيء عليه؛ لأنه غير منتفع بعينه، ولا بأس أن يجلس في حانوت عطار، ولا فرق أيضا بين أن يقصده أو لا ولذا قال في المبسوط‏:‏ وإن استلم الركن فأصاب فمه أو يده خلوف كثير فعليه دم، وإن كان قليلا فصدقة‏.‏ وفي المجمع ونوجبه في الناسي لا الصبي ونعكس في شمسه، وأكل كثيره موجب له، وفي قليله صدقة بقدره‏.‏ ا هـ‏.‏ فعلم أن مفهوم شرطه أنه لو شم الطيب فإنه لا يلزمه شيء، وإن كان مكروها كما لو توسد ثوبا مصبوغا بالزعفران، وما ذكره المصنف قاصر على الطيب الملتزق بالبدن، وأما الملتزق بالثياب فلم يمكن اعتبار العضو فيه فيعتبر فيه كثرة الطيب وقلته، وهو مرجح بقول الهندواني المتقدم فإنه يعم البدن والثوب، ولا يجوز له أن يمسك مسكا في طرف إزاره، وفي فتح القدير، وكان المرجح في الفرق بين القليل والكثير العرف إن كان، وإلا فما يقع عند المبتلى‏.‏ وما في المجرد إن كان في ثوبه شبر في شبر فمكث عليه يوما يطعم نصف صاع من بر وإن كان أقل من يوم فصدقة يفيد التنصيص على أن الشبر في الشبر داخل في حد القليل، وعلى تقدير الطيب في الثوب بالزمان بخلاف تطييب العضو فإنه لا يعتبر فيه الزمان حتى لو غسله من ساعته فالدم واجب كما في فتح القدير ولذا أطلقه في المتن قيد بكونه تطيب، وهو محرم؛ لأنه لو تطيب قبل الإحرام ثم انتقل بعده من مكان إلى آخر من بدنه فإنه لا شيء عليه اتفاقا، وإذا وجب الجزاء بالتطيب فلا بد من إزالته من بدنه أو ثوبه؛ لأنه معصية فلا بد من الإقلاع عنها، وذبح الهدي لا يبيح بقاءه فلو لم يزله بعد ما كفر له اختلفوا في وجوب دم آخر لبقائه، وأظهر القولين الوجوب؛ لأن ابتداءه كان محظورا فيكون لبقائه حكم ابتدائه، والرواية توافقه، وهي ما في المبتغى عن محمد إذا مس طيبا كثيرا فأراق له دما ثم ترك الطيب على حاله يجب عليه لتركه دم آخر، ولا يشبه هذا الذي تطيب قبل أن يحرم ثم أحرم وترك الطيب؛ لأنه لم يكن محظورا‏.‏ واختاره في المحيط، وفي فتح القدير، وقد علم من بيانه حكم العضو، وما دونه أن ما زاد عليه فهو كالعضو كما صرحوا به ثم إنما تجب كفارة واحدة بتطييب كل البدن إذا كان في مجلس واحد فإن كان في مجالس فلكل طيب كفارة كفر للأول أو لا عندهما، وقال محمد عليه كفارة واحدة ما لم يكفر للأول، وإن داوى قرحة بدواء فيه طيب ثم خرجت قرحة أخرى فداواها مع الأولى فليس عليه إلا كفارة ما لم تبرأ الأولى، ولو كان الطيب في أعضاء متفرقة يجمع ذلك كله فإن بلغ عضوا كاملا فعليه دم، وإلا فصدقة، وفي المحيط اكتحل بكحل ليس فيه طيب فلا بأس به‏.‏ وإن كان فيه طيب فعليه صدقة إلا أن يكون مرارا كثيرة فدم والمراد بالمرار المرتان فأكثر كما صرح به قاضي خان في فتاويه، وقال‏:‏ لو جعل الملح الذي فيه طيب في طعام قد طبخ وتغير، وأكله لا شيء عليه، وإن لم يطبخ وريحه يوجد منه يكره ذلك، ولا شيء عليه، ولو جعل الزعفران في الملح فإن كان الزعفران غالبا فعليه كفارة، وإن كان الملح غالبا لا كفارة عليه‏.‏ ا هـ‏.‏ وأشار بقوله شاة إلى أن سبع البدنة لا يكفي في هذا الباب بخلاف دم الشكر، ولو قال المصنف عضوه بالإضافة كان أولى لما في الفتاوى الظهيرية، وإذا ألبس المحرم محرما أو حلالا مخيطا أو طيبه بطيب فلا شيء عليه بالإجماع، وكذلك إذا قتل قملة على غيره‏.‏ ا هـ‏.‏ وقوله أو خضب رأسه معطوف على طيب، وإنما صرح بالحناء مع دخولها تحت الطيب لقوله عليه السلام‏:‏ «الحناء طيب» للاختلاف، وإنما اقتصر على الرأس، ولم يذكر اللحية كما وقع في الأصل ليفيد أن الرأس بانفرادها مضمونة، وأن الواو بمعنى أو في عبارة الأصل بدليل الاقتصار على الرأس في الجامع الصغير، ولما كان مصرحا فيما يأتي بأن تغطية الرأس موجبة للدم لم يقيد الحناء بأن تكون مائعة فإن كانت ملبدة ففيه دمان دم للتطيب مطلقا ودم للتغطية إن دام يوما، وليلة وغطى الكل أو الربع فلو كان التلبيد بغير الحناء لزمه دم أيضا‏.‏ والتلبيد أن يأخذ شيئا من الخطمي والآس والصمغ فيجعله في أصول الشعر ليتلبد‏.‏ وما ذكره رشيد الدين في مناسكه وحسن أن يلبد رأسه قبل الإحرام مشكل؛ لأنه لا يجوز استصحابه التغطية الكائنة قبل الإحرام بخلاف الطيب كذا في فتح القدير ويشكل عليه ما في الصحيحين عن ابن عمر «أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت‏:‏ يا رسول الله ما شأن الناس حلوا، ولم تحل أنت من عمرتك قال‏:‏ إني لبدت رأسي، وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر» فلا فرق بين التلبيد والطيب فإن كلا منهما محظور بعد الإحرام وجاز استصحاب الطيب الكائن قبل الإحرام بالسنة فكذلك التلبيد قبله بالسنة، وقيد الخضاب بالرأس؛ لأن المحرمة لو خضبت يدها أو كفها فعليها دم إن كان كثيرا فاحشا، وإن كان قليلا فعليها صدقة كما ذكره الإسبيجابي وغيره بخلاف خضاب الرأس بالحناء فإنه موجب للدم مطلقا‏.‏ وأما خضاب اللحية فوقع في الهداية أن كلا من الرأس واللحية مضمون، ولم يقل بالدم وزاد الشارح أن كلا منهما مضمون بالدم، وهو سهو منه؛ لأن اللحية مضمونة بالصدقة كما في معراج الدراية معزيا للمبسوط، وقيد بالحناء؛ لأنه لو خضب بالوسمة فليس عليه دم، ولكن إن خاف أن يقتل الهوام أطعم شيئا؛ لأن فيه معنى الجناية من هذا الوجه، ولكنه غير متكامل فيلزمه الصدقة كما في المبسوط والوسمة بسكون السين وكسرها، وهو الأفصح شجر يخضب بورقه، وفي الهداية، وعن أبي يوسف إذا خضب رأسه بالوسمة لأجل المعالجة من الصداع فعليه الجزاء باعتبار أنه يغلف رأسه، وهذا صحيح‏.‏ ا هـ‏.‏ يعني ينبغي أن لا يكون فيه خلاف؛ لأن التغطية موجبة بالاتفاق غير أنها للعلاج فلهذا ذكر الجزاء، ولم يذكر الدم والحناء منون في عبارة المصنف؛ لأنه فعال لا فعلاء ليمنع صرفه ألف التأنيث، وقوله أو أدهن بزيت معطوف على قوله طيب أطلقه فشمل ما إذا كان مطبوخا أو غير مطبوخ مطيبا أو غير مطيب، ولم يقيده بالكثير لما علم من تقييده في الطيب؛ لأنه إذا فرق في الطيب بين العضو، وما دونه فالزيت أولى؛ لأنه لا خلاف في الطيب، وفي الزيت الذي ليس بمطيب، ولا مطبوخ خلافهما فقالا‏:‏ يجب فيه صدقة؛ لأن الجناية فيه قاصرة؛ لأنه من الأطعمة إلا أن فيه ارتفاقا لمعنى قتل الهوام، وإزالة الشعث‏.‏ وقال‏:‏ الإمام يجب دم؛ لأنه أصل الطيب باعتبار أنه يلقي فيه الأنوار كالورد والبنفسج فيصير نفسه طيبا، ولا يخلو عن نوع طيب ويقتل الهوام ويلين الشعر ويزيل التفث والشعث، وأراد بالزيت دهن الزيتون والسمسم، وهو المسمى بالشيرج فخرج بقية الأدهان كالشحم والسمن، وقيد بالإدهان؛ لأنه لو أكله أو داوى به شقوق رجليه أو أقطر في أذنه لا يجب دم، ولا صدقة بخلاف المسك والعنبر والغالية والكافور ونحوها حيث يلزم الجزاء بالاستعمال على وجه التداوي لكنه يتخير إذا كان لعذر كما سيأتي، وكذا إذا أكل الكثير من الطيب، وهو ما يلتزق بأكثر فمه فعليه الدم قال في فتح القدير‏:‏ وهذه تشهد لعدم اعتبار العضو مطلقا في لزوم الدم بل ذاك إذا لم يبلغ مبلغ الكثرة في نفسه على ما قدمناه‏.‏ وقد قدمنا عن قاضي خان أنه لو خلط الطيب بطعام من غير طبخ فالعبرة للغالب فإن كان الطيب مغلوبا فلا شيء أصلا زاد بعضهم إلا أنه يكره إذا كان رائحته توجد فيه، وإن كان غالبا فهو كالخالص، وهكذا في المحيط وغيره، وقالوا‏:‏ ولو خلطه بمشروب، وهو غالب ففيه الدم، وإن كان مغلوبا فصدقة إلا أن يشرب مرارا فدم فإن كان للتداوي خير وينبغي أن يسوي بين المأكول والمشروب المخلوط كل منهما بطيب مغلوب أما بعدم شيء أصلا كما هو الحكم في المأكول أو بوجوب الصدقة فيهما كما هو الحكم في المشروب، وما فرق به في المحيط من أن الطيب مما يقصد شربه فإذا خلطه بمشروب لم يصر تبعا لمشروب مثله إلا أن يكون المشروب غالبا كما لو خلط اللبن بالماء فشربه الصبي تثبت حرمة الرضاع إلا أن يكون الماء غالبا بخلاف أكله فإنه ليس مما يقصد عادة فإذا خلط بالطعام صار تبعا للطعام وسقط حكمه ففيه نظر من وجهين‏.‏ الأول‏:‏ أن من الطيب ما يقصد أكلا إذا كان من المأكولات للمعنى القائم به، وهو الطيبية إما مداواة أو تنعما منفردا أو مخلوطا كما يقصد شربا الثاني أن القصد من هذا الباب ليس بشرط؛ لأن الناسي والعامد والجاهل سواء، وذكر الحلبي في مناسكه أني لم أرهم تعرضوا بماذا تعتبر الغلبة‏؟‏‏.‏ وظهر لي أنه إن وجد في المخالط رائحة الطيب كما قبل الخلط وحس الذوق السليم بطعمه فيه حسا ظاهرا فهو غالب، وإلا فهو مغلوب؛ لأن المناط كثرة الأجزاء ثم قال‏:‏ لم أرهم تعرضوا في هذه المسألة في التفصيل أيضا بين القليل والكثير كما في مسألة أكل الطيب وحده، وإنه بإثباته فيها أيضا لجدير ويقال إن كان الطيب غالبا، وأكل منه أو شرب كثيرا فعليه الكفارة، وإلا فصدقة، وإن كان مغلوبا، وأكل منه أو شرب كثيرا فصدقة، وإلا فلا شيء عليه، ولعل الكثير ما يعده العارف العدل الذي لا يشوبه شره ونحوه كثيرا والقليل ما عداه‏.‏ ثم قال‏:‏ ولا شيء في أكل ما يتخذ من الحلواء المبخرة بالعود ونحوه، وإنما يكره إذا كانت رائحته توجد منه بخلاف الحلواء المسمى بالقاووت المضاف إلى أجزائها الماورد والمسك فإن في أكل الكثير دما والقليل صدقة، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقائق الأحوال‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ أو لبس مخيطا أو غطى رأسه يوما، وإلا تصدق‏)‏ معطوف على طيب بيان للثاني والثالث من النوع الأول وجمع بينهما؛ لأن الحكم فيهما واحد من حيث التقدير بالزمان فإن قوله يوما راجع إلى اللبس والتغطية، وكذا قوله‏:‏ وإلا تصدق أي، وإن كان لبس المخيط وتغطية الرأس أقل من يوم لزمه صدقة لما علم أن كمال العقوبة بكمال الجناية، وهو بكمال الارتفاق، وهو بالدوام؛ لأن المقصود من كل منهما دفع الحر والبرد، واليوم يشتمل عليهما فوجب الدم والجناية قاصرة فيما دونه فوجبت الصدقة‏.‏ والتحقيق أن تغطية الرأس من جملة لبس المخيط فهي جناية واحدة لما سيأتي أنه لو لبس القميص والعمامة يلزمه دم واحد عللوا بأن الجناية واحدة وحقيقة لبس المخيط أن يحصل بواسطة الخياطة اشتمال على البدن واستمساك فلذا لو ارتدى بالقميص أو اتشح أو ائتزر بالسراويل فلا بأس به؛ لأنه لم يلبسه لبس المخيط لعدم الاشتمال، وكذا لو أدخل منكبيه في القباء، ولم يدخل يديه في الكمين، ولم يزره لعدم الاشتمال أما إذا أدخل يديه أو زره فهو لبس المخيط لوجودهما بخلاف الرداء فإنه إذا اتزر به لا ينبغي أن يعقده بحبل أو غيره، ومع هذا لو فعل لا شيء عليه؛ لأنه لم يلبسه لبس المخيط لعدم الاشتمال أطلق في اللبس فشمل ما إذا أحدث اللبس بعد الإحرام أو أحرم، وهو لابسه فدام على ذلك بخلاف انتفاعه بعد الإحرام بالطيب السابق عليه قبله للنص، ولولاه لأوجبنا فيه أيضا وشمل ما إذا كان ناسيا أو عامدا عالما أو جاهلا مختارا أو مكرها فيجب الجزاء على النائم لو غطى إنسان رأسه؛ لأن الارتفاق حصل له، وعدم الاختيار أسقط الإثم عنه كالنائم المنقلب على شيء أتلفه، وشمل ما إذا لبس ثوبا واحدا أو جمع اللباس كله القميص والعمامة والخفين ولذا لم يقل لبس ثوبا كغيره‏.‏ وبين المصنف حكم اليوم، وما دونه، ولم يذكر حكم الزائد عليه ليفيد أنه كاليوم فلو لبس المخيط ودام عليه أياما أو كان ينزعه ليلا ويعاوده نهارا أو عكسه يلزمه دم واحد ما لم يعزم على الترك عند النزع فإن عزم عليه ثم لبس تعدد الجزاء كفر للأول أولا، وفي الثاني خلاف محمد، ولو لبس يوما فأراق دما ثم داوم على لبسه يوما آخر كان عليه دم آخر بلا خلاف؛ لأن للدوام فيه حكم الابتداء، وفي الفتاوى الظهيرية، وعندي المودع إذا لبس قميص الوديعة بغير إذن المودع فنزعه بالليل للنوم فسرق القميص في الليل فإن كان من قصده أن يلبس القميص من الغد لا يعد هذا ترك الخلاف والعود إلى الوفاق حتى يضمن، وإن كان من قصده أن لا يلبس القميص من الغد كان هذا ترك الخلاف حتى لا يضمن‏.‏ فالحاصل أن اللبس شيء واحد ما لم يتركه ويعزم على الترك‏.‏ ا هـ‏.‏ واعلم أن ما ذكرناه من إيجاب الجزاء إذا لبس جميع المخيط محله ما إذا لم يتعدد سبب اللبس فإن تعدد كما إذا اضطر إلى لبس ثوب فلبس ثوبين فإن لبسهما على موضع الضرورة فعليه كفارة واحدة يتخير فيها، وإن لبسهما على موضع الضرورة وغيره لزمه كفارتان يتخير فيها للضرورة فقط، ومن صور تعدد اللبس واتحاده ما إذا كان به مثلا حمى يحتاج إلى اللبس لها ويستغني عنه في وقت زوالها فإن عليه كفارة واحدة، وإن تعدد اللبس ما لم تزل عنه فإن زالت، وأصابه مرض آخر أو حمى غيرها فعليه كفارتان كفر للأولى أو لا خلافا لمحمد في الثاني، وكذا إذا حصره عدو فاحتاج إلى اللبس للقتال أياما يلبسها إذا خرج إليه وينزعها إذا رجع فعليه كفارة واحدة ما لم يذهب هذا العدو فإن ذهب وجاء عدو غيره لزمه كفارة أخرى‏.‏ والأصل في جنس هذه المسائل أنه ينظر إلى اتحاد الجهة واختلافها لا إلى صورة اللبس كيف كانت، ولو لبس لضرورة فزالت فدام بعدها يوما ويومين فما دام في شك من زوال الضرورة فليس عليه إلا كفارة واحدة، وإن تيقن زوالها كان عليه كفارة أخرى لا يتخير فيها هكذا ذكروا، وذكر الحلبي في مناسكه أن مقتضاه أنه إذا لبس شيئا من المخيط لدفع برد ثم صار ينزع ويلبس كذلك ثم زال ذلك البرد ثم أصابه برد آخر غير الأول عرف ذلك بوجه من الوجوه المفيدة لمعرفته فلبس لذلك أنه يجب عليه كفارتان‏.‏ ا هـ‏.‏ وشمل كلامه أيضا ما إذا لم يجد غير المخيط فلذا قال في المجمع‏:‏ ولو لم يجد إلا السراويل فلبسه، ولم يفتقه نوجبه أي الدم، وأطلق في التغطية فانصرفت إلى الكامل، وهو ما يغطي به عادة كالقلنسوة والعمامة فخرج ما لا يغطى به عادة كالطست والإجانة والعدل فلا شيء عليه، وعلى هذا يفرع ما في الظهيرية ما لو دخل المحرم تحت ستر الكعبة فإن كان يصيب وجهه ورأسه فهو مكروه لا شيء عليه، وإلا فلا بأس به وظاهر ما في المتون يقتضي أنه لا بد من تغطية جميع الرأس في لزوم الدم، وما رأيته رواية، ولهذا لم يصرحوا بحكم ما دونها، وإنما المنقول عن الأصل اعتبار الربع، ومشى عليه كثير واختاره في الظهيرية مقتصرا عليه، وعزاه في الهداية إلى أنه عن أبي حنيفة، وعن محمد اعتبار الأكثر، وهو مروي عن أبي يوسف أيضا كما اعتبر أكثر اليوم في لزوم الدم واختاره في فتح القدير من جهة الدراية فالحاصل أن الربع راجح رواية والأكثر راجح دراية باعتبار أن تكامل الجناية لا يحصل بما دون الأكثر بخلاف حلق ربع الرأس فإنه معتاد ويتفرع على هذا ما لو عصب رأسه بعصابة فعلى اعتبار الربع إن أخذت قدره من الرأس لزمه دم، وإن كان أقل فصدقة فما في المبسوط والظهيرية من أنه لو عصب رأسه يوما فعليه صدقة محمول على ما إذا لم تأخذ قدر الربع أو مفرع على اعتبار الأكثر‏.‏ وأراد بالرأس عضوا يحرم تغطيته على المحرم فدخل الوجه فلو غطى ربعه لزمه دم رجلا كان أو امرأة وخرج ما لا يحرم تغطيته فلا شيء عليه لو عصب موضعا آخر من جسده، ولو كثر لكنه يكره من غير عذر كعقد الإزار وتخليل الرداء، ولا بأس بأن يغطي أذنيه وقفاه، ومن لحيته ما هو أسفل من الذقن بخلاف فيه، وعارضه وذقنه، ولا بأس بأن يضع يده على أنفه دون ثوب وبين المصنف حكم اليوم، وما دونه فأفاد أن الليلة كاليوم كما صرح به في غاية البيان والمحيط؛ لأن الارتفاق الكامل الحاصل في اليوم حاصل في الليلة، وإن ما دونها كما دونه، وأطلق في وجوب الصدقة فيما دون اليوم فشمل الساعة الواحدة، وما دونها خلافا لما في خزانة الأكمل أنه في ساعة واحدة نصف صاع، وفي أقل من ساعة قبضة من بر ولما روي عن محمد أن في لبس بعض اليوم قسطه من الدم كثلث اليوم فيه ثلث الدم، وفي نصفه نصفه، ومن الغريب ما في فتاوى الظهيرية هنا فإن لبس ما لا يحل له لبسه من غير ضرورة أراق لذلك دما فإن لم يجد صام ثلاثة أيام‏.‏ ا هـ‏.‏ فإن الصوم لا مدخل له في وجوب الجناية بل يكون الدم في ذمته إلى الميسرة، وإنما يدخل الصوم فيما إذا فعل شيئا للعذر كما سيأتي‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ أو حلق ربع رأسه أو لحيته، وإلا تصدق كالحالق أو رقبته أو إبطيه أو أحدهما أو محجمه‏)‏ معطوف على طيب، وقوله أو لحيته بالجر معطوف على رأسه أي حلق ربع لحيته، وقوله‏:‏ وإلا أي، وإن كان حلق أقل من ربع الرأس أو أقل من ربع اللحية يلزمه صدقة كما يلزم المحرم إذا حلق رأس غيره، وقوله أو رقبته، وما عطف عليه معطوف على الربع أي يجب الدم بحلق المحرم رقبته كلها أو بحلق إبطيه أو أحدهما أو بحلق محاجمه والمحجمة هنا بالفتح موضع المحجمة من العنق والمحجمة بالكسر قارورة الحجام، وكذا المحجم بطرح الهاء، وقولهم يجب غسل المحاجم يعني مواضع الحجامة من البدن كذا في المغرب، وإنما كان حلق ربع الرأس أو ربع اللحية موجبا للدم لتكامل الجناية بتكامل الارتفاق؛ لأن بعض الناس يعتاده بخلاف تطييب ربع العضو فإن الجناية فيه قاصرة، وكذا تغطية ربع الرأس على قول من اعتبر الأكثر، وإذا حلق أقل من الربع فيهما تقاصرت الجناية فوجبت الصدقة واعتبار الربع في الحلق رواية الجامع الصغير اعتمدها المشايخ، وأما رواية الأصل فاعتبار الثلث، وفي المحيط، وعند أبي حنيفة يجب الدم بحلق الأكثر‏.‏ ا هـ‏.‏ وأراد المصنف بالحلق الإزالة، سواء كان بالموسى أو بغيره، وسواء كان مختارا أو لا فلو أزاله بالنورة أو نتف لحيته أو احترق شعره بخبزة أو مسه بيده فسقط فهو كالحلق كما في المحيط وغيره بخلاف ما إذا تناثر شعره بالمرض أو النار فلا شيء عليه؛ لأنه ليس للزينة، وإنما هو شين كذا في المحيط أيضا، وأطلق في وجوب الصدقة فيما إذا حلق أقل من ربع الرأس أو اللحية فشمل ما إذا بقي شيء بعد الحلق أو لا فكذا لو كان أصلع على ناصيته أقل من ربع الرأس فإنما فيه صدقة وكذا لو حلق كل رأسه، وما عليه أقل من ربع شعره كما أطلق وجوب الدم بحلق الربع فلذا لو كان على رأسه قدر ربع شعره لو كان شعر رأسه كاملا ففيه دم، قال في فتح القدير‏:‏ وعلى هذا يجيء مثله فيمن بلغت لحيته الغاية في الخفة، وعلم من إيجابه الدم بحلق أحد الإبطين أو الإبطين أن جناية الحلق واحدة، وإن تعددت في البدن فلذا لو حلق رأسه ولحيته، وإبطيه بل كل بدنه في مجلس واحد فدم واحد بشرطين‏.‏ الأول‏:‏ أن لا يكون كفر للأول فلو أراق دما لحلق رأسه ثم حلق لحيته لزمه آخر‏.‏ الثاني أن يتحد المجلس فإذا اختلف المجلس فلكل مجلس موجب جنايته إن تعدد المحل كما ذكرنا، وإن اتحد فدم واحد، وإن اختلف المجلس كما إذا حلق الرأس في مجالس وخالف محمد فيما إذا تعدد المحل فألحقه بما إذا اتحد، وظاهر قول المصنف، وإلا تصدق أن في إزالته لشعر الرأس أو اللحية إذا كان أقل من الربع نصف صاع، ولو كان شعرة واحدة فإنهم قالوا كل صدقة في الإحرام غير مقدرة فهي نصف صاع من بر إلا ما يجب بقتل القملة والجرادة كما أن واجب الدم يتأدى بالشاة في جميع المواضع إلا في موضعين من طاف للزيارة جنبا أو حائضا أو نفساء، ومن جامع بعد الوقوف بعرفة قبل الطواف فإنه بدنة كذا في الهداية وغيرها لكن ذكر قاضي خان في فتاويه أنه إن نتف من رأسه أو من أنفه أو لحيته شعرات فلكل شعرة كف من طعام، وفي خزانة الأكمل في خصلة نصف صاع‏.‏ فظهر بهذا أن في كلام المصنف اشتباها؛ لأنه لم يبين الصدقة، ولم يفصلها، وأطلق في لزوم الصدقة على الحالق فشمل ما إذا كان محرما سواء كان المحلوق محرما أو لا أو حلالا والمحلوق رأسه محرم، ولا يرد عليه ما إذا كانا حلالين؛ لأنه ليس بجناية منهما، وكلامه فيما يكون جناية، وإنما لزمه الصدقة فقط لقصور جنايته؛ لأنه ينتفع بإزالة شعر غيره انتفاعا قليلا بخلاف المحلوق، وإنما صار جناية من الحالق الحلال باعتبار أن شعر المحرم استحق الأمن، وقد أزاله عنه فكان جانيا، وإذا كان المحلوق رأسه مكرها وجب الدم عليه، ولا رجوع له على الحالق عندنا كذا في المحيط‏.‏ وظاهر كلامه أنه لا بد من حلق جميع الرقبة والإبط والمحجمة في لزوم الدم بكل منهم فلو بقي من الرقبة أو الإبط شيء لا يلزمه، وإن كان قليلا ولهذا قال الإسبيجابي، ولو حلق من أحد الإبطين أكثره وجبت الصدقة فعلى هذا فما صرح به في المحيط من أن الأكثر من الرقبة كالكل في لزوم الدم، وأن الأصل أن كل عضو له نظير في البدن لا يقوم أكثره مقام كله، وكل عضو لا نظير له في البدن كالرقبة يقوم أكثره مقام كله‏.‏ وما في فتاوى قاضي خان من أن في الإبط إذا كان كثير الشعر يعتبر فيه الربع لوجوب الدم، وإلا فالأكثر ضعيف؛ لأنه لم يقيد أحد حلق ربع غير اللحية والرأس فليس فيه ارتفاق كامل ولهذا قال الشارح ثم الربع من هذه الأعضاء لا يعتبر بالكل؛ لأن العادة لم تجر في هذه الأعضاء بالاقتصار على البعض فلا يكون حلق البعض ارتفاقا كاملا حتى لو حلق أكثر الإبط لا يجب عليه إلا صدقة بخلاف الرأس واللحية‏.‏ ا هـ‏.‏ فالمذهب ما في الكتاب من اعتبار الربع في الرأس واللحية والكل في غيرهما في لزوم الدم، وأراد بالرقبة، وما عطف ما عدا الرأس واللحية كالصدر والساق والعانة كالرقبة لكن في فتاوى قاضي خان، وفي حلق العانة دم إن كان الشعر كثيرا‏.‏ ا هـ‏.‏ فشرط كثرة الشعر فصار الحاصل أن فيما عدا الرأس واللحية إن حلق عضوا كاملا فعليه دم، وإن كان أقل فعليه صدقة، وفي المبسوط، ومتى حلق عضوا مقصودا بالحلق فعليه دم، وإن حلق ما ليس بمقصود فصدقة ثم قال‏:‏ ومما ليس بمقصود حلق الصدر والساق ورجحه في فتح القدير ودفع ما في الهداية من أنه مقصود بطريق التنور بأن القصد إلى حلقهما إنما هو في ضمن غيرهما إذ ليست العادة تنوير الساق وحده بل تنوير المجموع من الصلب إلى القدم فكان بعض المقصود بالحلق فالحق أن يجب في كل منهما الصدقة‏.‏ ا هـ‏.‏ فعلى هذا فالتقييد بالرقبة، وما عطف عليه للاحتراز عن الصدر والساق بما ليس بمقصود، وأطلق في المحجمة، وهو مقيد بما إذا كان الحلق لهذا الموضع وسيلة إلى الحجامة فلو حلقها، ولم يحتجم لزمه صدقة؛ لأنه غير مقصود كما في فتح القدير، وفي فتح القدير‏.‏ واعلم أنه يجمع المتفرق في الحلق كما في الطيب، وفي الهداية ذكر في الإبطين الحلق هنا، وفي الأصل النتف، وهو السنة، وفي النهاية، وأما العانة فالسنة فيها الحلق لما جاء في الحديث‏:‏ «عشر من السنة منها الاستحداد» وتفسيره‏:‏ حلق العانة بالحديد‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وفي أخذ شاربه حكومة عدل‏)‏ مخالف لما أفاده أولا بقوله‏:‏ وإلا تصدق فإن الشارب بعض اللحية، وهو إذا كان أقل من الربع ففيه الصدقة، ومبني على ضعيف، وهو قول محمد في تطييب بعض العضو حيث قال‏:‏ يجب بقدره من الدم، وأما المذهب فوجوب الصدقة فالحاصل كما في المحيط أن في حلق الشارب ثلاثة أقوال المذهب وجوب الصدقة كما ذكره في الكافي للحاكم الشهيد الذي هو جمع كلام محمد وصححه في غاية البيان والمبسوط؛ لأنه تبع للحية، وهو قليل؛ لأنه عضو صغير، وسواء حلقه كله أو بعضه والقول الثاني ما ذكره في الكتاب تبعا لما في الهداية أنه ينظر إلى الشارب كم يكون من ربع اللحية فيلزمه من الصدقة بقدره حتى لو كان مثل ربع ربعها لزمه ربع قيمة الشاة أو ثمنها فثمنها، وفي فتح القدير والواجب أن ينظر إلى نسبة المأخوذ من ربع اللحية معتبرا معها الشارب كما يفيده ما في المبسوط من كون الشارب طرفا من اللحية هو معها عضو واحد لا أنه ينسب إلى ربع اللحية غير معتبر الشارب معها فعلى هذا إنما يجب ربع قيمة الشاة إذا بلغ المأخوذ من الشارب ربع المجموع من اللحية مع الشارب لا دونه‏.‏ ا هـ‏.‏ القول الثالث لزوم الدم بحلقه؛ لأنه مقصود بالحلق يفعله الصوفية وغيرهم، وقد ظن صاحب الهداية من تعبير محمد في الجامع الصغير هنا بالأخذ أن السنة قص الشارب لا حلقه ردا على الطحاوي القائل بسنية الحلق، وليس كما ظن؛ لأن محمدا لم يقصد هنا بيان السنة، وإنما قصد بيان حكم هذه الجناية بإزالة الشعر بأي طريق كان؛ ولهذا ذكر الحلق في الإبط واختار في الهداية سنية النتف لا الحلق؛ ولأن الأخذ أعم من الحلق؛ لأن الحلق أخذ، وليس القص متبادرا من الأخذ والوارد في الصحيحين‏:‏ «أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى»، وهو المبالغة في القطع فبأي شيء حصل حصل المقصود غير أنه بالحلق بالموسى أيسر منه بالقصة فلذا قال الطحاوي‏:‏ الحلق أحسن من القص، وقد يكون مثله بسبب بعض الآلات الخاصة بقص الشارب، وأما ذكر القص في بعض الأحاديث فالمراد منه المبالغة في الاستئصال وبما قررناه اندفع ما في البدائع من أن الصحيح أن السنة فيه القص، وإعفاء اللحية تركها حتى تكث وتكثر، والسنة قدر القبضة فما زاد قطعه‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وفي شارب حلال أو قلم أظفاره طعام‏)‏ أي يجب طعام على محرم أخذ شارب حلال أو قلم أظفاره؛ لأن إزالته عن غيره ارتفاق لكنه قاصر فوجبت الصدقة أو؛ لأنه أزال إلا من عن الشعر المستحق له ثم المصنف تبع صاحب الهداية في جمعه بين الشارب وتقليم الأظفار في وجوب الطعام، ولم يذكر الصدقة، وقد تعقبه في غاية البيان بأنه إن أراد بالطعام ما يعم القليل والكثير فهو غير صحيح بالنسبة إلى تقليم الأظفار؛ لأن المنصوص عليه في الرواية أن المحرم إذا قص أظافير حلال فإنه يجب عليه صدقة، وهي نصف صاع، وإن أراد به الصدقة التي هي نصف صاع التي هي المرادة عند إطلاقهم الصدقة في هذا الباب فلا يصح أيضا؛ لأن المحرم إذا حلق شاربه وجبت عليه الصدقة فإذا حلق شارب غيره أطعم ما شاء كسرة خبزا، وكفا من طعام لقصور الجناية، وقد وقع التعبير بإطعام شيء جوابا للمسألتين في الجامع الصغير لكنه أتى بمن التبعيضية في تقليم الأظفار فقال في المحرم يأخذ من شارب الحلال أو يقص من أظفاره‏:‏ يطعم ما شاء فسلم من الاعتراض فيكون المراد بما شاء العموم‏.‏ ا هـ‏.‏ وأشار في فتح القدير إلى جوابه بأن المنقول في الأصل وكافي الحاكم أن المحرم إذا حلق رأس حلال تصدق بشيء، وإذا حلق رأس محرم فعليه صدقة، وأن الجواب في قص الأظفار كالجواب في الحلق‏.‏ ا هـ‏.‏ فقوله في غاية البيان أن المحرم إذا قص أظافير حلال وجبت عليه الصدقة المعينة نصا معارض بالمنصوص عليه في ظاهر الرواية من التصدق بشيء، وهو يعم القليل والكثير بدليل مقابلته بما إذا حلق رأس محرم فحينئذ المراد بالطعام في عبارة الهداية ما يعم القليل والكثير، وهو صحيح بالنسبة إلى الشارب والأظفار كلها وبهذا علم أن التقييد بالحلال ليخرج ما إذا قص المحرم أظافير محرم آخر فإنه يجب عليه الصدقة المعينة، وظاهر ما في غاية البيان يقتضي أنه إذا حلق شارب غيره محرما كان أو حلالا فإنه يطعم ما شاء فليس الحلال قيدا بالنسبة إلى الشارب كما لا يخفى، وعلم أيضا أن قوله فيما مضى كالحالق فيه اشتباه بالنسبة إلى المحلوق رأسه فإنه إن كان محرما فالتشبيه تام، وإن كان حلالا فلا يتم؛ لأن الواجب إطعام شيء لا الصدقة المعينة‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ أو قص أظفار يديه ورجليه بمجلس أو يدا أو رجلا، وإلا تصدق كخمسة متفرقة‏)‏ معطوف على طيب أول الباب فيلزمه دم بالقص؛ لأنه من المحظورات لما فيه من قضاء التفث، وإزالة ما ينمو من البدن فإذا قلمها كلها فهو ارتفاق كامل، وكذا إذا قص يدا أو رجلا إقامة للربع مقام الكل كما في الحلق، وإن لم يقص يدا كاملة، ولا رجلا كاملة فعليه صدقة لتقاصر الجناية قيد بالمجلس؛ لأنه لو قص الكل في مجالس في كل مجلس عضو لزمه أربعة دماء؛ لأن الغالب في هذه الكفارة معنى العبادة فيتقيد التداخل باتحاد المجلس كما في آية السجدة سواء كفر للأولى أو لا، وفي الأول خلاف محمد، وقيد التداخل بكونه من جنس واحد؛ لأنه لو قلم أظافير يده وحلق ربع رأسه وطيب عضوا فإنه يلزمه لكل جناية دم سواء اتحد المجلس أو اختلف اتفاقا، وقيد بكون المحل مختلفا؛ لأنه لو كان متحدا إذا حلق الرأس في أربع مرات فإنه لا تتعدد الكفارة اتفاقا اتحد المجلس أو اختلف، وقيد بكونها كفارة في الإحرام؛ لأن كفارة الفطر في رمضان كما إذا أفسد أياما من رمضان تتعدد إن كفر للأول، وإن لم يكفر بكفارة واحدة اتفاقا؛ لأنها شرعت للزجر فالغالب فيها معنى العقوبة، وهذه شرعت لجبر النقصان، وفي قوله، وإلا تصدق اشتباه؛ لأنه يقضي أن يلزمه صدقة واحدة فيما إذا لم يقص يدا كاملة أو رجلا كاملة، وليس كذلك بل يلزمه لكل ظفر قصه نصف صاع من بر حتى لو قص ستة عشر ظفرا من كل عضو أربعة فعليه لكل ظفر طعام مسكين إلا أن يبلغ ذلك دما فحينئذ ينقص ما شاء كذا في المبسوط، وإنما صرح بالخمسة المتفرقة مع أنها فهمت مما ذكره لدفع قول محمد المنقول في المجمع أن الخمسة المتفرقة كطرف كامل فيجب دم فأفاد أن في كل ظفر من الخمسة صدقة كما قررناه‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ولا شيء بأخذ ظفر منكسر‏)‏؛ لأنه لا ينمو بعد الانكسار فأشبه اليابس من أشجار الحرم قيد بالانكسار؛ لأنه لو أصابه أذى في كفه فقص أظافيره فعليه أي الكفارات شاء كذا في غاية البيان، وأطلقه فشمل ما إذا كان قد انكسر بعد الإحرام فأخذه أو كان منكسرا قبله فأخذه بعده، وهو أولى مما في الهداية كما لا يخفى، وأولى مما في الخانية من قوله، ولو انكسر ظفر المحرم وصار بحال لا يثبت فأخذه فلا شيء عليه؛ لأن العلة المذكورة تشمل الكل، وفي فتح القدير وكل ما يفعله العبد المحرم مما فيه الدم عينا أو الصدقة عينا فعليه ذلك إذا عتق لا في الحال، ولا يبدل بالصوم‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وإن تطيب أو لبس أو حلق بعذر ذبح شاة أو تصدق بثلاثة أصوع على ستة أو صام ثلاثة أيام‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك‏}‏، وكلمة أو للتخيير، وقد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا والآية نزلت في المعذور، وهو كعب بن عجرة الذي أذاه هوام رأسه فأبيح له الحلق كما في صحيح البخاري، وهي وإن نزلت في حلق الرأس لكن قيس الطيب واللبس والقص عليه لوجود الجامع، وهو المرض أو الأذى كذا في غاية البيان وظاهر النهاية أنه إلحاق له بطريق الدلالة؛ لأنه في معنى المنصوص عليه، وهو الأولى لما عرف في الأصول أن ما ثبت بخلاف القياس فغيره عليه لا يقاس فهو كإلحاق الأكل والشرب بالجماع في كفارة الفطر في رمضان، وفسر العذر المبيح كما ذكره قاضي خان في فتاويه بخوف الهلاك من البرد والمرض أو لبس السلاح للقتال، وهكذا في الظهيرية، وفتح القدير‏.‏ ولعل المراد بالخوف الظن لا مجرد الوهم فإذا غلب على ظنه هلاكه أو مرضه من البرد جاز له تغطية رأسه مثلا أو ستر بدنه بالمخيط لكن بشرط أن لا يتعدى موضع الضرورة فيغطي رأسه بالقلنسوة فقط إن اندفعت الضرورة بها وحينئذ فلف العمامة عليها حرام موجب للدم أو الصدقة كما قدمناه‏.‏ وكذا إذا اندفعت الضرورة بلبس جبة فلبس جبتين فإنه يكون آثما إلا أنه لا دم عليه حيث كان اللبس على موضع الضرورة إنما يلزمه كفارة مخيرة كما قدمناه ذكره الإمام ابن أمير حاج الحلبي في مناسكه فليحفظ هذا فإن كثيرا من المحرمين يغفل عنه كما شاهدناه‏.‏ فالحاصل أنه لا إثم عليه إذا كان لعذر ويأثم إذا كان لغيره وصرحوا بالحرمة، ولم أر لهم صريحا هل ذبح الدم أو التصدق مكفر لهذا الإثم مزيل له من غير توبة أو لا بد منها معه وينبغي أن يكون مبنيا على الاختلاف في الحدود هل هي كفارات لأهلها أو لا هل يخرج الحج عن أن يكون مبرورا بارتكاب هذه الجناية، وإن كفر عنها أو لا الظاهر بحثا لا نقلا أنه لا يخرج والله أعلم بحقيقة الحال‏.‏ وقيد بالعذر؛ لأنه لو فعل شيئا منها لغيره لزمه دم أو صدقة معينة، ولا يجزئه غيره كما صرح به الإمام الإسبيجابي وبهذا ظهر ضعف ما قدمناه عن الظهيرية من أنه إن لم يقدر على الدم يصوم ثلاثة أيام، ولم أره لغيرها، وإنما لم يقيد المصنف ذبح الشاة بالحرم مع أنه مقيد به اتفاقا لما سنبينه في باب الهدي أن الكل مختص بالحرم فإن ذبح في غيره لا يجزئه عن الذبح إلا إذا تصدق بلحمه على ستة مساكين على كل واحد منهم قدر قيمة نصف صاع من حنطة فإنه يجوز بدلا عن الإطعام كذا ذكره الإسبيجابي، ولا يختص بزمان اتفاقا‏.‏ وأشار بقوله ذبح إلى أنه يخرج عن العهدة بالذبح حتى لو هلك المذبوح بعده أو سرق فإنه لا شيء عليه بخلاف ما إذا سرق، وهو حي فإنه يلزمه غيره‏.‏ ومقتضاه جواز الأكل منه كهدي المتعة والقران والأضحية لكن الواقع لزوم التصدق بجميع لحمه كما سيأتي في بابه؛ لأنه كفارة فالحاصل أن له جهتين جهة الإراقة وجهة التصدق فللأولى لا يجب غيره إذا سرق مذبوحا وللثانية يتصدق بلحمه، ولا يأكل منه كذا في فتح القدير، وأطلق في التصدق والصوم فأفاد أن له التصدق في غير الحرم، وفيه على غير أهله‏.‏ قال‏:‏ في المحيط والتصدق على فقراء مكة أفضل، وإنما لم يتقيد بالحرم لإطلاق النص بخلاف الذبح؛ لأن النسك في اللغة الدم المهراق بمكة ويقال للمذبوح لوجه الله تعالى ويقال لكل عبادة، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن صلاتي ونسكي‏}‏ كما في المغرب‏.‏ وأشار المصنف بلفظ التصدق الموافق للفظ الصدقة المذكورة في الآية إلى أن طعام الإباحة لا يكفي؛ لأن التصدق ينبئ عن التمليك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏ وحكى خلافا في المجمع بين أبي يوسف ومحمد فعند أبي يوسف تكفي الإباحة، وعند محمد لا بد من التمليك ورجح في غاية البيان قول أبي يوسف بأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الصدقة بالإطعام هنا فكان ككفارة اليمين وتعقبه في فتح القدير بأن الحديث ليس مفسرا لمجمل بل مبين للمراد بالإطعام، وهو حديث مشهور عملت به الأمة فجازت الزيادة به ثم المذكور في الآية الصدقة، وتحقق حقيقتها بالتمليك فيجب أن يحمل في الحديث الإطعام على الإطعام الذي هو الصدقة، وإلا كان معارضا، وغاية الأمر أنه يعتبر بالاسم الأعم‏.‏ انتهى‏.‏ فالحاصل ترجيح قول محمد رحمه الله ولهذا قيل إن قول أبي حنيفة رحمه الله كقوله كما في الظهيرية لكن ذكر الإسبيجابي أن أبا حنيفة مع أبي يوسف رحمهما الله، وأفاد المصنف بإطلاقه أن الصوم يجوز متفرقا، ومتتابعا كما صرح به الإسبيجابي‏.‏ والأصوع على وزن أرجل جمع صاع وظاهر كلامهم أنه لا بد من التصدق على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع حتى لو تصدق بالثلاثة على أقل من ستة أو على أكثر منها بها فإنه لا يجوز؛ لأن العدد منصوص عليه في الحديث وينبغي على القول بجواز الإباحة أنه لو غدى مسكينا واحدا، و عشاه ستة أيام يجوز أخذا من مسألة الكفارات، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

فصل ‏[‏ما يترتب على النظر الذي يعقبه إمناء‏]‏

قدم النوع السابق على هذا؛ لأنه كالمقدمة له إذ الطيب، وإزالة الشعر والظفر مهيجات للشهوة لما يعطيه من الرائحة والزينة‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ولا شيء عليه إن نظر إلى فرج امرأة بشهوة فأمنى‏)‏؛ لأن المحرم هو الجماع، ولم يوجد فصار كما لو تفكر فأمنى، وعلم منه أنه لو احتلم فأمنى لا شيء عليه بالأولى وبإطلاقه أنه لا فرق بين زوجته والأجنبية، وإن كان محرما‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وتجب شاة إن قبل أو لمس بشهوة‏)‏ أطلقه فشمل ما إذا لم ينزل، وهو موافق لما في المبسوط حيث صرح بوجوب الدم، وإن لم ينزل واختاره في الهداية مخالفا لما في الجامع الصغير من اشتراط الإنزال وصححه قاضي خان في شرحه ليكون جماعا من وجه فإن المحرم هو الجماع صورة ومعنى أو معنى فقط، وهو بالإنزال، وعلل في النهاية وغيرها لوجوب الدم بأن الجماع فيما دون الفرج من جملة الرفث فكان منهيا عنه بسبب الإحرام وبالإقدام عليه يصير مرتكبا محظور إحرامه وتعقبهم في فتح القدير بأن الإلزام إن كان للنهي فليس كل نهي يوجب كالرفث، وإن كان للرفث فكذلك إذ أصله الكلام بحضرتهن، وليس موجبا شيئا‏.‏ انتهى‏.‏ وقد يقال إن إيجاب الدم إنما هو لكونه ارتكب ما هو حرام بسبب الإحرام فقط، وليس ذكر الجماع بحضرة النساء منهيا عنه لأجل الإحرام فقط بل منهي عنه مطلقا، وإن كان في الإحرام أشد وبهذا يظهر ترجيح إطلاق الكتاب؛ لأن الدواعي محرمة لأجل الإحرام مطلقا فيجب الدم مطلقا، وإنما لم يفسد الحج بالدواعي مع الإنزال كما فسد بها الصوم؛ لأن فساده تعلق بالجماع حقيقة بالنص، والجماع معنى دونه فلم يلحق به، وأما فساد الصوم فمعلق بقضاء الشهوة، وقد وجد، وفي المحيط محرم عبث بذكره فلا شيء عليه، وإن أنزل فعليه دم؛ لأنه وجد قضاء الشهوة بالمس كما لو مس امرأة فأنزل، ولو أتى بهيمة فأنزل لم يفسد حجه، وعليه دم كما لو جامع فيما دون الفرج، وإن لم ينزل فلا شيء عليه‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ أو أفسد حجه بجماع في أحد السبيلين قبل الوقوف بعرفة‏)‏ معطوف على قبل أي تجب شاة لما ورد عن الصحابة من الفساد به ووجوب الهدي، وأدناه شاة ويقوم الشرك في البدنة مقامها كما صرح به في غاية البيان، وما اختاره المصنف من الفساد بالجماع في الدبر هو أصح الروايتين عن أبي حنيفة كقولهما لكمال الجناية كما في فتح القدير، ومراده من آدمية‏.‏ أما وطء البهيمة فلا يفسد مطلقا لقصوره وأطلق في الجماع فشمل ما إذا أنزل أو لم ينزل أولج ذكره كله أو بقدر الحشفة، وفي معراج الدراية، ولو استدخلت ذكر الحمار أو ذكرا مقطوعا يفسد حجها بالإجماع، ولو لف ذكره بخرقة، وأدخله إن وجد حرارة الفرج واللذة يفسد، وإلا فلا‏.‏ انتهى‏.‏ وشمل ما إذا كان عامدا أو ناسيا عالما أو جاهلا مختارا أو مكرها رجلا أو امرأة، ولا رجوع له على المكره كما ذكره الإسبيجابي وحكى في فتح القدير خلافا بين ابن شجاع والقاضي أبي حازم في رجوع المرأة بالدم إذا أكرهها الزوج على الجماع فقال الأول لا، وقال الثاني نعم، ولم أر قولا في رجوعها بمؤنة حجها وشمل الحر والعبد لكن في العبد يلزمه الهدي، وقضاء الحج بعد العتق سوى حجة الإسلام، وكل ما يجب فيه المال يؤاخذ به بعد عتقه بخلاف ما فيه الصوم فإنه يؤاخذ به للحال، ولا يجوز إطعام المولى عنه إلا في الإحصار فإن المولى يبعث عنه ليحل هو فإذا عتق فعليه حجة وعمرة، وشمل الوطء الحلال والحرام ووطء المكلف وغيره كما صرح به في المحيط وصرح الولوالجي بأن الصبي والمعتوه يفسد حجهما بالجماع لكن لا دم عليهما، وفي مناسك ابن الضياء‏:‏ وإذا جامع الصبي حتى فسد حجه لا يلزمه شيء‏.‏ انتهى‏.‏ وبهذا ظهر ضعف ما في فتح القدير من قوله، ولو كان الزوج صبيا يجامع مثله فسد حجها دونه، ولو كانت هي صبية أو مجنونة انعكس الحكم‏.‏ انتهى‏.‏ فإن هذا الحكم تعلق بعين الجماع وبالعذر لا ينعدم الجماع فلا ينعدم الحكم المتعلق به، وإنما لم يلزمهما حكم الفساد لما فيه من الضرر ويؤيده أن المفسد للصلاة والصوم لا فرق بين المكلف وغيره فكذلك الحج وشمل ما إذا تعدد الجماع فإنه يلزمه دم واحد إن كان المجلس متحدا سواء كان لامرأة أو نسوة أما إذا تعدد المجلس، ولم يقصد به رفض الحجة الفاسدة لزمه دم آخر عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ولو نوى بالجماع الثاني رفض الفاسدة لا يلزمه بالثاني شيء كذا في فتاوى قاضي خان مع أن نية الرفض باطلة؛ لأنه لا يخرج عنه إلا بالأعمال لكن لما كانت المحظورات مستندة إلى قصد واحد، وهو تعجيل الإحلال كانت متحدة فكفاه دم واحد ولهذا نص في ظاهر الرواية أن المحرم إذا جامع النساء ورفض إحرامه، وأقام يصنع ما يصنعه الحلال من الجماع والطيب، وقتل الصيد عليه أن يعود كما كان حراما ويلزمه دم واحد كما ذكره في المبسوط‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ويمضي ويقضي، ولم يفترقا فيه‏)‏ أي ويجب المضي في أفعال الحج بعد إفساده كما يمضي فيه، وهو صحيح ويلزمه قضاؤه من قابل، سواء كانت حجة الإسلام أو لا؛ لأنه قد أدى الأفعال مع وصف الفساد، والمستحق عليه أداؤها بوصف الصحة، وفي فتاوى قاضي خان ويجتنب في الفاسدة ما يجتنب في الجائزة، وقد ظن بعض أهل عصرنا أن الحج إذا فسد لا يفسد الإحرام ولهذا قالوا‏:‏ إن الإحرام باق فيقضي فيه، وليس كما ظن بل فسد الإحرام كالحج، وقد صرحوا بفساده في مواضع عديدة في هذا الفصل، ومعنى بقائه عدم الخروج عنه بغير الأفعال، ومعنى الافتراق الذي ليس بواجب أن يأخذ كل واحد منهما في طريق غير طريق صاحبه، وإنما لم يجب؛ لأن الجامع بينهما، وهو النكاح قائم فلا معنى للافتراق قبل الإحرام لإباحة الوقوع، ولا بعده؛ لأنهما يتذاكران ما لحقهما من المشقة الشديدة بسبب لذة صغيرة فيزدادان ندما وتحرزا لكنه مستحب إذا خاف الوقاع كما في المحيط وغيره‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وبدنة لو بعده، ولا فساد‏)‏ أي يجب بدنة لو جامع بعد الوقوف بعرفة قبل الحلق، ولا يفسد حجه للحديث‏:‏ «من وقف بعرفة فقد تم حجه» أي أمن من فساده لبقاء الركن الثاني، وهو الطواف، ووجوب البدنة مروي عن ابن عباس والأثر فيه كالخبر أطلقه فشمل ما إذا جامع مرة أو مرارا إن اتحد المجلس، وأما إذا اختلف فبدنة للأول وشاة للثاني في قولهما، وقال محمد‏:‏ إن ذبح للأول فيجب للثاني شاة، وإلا فلا ذكره الإسبيجابي، وعلل له في المبسوط بأنه دخل إحرامه نقصان بالجماع الأول وبالجماع الثاني صادف إحراما ناقصا فيكفيه شاة‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ أو جامع بعد الحلق‏)‏ معطوف على قوله أول الفصل قبل أي يجب شاة إن جامع بعد الحلق قبل الطواف لقصور الجناية لوجود الحل الأول بالحلق‏.‏ ثم اعلم أن أصحاب المتون على ما ذكره المصنف من التفصيل فيما إذا جامع بعد الوقوف فإن كان قبل الحلق فالواجب بدنة، وإن كان بعده فالواجب شاة، ومشى جماعة من المشايخ كصاحب المبسوط والبدائع والإسبيجابي على وجوب البدنة مطلقا، وقال في فتح القدير‏:‏ إنه الأوجه؛ لأن إيجابها ليس إلا بقول ابن عباس والمروي عنه ظاهره فيما بعد الحلق ثم المعنى يساعده وذلك؛ لأن وجوبها قبل الحلق ليس إلا للجناية على الإحرام، ومعلوم أن الوطء ليس جناية عليه إلا باعتبار تحريمه له لا لاعتبار تحريمه لغيره فليس الطيب جناية على الإحرام باعتبار تحريمه الجماع أو الحلق بل باعتبار تحريمه للطيب، وكذا كل جناية على الإحرام ليست جناية عليه إلا باعتبار تحريمه لها لا لغيرها فيجب أن يستوي ما قبل الحلق، وما بعده في حق الوطء؛ لأن الذي به كان جناية قبله بعينه ثابت بعده، والزائل لم يكن الوطء جناية باعتباره لا جرم أن المذكور في ظاهر الرواية إطلاق لزوم البدنة بعد الوقوف من غير تفصيل بين كونه قبل الحلق أو بعده‏.‏ انتهى‏.‏ ويرد عليه أنهم اتفقوا أنه لو جامع مرة ثانية بعد الوقوف قبل الحلق فإنه لا يجب بدنة، وإنما تجب شاة مع أن وجوبها للجماع الأول ليس إلا باعتبار حرمته عليه، وهو بعينه موجود في كل جماع أتى به قبل الطواف فتعين أن ينظر إلى أن البدنة لا تجب إلا إذا كملت الجناية، وكمالها بمصادفتها إحراما كاملا فالجماع في المرة الثانية صادف إحراما ناقصا فلم تجب البدنة، وكذا الجماع بعد الحلق صادف إحراما ناقصا لخروجه عنه في حق غير النساء، وهذا الباب أعني باب الجنايات على الإحرام ينظر فيه إلى كمال الجناية، وقصورها ليجب الجزاء بقدره كما تقدم من تطييب العضو، وما دونه، ومن لبس المخيط يوما أو أقل إلى غير ذلك لا إلى تحريم الفعل فقط فالحاصل أن مسائلهم شاهدة بأن الجناية إن كملت تغلظ الجزاء كما في لبس المخيط يوما أو أقل إلى غير ذلك لا إلى تحريم الفعل فقط، وإن قصرت خف الجزاء فالأوجه ما في المتون والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏ ولم يذكر المصنف حكم القارن إذا جامع وحكمه أنه إن كان قبل الوقوف بعرفة وطواف العمرة فسد حجه وعمرته، ولزمه دمان وقضاؤهما وسقط عنه دم القران، وإن كان بعد طواف العمرة أو أكثره قبل الوقوف فسد الحج فقط، ولزمه دمان أيضا، وقضاء الحج فقط وسقط عنه دم القران، وإن كان بعد الطواف والوقوف قبل طواف الزيارة لم يفسدا، وعليه بدنة للحج وشاة للعمرة إن كان قبل الحلق اتفاقا واختلفوا فيما إذا كان بعد الحلق في موضعين‏.‏ الأول‏:‏ في وجوب البدنة للحج أو الشاة، وقدمناه والثاني في وجوب شاة للعمرة فالذي اختاره صاحب المبسوط والبدائع والإسبيجابي أنه يجب شاة للعمرة والذي اختاره الوبري أنه لا يجب شيء لأجل العمرة؛ لأنه خرج من إحرامها بالحلق وبقي إحرام الحج في حق النساء واستشكله الشارح بأنه إذا بقي محرما بالحج فكذا في العمرة ورده في فتح القدير بأن إحرام العمرة لم يعهد بحيث يتحلل منه بالحلق من غير النساء ويبقى في حقهن بل إذا حلق بعد أفعالها حل بالنسبة إلى كل ما حرم عليه، وإنما عهد ذلك في إحرام الحج فإذا ضم إحرام الحج إلى إحرام العمرة استمر كل على ما عهد له في الشرع فينطوي بالحلق إحرام العمرة بالكلية فالصواب ما عن الوبري‏.‏ ا هـ‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ أو في العمرة قبل أن يطوف لها الأكثر وتفسد ويمضي ويقضي‏)‏ أي لو جامع في إحرام العمرة قبل أن يطوف أربعة أشواط لزمه شاة، وفسدت عمرته كما لو جامع في الحج قبل الوقوف بجامع حصوله قبل إدراك الركن فيهما ويمضي في فاسدها كما يمضي في صحيحها، ويلزمه قضاؤها‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ أو بعد طواف الأكثر، ولا فساد‏)‏ أي لو جامع بعد ما طاف أربعة أشواط لزمه شاة، ولا تفسد عمرته؛ لأنه أتى بالركن فصار كالجماع بعد الوقوف، وإنما لم تجب بدنة كما في الحج إظهارا للتفاوت بين الفرض والسنة كذا في الهداية وغيرها، وقد يقال إنه يتم في حجة الإسلام أما في غيرها فلا فرق بين الحج والعمرة؛ لأن كلا منهما نفل قبل الشروع واجب بعده اللهم إلا أن يقال‏:‏ نفل الحج أقوى من نفل العمرة، والفرق بينهما بأن الجماع في الحج بعد الوقوف يكون قبل أداء بقية أركان الحج؛ لأنه بقي الطواف، وهو ركن فتغلظت الجناية فتغلظ الجزاء بخلافه بعد طواف الأكثر في العمرة فإنه لم يبق عليه إلا الواجبات لا يصح؛ لأنه يقتضي وجوب البدنة لو جامع قبل طواف الأكثر، وليس كذلك وشمل قوله‏:‏ بعد طواف الأكثر ما إذا طاف الباقي وسعى بين الصفا والمروة أولا لكن بشرط أن يكون قبل الحلق وتركه للعلم به؛ لأن بالحلق يخرج عن إحرامها بالكلية بخلاف إحرام الحج، ولما بين المصنف حكم المفرد بالحج والمفرد بالعمرة علم منه حكم القارن والمتمتع‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وجماع الناسي كالعامد‏)‏ يعني في جميع ما ذكرنا من أحكام الجنايات فيفسد حجه لو جامع ناسيا قبل الوقوف وحاصل ما ذكره الأصوليون أن النسيان لا ينافي الوجوب لكمال العقل، وليس عذرا في حقوق العباد، وفي حقوق الله تعالى عذر في سقوط الإثم أما الحكم فإن كان مع مذكر، ولا داعي إليه كأكل المصلي وجناية المحرم لم يسقط بتقصيره بخلاف سلامه في القعدة، وإن كان ليس مع مذكر مع داع إليه سقط كأكل الصائم، وإن لم يكن معهما فكذلك بالأولى كترك الذابح التسمية‏.‏ انتهى‏.‏ وقد قدمنا أن الجاهل والعالم والمختار والمكره والنائم والمستيقظ سواء لحصول الارتفاق‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ أو طاف للركن محدثا‏)‏ أي يلزمه شاة لترك الطهارة؛ لأنه أدخل نقصا في الركن فصار كترك شوط منه، وظاهر كلام غاية البيان أن الدم واجب اتفاقا أما على القول بوجوبها، وهو الأصح فظاهر، وأما على القول بسنيتها فلأنه لا يمتنع أن تكون سنة، ويجب بتركها الكفارة، ولهذا قال‏:‏ محمد فيمن أفاض من عرفة قبل الإمام يجب عليه دم؛ لأنه ترك سنة الدفع‏.‏ ا هـ‏.‏ وبهذا علم أن الخلف لفظي لا ثمرة له، وإنما كانت الطهارة واجبة لما ثبت في الصحيحين‏:‏ «عن عائشة أنها حاضت فقال لها عليه السلام‏:‏ اقض ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت»‏.‏ رتب منع الطواف على انتفاء الطهارة، وهذا حكم وسبب، وظاهره أن الحكم يتعلق بالسبب فيكون المنع لعدم الطهارة لا لعدم دخول المسجد، وإنما لم يكن شرطا كما قال الشافعي؛ لأنه يلزمه تقييد مطلق القطعي، وهو ‏{‏وليطوفوا‏}‏ بخبر الواحد، وهو نسخ عندنا فلا يجوز كما عرف في الأصول‏.‏ وأما قوله عليه السلام‏:‏ «الطواف بالبيت صلاة» فالمراد به التشبيه في الثواب، قيد بالحدث؛ لأنه لو طاف، وعلى ثوبه نجاسة أكثر من قدر الدرهم فإنه لا يلزمه شيء لكنه يكره لإدخال النجاسة المسجد، ولم ينص في ظاهر الرواية إلا على الثوب، والتعليل يفيد عدم الفرق بين الثوب والبدن، وما في الظهيرية من أن نجاسة الثوب كله فيه الدم لا أصل له في الرواية فلا يعول عليه‏.‏ وأشار إلى أنه لو طاف منكشف العورة قدر ما لا تجوز الصلاة معه فإنه يلزمه دم لترك الواجب، وهو ستر العورة كما صرح به في الظهيرية، ودليل الوجوب قوله‏:‏ عليه السلام‏:‏ «ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان» بناء على أن خبر الواحد يفيد الوجوب عندنا، وقيد بالركن، وهو الأكثر؛ لأنه لو طاف أقله محدثا، ولم يعد وجب عليه لكل شوط نصف صاع من حنطة إلا إذا بلغت قيمته دما فإنه ينقص منه ما شاء كذا في غاية البيان‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وبدنة لو جنبا ويعيد‏)‏ أي يجب بدنة لو طاف للركن جنبا كذا روي عن ابن عباس؛ ولأن الجنابة أغلظ فيجب جبر نقصانها في البدنة إظهارا للتفاوت بينهما، والحيض والنفاس كالجنابة قيد بالركن، وهو الأكثر؛ لأنه لو طاف الأقل جنبا، ولم يعد وجب عليه شاة فإن أعاده وجبت عليه صدقة لتأخير الأقل من طواف الزيارة لكل شوط نصف صاع، وقوله‏:‏ ويعيد راجع إلى الطواف محدثا أو جنبا، ولم يذكر صفة الإعادة للاختلاف وصحح في الهداية أنها واجبة في الطواف جنبا مستحبة في الطواف محدثا للفحش في الأول والقصور في الثاني فإن أعاده فلا دم عليه فيهما مطلقا لجبر النقصان الحاصل بالإعادة إلا أنه إن أعاده، وقد طاف جنبا بعد أيام النحر لزمه دم للتأخير عند أبي حنيفة وبهذا علم أن الواو في قوله ويعيد بمعنى أو؛ لأن الواجب بمعنى شيئين إما لزوم الشاة أو الإعادة، والإعادة هي الأصل ما دام بمكة ليكون الجابر من جنس المجبور فهي أفضل من الدم، وأما إذا رجع إلى أهله ففي الحدث الأصغر اتفقوا أن بعث الشاة أفضل من الرجوع واختلفوا في الحدث الأكبر فاختار في الهداية أن العود إلى الإعادة أفضل لما ذكرنا واختار في المحيط أن بعث الدم أفضل؛ لأن الطواف الأول وقع معتدا به، وفيه منفعة للفقراء، وإذا عاد للأول يرجع بإحرام جديد بناء على أنه حل في حق النساء بطواف الزيارة جنبا، وهو آفاقي يريد مكة فلا بد له من إحرام بحج أو عمرة فإذا أحرم بعمرة يبدأ بها فإذا فرغ منها يطوف للزيارة ويلزمه دم لتأخير طواف الزيارة عن وقته، وفهم الرازي من ذلك أن الطواف الثاني معتد به، وأن الأول قد انفسخ وذهب الكرخي إلى أن الأول معتبر في فصل الجناية كما في فصل الحدث اتفاقا وصححه صاحب الإيضاح إذ لا شك في وقوع الأول معتدا به حتى حل به النساء واستدل له بما في الأصل لو طاف لعمرته محدثا أو جنبا في رمضان وحج من عامه لم يكن متمتعا إن أعاده في شوال أو لم يعده، وقواه في فتح القدير‏.‏ وإنما وجب الدم لترك الواجب؛ لأن الواجب الإعادة في أيام النحر فإذا مضت ترك واجبا والظاهر أن الخلف لفظي لا ثمرة له؛ لأن الدم واجب اتفاقا، وإن اختلف التخريج‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وصدقة لو محدثا للقدوم‏)‏ أي يجب عليه صدقة لو طاف للقدوم محدثا؛ لأنه دخله نقص بترك الطهارة فينجبر بالصدقة إظهارا لدنو رتبته عن الواجب بإيجاب الله تعالى، وهو طواف الزيارة‏.‏ وأشار إلى أن كل طواف هو تطوع فهو كذلك، وقيد بالحدث؛ لأنه لو طاف للقدوم جنبا لزمه الإعادة ودم، وإن لم يعد؛ لأن النقص فيه متغلظ فتلزمه الإعادة احتياطا، وقال محمد‏:‏ ليس عليه أن يعيد طواف التحية؛ لأنه سنة، وإن أعاد فهو أفضل كذا في المحيط وبهذا ظهر بطلان ما في غاية البيان معزيا إلى الإسبيجابي من أنه لا شيء عليه لو طاف للقاء محدثا أو جنبا؛ لأنه يقتضي عدم وجوب الطهارة للطواف؛ ولأن طواف التطوع إذا شرع فيه صار واجبا بالشروع ثم يدخله النقص بترك الطهارة فيه‏.‏ غاية الأمر أن وجوبه ليس بإيجابه تعالى ابتداء فأظهرنا التفاوت في الحط من الدم إلى الصدقة فيما إذا طافه محدثا، ومن البدنة إلى الشاة فيما إذا طافه جنبا، وظاهر كلامهم يقتضي وجوب الشاة فيما إذا طاف للتطوع جنبا‏.‏ وذكر في غاية البيان أنه إن طاف للقدوم محدثا وسعى ورمل عقبه فهو جائز والأفضل أن يعيدهما عقيب طواف الزيارة، وإن طاف له جنبا وسعى ورمل عقبه فإنه لا يعتد به ويجب عليه السعي عقب طواف الزيارة ويرمل فيه‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ والصدر‏)‏ بالجر عطف على القدوم فتجب صدقة لو طاف محدثا ودم لو جنبا فقد سووا بين طواف القدوم وبين طواف الصدر مع أن الأول سنة والثاني واجب، وأجاب عنه في الهداية بأن طواف القدوم يصير واجبا أيضا بالشروع، وأقره الشارحون، وقد يقال إن ما وجب ابتداء قبل الشروع أقوى مما وجب بالشروع فينبغي عدم المساواة قيد بترك الطهارة للطواف؛ لأن السعي محدثا أو جنبا لا يوجب شيئا سواء كان سعي عمرة أو حج؛ لأنه عبادة تؤدى لا في المسجد الحرام والأصل أن كل عبادة تؤدى لا في المسجد في أحكام المناسك فالطهارة ليست بواجبة لها كالسعي والوقوف بعرفة والمزدلفة ورمي الجمار بخلاف الطواف فإنه عبادة تؤدى في المسجد فكانت الطهارة واجبة فيه كذا في الفتاوى الظهيرية‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ أو ترك أقل طواف الركن، ولو ترك أكثره بقي محرما‏)‏ أي يجب دم بترك شوط أو شوطين أو ثلاثة من طواف الزيارة، ولو ترك أربعة منه فإنه محرم في حق النساء بناء على أن الركن عندنا أكثر السبعة، وهو أربعة أشواط على الصحيح كما قدمناه، وإنما أقيم الأكثر مقام الكل؛ لأن الشرع أقام الأكثر في الحج مقام الكل في وقوع الأمن عن الفوات احتياطا بقوله‏:‏ من وقف بعرفة فقد تم حجه، وقد قلنا من جامع بعد الوقوف لا يفسد وبعد الرمي لا يفسد بالإجماع، ولو حلق أكثر الرأس صار متحللا فلما كان الأمر على هذا الوجه للتيسير جرينا على هذا الأصل فأقمنا الأكثر مقام الكل في باب التحلل، وما يجري مجراه صيانة لهذه العبادة عن الفوات وتحقيقا للأمر يعني أن الطواف أحد سببي التحلل فلما أقيم الأكثر مقام الكل في أحد السببين، وهو الحلق بالإجماع أقيم في السبب الآخر، وهو الطواف أيضا كذا في النهاية وتعقبه في فتح القدير بأن إقامة الأكثر في تمام العبادة إنما هو في حق حكم خاص، وهو أمن الفساد والفوات ليس غير ولذا لم يحكم بأن ترك ما بقي أعني الطواف يتم معه الحج، وهو مورد ذلك النص فلا يلزم جواز إقامة أكثر كل جزء منه مقام تمام ذلك الجزء وترك باقيه كما لم يجز ذلك في نفس مورد النص أعني الحج فلا ينبغي التعويل على هذا الحكم، والله أعلم بل الذي ندين به أن لا يجزئ أقل من السبعة، ولا يجبر بعضه بشيء غير أنا نستمر معهم في التقرير على أصلهم‏.‏ ا هـ‏.‏ وهذا من أبحاثه المخالفة لأهل المذهب قاطبة لكن لم يجب عن تمسكهم بحلق أكثر الرأس في أنه يفيد التحلل بالإجماع فإقامتنا الأكثر في الطواف لأجل التحلل مستفاد من دلالة الإجماع المذكور، وإنما لزمه الدم بترك الأقل؛ لأنه أدخل نقصا في طوافه فصار كما لو طافه محدثا‏.‏ وأشار بالترك إلى أن الدم إنما يجب إذا لم يأت بما تركه أما إذا أتم الباقي فليس عليه شيء إن كان الإتمام في أيام النحر أما بعدها فيلزمه صدقة عند أبي حنيفة لكل شوط نصف صاع من بر خلافا لهما فإن رجع إلى أهله بعث شاة لما بقي من طواف الزيارة وشاة أخرى لترك طواف الصدر، وهذا؛ لأن بعث الشاة لترك الأقل من طواف الزيارة لا يتصور إلا إذا لم يكن طاف للصدر؛ لأنه إذا طاف للصدر انتقل منه إلى طواف الزيارة ما يكمله ثم ينظر إلى الباقي من طواف الصدر إن كان أقله لزمه صدقة، وإلا فدم، ولو كان طاف للصدر في آخر أيام التشريق، وقد ترك من طواف الزيارة أكثره كمله من الصدر، ولزمه دمان في قول أبي حنيفة دم لتأخيره ذلك ودم آخر لترك أكثر الصدر، وإن ترك أقله لزمه للتأخير دم وصدقة للمتروك من الصدر مع ذلك الدم وجملته كما ذكره الحاكم الشهيد في الكافي أن عليه في ترك الأقل من طواف الزيارة دما، وفي تأخير الأقل صدقة، وفي ترك الأكثر من طواف الصدر دم، وفي ترك أقله صدقة، وفي فتح القدير، ومبنى هذا النقل ما تقدم من أن طواف الزيارة ركن عبادة، والنية ليست شرطا لكل ركن إلا ما يستقل عبادة بنفسه فشرط نية أصل الطواف دون التعيين فلو طاف في وقته ينوي النذر أو النفل وقع عنه كما لو نوى بالسجدة من الظهر النفل لغت ووقعت عن الركن، وإن توالي الأشواط ليس بشرط لصحة الطواف كمن خرج من الطواف لتجديد وضوء ثم رجع بنى‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ أو ترك أكثر الصدر أو طافه جنبا وصدقة بترك أقله‏)‏ أي يجب الدم، ولما كان طواف الصدر واجبا وجب بترك كله أو أكثره دم وبترك أقله صدقة لكل شوط نصف صاع من بر تفرقة بين الأكثر والأقل بخلاف الأقل من طواف الزيارة والعمرة حيث يجب دم بتركه؛ لأنه طواف ركن فكان أقوى من الواجب، وقد قدمنا حكم ما إذا طاف للصدر جنبا لكن في عبارته قصور حيث لم يبين حكم طواف القدوم جنبا‏.‏ وعبارة المجمع أولى، وهي وإن طاف للقدوم أو للصدر محدثا وجبت صدقة وجنبا دم فأفاد أنه لا فرق بينهما في الحدثين‏.‏ وأشار بالترك إلى أنه لو أتى بما تركه فإنه لا يلزمه شيء مطلقا؛ لأنه ليس بمؤقت، وفي الهداية ويؤمر بالإعادة ما دام بمكة إقامة للواجب في وقته‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ أو طاف للركن محدثا وللصدر طاهرا في آخر أيام التشريق ودمان لو طاف للركن جنبا‏)‏ أي تجب شاة في الأولى وشاتان في الثانية أما في الأولى فهي بسبب الحدث، ولم ينقل طواف الصدر إلى الزيارة؛ لأنه لا فائدة في النقل؛ لأنه لو نقل يجب عليه الدم لترك طواف الصدر إجماعا إن كان رجع إلى أهله سواء طاف للصدر في أيام النحر أو لا، قيد بقوله في آخر أيام التشريق؛ لأنه لو طاف للصدر في أيام النحر، ولم يرجع إلى أهله فإنه ينقل طواف الصدر إلى طواف الزيارة؛ لأن في النقل فائدة، وهو سقوط الدم لأجل الحدث ثم يطوف للصدر، ولا شيء عليه بخلاف ما إذا طاف للصدر في آخر أيام التشريق، ولم يرجع إلى أهله حيث لا ينقل عند أبي حنيفة؛ لأنه لا فائدة في النقل لوجوب دم بالتأخير على تقديره خلافا لهما‏.‏ وأما في الثانية فلأن في النقل فائدة، وهي سقوط البدنة فيجب دم لتأخيره عن أيام النحر عنده ودم لترك طواف الصدر إن رجع إلى أهله، وإن كان بمكة فإنه يطوف للصدر، ولا يلزمه إلا دم واحد للتأخير فإن كان طاف للصدر في أيام النحر فإنه ينقل إلى طواف الزيارة ثم يطوف للصدر، ولا شيء عليه أصلا، قيد بكون الطواف الثاني للصدر؛ لأنه لو أعاده بعد أيام النحر فإن كان في الحدث الأصغر لا يلزمه شيء؛ لأن بعد الإعادة لا يبقى إلا شبهة النقصان، وفي الحدث الأكبر يلزمه دم عند أبي حنيفة للتأخير كذا في الهداية وتعقبه في غاية البيان بأنه سهو؛ لأن الرواية مسطورة في شرح الطحاوي أنه يلزمه الدم إذا أعاده بعد أيام النحر للتأخير سواء كان بسبب الحدث أو الجناية‏.‏ ا هـ‏.‏ وهكذا في المحيط سوى بين الحدثين، وهذا قصور نظر من صاحب الغاية؛ لأن في المسألة ثلاث روايات فما في الهداية رواية عن أبي حنيفة ذكرها الإمام الولوالجي في فتاويه وصدر بها واعتمدها، وما في شرح الطحاوي والمحيط رواية ثانية وذكر الولوالجي أيضا رواية ثالثة عن أبي حنيفة أن عليه الصدقة في الحدث الأصغر ووجهها بأنه أخر الجبر عن وقت الطواف فيبقى نوع نقص لكن نقصان التأخير دون نقصان ترك القضاء، والواجب بترك القضاء هو الدم فكان الواجب بتأخير القضاء هو الصدقة ا هـ‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ أو طاف لعمرته وسعى محدثا، ولم يعد‏)‏ أي تجب شاة لتركه الواجب، وهو الطهارة قيد بقوله، ولم يعد؛ لأنه لو أعاد الطواف طاهرا فإنه لا يلزمه شيء لارتفاع النقصان بالإعادة، ولا يؤمر بالعود إذا رجع إلى أهله لوقوع التحلل بأداء الركن مع الحلق، والنقصان يسير، وما دام بمكة يعيد الطواف؛ لأنه الأصل، والأفضل أن يعيد السعي لأنه تبع للطواف، وإن لم يعده فلا شيء عليه، وهو الصحيح؛ لأن الطهارة ليست بشرط في السعي، وقد وقع عقب طواف معتد به، وإعادته لجبر النقصان كوجوب الدم لا لانفساخ الأول‏.‏ ولو قال المصنف محدثا أو جنبا لكان أولى؛ لأنه لا فرق بين الحدثين في طواف العمرة كما في المحيط وغيره والقياس أنه لا يكتفي بالشاة فيما إذا طاف لعمرته جنبا؛ لأن حكم الجنابة أغلظ من الحدث كما في طواف الزيارة لكن اكتفى بها استحسانا؛ لأن طواف الزيارة فوق طواف العمرة، وإيجاب أغلظ الدماء، وهو البدنة في طواف الزيارة كان لمعنيين وكادة الطواف وغلظ أمر الجنابة فإذا وجد أحد المعنيين دون الثاني تعذر إيجاب أغلظ الدماء فاقتصرنا على الشاة كذا في غاية البيان‏.‏ وفي المحيط‏:‏ ولو طاف القارن طوافين وسعى سعيين محدثا أعاد طواف العمرة قبل يوم النحر، ولا شيء عليه للجبر بجنسه في وقته فإن لم يعد حتى طلع فجر يوم النحر لزمه دم لطواف العمرة محدثا، وقد فات وقت القضاء ويرمل في طواف الزيارة يوم النحر ويسعى بعده استحبابا ليحصل الرمل والسعي عقب طواف كامل، وإن لم يعد فلا شيء عليه؛ لأنه سعى عقب طواف معتد به إذ الحدث الأصغر لا يمنع الاعتداد، وفي الجنابة إن لم يعد فعليه دم للسعي، وكذا الحائض‏.‏ ا هـ‏.‏ فالحاصل أن قولهم إن المعتمر يعيد الطواف محله ما إذا لم يكن قارنا أما في القارن إذا دخل يوم النحر فلا إعادة، وعلل له محمد كما نقله ابن بدار في شرح الجامع الصغير بأنه لو أعاده لانتقضت عمرته؛ لأنه يصير رافضا لها بالوقوف، وقد تأكدت فلا يمكن استدراك النقص بجنسه فيجبر بالدم قال ابن سماعة فقلت لمحمد‏:‏ إنك قلت في الأصل إن القارن لو طاف لها أربعة أشواط وسعى، ولم يطف لحجته حتى وقف إنه يتم طواف العمرة يوم النحر، ولا شيء عليه فقد أوجبت الإتمام، وما أوجبت الدم قال محمد؛ لأن هناك قدم شيئا على شيء، وهنا الفساد وجد في جميع الطواف فإن لم نجوز، وأبطلنا طوافه لرفضنا عمرته بمنزلة من لم يطف‏.‏ ا هـ‏.‏ وقيد بكون طواف العمرة كله محدثا، والأكثر كالكل؛ لأنه لو طاف أقله محدثا وجب عليه لكل شوط نصف صاع من حنطة إلا إذا بلغت قيمته دما فينقص منه ما شاء، ولو طاف أقله جنبا وجب عليه دم وتجب الإعادة في الحدثين كما في الظهيرية وينبغي أن يكون هذا على الضعيف أما على الصحيح من أن الإعادة فيما إذا طاف للركن محدثا إنما هي مستحبة ففي طواف العمرة أولى، ولم يذكر المصنف حكم ما إذا ترك الأقل من طواف العمرة وصرح في الظهيرية بلزوم الدم ولهذا لو طاف للعمرة في جوف الحجر، ولم يعد حتى رجع إلى أهله لزمه؛ لأنه ترك من الطواف ربعه؛ لأن الحجر ربع البيت، وإذا كان ذلك في طواف العمرة ففي طواف الفرض أولى، وأما في الطواف الواجب إذا دخل في جوف الحجر فإنه ينبغي أن تجب فيه الصدقة كذا ذكر الشارح، ولا ينبغي التعبير بينبغي؛ لأن المصنف في المختصر قد صرح بلزوم الصدقة بترك الأقل من طواف الصدر وينبغي أن لا فرق بين الطواف الواجب والتطوع في لزوم الصدقة لما أن الطواف وراء الحطيم واجب في كل طواف‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ أو ترك السعي أو أفاض من عرفات قبل الإمام أو ترك الوقوف بمزدلفة أو رمي الجمار كلها أو رمي يوم‏)‏ أي تجب شاة بترك واجب من واجبات الحج، وقد ذكرناها كلها في أول الكتاب أراد بالترك الترك لغير عذر أما إذا ترك واجبا لعذر فإنه لا شيء عليه كما صرح به في البدائع في ترك السعي أنه إن تركه لعذر فلا شيء عليه، وإن بغير عذر لزمه دم؛ لأن هذا حكم ترك الوجوب في هذا الباب أصله طواف الصدر حيث سقط عن الحائض بالحديث وصرح في الهداية بأن في ترك الوقوف بمزدلفة بغير عذر دما لا لعذر وصرح الولوالجي في فتاويه بأنه لو سعى راكبا من غير عذر لزمه دم إن لم يعده؛ لأن المشي واجب وترك الواجب من غير عذر يوجب الدم، ولو أعاده بعد ما حل وجامع لم يلزمه دم؛ لأن السعي غير مؤقت في نفسه إنما الشرط أن يأتي به بعد الطواف، وقد وجد‏.‏ ا هـ‏.‏ وكذا لو أتى به بعد ما رجع إلى أهله، وعاد إلى مكة لكنه يعود بإحرام جديد كذا ذكره الإسبيجابي، وقيد بتركه كله؛ لأنه لو ترك ثلاثة أشواط أطعم لكل شوط نصف صاع إلا أن يبلغ دما فينقص منه ما شاء وترك أكثره كترك كله، وقد قدمنا أن من الواجبات في السعي الابتداء بالصفا فلو بدأ بالمروة لزمه دم، وأراد بالإفاضة قبل الإمام الدفع من عرفات قبل غروب الشمس سواء كان مع الإمام أو وحده وسواء كان الإمام أو غيره لما أن استدامة الوقوف إلى غروب الشمس واجبة حتى لو أبطأ الإمام بالدفع يجوز للناس الدفع قبله، وهذا الواجب إنما هو في حق من وقف نهارا أما إن وقف ليلا فلا شيء عليه اتفاقا؛ لأن الجزء الأول من وقوفه اعتبر ركنا والجزء الثاني اعتبر واجبا كذا في غاية البيان فإن دفع قبل الغروب ثم عاد إن عاد بعد الغروب ففيه روايتان ظاهر الرواية عدم السقوط والصحيح السقوط؛ لأنه استدرك المتروك كذا في غاية البيان، وإن عاد قبل الغروب ففيه اختلاف‏.‏ والقول بالسقوط أظهر خصوصا على التصحيح السابق بل أولى‏.‏ وقد قدمنا أن وقت الوقوف بمزدلفة من طلوع الفجر وآخره طلوع الشمس فالوقوف في غير وقته كتركه، وإنما وجب دم واحد بترك الجمار في الأيام كلها؛ لأن الجنس متحد كما في الحلق، والترك إنما يتحقق بغروب الشمس من آخر أيام الرمي، وهو الرابع؛ لأنه لم يعرف قربة إلا فيها، وما دامت الأيام باقية فالإعادة ممكنة فيرميها على التأليف ثم بتأخيرها يجب الدم عند أبي حنيفة خلافا لهما، وإن ترك رمي يوم فعليه دم، ولو يوم النحر؛ لأنه نسك تام‏.‏ قيد برمي يوم؛ لأنه لو ترك إحدى الجمار الثلاث فعليه صدقة؛ لأن الكل نسك واحد في يوم فكان المتروك أقل فيلزمه لكل حصاة نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو صاع من شعير إلا أن يبلغ دما فينقص ما شاء إلا أن يكون المتروك أكثر من النصف بأن يترك أحد عشر من أحد وعشرين فحينئذ يلزمه الدم؛ لأن للأكثر حكم الكل وذكر الإسبيجابي أنه إن أخر رمي جمرة العقبة إلى اليوم الثاني لزمه دم، وإن أخر رميها في اليوم الثاني إلى الثالث أو في اليوم الثالث إلى الرابع ورمي الجمرتين لزمه صدقة؛ لأنها في اليوم الأول كل الرمي في ذلك اليوم، وفي غيره ثلث الرمي فيكون مؤخرا للأقل، ولو لم يرم الجمرتين لزمه دم لتأخير الأكثر وعندهما لا شيء عليه للتأخير أصلا‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ أو أخر الحلق أو طواف الركن‏)‏ أي تجب شاة بتأخير النسك عن زمانه فإن الحلق وطواف الزيارة مؤقتان بأيام النحر فإذا أخرهما عن أيام النحر ترك واجبا فيلزمه دم، وكذا بتأخير الرمي عن وقته كما قدمناه، وهذا عند أبي حنيفة وعندهما لا شيء عليه لحديث الصحيحين‏:‏ «لم أشعر حلقت قبل أن أذبح قال افعل ولا حرج، وقال آخر نحرت قبل أن أرمي قال افعل ولا حرج فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم أو أخر إلا قال افعل ولا حرج»‏.‏ وله أن التأخير عن المكان يوجب الدم فيما إذا جاوز الميقات غير محرم فكذا التأخير عن الزمان قياسا والجامع كون التأخير نقصانا والمراد بالحرج المنفي الإثم بدليل أنه قال‏:‏ لم أشعر فعذرهم لعدم العلم بالمناسك قبل ذلك، وقوله عليه السلام‏:‏ «خذوا عني مناسككم» يفيد الوجوب، وعلى هذا الاختلاف إذا قدم نسكا على نسك‏.‏ قال‏:‏ في معراج الدراية اعلم أن ما يفعل في أيام النحر أربعة أشياء الرمي والنحر والحلق والطواف، وهذا الترتيب واجب عند أبي حنيفة ومالك وأحمد‏.‏ ا هـ‏.‏ لأثر ابن مسعود أو ابن عباس من قدم نسكا على نسك لزمه دم وظاهره أنه إذا قدم الطواف على الحلق يلزمه دم عنده، وقد نص في المعراج في مسألة حلق القارن قبل الذبح أنه إذا قدم الطواف على الحلق لا يلزمه شيء فالحاصل أنه إن حلق قبل الرمي لزمه دم مطلقا، وإن ذبح قبل الرمي لزمه دم إن كان قارنا أو متمتعا لا إن كان مفردا؛ لأن أفعاله ثلاثة الرمي والحلق والطواف، وأما ذبحه فليس بواجب فلا يضره تقديمه وتأخيره وعندهما لا يلزمه شيء بتقديم نسك على نسك للحديث السابق إلا أنه مسيء نص عليه في المبسوط قيد بحلق الحج وطوافه؛ لأن حلق العمرة وطوافها ليسا بمؤقتين بالزمان فلا يلزمه بتأخيرهما شيء، وكذا طواف الصدر، وقيد بالطواف؛ لأنه لا يلزمه بتأخير السعي شيء لعدم توقيته بزمان‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ أو حلق في الحل‏)‏ أي تجب شاة بتأخير النسك عن مكانه كما إذا خرج من الحرم وحلق رأسه سواء كان الحلق للحج أو للعمرة عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف لا شيء عليه؛ لأن «النبي عليه السلام، وأصحابه أحصروا بالحديبية وحلقوا في غير الحرم»، ولهما القياس على الذبح وبعض الحديبية من الحرم فلعلهم حلقوا فيه مع أن المحصر لا حلق عليه، وإن فعل فحسن كما في المحيط وغيره، وقوله عليه السلام‏:‏ «خذوا عني مناسككم» فالحاصل أن الحلق يتوقت بالمكان والزمان عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف لا يتوقت بهما، وعند محمد يتوقت بالمكان دون الزمان، وعند زفر على عكسه، وهذا الخلاف في التوقيت في حق التضمين بالدم أما لا يتوقت في حق التحلل بالاتفاق‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ودمان لو حلق القارن قبل الذبح‏)‏ أي يجب دمان عند أبي حنيفة بتقديم القارن أو المتمتع الحلق على الذبح وعندهما يلزمه دم واحد، وقد نص ضابط المذهب محمد بن الحسن في الجامع الصغير على أن أحد الدمين دم القران والآخر لتأخير النسك عن وقته، وأن عندهما يلزم دم القران فقط لكن وقع لكثير من المشايخ اشتباه بسبب ذكر الدمين في باب الجناية فإن الظاهر من العبارات أن الدمين لأجل الجناية، وإلا كان ذكر الدم الواحد كافيا للعلم بدم القران من بابه، ومنهم صاحب الهداية فإنه قال‏:‏ فعليه دمان عند أبي حنيفة دم بالحلق في غير أوانه؛ لأن أوانه بعد الذبح ودم لتأخير الذبح عن الحلق وعندهما يجب دم واحد، وهو الأول، ولا يجب بسبب التأخير شيء‏.‏ ا هـ‏.‏ فجعل الدمين للجناية فنسبه في غاية البيان إلى التخبيط، وإلى التناقض فإنه جعل في باب القران أحدهما للشكر والآخر للجناية ونسبه في فتح القدير إلى أنه سهو من القلم؛ لأنه لو وجب ذلك لزم في كل تقديم نسك على نسك دمان؛ لأنه لا ينفك عن الأمرين، ولا قائل به‏.‏ ولوجب في حلق القارن قبل الذبح ثلاثة دماء في تفريع من يقول‏:‏ إن إحرام عمرته انتهى بالوقوف، وفي تفريع من لا يراه كما قدمناه خمسة دماء؛ لأنه جناية على إحرامين والتقديم والتأخير جنايتان ففيهما أربعة دماء ودم القران‏.‏ ا هـ‏.‏ وهكذا في النهاية والعناية، ولم أر جوابا عنه وظهر لي أنه لا تخبيط، ولا سهو من صاحب الهداية لما أن في المسألة اختلافا فما في الهداية مبني على قول بعضهم أنه يلزمه دم بالحلق في غير أوانه إجماعا كما صرح به في معراج الدراية وغيرها ويجب دم القران إجماعا ووقع الاختلاف بينهم في الدم الثالث فهاهنا مشى على هذا القول، وأما قوله قريبا‏:‏ وقالا لا شيء عليه في الوجهين، وذكر منه ما إذا حلق قبل الذبح فهو بناء على أصل الرواية المنقولة في الجامع الصغير عنهما أو معناه لا شيء عليه عندهما بسبب التأخير، وأما بسبب الجناية فيقولان بوجوب الدم وبهذا اندفع ما في العناية، وأما التناقض الذي ذكره صاحب الغاية فممنوع؛ لأن ما ذكره في باب القران من لزوم دم واحد لو حلق قبل الذبح فإنما هو لمن عجز عن الهدي كما هو صورة المسألة فلم يكن جانيا بالحلق في غير أوانه؛ لأن الشارع أباح له التحلل بالحلق، وإنما قدم نسكا على نسك فقط فلزمه دم، وأما ما ذكره هنا من لزوم دمين لو حلق قبل الذبح فإنما هو لكونه جناية؛ لأن الحلق لا يحل له قبل الذبح لقدرته عليه فكان جانيا مؤخرا فلزمه دمان، وأما إلزام أن ذلك يوجب دمين فيما إذا قدم نسكا على نسك؛ لأنه لا ينفك عن الأمرين، ولم يقل به أبو حنيفة فممنوع أيضا؛ لأن الحلق قبل الذبح لا يحل فكان جناية على الإحرام بخلاف الذبح قبل الرمي فإنه ليس بجناية؛ لأنه مباح مشروع في نفسه، وإنما لم يكن نسكا كاملا إذا قدمه فكيف يوجب دما، وليس بجناية، وإنما يجب دم واحد باعتبار التقديم وبهذا يعلم أنه لو حلق قبل الرمي فهو كما لو حلق قبل الذبح بالأولى‏.‏ وأما قوله‏:‏ لوجب ثلاثة دماء فنلتزمه؛ لأنه على هذا القول يلزمه ثلاثة دماء دمان للجناية ودم القران، وأما لزوم خمسة دماء فممنوع على كل قول؛ لأن جناية القارن إنما تكون مضمونة بدمين فيما على المفرد فيه دم والمفرد لو حلق قبل الذبح لا يلزمه شيء فلا يتضاعف الغرم على القارن هكذا أجاب في العناية، وأجاب في غاية البيان بأن التضاعف على القارن إنما يكون فيما إذا أدخل نقصا في إحرام عمرته أما فيما لا يوجب نقصا فيه فلا يجب إلا دم واحد كما قدمناه فإنه قد أتى بركنها وواجبها ولهذا إذا أفاض القارن قبل الإمام أو طاف للزيارة جنبا أو محدثا لا يلزمه إلا دم واحد؛ لأنه لا تعلق للعمرة بالوقوف وطواف الزيارة، وعلى تقدير أن يكون جناية القارن مضمونة بدمين مطلقا فإنه يلزمه أربعة دماء لا خمسة؛ لأن حلقه قبل أوانه جناية توجب دمين وتقديم النسك على النسك يوجب دما واحدا ودم القران، ولا يمكن أن يتعدد دم القران، ولا يمكن أن يتعدد دم التقديم باعتبار أنه جناية؛ لأن الجناية على الحلق قبل أوانه، وقد وجب فيها دمان فلا يجب شيء آخر هذا ما ظهر لي في توجيه كلام الهداية لكن المذهب خلافه كما قدمناه، والله أعلم‏.‏