فصل: تفسير الآيات رقم (107- 110)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 78‏]‏

‏{‏فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ‏(‏71‏)‏ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏72‏)‏ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ‏(‏73‏)‏ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ‏(‏74‏)‏ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏75‏)‏ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ‏(‏76‏)‏ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ‏(‏77‏)‏ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ‏(‏78‏)‏‏}‏

السفينة معروفة وتجمع على سفن وعلى سفائن، وتحذف التاء فيقال سفينة وسفين وهو مما بينه وبين مفردة تاء التأنيث وهو كثير في المخلوق نادر في المصنوع، نحو عمامة وعمام‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

متى تأته تأت لج بحر *** تقاذف في غوار به السفين

الأمر البشع من الأمور كالداهية والأد ونحوه‏.‏ الجدار معروف ويجمع على جدر وجدران‏.‏ انقض سقط، ومن أبيات معاياة الأعراب‏:‏

مرّ كما انقضّ على كوكب *** عفريت جن في الدجى الأجدل

عاب الرجل ذكر وصفاً فيه يذم به، وعاب السفينة أحدث فيها ما تنقص به‏.‏

‏{‏فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً قال ألم أقل لك أنك لن تستطيع معي صبراً قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله قال أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقضّ فأقامه قال لو شئت لتخذت عليه أجراً قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً‏}‏‏.‏

‏{‏فانطلقا‏}‏ أي موسى والخضر وكان معهم يوشع ولم يضمر لأنه في حكم التبع‏.‏ وقيل‏:‏ كان موسى قد صرفه وردّه إلى بني إسرائيل‏.‏ والألف واللام في ‏{‏السفينة‏}‏ لتعريف الجنس إذ لم يتقدم عهد في سفينة مخصوصة‏.‏ وروي في كيفية ركوبهما السفينة وخرقها وسدها أقوال، والمعتمد ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما قالا‏:‏ ‏"‏ «فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلاّ والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى‏:‏ قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها ‏{‏لتغرق أهلها‏}‏ إلى قوله ‏{‏عسراً‏}‏» قال‏:‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وكان الأول من موسى نسياناً قال‏:‏ وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر فقال له الخضر‏:‏ ما علمي وعلمك من علم الله إلاّ مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر» ‏"‏ واللام في ‏{‏لتغرق أهلها‏}‏‏.‏ قيل‏:‏ لام العاقبة‏.‏ وقيل‏:‏ لام العلة‏.‏ وقرأ زيد بن عليّ والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وحمزة والكسائي وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني ليغرق بفتح الياء والراء وسكون الغين ‏{‏أهلها‏}‏ بالرفع‏.‏ وقرأ باقي السبعة بضم تاء الخطاب وإسكان الغين وكسر الراء ونصب لام ‏{‏أهلها‏}‏‏.‏ وقرأ الحسن وأبو رجاء كذلك إلاّ أنهما فتحا الغين وشددا الراء‏.‏

ثم ذكره الخضر بما سبق له من نفي استطاعته الصبر لما يرى فقال ‏{‏لا تؤاخذني بما نسيت‏}‏ والظاهر حمل النسيان على وضعه‏.‏ وقد قال عليه السلام‏:‏ «كانت الأولى من موسى نسياناً» والمعنى أنه نسي العهد الذي كان بينهما من عدم سؤاله حتى يكون هو المخبر له أولاً وهذا قول الجمهور‏.‏ وعن أُبيّ ابن كعب أنه ما نسي ولكن قوله هذا من معاريض الكلام‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ أراد أنه نسي وصيته ولا مؤاخذة على الناسي، أو أخرج الكلام في معرض النهي عن المؤاخذة بالنسيان توهمه أنه نسي ليبسط عذره في الإنكار وهو من معاريض الكلام التي ينفي بها الكذب مع التوصل إلى الغرض كقول إبراهيم عليه السلام‏.‏ هذه أختي وإني سقيم‏:‏ أو أراد بالنسيان الترك أي ‏{‏لا تؤاخذني‏}‏ بما تركت من وصيتك أول مرة انتهى‏.‏

وقد بيَّن ابن عطية كلام أبيّ بكلام طويل يوقف عليه في كتابه، ولا يعتمد إلاّ قول الرسول‏:‏ «كانت الأَولى من موسى نسياناً»‏.‏ ‏{‏ولا ترهقني‏}‏ لا تغشني وتكلفني ‏{‏من أمري‏}‏ وهو اتباعك ‏{‏عسراً‏}‏ أي شيئاً صعباً، بل سهِّل عليّ في متابعتك بترك المناقشة‏.‏ وقرأ أبو جعفر ‏{‏عسراً‏}‏ بضم السين حيث وقع فانطلقا في الكلام حذف تقديره فخرجا من السفينة ولم يقع غرق بأهلها، فانطلقا فبينما هما يمشيان على الساحل إذا بصر الخضر ‏{‏غلاماً‏}‏ يلعب مع الصبيان وفي بعض الروايات فمر بغلمان يلعبون فعمد الخضر إلى غلام حسن الهيئة وضيء الوجه فاقتلع رأسه‏.‏ وقيل‏:‏ رضه بحجر‏.‏ وقيل‏:‏ ذبحه‏.‏ وقيل‏:‏ فتل عنقه‏.‏ وقيل‏:‏ ضرب برأسه الحائط‏.‏ قيل‏:‏ وكان هذا الغلام لم يبلغ الحلم ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أقتلت نفساً زكية‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ كان الغلام بالغاً شاباً، والعرب تبقي على الشاب اسم الغلام‏.‏ ومنه قول ليلى الأخيلية في الحجاج‏:‏

شفاها من الداء الذي قد أصابها *** غلام إذا هز القناة سقاها

وقال آخر‏:‏

تلق ذباب السيف عني فإنني *** غلام إذا هو جيت لست بشاعر

وقيل‏:‏ أصله من الاغتلام وهو شدّة الشبق، وذلك إنما يكون في الشباب الذين قد بلغوا الحلم ويتناول الصبي الصغير تجوّزاً تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه‏.‏ ‏(‏واختلف في اسم هذا الغلام واسم أبيه واسم أمه‏)‏ ولم يرد شيء من ذلك في الحديث‏.‏ وفي الخبر أن هذا الغلام كان يفسد ويقسم لأبويه أنه ما فعل فيقسمان على قسمه ويحميانه ممن يطلبه‏.‏

وحكى القرطبي عن صاحب العرس والعرائس أن موسى عليه السلام لما قال للخضر ‏{‏أقتلت نفساً زكية‏}‏ غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر وقشر اللحم عنه، وإذا في عظم كتفه مكتوب كافر لا يؤمن بالله أبداً‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ لم قيل ‏{‏خرقها‏}‏ بغير فاء و‏{‏فقتله‏}‏ بالفاء‏؟‏ قلت‏:‏ جعل خرقها جزاء للشرط، وجعل قتله من جملة الشرط معطوفاً عليه والجزاء قال ‏{‏أقتلت‏}‏‏:‏ فإن قلت‏:‏ فلم خولف بينهما‏؟‏ قلت‏:‏ لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب وقد تعقب القتل لقاء الغلام انتهى‏.‏

ومعنى ‏{‏زكية‏}‏ طاهرة من الذنوب، ووصفها بهذا الوصف لأنه لم يرها أذنبت، قيل أو لأنها صغيره لم تبلغ الحنث‏.‏ وقوله ‏{‏بغير نفس‏}‏ يرده ويدل على كبر الغلام وإلاّ فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس ولا بغير نفس‏.‏ وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد والزهري ونافع واليزيدي وابن مسلم وزيد وابن بكير عن يعقوب والتمار عن رويس عنه وأبو عبيد وابن جبير الأنطاكي وابن كثير وأبو عمرو زاكية بالألف‏.‏ وقرأ زيد بن عليّ والحسن والجحدري وابن عامر والكوفيون ‏{‏زكية‏}‏ بغير ألف وبتشديد الياء وهي أبلغ من زاكية لأن فعيلا المحول من فاعل يدل على المبالغة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏نكراً‏}‏ بإسكان الكاف‏.‏ وقرأ نافع وأبو بكر وابن ذكوان وأبو جعفر وشيبة وطلحة ويعقوب وأبو حاتم برفع الكاف حيث كان منصوباً‏.‏ والنكر قيل‏:‏ أقل من الأمر لأن قتل نفس واحدة أهون من إعراق أهل السفينة‏.‏ وقيل‏:‏ معناه شيئاً أنكر من الأول، لأن الخرق يمكن سده والقتل لا سبيل إلى تدارك الحياة معه‏.‏ وفي قوله ‏{‏لك‏}‏ زجر وإغلاظ ليس في الأول لأن موقعه التساؤل بأنه بعد التقدم إلى ترك السؤال واستعذار موسى بالنسيان أفظع وأفظع في المخالفة لما كان أخذ على نفسه من الصبر وانتفاء العصيان‏.‏

‏{‏قال إن سألتك عن شيء بعدها‏}‏ أي بعد هذه القصة أو بعد هذه المسألة ‏{‏فلا تصاحبني‏}‏ أي فأوقع الفراق بيني وبينك‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏فلا تصاحبني‏}‏ من باب المفاعلة‏.‏ وقرأ عيسى ويعقوب فلا تصحبني مضارع صحب وعيسى أيضاً بضم التاء وكسر الحاء مضارع أصحب، ورواها سهل عن أبي عمرو أي فلا تصحبني علمك وقدره بعضهم فلا تصحبني إياك وبعضهم نفسك‏.‏ وقرأ الأعرج بفتح التاء والباء وشد النون‏.‏ ومعنى ‏{‏قد بلغت من لدني عذراً‏}‏ أي قد اعتذرت إليّ وبلغت إلى العذر‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏من لدني‏}‏ بإدغام نون لدن في نون الوقاية التي اتصلت بياء المتكلم‏.‏ وقرأ نافع وعاصم بتخفيف النون وهي نون لدن اتصلت بياء المتكلم وهو القياس، لأن أصل الاسماء إذا أضيفت إلى ياء المتكلم لم تلحق نون الوقاية نحو غلامي وفرسي، وأشم شعبة الضم في الدال، وروي عن عاصم سكون الدال‏.‏ قال ابن مجاهد‏:‏ وهو غلط وكأنه يعني من جهة الرواية، وأما من حيث اللغة فليست بغلط لأن من لغاتها لد بفتح اللام وسكون الدال‏.‏ وقرأ عيسى ‏{‏عذراً‏}‏ بضم الذال ورويت عن أبي عمرو وعن أبي عذري بكسر الراء مضافاً إلى ياء المتكلم‏.‏ وفي البخاري قال‏:‏ «يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر حتى يقص علينا من أمرهما»

وأسند الطبري قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا لأحد بدأ بنفسه فقال‏:‏ «رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأى العجب» ولكنه قال ‏{‏فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً‏}‏‏.‏

والقرية التي أتيا أهلها إنطاكية أو الأبلة أو بجزيرة الأندلس وهي الجزيرة الخضراء، أو برقة أو أبو حوران بناحية أذربيجان، أو ناصرة من أرض الروم أو قرية بأرمينية أقوال مضطربة بحسب اختلافهم في أي ناحية من الأرض كانت قصة والله أعلم بحقيقة ذلك‏.‏ وفي الحديث أنهما كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم وهذه عبرة مصرحة بهوان الدنيا على الله تعالى‏.‏ وتكرر لفظ ‏{‏أهل‏}‏ على سبيل التوكيد، وقد يظهر له فائدة عن التوكيد وهو أنهما حين ‏{‏أتيا أهل القرية‏}‏ لم يأتيا جميع أهل القرية إنما أتيا بعضهم، فلما قال ‏{‏استطعما‏}‏ احتمل أنهما لم يستطعما إلاّ ذلك البعض الذي أتياه فجيء بلفظ أهلها ليعم جميعهم وأنهم يتبعونهم واحداً واحداً بالاستطعام، ولو كان التركيب استطعماهم لكان عائداً على البعض المأتي‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يضيّفوهما‏}‏ بالتشديد من ضيف‏.‏ وقرأ ابن الزبير والحسن وأبو رجاء وأبو رزين وابن محيصن وعاصم في رواية المفضل وأبان بكسر الضاد وإسكان الياء من أضاف، كما تقول ميّل وأمال، وإسناد الإرادة إلى الجدار من المجاز البليغ والاستعارة البارعة وكثيراً ما يوجد في كلام العرب إسناد أشياء تكون من أفعال العقلاء إلى ما لا يعقل من الحيوان وإلى الجماد، أو الحيوان الذي لا يعقل مكان العاقل لكان صادراً منه ذلك الفعل‏.‏ وقد أكثر الزمخشري وغيره من إيراد الشواهد على ذلك ومن له أدنى مطالعة لكلام العرب لا يحتاج إلى شاهد في ذلك‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ ولقد بلغني أن بعض المحرفين لكلام الله ممن لا يعلم كان يجعل الضمير للخضر لأن ما كان فيه من آفة الجهل وسقم الفهم أراه أعلى الكلام طبقة أدناه منزلة، فتمحل ليرده إلى ما هو عنده أصح وأفصح، وعنده أن ما كان أبعد من المجاز أدخل في الإعجاز انتهى‏.‏ وما ذكره أهل أصول الفقه عن أبي بكر محمد بن داود الأصبهاني من أنه ينكر المجاز في القرآن لعله لا يصح عنه، وكيف يكون ذلك وهو أحد الأدباء الشعراء الفحول المجيدين في النظم والنثر‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ينقض‏}‏ أي يسقط من انقضاض الطائر، ووزنه انفعل نحو انجر‏.‏ قال صاحب اللوامح‏:‏ من القضة وهي الحصى الصغار، ومنه طعام قضض إذا كان فيه حصى، فعلى هذا ‏{‏يريد أن ينقض‏}‏ أي يتفتت فيصير حصاة انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ وزنه أفعّل من النقض كاحمر‏.‏ وقرأ أبي ‏{‏ينقض‏}‏ بضم الياء وفتح القاف والضاد مبنياً للمفعول من نقضته وهي مروية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي حرف عبد الله وقراءة الأعمش يريد لينقض كذلك إلاّ أنه منصوب بأن المقدرة بعد اللام‏.‏ وقرأ علي وعكرمة وأبو شيخ خيوان بن خالد الهنائي وخليد بن سعد ويحيى بن يعمر ينقاص بالصاد غير معجمة مع الألف، ووزنه ينفعل اللازم من قاص يقيص إذا كسرته تقول‏:‏ قصيته فانقاص‏.‏ قال ابن خالويه‏:‏ وتقول العرب انقاصت السنّ إذا انشقت طولاً‏.‏ قال ذو الرمة‏:‏ منقاص ومنكثب‏.‏ وقيل‏:‏ إذا تصدعت كيف كان‏.‏ ومنه قول أبي ذؤيب‏:‏

فراق كقص السن فالصبر إنه *** لكل أناس عشرة وحبور

وقرأ الزهري‏:‏ ينقاض بألف وضاد معجمة وهو من قولهم‏:‏ قضته معجمة فانقاض أي هدمته فانهدم‏.‏ قال أبو عليّ‏:‏ والمشهور عن الزهري بصاد غير معجمة‏.‏

‏{‏فأقامه‏}‏ الظاهر أنه لم يهدمه وبناه كما ذهب إليه بعضهم من أنه هدمه وقعد يبنيه‏.‏ ووقع هذا في مصحف عبد الله وأيد بقوله ‏{‏لتخذت عليه أجراً‏}‏ لأن بناءه بعد هدمه يستحق عليه أجراً‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ مسحه بيده وأقامه فقام‏.‏ وقيل‏:‏ أقامه بعمود عمده به‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ سوّاه بالشيد أي لبسه به وهو الجيار‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ دفعه بيده فاستقام وهذا أليق بحال الأنبياء‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ كانت الحال حال اضطرار وافتقار إلى المطعم وقد لزتهما الحاجة إلى آخر كسب المرء وهو المسألة فلم يجدا مواسياً، فلما أقام الجدار لم يتمالك موسى لما رأى من الحرمان ومساس الحاجة أن ‏{‏قال‏:‏ لو شئت لاتخذت عليه أجراً‏}‏ وطلبت على عملك جعلاً حتى تنتعش به وتستدفع الضرورة انتهى‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقوله ‏{‏لو شئت لاتخذت عليه أجراً‏}‏ وإن لم يكن سؤالاً ففي ضمنه الإنكار لفعله، والقول بتصويب أخذ الأجر وفي ذلك تخطئة ترك الأجر انتهى‏.‏ وقرأ عبد الله والحسن وقتادة وابن بحرية ولتخذت بتاء مفتوحة وخاء مكسورة، يقال تخذ واتخذ نحو تبع واتبع، افتعل من تخذ وأدغم التاء في التاء‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها *** نسيفاً كأفحوص القطاة المطرق

والتاء أصل عند البصريين وليس من الأخذ، وزعم بعضهم أن الاتخاذ افتعال من الأخذ وأنهم ظنوا التاء أصلية فقالوا في الثلاثي تخذ كما قالوا تقي من اتقى‏.‏ والظاهر أن هذا إشارة إلى قوله ‏{‏لو شئت‏}‏ أي هذا الإعراض سبب الفراق ‏{‏بيني وبينك‏}‏ على حسب ما سبق من ميعاده‏.‏ أنه قال ‏{‏إن سألتك‏}‏ وهذه الجملة وإن لم تكن سؤالاً فإنها تتضمنه، إذ المعنى ألم تكن تتخذ عليه أجراً لاحتياجنا إليه‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ قد تصور فراق بينهما عند حلول ميعاده على ما قال موسى عليه السلام ‏{‏إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني‏}‏ فأشار إليه وجعله مبتدأ وأخبر عنه كما تقول‏:‏ هذا أخوك فلا يكون هذا إشارة إلى غير الأخ انتهى‏.‏ وفيما قاله نظر‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏فراق بيني‏}‏ بالتنوين والجمهور على الإضافة‏.‏ والبين قال ابن عطية‏:‏ الصلاح الذي يكون بين المصطحبين ونحوهما، وذلك مستعار فيه من الظرفية ومستعمل استعمال الأسماء، وتكريره ‏{‏بيني وبينك‏}‏ وعدوله عن بيننا لمعنى التأكيد‏.‏ ‏{‏سأنبئك‏}‏ أي سأخبرك ‏{‏بتأويل‏}‏ ما رأيت من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار، أي بما آل إليه الأمر فيما كان ظاهره أن لا يكون‏.‏ وقرأ ابن وثاب سأنبيك بإخلاص الياء من غير همز‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ كان قول موسى في السفينة وفي الغلام لله، وكان قوله في الجدار لنفسه لطلب شيء من الدنيا فكان سبب الفراق‏.‏ وقال أرباب المعاني‏:‏ هذه الأمثلة التي وقعت لموسى مع الخضر حجة على موسى وإعجاله، وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة نودي‏:‏ يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحاً في اليم‏؟‏ فلما أنكر قتل الغلام قيل له‏:‏ أين إنكارك هذا من وكز القبطي وقضائك عليه‏؟‏ فلما أنكر إقامة الجدار نودي أين هذا من رفعك الحجر لبنات شعيب دون أجرة‏؟‏ ‏{‏سأنبئك‏}‏ في معاني هذا معك ولا أفارقك حتى أوضح لك ما استبهم عليك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 82‏]‏

‏{‏أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ‏(‏79‏)‏ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ‏(‏80‏)‏ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ‏(‏81‏)‏ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ‏(‏82‏)‏‏}‏

روي أن موسى عليه السلام لما عزم الخضر على مفارقته أخذ بثيابه، وقال‏:‏ لا أفارقك حتى تخبرني بمَ أباح لك فعل ما فعلت، فلما التمس ذلك منه أخذ في البيان والتفصيل، فقال‏:‏ ‏{‏أما السفينة‏}‏ فبدأ بقصة ما وقع له أولاً‏.‏ قيل‏:‏ كانت لعشرة إخوة، خمسة زمني وخمسة يعملون في البحر‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا أجراء فنسبت إليهم للاختصاص‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ مساكين بتخفيف السين جمع مسكين‏.‏ وقرأ عليّ كرم الله وجهه بتشديد السين جمع مساك جمع تصحيح‏.‏ فقيل‏:‏ المعنى ملاحين، والمساك الذي يمسك رجل السفينة وكل منهم يصلح لذلك‏.‏ وقيل‏:‏ المساكون دبَغَة المسوك وهي الجلود واحدها مسك، والقراءة الأولى تدل على أن السفينة كانت لقوم ضعفاء ينبغي أن يشفق عليهم، واحتج بهذه الآية على أن المسكين هو الذي له بلغة من العيش كالسفينة لهؤلاء، وأنه أصلح حالاً من الفقير‏.‏ وقوله ‏{‏فأردت‏}‏ فيه إسناد إرادة العيب إليه‏.‏ وفي قوله‏:‏ فأراد ربك أن يبلغا لما في ذكر العيب ما فيه فلم يسنده إلى الله، ولما في ذلك من فعل الخير أسنده إلى الله تعالى‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ قوله ‏{‏فأردت أن أعيبها‏}‏ مسبب عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب فلم قدم عليه‏؟‏ قلت‏:‏ النية به التأخير، وإنما قدم للعناية ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده، ولكن مع كونها ‏{‏لمساكين‏}‏ فكان بمنزلة قولك‏:‏ زيد ظني مقيم‏.‏

وقيل في قراءة أبيّ وعبد الله كل سفينة صالحة انتهى‏.‏ ومعنى ‏{‏أن أعيبها‏}‏ بخرقها‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏وراءهم‏}‏ وهو لفظ يطلق على الخلف وعلى الأمام، ومعناه هنا أمامهم‏.‏ وكذا قرأ ابن عباس وابن جبير‏.‏ وكون ‏{‏وراءهم‏}‏ بمعنى أمامهم قول قتادة وأبي عبيد وابن السكيت والزجاج، ولا خلاف عند أهل اللغة أن وراء يجوز بمعنى قدام، وجاء في التنزيل والشعر قال تعالى ‏{‏من ورائه جهنم‏}‏ وقال ‏{‏ومن ورائه عذاب غليظ‏}‏ وقال ‏{‏ومن ورائهم برزخ‏}‏ وقال لبيد‏:‏

أليس ورائي إن تراخت منيتي *** لزوم العصا يحني عليها الأصابع

وقال سوار بن المضرب السعدي‏:‏

أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي *** وقومي تميم والفلاة ورائيا

وقال آخر‏:‏

أليس ورائي أن أدب على العصا *** فتأمن أعداء وتسأمني أهلي

وقال ابن عطية‏:‏ وقوله ‏{‏وراءهم‏}‏ عندي هو على بابه، وذلك أن هذه الالفاظ إنما تجيء يراعى بها الزمن، والذي يأتي بعد هو الوراء وهو ما خلف، وذلك بخلاف ما يظهر بادي الرأي، وتأمل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت تجدها تطرد، فهذه الآية معناها أن هؤلاء وعملهم وسعيهم يأتي بعده في الزمن غصب هذا الملك، ومن قرأ أمامهم أراد في المكان أي إنهم كانوا يسيرون إلى بلده وقوله تعالى في التوراة والإنجيل‏.‏

إنها بين يدي القرآن، مطرد على ما قلناه في الزمن‏.‏ وقوله ‏{‏من ورائهم جهنم‏}‏ مطرد كما قلنا من مراعاة الزمن‏.‏ وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الصلاة أمامك» يريد في المكان، وإلاّ فكونهم في ذلك الوقت كان أمام الصلاة في الزمن‏.‏ وتأمل هذه المقالة فإنها مريحة من شغب هذه الألفاظ ووقع لقتادة في كتب الطبري ‏{‏وكان وراءهم ملك‏}‏‏.‏ قال قتادة‏:‏ أمامهم ألا ترى أنه يقول ‏{‏من ورائهم جهنم‏}‏ وهي من بين أيديهم، وهذا القول غير مستقيم وهذه هي العجة التي كان الحسن بن أبي الحسن يضج منها قاله الزجّاج‏.‏ ويجوز أن كان رجوعهم في طريقهم على الغاصب فكان وراءهم حقيقة انتهى‏.‏ وهو كلام فيه تكثير وكأنه ينظر إلى ما قاله الفراء‏.‏ قال الفراء‏:‏ لا يجوز أن يقال للرجل بين يديك هو وراءك، إنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي والأيام والدهر تقول‏:‏ وراءك برد شديد، وبين يديك برد شديد جاز الوجهان لأن البرد إذا لحقك صار من ورائك، وكأنك إذا بلغته صار بين يديك‏.‏ قال‏:‏ إنما جاز هذا في اللغة لأن ما بين يديك وما قدامك إذا توارى عنك فقد صار وراءك‏.‏

وقال أبو علي‏:‏ إنما جاز استعمال وراء بمعنى أمام على الاتساع لأنها جهة مقابلة لجهة فكانت كل واحدة من الجهتين وراء الأخرى إذا لم يرد معنى المواجهة، ويجوز ذلك في الأجرام التي لا وجه لها مثل حجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر، وأكثر أهل اللغة على أن وراء من الأضداد انتهى‏.‏

قيل‏:‏ واسم هذا الملك هدد بن بدد وكان كافراً‏.‏ وقيل‏:‏ الجلندي ملك غسان، وقوله ‏{‏فكان أبواه مؤمنين‏}‏ في هذا حذف وهو أن المعنى وكان كافراً وكذا وجد في مصحف أبيّ‏.‏ وقرأ ابن عباس‏:‏ ‏{‏وأما الغلام فكان‏}‏ كافراً وكان ‏{‏أبواه مؤمنين‏}‏ ونص في الحديث على أنه كان كافراً مطبوعاً على الكفر، ويراد بأبويه أبوه وأمه ثنى تغليباً من باب القمرين في القمر والشمس، وهي تثنية لا تنقاس‏.‏ وقرأ أبو سعيد الخدري والجحدري‏:‏ فكان أبواه مؤمنان، فخرجه الزمخشري وابن عطية وأبو الفضل الرازي على أن في كان ضمير الشأن، والجملة في موضع خبر لكان، وأجاز أبو الفضل الرازي على أن في كل ضمير الشأن والجملة في موضع خبر لكان، وأجاز أبو الفضل الرازي أن يكون مؤمنان على لغة بني الحارث بن كعب، فيكون منصوباً، وأجاز أيضاً أن يكون في كان ضمير الغلام والجملة خبر كان‏.‏

‏{‏فخشينا‏}‏ أي خفنا أن يغشى الوالدين المؤمنين ‏{‏طغياناً‏}‏ عليهما ‏{‏وكفراً‏}‏ لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه، ويلحق بهما شراً وبلاءً، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفرة، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان، وطاغ كافر أو يعديهما بدائه ويضلهما بضلاله فيرتدا بسببه ويطغيا ويكفرا بعد الإيمان‏.‏ وإنما خشي الخضر منه ذلك لأن الله عز وعلا أعلمه بحاله وأطلعه على سرائر أمره وأمره بقتله كاخترامه لمفسدة عرفها في حياته‏.‏

وفي قراءة أُبيّ فخاف ربك، والمعنى فكره ربك كراهة من خاف سوء عاقبة الأمر فغيره‏.‏ ويجوز أن يكون قوله ‏{‏فخشينا‏}‏ حكاية لقول الله عز وجل بمعنى فكرهنا كقوله ‏{‏لأهب لك‏}‏ قاله الزمخشري‏.‏ وفي قوله كاخترامه لمفسدة عرفها في حياته مذهب المعتزلة في قولهم بالأجلين، والظاهر إسناد فعل الخشية في خشينا إلى ضمير الخضر وأصحابه الصالحين الذين أهمهم الأمر وتكلموا‏.‏ وقيل‏:‏ هو في جهة الله وعنه عبر الخضر وهو الذي قال فيه الزمخشري، ويجوز أن يكون إلى آخر كلامه‏.‏ قال الطبري‏:‏ ومعناه وقال‏:‏ معناه فكر هنا‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والأظهر عندي في توجيه هذا التأويل وإن كان اللفظ يدافعه أنها استعارة أي على ظن المخلوقين، والمخاطب لو علموا حاله لوقعت منهم خشية الرهق للوالدين‏.‏

وقرأ ابن مسعود فخاف ربك، وهذا بين الاستعارة في القرآن في جهة الله تعالى من لعل وعسى فإن جميع ما في هذا كله من ترج وتوقع وخوف وخشية إنما هو بحسبكم أيها المخاطبون‏.‏ و‏{‏يرهقهما‏}‏ معناه يجشمهما ويكلفهما بشدة، والمعنى أن يلقيهما حبه في اتبّاعه‏.‏ وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة وحميد والأعمش وابن جرير ‏{‏أن يبدلهما‏}‏ بالتشديد هنا وفي التحريم والقلم‏.‏ وقرأ باقي السبعة والحسن وابن محيصن بالتخفيف، والزكاة هنا الطهارة والنقاء من الذنوب وما ينطوي عليه من شرف الخلق والسكينة، والرحم والرحمة العطف مصدران كالكثر والكثرة، وافعل هنا ليست للتفضيل لأن ذلك الغلام لا زكاة فيه ولا رحمة‏.‏ والظاهر أن قوله ‏{‏وأقرب رحماً‏}‏ أي رحمة والديه وقال ابن جريج‏:‏ يرحمانه‏.‏ وقال رؤبة بن العجاج‏:‏

يا منزل الرحم على إدريسا *** ومنزل اللعن على إبليسا

وقرأ ابن عامر وأبو جعفر في رواية ويعقوب وأبو حاتم ‏{‏رحماً‏}‏ بضم الحاء‏.‏ وقرأ ابن عباس ‏{‏رحماً‏}‏ بفتح الراء وكسر الحاء‏.‏ وقيل الرحم من الرحم والقرابة أي أو صل للرحم‏.‏ قيل‏:‏ ولدت غلاماً مسلماً‏.‏ وقيل‏:‏ جارية تزوجها نبي فولدت نبياً هدى الله على يديه أمة من الأمم‏.‏ وقيل‏:‏ ولدت سبعين نبياً‏.‏ رُوي ذلك عن ابن عباس‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا بعيد ولا تعرف كثرة الأنبياء إلاّ في بني إسرائيل، ولم تكن هذه المرأة منهم انتهى‏.‏ ووصف الغلامين باليتم يدل على أنهما كانا صغيرين‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «لا يتم بعد بلوغ» أي كانا ‏{‏يتيمين‏}‏ على معنى الشفقة عليهما‏.‏ قيل‏:‏ واسمهما أصرم وصريم، واسم أبيهما كاشح واسم أمهما دهنا، والظاهر في الكنز أنه مال مدفون جسيم ذهب وفضة قاله عكرمة وقتادة‏.‏ وقال ابن عباس وابن جبير‏:‏ كان علماً في مصحف مدفونة‏.‏ وقيل‏:‏ لوح من ذهب فيه كلمات حكمة وذكر، وقد ذكرها المفسرون في كتبهم ولا نطول بذكرها، والظاهر أن أباهما هو الأقرب إليهما الذي ولدهما دنية‏.‏

وقيل‏:‏ السابع‏.‏ وقيل‏:‏ العاشر وحفظ هذان الغلامان بصلاح أبيهما‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «إن الله يحفظ الرجل الصالح في ذريته» وانتصب ‏{‏رحمة‏}‏ على المفعول له وأجاز الزمخشري أن ينصب على المصدر بأراد قال‏:‏ لأنه في معنى رحمهما، وأجاز أبو البقاء أن ينتصب على الحال وكلاهما متكلف‏.‏

‏{‏وما فعلته‏}‏ أي وما فعلت ما رأيت من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار عن اجتهاد مني ورأي، وإنما فعلته بأمر الله وهذا يدل على أنه نبيّ أوحي إليه‏.‏ و‏{‏تسطع‏}‏ مضارع اسطاع بهمزة الوصل‏.‏ قال ابن الكسيت‏:‏ يقال ما استطيع وما اسطيع وما استتيع واستيع أربع لغات، وأصل اسطاع استطاع على وزن استفعل، فالمحذوف في اسطاع تاء الافتعال لوجود الطاء التي هي أصل ولا حاجة تدعو إلى أن المحذوف هي الطاء التي هي فاء الفعل، ثم أبدلوا من تاء الافتعال طاءً، وأما استتيع ففيه أنهم أبدلوا من الطاء تاء، وينبغي في تستيع أن يكون المحذوف تاء الافتعال كما في تسطيع‏.‏

وفي كتاب التحرير والتحبير ما نصه‏:‏ تعلق بعض الجهال بما جرى لموسى مع الخضر عليهما السلام على أن الخضر أفضل من موسى وطردوا الحكم، وقالوا‏:‏ قد يكون بعض الأولياء أفضل من آحاد الأنبياء، واستدلوا أيضاً بقول أبي يزيد خضت بحراً وقف الأنبياء على ساحله وهذا كله من ثمرات الرعونة والظنة بالنفس انتهى‏.‏ وهكذا سمعنا من يحكي هذه المقالة عن بعض الضالين المضلين وهو ابن العربي الطائي الحاتمي صاحب الفتوح المكية، فكان ينبغي أن يسمي بالقبوح الهلكية وأنه كان يزعم أن الولّي خير من النبيّ قال‏:‏ لأن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة، والنبيّ يأخذ بواسطة عن الله، ولأن الولي قاعد في الحضرة الألهية والنبيّ مرسل إلى قوم، ومن كان في الحضرة أفضل ممن يرسله صاحب الحضرة إلى أشياء من هذه الكفريات والزندقة، وقد كثر معظِّمو هذا الرجل في هذا الزمان من غلاة الزنادقة القائلة بالوحدة نسأل الله السلام في أدياننا وأبداننا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 91‏]‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ‏(‏83‏)‏ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ‏(‏84‏)‏ فَأَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏85‏)‏ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ‏(‏86‏)‏ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ‏(‏87‏)‏ وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ‏(‏88‏)‏ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏89‏)‏ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ‏(‏90‏)‏ كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ‏(‏91‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏ويسألونك‏}‏ عائد على قريش أو على اليهود، والمشهور أن السائلين قريش حين دستها اليهود على سؤاله عن الروح، والرجل الطواف، وفتية ذهبوا في الدهر ليقع امتحانه بذلك‏.‏ وذو القرنين هو الإسكندر اليوناني ذكره ابن إسحاق‏.‏ وقال وهب‏:‏ هو رومي وهل هو نبيّ أو عبد صالح ليس بنبي قولان‏.‏ وقيل‏:‏ كان ملَكاً من الملائكة وهذا غريب‏.‏ قيل‏:‏ ملك الدنيا مؤمنان سليمان وذو القرنين، وكافران نمروذ وبخت نصر، وكان بعد نمروذ‏.‏ وعن عليّ كان عبداً صالحاً ليس بملك ولا نبيّ ضرب على قرنه الأيمن فمات في طاعة الله ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات، فبعثه الله فسمي ذا القرنين‏.‏ وقيل‏:‏ طاف قرني الدنيا يعني جانبيها شرقها وغربها‏.‏ وقيل‏:‏ كان له قرنان أي ضفيرتان‏.‏ وقيل‏:‏ انقرض في وقته قرنان من الناس‏.‏ وعن وهب لأنه ملك الروم وفارس وروى الروم والترك وعنه كانت صفيحتا رأسه من نحاس‏.‏ وقيل‏:‏ كان لتاجه قرنان‏.‏ وقيل‏:‏ كان على رأسه ما يشبه القرنين‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يسمى بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشاً كأنه ينطح أقرانه، وكان من الروم ولد عجوز ليس لها ولد غيره انتهى‏.‏ وقيل غير ذلك في تسميته ذا القرنين والمشهور أنه الإسكندر‏.‏ وقال أبو الريحان البيروتي المنجم صاحب كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية‏:‏ هو أبو بكر بن سمي بن عمير بن إفريقس الحميري، بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها وهو الذي افتخر به أحد الشعراء من حمير حيث قال‏:‏

قد كان ذو القرنين قبلي مسلماً *** ملكاً علا في الأرض غير مبعد

بلغ المشارق والمغارب يبتغي *** أسباب ملك من كريم سيد

قال أبو الريحان‏:‏ ويشبه أن يكون هذا القول أقرب لأن الأذواء كانوا من اليمن وهم الذين لا تخلوا أسماؤهم من ذي كذي المنار، وذي يواس انتهى‏.‏ والشعر الذي أنشده نسب أيضاً إلى تبع الحميري وهو‏:‏

قد كان ذو القرنين جدي مسلماً *** وعن عليّ وابن عباس أن اسمه عبد الله بن الضحاك‏.‏ وعن محمد بن عليّ بن الحسين عياش‏.‏ وعن أبي خيثمة هو الصعب بن جابر بن القلمس‏.‏ وقيل‏:‏ مرزبان بن مرزبة اليوناني من ولد يونان بن يافث‏.‏ وعن عليّ هو من القرن الأول من ولد يافث بن نوح‏.‏ وعن الحسن‏:‏ كان بعد ثمود وكان عمره ألف سنة وستمائة‏.‏ وعن وهب‏:‏ كان في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم‏.‏

والخطاب في ‏{‏عليكم‏}‏ للسائلين إما اليهود وإما قريش على الخلاف الذي سبق في السائلين‏.‏ وقوله ‏{‏ذكراً‏}‏ يحتمل أن يريد قرآناً وأن يريد حديثاً وخيراً، والتمكين الذي له ‏{‏في الأرض‏}‏ كونه ملك الدنيا ودانت له الملوك كلها‏.‏

قال بعض المفسرين‏:‏ والدليل على أنه الإسكندر أن القرآن دل على أن الرجل المسمى بذي القرنين بلغ ملكه إلى أقصى المغرب وإلى أقصى المشرق وإلى أقصى الشمال، بدليل أن يأجوج ومأجوج قوم من الترك يسكنون في أقصى الشمال، وهذا الذي بلغه ملك هذا الرجل هو نهاية المعمور من الأرض، ومثل هذا الملك البسيط لا شك أنه على خلاف العادات وما كان كذلك وجب أن يبقى ذكره مخلداً على وجه الدهر، وأن لا يكون مختفياً، والملك الذي اسمه في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلاّ الإسكندر وذلك أنه لما مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن كان مع طوائف ثم قصد ملوك العرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر، ثم عاد إلى مصر وبنى الإسكندرية وسماها باسم نفسه، ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم عطف إلى أرمينية ودان له العراقيون والقبط والبربر، ثم نحو دار ابن دارا وهزمه مرات إلى أن قتله صاحب حربه، واستولى الإسكندر على ممالك الفرس وقصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهر زور ومات بها‏.‏

وورد في الحديث‏:‏ «إن الذين ملكوا الأرض أربعة مؤمنان‏:‏ سليمان بن داود، وذو القرنين» وقد تقدم ذكر ذلك وثبت في علم التواريخ أن الذي هذا شأنه ما كان إلاّ الإسكندر فوجب القطع أن المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلفوس اليوناني‏.‏ وقيل تمكينه في الأرض بالنبوة وإجراء المعجزات‏.‏ وقيل‏:‏ تمكينه بأن سخر له السحاب وحمله عليها وبسط له النور فكان الليل والنهار عليه سواء‏.‏ وقيل‏:‏ بكثرة أعوانه وجنوده والهيبة والوقار وقذف الرعب في أعدائه وتسهيل السير عليه وتعريفه فجاج الأرض واستيلائه على برها وبحرها‏.‏

‏{‏وآتيناه من كل شيء‏}‏ أي يحتاج إليه في الوصول إلى أغراضه ‏{‏سبباً‏}‏ أي طريقاً موصلاً إليه، والسبب ما يتوصل به إني المقصود من علم أو قدرة أو آلة، فأراد بلوغ المغرب ‏{‏فاتبع سبباً‏}‏ يوصله إليه حتى بلغ، وكذلك أراد المشرق ‏{‏فاتبع سبباً‏}‏ وأراد بلوغ السدين ‏{‏فاتبع سبباً‏}‏ وأصل السبب الحبل، ثم توسع فيه حتى صار يطلق على ما يتوصل به إلى المقصود‏.‏ وقال الحسن‏:‏ بلاغاً إلى حيث أراد‏.‏ وقرأ زيد بن علي والزهري والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى والكوفيون وابن عامر ‏{‏فاتبع‏}‏ ثلاثتها بالتخفيف‏.‏ وقرأ باقي السبعة بالتشديد والظاهر أنهما بمعنى واحد‏.‏ وعن يونس بن حبيب وأبي زيد أنه بقطع الهمزة عبارة عن المجد المسرع الحثيث الطلب، وبوصلها إنما يتضمن الاقتفاء دون هذه الصفات‏.‏

وقرأ عبد الله وطلحة بن عبيد الله وعمرو بن العاصي وابن عمر وعبد الله بن عمرو ومعاوية والحسن وزيد بن عليّ وابن عامر وحمزة والكسائي حامية بالياء أي حارة‏.‏

وقرأ ابن عباس وباقي السبعة وشيبة وحميد وابن أبي ليلى ويعقوب وأبو حاتم وابن جبير الأنطاكي ‏{‏حمئة‏}‏ بهمزة مفتوحة والزهري يلينها، يقال حمئت البئر تحمأ حمأً فهي حمئة، وحمأتها نزعت حمأتها وأحمأتها أبقيت فيها الحمأة، ولا تنافي بين الحامية والحمئة إذ تكون العين جامعة للوصفين‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ وقد تمكن أن تكون حامية مهموزة بمعنى ذات حمأة فتكون القراءتان بمعنى واحد يعني إنه سهلت الهمزة بإبدالها ياء لكسرة ما قبلها، وفي التوراة تغرب في ماء وطين‏.‏ وقال تبع‏:‏

فرأى مغيب الشمس عند مآبها *** في عين ذي خلب وثاط حرمد

أي في عين ماء ذي طين وحم أسود‏.‏ وفي حديث أبي ذر ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى الشمس عند غروبها فقال‏:‏ «أتدري أين تغرب يا أبا ذر‏؟‏» فقلت‏:‏ لا‏.‏ فقال‏:‏ «إنها تغرب في عين حامية» ‏"‏ وهذا الحديث وظاهر النص دليل على أن قوله ‏{‏في عين‏}‏ متعلق بقوله ‏{‏تغرب‏}‏ لا ما قاله بعض المتعسفين أن قوله في ‏{‏عين حمئة‏}‏ إنما المراد أن ذا القرنين كان فيها أي هي آخر الأرض، ومعنى ‏{‏تغرب في عين‏}‏ أي فيما ترى العين لا أن ذلك حقيقة كما نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض، ويجوز أن تكون هذه العين من البحر، ويجوز أن تكون الشمس تغيب وراءها، وزعم بعض البغداديين أن ‏{‏في‏}‏ بمعنى عند أي ‏{‏تغرب‏}‏ عند عين‏.‏

‏{‏ووجد عندها قوماً‏}‏ أي عند تلك العين‏.‏ قال ابن السائب‏:‏ مؤمنين وكافرين‏.‏ وقال غيره‏:‏ كفرة لباسهم جلود السباع وطعامهم ما أحرقته الشمس من الدواب، وما لفظته العين من الحوت إذا غربت‏.‏ وقال وهب‏:‏ انطلق يؤم المغرب إلى أن انتهى إلى باسك فوجد جمعاً لا يحصيهم إلاّ الله، فضرب حولهم ثلاثة عساكر حتى جمعهم في مكان واحد، ثم دخل عليهم في النور ودعاهم إلى عبادة الله، فمنهم من آمن ومنهم من صدّ عنه‏.‏ وقال أبو زيد السهيلي‏:‏ هم أهل حابوس ويقال لها بالسريانية جرجيساً يسكنها قوم من نسل ثمود‏.‏ بقيتهم الذين آمنوا بصالح عليه السلام‏.‏

وظاهر قوله ‏{‏قلنا‏}‏ أنه أوحى الله إليه على لسان ملك‏.‏ وقيل‏:‏ كلمه كفاحاً من غير رسول كما كلم موسى عليه السلام، وعلى هذين القولين يكون نبياً ويبعد ما قاله بعض المتأولين أنه إلهام وإلقاء في روعه لأن مثل هذا التخيير لا يكون إلاّ بوحي إذ التكاليف وإزهاق النفوس لا تتحقق بالإلهام إلاّ بالإعلام‏.‏ وقال عليّ بن عيسى‏:‏ المعنى ‏{‏قلنا‏}‏ يا محمد قالوا ‏{‏يا ذا القرنين‏}‏ ثم حذف القول الأول لأن ذا القرنين لم يصح أنه نبي فيخاطبه الله، وعلى هذا يكون الضمير الذي في قالوا‏.‏ المحذوفة يعود على جنده وعسكره الذين كانوا معه‏.‏

وقوله ‏{‏إما أن تعذب‏}‏ بالقتل على الكفر ‏{‏وإما أن تتخذ فيهم حسناً‏}‏ أي بالحمل على الإيمان والهدى، إما أن تكفر فتعذب، وإما أن تؤمن فتحسن فعبر في التخيير بالمسبب عن السبب‏.‏ قال الطبري‏:‏ اتخاذ الحسن هو أسرهم مع كفرهم يعني أنه خير مع كفرهم بين قتلهم وبين أسرهم، وتفصيل ذي القرنين ‏{‏أما من ظلم‏}‏ و‏{‏أما من آمن‏}‏ يدفع هذا القول ولما خيره تعالى بين تعذيبهم ودعائهم إلى الإسلام اختار الدعوة والاجتهاد في استمالتهم‏.‏ فقال‏:‏ أما من دعوته فأبى إلاّ البقاء على الظلم وهو الكفر هنا بلا خلاف فذلك هو المعذب في الدارين، وأما من آمن وعمل ما يقتضيه الإيمان فله جزاء الحسنى‏.‏ وأتى بحرف التنفيس في ‏{‏فسوف نعذبه‏}‏ لما يتخلل بين إظهاره كفره وبين تعذيبه من دعائه إلى الإيمان وتأبيه عنه، فهو لا يعاجلهم بالقتل على ظلمهم بل يدعوهم ويذكرهم فإن رجعوا وإلاّ فالقتل‏.‏

وقوله ‏{‏ثم يرد إلى ربه‏}‏ أي يوم القيامة وأتى بنون العظمة في ‏{‏نعذبه‏}‏ على عادة الملوك في قولهم نحن فعلنا‏.‏ وقوله ‏{‏إلى ربه‏}‏ فيه إشعار بأن التخيير لذي القرنين ليس من الله تعالى، إذ لو كان كذلك لكان التركيب ثم يرد إليك فتعذبه، ولا يبعد أن يكون التخيير من الله ويكون قد أعلم ذو القرنين بذلك أتباعه ثم فصل مخاطباً لأتباعه لا لربه تعالى، وما أحسن مجيء هذه الجمل لما ذكر ما يستحقه من ظلم بدأ بما هو أقرب لهم ومحسوس عندهم، وهو قوله ‏{‏فسوف نعذبه‏}‏ ثم أخبر بما يلحقه آخراً يوم القيامة وهو تعذيب الله إياه العذاب النكر ولأن الترتيب الواقع هو كذا ولما ذكر ما يستحقه ‏{‏من آمن وعمل صالحاً‏}‏ ذكر جزاء الله له في الآخرة وهو ‏{‏الحسنى‏}‏ أي الجنة لأن طمع المؤمن في الآخرة ورجاءه هو الذي حمله على أن آمن لأجل جزائه في الآخرة، وهو عظيم بالنسبة للإحسان في الدنيا ثم أتبع ذلك بإحسانه له في الدنيا بقوله ‏{‏وسنقول له من أمرنا يسراً‏}‏ أي لا نقول له ما يتكلفه مما هو شاق عليه أي قولاً ذا يسر وسهولة كما قال قولاً ميسوراً‏.‏ ولما ذكر ما أعد الله له من الحسنى جزاء لم يناسب أن يذكر جزاءه بالفعل بل اقتصر على القول أدباً مع الله تعالى وإن كان يعلم أنه يحسن إليه فعلاً وقولاً‏.‏

وقرأ حمزة والكسائي وحفص وأبو بحرية والأعمش وطلحة وابن مناذر ويعقوب وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي ومحمد بن جرير ‏{‏فله جزاء‏}‏ بالنصب والتنوين وانتصب ‏{‏جزاء‏}‏ على أنه مصدر في موضع الحال أي مجازي كقولك في الدار قائماً زيد‏.‏ وقال أبو علي قال أبو الحسن‏:‏ هذا لا تكاد العرب تكلم به مقدماً إلاّ في الشعر‏.‏

وقيل‏:‏ انتصب على المصدر أي يجزي ‏{‏جزاء‏}‏‏.‏ وقال الفراء‏:‏ ومنصوب على التفسير والمراد بالحسنى على قراءة النصب الجنة‏.‏ وقرأ باقي السبعة ‏{‏جزاء الحسنى‏}‏ برفع ‏{‏جزاء‏}‏ مضافاً إلى ‏{‏الحسنى‏}‏‏.‏ قال أبو عليّ جزاء الخلال الحسنة التي أتاها وعملها أو يراد بالحسنى الحسنة والجنة هي الجزاء، وأضاف كما قال دار الآخرة و‏{‏جزاء‏}‏ مبتدأ وله خبره‏.‏

وقرأ عبد الله بن إسحاق ‏{‏فله جزاء‏}‏ مرفوع وهو مبتدأ وخبر و‏{‏الحسنى‏}‏ بدل من ‏{‏جزاء‏}‏‏.‏ وقرأ ابن عباس ومسروق ‏{‏جزاء‏}‏ نصب بغير تنوين ‏{‏الحسنى‏}‏ بالإضافة، ويخرج على حذف المبتدأ لدلالة المعنى عليه، أي ‏{‏فله‏}‏ الجزاء ‏{‏جزاء الحسنى‏}‏ وخرجه المهدوي على حذف التنوين لالتقاء الساكنين‏.‏ وقرأ أبو جعفر ‏{‏يسراً‏}‏ بضم السين حيث وقع‏.‏

‏{‏ثم أتبع سبباً‏}‏ أي طريقاً إلى مقصده الذي يسر له‏.‏ وقرأ الحسن وعيسى وابن محيصن ‏{‏مطلع‏}‏ بفتح اللام، ورويت عن ابن كثير وأهل مكة وهو القياس‏.‏ وقرأ الجمهور بكسرها وهو سماع في أحرف معدودة، وقياس كسره أن يكون المضارع تطلع بكسر اللام وكان الكسائي يقول‏:‏ هذه لغة ماتت في كثير من لغات العرب، يعني ذهب من يقول من العرب تطلع بكسر اللام وبقي ‏{‏مطلع‏}‏ بكسرها في اسم المكان والزمان على ذلك القياس، والقوم هنا الزنج‏.‏ وقال قتادة هم الهنود وما وراءهم‏.‏ والستر البنيان أو الثياب أو الشجر والجبال أقوال، والمعنى أنهم لا شيء لهم يسترهم من حر الشمس‏.‏ وقيل‏:‏ تنفذ الشمس سقوفهم وثيابهم فتصل إلى أجسامهم‏.‏ فقيل‏:‏ إذا طلعت نزلوا الماء حتى ينكسر حرها قاله الحسن وقتادة وابن جريج‏.‏ وقيل‏:‏ يدخلون أسراباً‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والظاهر من اللفظ أنها عبارة بليغة عن قرب الشمس منهم، وفعلها بقدرة الله فيهم ونيلها منهم، ولو كانت لهم أسراب لكان ستراً كثيفاً انتهى‏.‏ وقال بعض الرجاز‏:‏

بالزنج حرّ غير الأجسادا *** حتى كسى جلودها سوادا

وذلك إنما هو من قوة حرّ الشمس عندهم واستمرارها‏.‏ كذلك الإشارة إلى البلوغ أي كما بلغ مغرب الشمس بلغ مطلعها‏.‏ وقيل ‏{‏أتبع سبباً‏}‏ كما ‏{‏أتبع سبباً‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ كما وجد أولئك عند مغرب الشمس وحكم فيهم كذلك وجد هؤلاء عند مطلع الشمس وحكم فيهم‏.‏ وقيل‏:‏ كذلك أمرهم كما قصصنا عليكم‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏تطلع‏}‏ طلوعها مثل غروبها‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏لم نجعل لهم من دونها ستراً‏}‏ أي مثل أولئك الذين وجدهم في مغرب الشمس كفرة مثلهم، وحكمهم مثل حكمهم في التعذيب لمن بقي على الكفر والإحسان لمن آمن‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي أمر ذي القرنين كذلك أي كما وصفناه تعظيماً لأمره‏.‏ وقيل ‏{‏لم نجعل لهم من دونها ستراً‏}‏ مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الجبال والحصون والأبنية والأكنان من كل جنس، والثياب من كل صنف‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ معناه فعل معهم كفعله مع الأولين أهل المغرب، وأخبر بقوله ‏{‏كذلك‏}‏ ثم أخبر تعالى عن إحاطته بجميع ما لدى ذي القرنين وما تصرّف فيه من أفعاله، ويحتمل أن يكون ‏{‏كذلك‏}‏ استئناف قول ولا يكون راجعاً على الطائفة الأولى فتأمله، والأول أصوب انتهى‏.‏ وإذا كان مستأنفاً لا تعلق له بما قبله فيحتاج إلى تقدير يتم به كلاماً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 102‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏92‏)‏ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ‏(‏93‏)‏ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ‏(‏94‏)‏ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ‏(‏95‏)‏ آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ‏(‏96‏)‏ فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ‏(‏97‏)‏ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ‏(‏98‏)‏ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ‏(‏99‏)‏ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا ‏(‏100‏)‏ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ‏(‏101‏)‏ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا ‏(‏102‏)‏‏}‏

السد الحاجز والحائل بين الشيئين، ويقال بالضم وبالفتح‏.‏ الردم‏:‏ السد‏.‏ وقيل‏:‏ الردم أكبر من السد لأن الردم ما جعل بعضه على بعض، يقال‏:‏ ثوب مردّم إذا كان قد رقع رقعة فوق رقعة‏.‏ وقيل‏:‏ سد الخلل، قال عنترة‏:‏

هل غادر الشعراء من متردم *** أي خلل في المعاني فيسد ردماً‏.‏ الزبرة‏:‏ القطعة وأصله الاجتماع، ومنه زبرة الأسد لما اجتمع على كاهله من الشعر، وزبرت الكتاب جمعت حروفه‏.‏ الصدفان جانبا الجبل إذا تحاذيا لتقاربهما أو لتلاقيهما قاله الأزهري، ويقال‏:‏ صدف بضمهما وبفتحهما وبضم الصاد وسكون الدال وعكسه‏.‏ قال بعض اللغويين‏:‏ وفتحهما لغة تميم وضمهما لغة حمير‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الصدف كل بناء عظيم مرتفع‏.‏ القطر النحاس المذاب في قول الأكثرين‏.‏ وقيل‏:‏ الحديد المذاب‏.‏ وقيل‏:‏ الرصاص المذاب‏.‏ النقب مصدر نقب أي حفر وقطع‏.‏ الغطاء معروف وجمعه أغطية، وهو من غطى إذا ستر‏.‏

‏{‏ثم أتبع سبباً حتى إذا بلغ بين السدّين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً ءاتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال ءاتوني أفرغ عليه قطراً فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعاً وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا‏}‏‏.‏

‏{‏سبباً‏}‏ أي طريقاً أو مسيراً موصلاً إلى الشمال فإن ‏{‏السدّين‏}‏ هناك‏.‏ قال وهب‏:‏ السدّان جبلان منيفان في السماء من ورائهما ومن أمامهما البلدان، وهما بمنقطع أرض الترك مما يلي أرمينية وأذربيجان‏.‏ وذكر الهروي أنهما جبلان من وراء بلاد الترك‏.‏ وقيل‏:‏ هما جبلان من جهة الشمال لينان أملسان، يزلق عليهما كل شيء، وسمي الجبلان سدّين لأن كل واحد منهما سد فجاج الأرض وكانت بينهما فجوة كان يدخل منها يأجوج ومأجوج‏.‏ وقرأ مجاهد وعكرمة والنخعي وحفص وابن كثير وأبو عمرو ‏{‏بين السدين‏}‏ بفتح السين‏.‏ وقرأ باقي السبعة بضمها‏.‏ قال الكسائي هما لغتان بمعنى واحد‏.‏ وقال الخليل وسيبويه‏:‏ بالضم الاسم وبالفتح المصدر‏.‏ وقال عكرمة وأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة‏:‏ ما كان من خلق الله لم يشارك فيه أحد فهو بالضم، وما كان من صنع البشر فبالفتح‏.‏

وقال ابن أبي إسحاق ما رأت عيناك فبالضم، وما لا يرى فبالفتح‏.‏ وانتصب ‏{‏بين‏}‏ على أنه مفعول به يبلغ كما ارتفع في ‏{‏لقد تقطع بينكم‏}‏ وانجر بالإضافة في ‏{‏هذا فراق بيني وبينك‏}‏ و‏{‏بين‏}‏ من الظروف المتصرفة ما لم تركب مع أخرى مثلها، نحو قولهم همزة بين بين‏.‏

‏{‏من دونهما‏}‏ من دون السدين و‏{‏قوماً‏}‏ يعني من البشر‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ هم الترك انتهى‏.‏ وأبعد من ذهب إلى أنهم جان‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وهذا المكان في منقطع أرض الترك مما يلي المشرق، ونفى مقارنة فقههم ‏{‏قولاً‏}‏ وتضمن نفي فقههم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ لا يكادون يفهمونه إلاّ بجهد ومشقة كأنه فهم من نفى يكاد أنه يقع منهم الفهم بعد عسر، وهو قول لبعضهم إن نفيها إثبات وإثباتها نفي، وليس بالمختار‏.‏

وقرأ الأعمش وابن أبي ليلى وخلف وابن عيسى الأصبهاني وحمزة والكسائي ‏{‏يفقهون‏}‏ بضم الياء وكسر القاف أي يفهمون السامع كلامهم، ولا يبينونه لأن لغتهم غريبة مجهولة‏.‏ والضمير في ‏{‏قالوا‏}‏ عائد على هؤلاء القوم شكوا ما يلقون من يأجوج ومأجوج إذ رجوا عنده ما ينفعهم لكونه ملك الأرض ودوخ الملوك وبلغ إليهم وهم لم يبلغ أرضهم ملك قبله، و‏{‏يأجوج ومأجوج‏}‏ من ولد آدم قبيلتان‏.‏ وقيل‏:‏ هما من ولد يافث بن نوح‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏يأجوج‏}‏ من الترك ‏{‏ومأجوج‏}‏ من الجيل والديلم‏.‏ وقال السدي والضحاك‏:‏ الترك شرذمة منهم خرجت تغير، فجاء ذو القرنين فضرب السد فبقيت في هذا الجانب‏.‏ وقال قتادة والسدي‏:‏ بني السد على إحدى وعشرين قبيلة، وبقيت منهم قبيلة واحدة دون السد فهم الترك وقد اختلف في عددهم وصفاتهم ولم يصح في ذلك شيء وهما ممنوعا الصرف، فمن زعم أنهما أعجميان فللعجمة والعلمية، ومن زعم أنهما عربيان فللتأنيث والعلمية لأنهما اسما قبيلتين‏.‏

وقال الأخفش‏:‏ إن جعلنا ألفهما أصلية فيأجوج يفعول ومأجوج مفعول، كأنه من أجيج النار ومن لم يهمزهما جعلها زائدة فيأجوج من يججت، ومأجوج من مججت‏.‏ وقال قطرب في غير الهمز مأجوج فاعول من المج، ويأجوج فاعول من يج‏.‏ وقال أبو الحسن عليّ بن عبد الصمد السخاوي أحد شيوخنا‏:‏ الظاهر أنه عربي وأصله الهمز، وترك الهمز على التخفيف وهو إما من الأجّة وهو الاختلاف كما قال تعالى ‏{‏وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض‏}‏ أو من الأج وهو سرعة العدو، قال تعالى ‏{‏وهم من كل حدب ينسلون‏}‏ وقال الشاعر‏:‏

يؤج كما أج الظليم المنفر *** أو من الأجة وهو شدة الحرّ، أو من أجّ الماء يئج أجوجاً إذا كان ملحاً مراً انتهى‏.‏ وقرأ عاصم والأعمش ويعقوب في رواية بالهمز وفي ‏{‏يأجوج ومأجوج‏}‏ وكذا في الأنبياء وفي لغة بني أسد ذكره الفراء‏.‏ قيل‏:‏ ولا وجه له إلاّ اللغة الغربية المحكية عن العجاج أنه كان يهمز العألم والخأتم‏.‏ وقرأ باقي السبعة بألف غير مهموزة وهي لغة كل العرب غير بني أسد‏.‏

وقرأ العجاج ورؤبة ابنه‏:‏ آجوج بهمزة بدل الياء‏.‏ وإفسادهم الظاهر تحقق الإفساد منهم لا توقعه لأنها شكت من ضررنا لها‏.‏ وقال سعيد بن عبد العزيز‏:‏ إفسادهم أكل بني آدم‏.‏ وقيل‏:‏ هو الظلم والقتل ووجوه الإفساد المعلوم من البشر‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون شيئاً أخضر إلاّ أكلوه، ولا يابساً إلاّ احتملوه، وروي أنه لا يموت أحد منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلٌّ قد حمل السلاح‏.‏

‏{‏فهل نجعل لك خرجاً‏}‏ استدعاء منهم قبول ما يبذلونه مما يعينه على ما طلبوا على جهة حسن الأدب إذ سألوه ذلك كقول موسى للخضر ‏{‏هل أتبعك على أن تعلمني‏}‏ وقرأ الحسن والأعمش وطلحة وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي ومن السبعة حمزة والكسائي خراجاً بألف هنا، وفي حرفي قد أفلح وسكن ابن عامر الراء فيها‏.‏ وقرأ باقي السبعة ‏{‏خرجاً‏}‏ فيهما بسكون الراء فخراج بالألف والخرج والخراج بمعنى واحد كالنول والنوال، والمعنى جعلا نخرجه من أموالنا، وكل ما يستخرج من ضريبة وجزية وغلة فهو خراج وخرج‏.‏ وقيل‏:‏ الخرج المصدر أطلق على الخراج، والخراج الاسم لما يخرج‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ الخرج على الرؤوس يقال‏:‏ أدّ خرج رأسك، والخراج على الأرض‏.‏ وقال ثعلب‏:‏ الخرج أخص والخراج أعم‏.‏ وقيل‏:‏ الخرج المال يخرج مرة والخراج المجبي المتكرر عرضوا عليه أن يجمعوا له أموالاً يقيم بها أمر السد‏.‏ وقال ابن عباس ‏{‏خرجاً‏}‏ أجراً‏.‏

وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر ‏{‏سداً‏}‏ بضم السين وابن محيصن وحميد والزهري والأعمش وطلحة ويعقوب في رواية وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير وباقي السبعة بفتحها ‏{‏قال ما مكني فيه ربي خير‏}‏ أي ما بسط الله لي من القدرة والملك خير من خرجكم ‏{‏فأعينوني بقوة‏}‏ أي بما أتقوّى به من فعلة وصناع يحسنون العمل والبناء؛ قاله مقاتل وبالآلات؛ قاله الكلبي ‏{‏ردماً‏}‏ حاجزاً حصيناً موثقاً‏.‏ وقرأ ابن كثير وحميد‏:‏ ما مكنني بنونين متحركتين، وباقي السبعة بإدغام نون مكن في نون الوقاية‏.‏

ثم فسر الإعانة بالقوة فقال ‏{‏آتوني زبر الحديد‏}‏ أي أعطوني‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ إنما هو استدعاء مناولة لا استدعاء عطية وهبة لأنه قد ارتبط من قوله إنه لا يأخذ منهم الخراج، فلم يبق إلاّ استدعاء المناولة انتهى‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏آتوني‏}‏‏.‏ وقرأ أبو بكر عن عاصم ائتوني أي جيئوني‏.‏ وانتصب ‏{‏زبر‏}‏ بإيتوني على إسقاط حرف الجر أي جيئوني بزبر ‏{‏الحديد‏}‏‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏زبر‏}‏ بفتح الباء والحسن بضمها، وفي الكلام حذف تقديره فأتوه أو فآتوه بها فأمر برصّ بعضها فوق بعض ‏{‏حتى إذا ساوى‏}‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ساوى‏}‏ وقتادة سوّى، وابن أبي أمية عن أبي بكر عن عاصم سُووي مبنياً للمفعول‏.‏ وحكي في الكيفية أن ذا القرنين قاس ما بين الصدفين من حفر الأساس حتى بلغ الماء ثم جعل حشوه الصخر وطينه النحاس مذاب، ثم يصب عليه والبنيان من زبر الحديد بينهما الحطب والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما، ثم وضع المنافخ حتى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً‏.‏

وقيل‏:‏ طول ما بين السدين مائة فرسخ وعرضه خمسون‏.‏ وفي الحديث ‏"‏ أن رجلاً أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم به فقال‏:‏ «كيف رأيته»‏؟‏ فقال‏:‏ كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء، قال‏:‏ «قد رأيته» ‏"‏‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والزهري ومجاهد والحسن ‏{‏الصدفين‏}‏ بضم الصاد والدال، وأبو بكر وابن محيصن وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن كذلك إلاّ أنه سكن الدال وباقي السبعة وأبو جعفر وشيبة وحميد وطلحة وابن أبي ليلى وجماعة عن يعقوب وخلف في اختياره وأبو عبيد وابن سعدان بفتحهما، وابن جندب بالفتح وإسكان الدال، ورويت عن قتادة‏.‏ وقرأ الماجشون بالفتح وضم الدال‏.‏ وقرأ قتادة وأبان عن عاصم بضم الصاد وفتح الدال ‏{‏حتى إذا جعله ناراً‏}‏ في الكلام حذف تقديره فنفخوا حتى‏.‏ وقرأ الجمهور قال ‏{‏آتوني‏}‏ أي أعطوني‏.‏ وقرأ الأعمش وطلحة وحمزة وأبو بكر بخلاف عنه قال‏:‏ ائتوني أي جيئوني و‏{‏قطراً‏}‏ منصوب بأفرغ على إعمال الثاني، ومفعول ‏{‏آتوني‏}‏ محذوف لدلالة الثاني عليه‏.‏

‏{‏فما اسطاعوا‏}‏ أي يأجوج ومأجوج ‏{‏أن يظهروه‏}‏ أي يصلوا عليه لبعده وارتفاعه وامّلاسه، ولا أن ينقبوه لصلابته وثخانته فلا سبيل إلى مجاوزته إلى غيرهم من الأمم إلاّ بأحد هذين‏:‏ إما ارتقاء وإما نقب وقد سلب قدرتهم على ذلك‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏فما اسطاعوا‏}‏ بحذف التاء تخفيفاً لقربها من الطاء‏.‏ وقرأ حمزة وطلحة بإدغامها في الطاء وهو إدغام على غير حده‏.‏ وقال أبو عليّ هي غير جائزة‏.‏ وقرأ الأعشى عن أبي بكر‏:‏ فما اصطاعوا بالإبدال من السين صاداً لأجل الطاء‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ فما استطاعوا بالتاء من غير حذف‏.‏

‏{‏قال‏:‏ هذا رحمة من ربي‏}‏ أي قال ذو القرنين والإشارة بهذا قال ابن عطية إلى الردم والقوة عليه والانتفاع به‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ إشارة إلى السد أي ‏{‏هذا‏}‏ السد نعمة من الله و‏{‏رحمة‏}‏ على عباده أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته‏.‏ قيل‏:‏ وفي الكلام حذف وتقديره فلما أكمل بناء السد واستوى واستحكم ‏{‏قال‏:‏ هذا رحمة من ربي‏}‏‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة هذه رحمة من ربي بتأنيث اسم الإشارة‏.‏ والوعد يحتمل أن يراد به يوم القيامة، وأن يراد به وقت خروج يأجوج ومأجوج‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فإذا دنا مجيء يوم القيامة وشارف أن يأتي جعل السد دكاً أي مدكوكاً منبسطاً مستوياً بالأرض، وكل ما انبسط بعد ارتفاع فقد اندك انتهى‏.‏ وقرأ الكوفيون‏:‏ ‏{‏دكاء‏}‏ بالمدّ ممنوع الصرف وباقي السبعة دكاً منونة مصدر دككته، والظاهر أن ‏{‏جعله‏}‏ بمعنى صيره فدك مفعول ثان‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يكون جعل بمعنى خلق وينصب فدكاً على الحال انتهى‏.‏ وهذا بعيد جداً لأن السد إذ ذاك موجود مخلوق ولا يخلق المخلوق لكنه ينتقل من بعض هيئاته إلى هيئة أخرى، ووعد بمعنى موعود لا مصدر‏.‏ والمعنى ‏{‏فإذا جاء‏}‏ موعود ‏{‏ربي‏}‏ لا يريد المصدر لأن المصدر قد سبق و‏{‏تركنا‏}‏ هذا الضمير لله تعالى والأظهر أن الضمير في ‏{‏بعضهم‏}‏ عائد على يأجوج ومأجوج، والجملة المحذوفة بعد إذ المعوض منها التنوين مقدرة بإذ جاء الوعد وهو خروجهم وانتشارهم في الأرض أو مقدرة بإذ حجز السد بينهم وبين القوم الذين كانوا يفسدون عندهم وهم متعجبون من السد فماج بعضهم في بعض‏.‏

وقيل‏:‏ الضمير في ‏{‏بعضهم‏}‏ يعود على الخلق أي يوم إذ جاء وعد الله وهو يوم القيامة ويقويه قوله ‏{‏ونفخ في الصور‏}‏ فيظهر أن ذلك هو يوم القيامة، وكذلك ما جاء بعده من الجمع وعرض جهنم وتقدم الكلام على النفخ في الصور في سورة الأنعام‏.‏ و‏{‏جمعاً‏}‏ مصدر كموعد ‏{‏وعرضنا‏}‏ أي أبرزنا ‏{‏جهنم يومئذ‏}‏ أي يوم إذ جمعناهم‏.‏ وقيل‏:‏ اللام بمعنى على كقوله‏:‏

فخر صريعاً لليدين وللفم *** وأبعد من ذهب إلى أنه مقلوب‏.‏ والتقدير وعرضنا الكافرين على جهنم ‏{‏عرضاً‏}‏ وتخصيصه بالكافرين بشارة للمؤمنين‏.‏ و‏{‏الذين كانت أعينهم‏}‏ صفة ذم في ‏{‏غطاءٍ‏}‏ استعار الغطاء لأعينهم، والمراد أنهم لا يبصرون آياتي التي ينظر إليها فيعتبر بها، واذكر بالتعظيم وهذا على حذف مضاف أي عن آيات ‏{‏ذكري‏}‏‏.‏ وقيل ‏{‏عن ذكري‏}‏ عن القرآن وتأمل معانيه، ويكون المراد بالأعين هنا البصائر لا الجوارح لأن الجوارح لا نسبة بينها وبين الذكر ‏{‏وكانوا لا يستطيعون سمعاً‏}‏ مبالغة في انتفاء السمع إذ نفيت الاستطاعة، وهم وإن كانوا صماً لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به، وكان هؤلاء أصمت أسماعهم فلا استطاعة بهم للسمع ‏{‏أفحسب الذين كفروا‏}‏ هم من عبد الملائكة وعزيراً والمسيح واتخذوهم أولياء من دون الله وهم بعض العرب واليهود والنصارى، وهو استفهام فيه معنى الإنكار والتوبيخ، والمعنى أنهم ليس لهم من ولاية هؤلاء الذين تولوهم شيء، ولا يجدون عندهم منتفعاً ويظهر أن في الكلام حذفاً والتقدير ‏{‏أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء‏}‏ فيجدي ذلك وينتفعون بذلك الاتخاذ‏.‏ وقيل‏:‏ العباد هنا الشياطين‏.‏ روي عن ابن عباس وقال مقاتل‏:‏ الأصنام لأنها خلقه وملكه، والأظهر تفسير العباد بما قلناه لإضافتهم إليه والأكثر أن تكون الإضافة في مثل هذا اللفظ إضافة تشريف‏.‏

وحسب هنا بمعنى ظن وبه قرأ عبد الله أفظن‏.‏ وقرأ عليّ بن أبي طالب وزيد بن علي بن الحسين ويحيى بن يعمر ومجاهد وعكرمة وقتادة ونعيم بن ميسرة والضحاك وابن أبي ليلى وابن كثير ويعقوب بخلاف عنهما وابن محيصن وأبو حيوة والشافعي ومسعود بن صاح ‏{‏أفحسب‏}‏ بإسكان السين وضم الباء مضافاً إلى ‏{‏الذين‏}‏ أي أفكافيهم ومحسبهم ومنتهى عرضهم، والمعنى أن ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا‏.‏

وقال أبو الفضل الرازي قال سهل‏:‏ يعني أبا حاتم معناه‏:‏ أفحسبهم وحظهم إلاّ أن ‏{‏أفحسب‏}‏ أبلغ في الذم لأنه جعله غاية مرادهم انتهى‏.‏ وارتفع حسب على الابتداء والخبر ‏{‏أن يتخذوا‏}‏‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أو على الفعل والفاعل لأن اسم الفاعل إذا اعتمد على الهمزة ساوى الفعل في العمل كقولك‏:‏ أقائم الزيدان وهي قراءة محكمة جيدة انتهى‏.‏ والذي يظهر أن هذا الإعراب لا يجوز لأن حسباً ليس باسم فاعل فتعمل، ولا يلزم من تفسير شيء بشيء أن تجري عليه جميع أحكامه، وقد ذكر سيبويه أشياء من الصفات التي تجري مجرى الأسماء وأن الوجه فيها الرفع‏.‏ ثم قال‏:‏ وذلك مررت برجل خير منه أبوه، ومررت برجل سواء عليه الخير والشر، ومررت برجل أب له صاحبه، ومررت برجل حسبك من رجل، ومررت برجل أيما رجل هو انتهى‏.‏ ولا يبعد أن يرفع به الظاهر فقد أجازوا في مررت برجل أبي عشرة أبوه ارتفاع أبوه بأبي عشرة لأنه في معنى والد عشرة‏.‏

‏{‏إنّا أعتدنا‏}‏ أي أعددنا ويسرنا والنزل موضع النزول والنزل أيضاً ما يقدم للضيف ويهيأ له وللقادم من الطعام، والنزل هنا يحتمل التفسيرين وكونه موضع النزول قاله الزجاج هنا، وما هيئ من الطعام للنزيل قول القتبي‏.‏ وقيل‏:‏ جمع نازل ونصبه على الحال نحو شارف وشرف، فإن كان ما تقدم للضيف وللقادم فيكون كقوله‏:‏ ‏{‏فبشرهم بعذاب أليم‏}‏ وكقول الشاعر‏:‏

تحية بينهم ضرب وجيع *** وقرأ أبو حيوة وأبو عمرو بخلاف عنه ‏{‏نزلاً‏}‏ بسكون الزاي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 106‏]‏

‏{‏قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ‏(‏103‏)‏ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ‏(‏104‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ‏(‏105‏)‏ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ‏(‏106‏)‏‏}‏

أي ‏{‏قل‏}‏ يا محمد للكافرين هل نخبركم الآية فإذا طلبوا ذلك فقل لهم ‏{‏أولئك الذين كفروا‏}‏ والأخسرون أعمالاً عن عليّ هم الرهبان كقوله ‏{‏عاملة ناصبة‏}‏ وعن مجاهد‏:‏ هم أهل الكتاب‏.‏ وقيل‏:‏ هم الصابئون‏.‏ وسأل ابن الكواء علياً عنهم فقال‏:‏ منهم أهل حروراء‏.‏ وينبغي حمل هذه الأقوال على التمثيل على الحصر إذ الأخسرون أعمالاً هم كل من دان بدين غير الإسلام، أو راءى بعمله، أو أقام على بدعة تؤول به إلى الكفر والأخسر من أتعب نفسه فأدى تعبه به إلى النار‏.‏ وانتصب ‏{‏أعمالاً‏}‏ على التمييز وجمع لأن أعمالهم في الضلال مختلفة وليسوا مشتركين في عمل واحد و‏{‏الذين‏}‏ يصح رفعه على أنه خبر مبتدإِ محذوف، أي هم ‏{‏الذين‏}‏ وكأنه جواب عن سؤال، ويجوز نصبه على الذمّ وخبره على الوصف أو البدل ‏{‏ضل سعيهم‏}‏ أي هلك وبطل وذهب و‏{‏يحسبون‏}‏ و‏{‏يحسنون‏}‏ من تجنيس التصحيف وهو أن يكون النقط فرقاً بين الكلمتين‏.‏ ومنه قول أبي عبادة البحتري‏:‏

ولم يكن المغتر بالله إذ سرى *** ليعجز والمعتز بالله طالبه

ومن غريب هذا النوع من التجنيس‏.‏ قال الشاعر‏:‏

سقينني ربي وغنينني *** بحت بحبي حين بنّ الخرد

صحف بقوله سقيتني ربي وغنيتني بحب يحيى حين بن الجرد‏.‏

وقرأ ابن عباس وأبو السمال ‏{‏فحبطت‏}‏ بفتح الباء والجمهور بكسرها‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏فلا نقيم‏}‏ بالنون ‏{‏وزناً‏}‏ بالنصب ومجاهد وعبيد بن عمير فلا يقيم بالياء لتقدم قوله ‏{‏بآيات ربهم‏}‏ وعن عبيد أيضاً يقوم بفتح الياء كأنه جعل قام متعدياً‏.‏ وعن مجاهد وابن محيصن ويعقوب بخلاف عنهم‏:‏ فلا يقوم مضارع قام وزن مرفوع به‏.‏ واحتمل قوله ‏{‏فلا نقيم‏}‏ إلاّ به أنهم لا حسنة لهم توزن في موازين القيامة، ومن لا حسنة له فهو في النار‏.‏ واحتمل أن يريد المجاز كأنه قال‏:‏ فلا قدر لهم عندنا يومئذ‏.‏

وفي الحديث‏:‏ «يؤتي بالأكول الشروب الطويل فلا يزن جناح بعوضة» ثم قرأ ‏{‏فلا نقيم‏}‏ الآية‏.‏ وفي الحديث أيضاً‏:‏ «يأتي ناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئاً»‏.‏ ‏{‏ذلك جزاؤهم‏}‏ مبتدأ وخبر و‏{‏جهنم‏}‏ بدل و‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ترك إقامة الوزن، ويجوز أن يشار بذلك وإن كان مفرداً إلى الجمع فيكون بمعنى أولئك ويكون ‏{‏جزاؤهم جهنم‏}‏ مبتدأ وخبراً‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر ذلك وما بعده مبتدأ وخبر، ويجوز أن يكون ‏{‏ذلك‏}‏ مبتدأ و‏{‏جزاؤهم‏}‏ مبتدأ ثان و‏{‏جهنم‏}‏ خبره‏.‏ والجملة خبر الأول والعائد محذوف أي جزاؤه انتهى‏.‏ ويحتاج هذا التوجيه إلى نظر قال‏:‏ ويجوز أن يكون ‏{‏ذلك‏}‏ مبتدأ و‏{‏جزاؤهم‏}‏ بدل أو عطف بيان و‏{‏جهنم‏}‏ الخبر‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏جهنم‏}‏ بدلاً من جزاء أو خبر لابتداء محذوف، أي هو جهنم و‏{‏بما كفروا‏}‏ خبر ذلك، ولا يجوز أن تتعلق الباء بجزاؤهم للفصل بينهما و‏{‏اتخذوا‏}‏ يجوز أن يكون معطوفاً على ‏{‏كفروا‏}‏ وأن يكون مستأنفاً انتهى‏.‏ والآيات هي المعجزات الظاهرة على أيدي الأنبياء والصحف الإلهية المنزلة عليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏107- 110‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ‏(‏107‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ‏(‏108‏)‏ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ‏(‏109‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ‏(‏110‏)‏‏}‏

الفردوس قال الفراء‏:‏ البستان الذي فيه الكرم‏.‏ وقال ثعلب‏:‏ كل بستان يحوّط عليه فهو فردوس‏.‏

‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ إنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً‏}‏‏.‏

لما ذكر تعالى ما أعد للكافرين ذكر ما أعد للمؤمنين وفي الصحيح ‏{‏جنات الفردوس‏}‏ أربع ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما‏.‏ وفي حديث عبادة ‏{‏الفردوس‏}‏ أعلاها يعني أعلا الجنة‏.‏ قال قتادة وربوتها ومنها تفجر أنهار الجنة‏.‏ وقال أبو هريرة جبل تتفجر منه أنهار الجنة‏.‏ وفي حديث أبي أمامة ‏{‏الفردوس‏}‏ سرة الجنة‏.‏ وقال مجاهد ‏{‏الفردوس‏}‏ البستان بالرومية‏.‏ وقال كعب والضحاك ‏{‏جنات الفردوس‏}‏ الأعناب‏.‏ وقال عبيد الله بن الحارث بن كعب إنه جنات الكروم والأعناب خاصة من الثمار‏.‏ وقال المبرد‏:‏ ‏{‏الفردوس‏}‏ فيما سمعت من كلام العرب الشجر الملتف والأغلب عليه العنب‏.‏ وحكى الزجّاج أنه الأودية التي تنبت ضروباً من النبت، وهل هو عربي أو أعجمي قولان‏؟‏ وإذا قلنا أعجمي فهل هو فارسي أو رومي أو سرياني‏؟‏ أقوال‏.‏ وقال حسان‏:‏

وإن ثواب الله كل موحد *** جنان من الفردوس فيها يخلد

قيل‏:‏ ولم يسمع بالفردوس في كلام العرب إلاّ في هذا البيت بيت حسان، وهذا لا يصح فقد قال أمية بن أبي الصلت‏:‏

كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة *** فيها الفراديس ثم الثوم والبصل

الفراديس جمع فردوس‏.‏ والظاهر أن معنى ‏{‏جنات الفردوس‏}‏ بساتين حول الفردوس ولذلك أضاف الجنات إليه‏.‏ ويقال‏:‏ كرم مفردس أي معرش، وكذلك سميت الروضة التي دون اليمامة فردوساً لاجتماع نخلها وتعريشها على أرضها‏.‏ وفي دمشق باب الفراديس يخرج منه إلى البساتين‏.‏ و‏{‏نزلاً‏}‏ يحتمل من التأويل ما احتمل قوله ‏{‏نزلاً‏}‏ المتقدم‏.‏ ومعنى ‏{‏حولاً‏}‏ أي محولاً إلى غيرها‏.‏ قال ابن عيسى‏:‏ هو مصدر كالعوج والصغر‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ يقال حال عن مكانه حولاً كقوله‏:‏

عادني حبها عوداً *** يعني لا مزيد عليها حتى تنازعهم أنفسهم إلى أجمع لأغراضهم وأمانيهم، وهذه غاية الوصف لأن الإنسان في الدنيا في أي نعيم كان فهو طامح الطرف إلى أرفع منه، ويجوز أن يراد نفي التحول وتأكيد الخلود انتهى‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والحول بمعنى التحول‏.‏ قال مجاهد متحولاً‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

لكل دولة أجل *** ثم يتاح لها حول

وكأنه اسم جمع وكان واحده حوالة وفي هذا نظر‏.‏ وقال الزجّاج عن قوم‏:‏ هي بمعنى الحيلة في التنقل وهذا ضعيف متكلف‏.‏

‏{‏قل لو كان البحر‏}‏‏.‏ قيل سبب نزولها أن اليهود قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ كيف تزعم أنك نبي الأمم كلها ومبعوث إليها، وأنك أعطيت ما يحتاجه الناس من العلم وأنت مقصر قد سئلت عن الروح فلم تجب فيه‏؟‏ فنزلت معلمة باتساع معلومات الله وأنها غير متناهية وأن الوقوف دونها ليس ببدع ولا نكر، فعبر عن هذا بتمثيل ما يستكثرونه وهو قوله ‏{‏قل لو كان البحر‏}‏‏.‏ وقيل قال حيي بن أخطب في كتابكم ‏{‏ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً‏}‏ ثم تقروؤن ‏{‏وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً‏}‏ فنزلت يعني إن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات الله ‏{‏قل لو كان البحر‏}‏ أي ماء البحر ‏{‏مداداً‏}‏ وهو ما يمد به الدواة من الحبر، وما يمد به السراج من السليط‏.‏ ويقال‏:‏ السماء مداد الأرض ‏{‏لكلمات ربي‏}‏ أي معد الكتب كلمات ربي وهو علمه وحكمته، وكتب بذلك المداد ‏{‏لنفد البحر‏}‏ أي فني ماؤه الذي هو المداد قبل أن تنفد الكلمات لأن كلماته تعالى لا يمكن نفادها لأنها لا تتناهى والبحر ينفد لأنه متناه ضرورة، وليس ببدع أن أجهل شيئاً من معلوماته و‏{‏إنما أنا بشر مثلكم‏}‏ لم أعلم إلاّ ما أُوحي إلي به وأعلمت‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏مداداً لكلمات ربي‏}‏‏.‏ وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش ومجاهد والأعرج والحسن والمنقري عن أبي عمرو مدداً لكلمات ربي‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏تنفد‏}‏ بالتاء من فوق‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وعمرو بن عبيد والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى بالياء‏.‏ وقرأ السلمي ‏{‏أن تنفد‏}‏ بالتشديد على تفعل على المضي، وجاء كذلك عن عاصم وأبي عمرو فهو مطاوع من نفد مشدداً نحو كسرته فتكسر‏.‏ وفي قراءة الجماعة مطاوع لأنفد وجواب لو محذوف لدلالة المعنى عليه تقديره لنفد‏.‏ وقرأ الجمهور بمثله مدداً بفتح الميم والدال بغير ألف، والأعرج بكسر الميم‏.‏ وأنتصب ‏{‏مدداً‏}‏ على التمييز عن مثل كقوله‏:‏

فإن الهوى يكفيكه مثله صبراً *** وقرأ ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والأعمش بخلاف والتيمي وابن محيصن وحميد والحسن في رواية، وأبو عمرو في رواية وحفص في رواية بمثله مداداً بألف بين الدالين وكسر الميم‏.‏ قال أبو الفضل الرازي‏:‏ ويجوز أن يكون نصبه على المصدر بمعنى ولو أمددناه بمثله إمداداً ثم ناب المدد مناب الإمداد مثل أنبتكم نباتاً‏.‏

وفي قوله ‏{‏بشر مثلكم‏}‏ إعلام بالبشرية والمماثلة في ذلك لا أدّعي إني ملك ‏{‏يوحى إليّ‏}‏ أي عليّ إنما هو مستند إلى وحي ربي، ونبه على الوحدانية لأنهم كانوا كفاراً بعبادة الأصنام، ثم حض على ما فيه النجاة و‏{‏يرجو‏}‏ بمعنى يطمع و‏{‏لقاء ربه‏}‏ على تقدير محذوف أي حسن لقاء ربه‏.‏ وقيل ‏{‏يرجو‏}‏ أي يخاف سوء ‏{‏لقاء ربه‏}‏ أي لقاء جزاء ربه، وحمل الرجاء على بابه أجود لبسط النفس إلى إحسان الله تعالى‏.‏

ونهى عن الإشراك بعبادة الله تعالى‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ لا يرائي في عمله فلا يبتغي إلاّ وجه ربه خالصاً لا يخلط به غيره‏.‏ قيل ‏"‏ نزلت في جندب بن ز هير قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني أعمل العمل لله فإذا اطلع عليه سرني فقال‏:‏ «إن الله لا يقبل ما شورك فيه» ‏"‏ وروي أنه قال‏:‏ ‏"‏ لك أجران أجر السر وأجر العلانية ‏"‏ وذلك إذا قصد أن يقتدى به‏.‏ وقال معاوية بن أبي سفيان‏:‏ هذه آخر آية نزلت من القرآن‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ولا يشرك‏}‏ بياء الغائب كالأمر في قوله ‏{‏فليعمل‏}‏‏.‏ وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي عنه‏:‏ ولا تشرك بالتاء خطاباً للسامع والتفاتاً من ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب، وهو المأمور بالعمل الصالح ثم عاد إلى الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله بربه، ولم يأت التركيب بربك إيذاناً بأن الضميرين لمدلول واحد وهو من في قوله ‏{‏فمن كان يرجو‏}‏‏.‏

سورة مريم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 15‏]‏

‏{‏كهيعص ‏(‏1‏)‏ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ‏(‏2‏)‏ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ‏(‏3‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ‏(‏4‏)‏ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ‏(‏5‏)‏ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ‏(‏6‏)‏ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ‏(‏7‏)‏ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ‏(‏8‏)‏ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ‏(‏9‏)‏ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ‏(‏10‏)‏ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ‏(‏11‏)‏ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ‏(‏12‏)‏ وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ‏(‏13‏)‏ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ‏(‏14‏)‏ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ‏(‏15‏)‏‏}‏

هذه السورة مكية كالسورة التي قبلها‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ إلاّ آية السجدة فهي مدنية نزلت بعد مهاجرة المؤمنين إلى الحبشة‏.‏ ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى ضمن السورة قبلها قصصاً عجباً كقصة أهل الكهف، وقصة موسى مع الخضر، وقصة ذي القرنين، وهذه السورة تضمنت قصصاً عجباً من ولادة يحيى بين شيخ فانٍ وعجوز عاقر، وولادة عيسى من غير أب، فلما اجتمعا في هذا الشيء المستغرب ناسب ذكر هذه السورة بعد تلك، وتقدم الكلام في أول البقرة على هذه الحروف المقطعة التي في فواتح السور بما يوقف عليه هناك و‏{‏ذكر‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هذا المتلو من هذا القرآن ‏{‏ذكر‏}‏‏.‏ وقيل ‏{‏ذكر‏}‏ خبر لقوله ‏{‏كهيعص‏}‏ وهو مبتدأ ذكره الفرّاء‏.‏ قيل‏:‏ وفيه بُعد لأن الخبر هو المبتدأ في المعنى وليس في الحروف المقطعة ذكر الرحمة، ولا في ذكر الرحمة معناها‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏ذكر‏}‏ مبتدأ والخبر محذوف تقديره فيما يتلى ‏{‏ذكر‏}‏‏.‏

وقرأ الجمهور كاف بإسكان الفاء‏.‏ وروي عن الحسن ضمها، وأمال نافع هاء وياء بين اللفظين، وأظهر دال صاد عند ذاك‏.‏ ‏{‏ذكر‏}‏ وقرأ الحسن بضم الهاء وعنه أيضاً ضم الياء وكسر الهاء، وعن عاصم ضم الياء وعنه كسرهما وعن حمزة فتح الهاء وكسر الياء‏.‏ قال أبو عمرو الداني‏:‏ معنى الضم في الهاء والياء إشباع التفخيم وليس بالضم الخالص الذي يوجب القلب‏.‏ وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن المقري الرازي في كتاب اللوامح في شواذ القراءات خارجة عن الحسن‏:‏ كاف بضم الكاف، ونصر بن عاصم عنه بضم الهاء وهارون بن موسى العتكي عن إسماعيل عنه بالضم، وهذه الثلاث مترجم عليها بالضم ولسن مضمومات المحال في الحقيقة لأنهن لو كنّ كذلك لوجب قلب ما بعدهن من الألفات واوات بل نحيت هذه الألفات نحو الواو على لغة أهل الحجاز، وهي التي تسمى ألف التفخيم بضد الألف الممالة فأشبهت الفتحات التي تولدت منهن الضمات، وهذه الترجمة كما ترجموا عن الفتحة الممالة المقربة من الكسرة بكسرة لتقريب الألف بعدها من الياء انتهى‏.‏

وقرأ أبو جعفر بتقطيع هذه الحروف وتخليص بعضها من بعض فرقاً بينها وبين ما ائتلف من الحروف، فيصير أجزاء الكلم فاقتضين إسكان آخرهن، وأظهر الأكثرون دال صاد عند ذال ‏{‏ذكر‏}‏ وأدغمها أبو عمرو‏.‏ وقرأ حفص عن عاصم وفرقة بإظهار النون من عين والجمهور على إخفائها‏.‏

وقرأ الحسن وابن يعمر ‏{‏ذكر‏}‏ فعلاً ماضياً ‏{‏رحمة‏}‏ بالنصب، وحكاه أبو الفتح وذكره الزمخشري عن الحسن أي هذا المتلو من القرآن ‏{‏ذكر رحمة ربك‏}‏ وذكر الداني عن ابن يعمر ‏{‏ذكر‏}‏ فعل أمر من التذكير ‏{‏رحمة‏}‏ بالنصب و‏{‏عبده‏}‏ نصب بالرحمة أي ‏{‏ذكر‏}‏ أن ‏{‏رحمة ربك عبده‏}‏‏.‏

وذكر صاحب اللوامح أن ‏{‏ذكر‏}‏ بالتشديد ماضياً عن الحسن باختلاف وهو صحيح عن ابن يعمر، ومعناه أن المتلو أي القرآن ‏{‏ذكر برحمة ربك‏}‏ فلما نزع الباء انتصب، ويجوز أن يكون معناه أن القرآن ذكر الناس تذكيراً أن رحم الله عبده فيكون المصدر عاملاً في ‏{‏عبده زكريا‏}‏ لأنه ذكرهم بما نسوه من رحمة الله فتجدد عليهم بالقرآن ونزوله على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يكون ‏{‏ذكر‏}‏ على المضي مسنداً إلى الله سبحانه‏.‏

وقرأ الكلبي ‏{‏ذكر‏}‏ على المضي خفيفاً من الذكر ‏{‏رحمة ربك‏}‏ بنصب التاء ‏{‏عبده‏}‏ بالرفع بإسناد الفعل إليه‏.‏ وقال ابن خالويه‏:‏ ‏{‏ذكر رحمة ربك عبده‏}‏ يحيى بن يعمر و‏{‏ذكر‏}‏ على الأمر عنه أيضاً انتهى‏.‏

و ‏{‏إذ‏}‏ ظرف العامل فيه قال الحوفي‏:‏ ‏{‏ذكر‏}‏ وقال أبو البقاء‏:‏ و‏{‏إذ‏}‏ ظرف لرحمة أو لذكر انتهى‏.‏ ووصف نداء بالخفي‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ لئلا يخالطه رياء‏.‏ مقاتل‏:‏ لئلا يعاب بطلب الولد في الكبر‏.‏ قتادة‏:‏ لأن السر والعلانية عنده تعالى سواء‏.‏ وقيل‏:‏ أسره من مواليه الذين خافهم‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه أمر دنياوي فأخفاه لأنه إن أجيب فذاك بغيته، وإلاّ فلا يعرف ذلك أحد‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه كان في جوف الليل‏.‏ وقيل‏:‏ لإخلاصه فيه فلا يعلمه إلاّ الله‏.‏ وقيل‏:‏ لضعف صوته بسبب كبره، كما قيل‏:‏ الشيخ صوته خفات وسمعه تارات‏.‏ وقيل‏:‏ لأن الإخفاء سنة الأنبياء والجهر به يعد من الاعتداء‏.‏ وفي التنزيل ‏{‏ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين‏}‏ وفي الحديث‏:‏ «إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً»‏.‏ ‏{‏قال رب إني وهن العظم مني‏}‏ هذه كيفية دعائه وتفسير ندائه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وهن‏}‏ بفتح الهاء‏.‏ وقرأ الأعمش بكسرها‏.‏ وقرئ بضمها لغات ثلاث، ومعناه ضعف وأسند الوهن إلى العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه وهو أصل بنائه، فإذا وهن تداعى ما وراءه وتساقطت قوته، ولأنه أشد ما فيه وأصلبه فإذا وهن كان ما وراءه أوهن ووحد ‏{‏العظم‏}‏ لأنه يدل على الجنس، وقصد إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام، وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن ولو جمع لكان قصداً آخر وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ اشتكى سقوط الأضراس‏.‏ قال الكرماني‏:‏ وكان له سبعون سنة‏.‏ وقيل‏:‏ خمس وسبعون‏.‏ وقيل‏:‏ خمس وثمانون‏.‏ وقيل‏:‏ ستون‏.‏ وقيل‏:‏ خمس وستون‏.‏ وشبه الشيب بشواظ النار في بياضه وانتشاره في الشعر وفشوه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس، وأخرج الشيب مميزاً ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكرياء فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة قاله الزمخشري، وإلى هذا نظر ابن دريد‏.‏ فقال‏:‏

واشتعل المبيض في مسوده *** مثل اشتعال النار في جزل الغضا

وبعضهم أعرب ‏{‏شيباً‏}‏ مصدراً قال‏:‏ لأن معنى ‏{‏واشتعل الرأس‏}‏ شاب فهو مصدر من المعنى‏.‏ وقيل‏:‏ هو مصدر في موضع نصب على الحال، واشتعال الرأس استعارة المحسوس للمحسوس إذ المستعار منه النار والمستعار له الشيب، والجامع بينهما الانبساط والانتشار ‏{‏ولم أكن‏}‏ نفي فيما مضى أي ما كنت ‏{‏بدعائك رب شقياً‏}‏ بل كنت سعيداً موفقاً إذ كنت تجيب دعائي فأسعد بذلك، فعلى هذا الكاف مفعول‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ‏{‏بدعائك‏}‏ إلى الإيمان ‏{‏شقياً‏}‏ بل كنت ممن أطاعك وعبدك مخلصاً‏.‏ فالكاف على هذا فاعل والأظهر الأول شكراً لله تعالى بما سلف إليه من إنعامه عليه، أي قد أحسنت إليّ فيما سلف وسعدت بدعائي إياك فالإنعام يقتضي أن تجيبني آخر كما أجبتني أولاً‏.‏

وروي أن حاتماً الطائي أتاه طالب حاجة فقال‏:‏ أنا أحسنت إليك وقت كذا، فقال حاتم‏:‏ مرحباً بالذي توسل بنا إلينا وقضى حاجته‏.‏

‏{‏وإني خفت الموالي من ورائي‏}‏ ‏{‏الموالي‏}‏ بنو العم والقرابة الذين يلون بالنسب‏.‏ قال الشاعر‏:‏

مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا *** لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا

وقال لبيد‏:‏

ومولى قد دفعت الضيم عنه *** وقد أمسى بمنزلة المضيم

وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح ‏{‏الموالي‏}‏ هنا الكلالة خاف أن يرثوا ماله وأن يرثه الكلالة‏.‏ وروى قتادة والحسن عن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يرحم الله أخي زكريا ما كان عليه ممن يرث ماله» وقالت فرقة‏:‏ إنما كان مواليه مهملين الدين فخاف بموته أن يضيع الدين فطلب ولياً يقوم بالدين بعده، وهذا لا يصح عنه إذ قال عليه السلام‏:‏ «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة» والظاهر اللائق بزكريا عليه السلام من حيث هو معصوم أنه لا يطلب الولد لأجل ما يخلفه من حطام الدنيا‏.‏ وكذلك قول من قال‏:‏ إنما خاف أن تنقطع النبوّة من ولده ويرجع إلى عصبته لأن تلك إنما يضعها الله حيث شاء ولا يعترض على الله فيمن شاءه واصطفاه من عباده‏.‏ قال الزمخشري كان مواليه وهم عصبته إخوته وبنو عمه شرار بني إسرائيل فخافهم على الدين أن يغيروه وأن لا يحسنوا الخلافة على أمته، فطلب عقباً صالحاً من صلبه يقتدى به في إحياء الدين‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏خفت‏}‏ من الخوف‏.‏ وقرأ عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وابن عباس وسعيد بن العاصي وابن يعمر وابن جبير وعليّ بن الحسين وولده محمد وزيد وشبيل بن عزرة والوليد بن مسلم لأبي عامر ‏{‏خفت‏}‏ بفتح الخاء والفاء مشددة وكسر تاء التأنيث ‏{‏الموالي‏}‏ بسكون الياء والمعنى انقطع مواليّ وماتوا فإنما أطلب ولياً يقوم بالدين‏.‏ وقرأ الزهري ‏{‏خفت‏}‏ من الخوف ‏{‏الموالي‏}‏ بسكون التاء على قراءة ‏{‏خفت‏}‏ من الخوف يكون ‏{‏من ورائي‏}‏ أي بعد موتي‏.‏

وعلى قراءة ‏{‏خفت‏}‏ يحتمل أن يتعلق ‏{‏من ورائي‏}‏ بخفت وهو الظاهر، فالمعنى أنهم خفوا قدامه أي درجوا فلم يبق منهم من له تقوّ واعتضاد، وأن يتعلق بالموالي أي قلوا وعجزوا عن إقامة الدين‏.‏ و‏{‏ورائي‏}‏ بمعنى خلفي ومن بعدي، فسأل ربه تقويتهم ومظاهرتهم بولي يرزقه‏.‏ وروي عن ابن كثير من وراي مقصوراً كعصاي‏.‏

وتقدم شرح العاقر في آل عمران وقوله ‏{‏من لدنك‏}‏ تأكيد لكونه ولياً مرضياً بكونه مضافاً إلى الله وصادراً من عنده، أو أراد اختراعاً منك بلا سبب لأني وامرأتي لا نصلح للولادة‏.‏ والظاهر أنه طلب من الله تعالى أن يهبه ولياً ولم يصرح بأن يكون ولد البعد ذلك عنده لكبره وكون امرأته عاقراً‏.‏ وقيل‏:‏ إنما سأل الولد‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يرثني ويرث‏}‏ برفع الفعلين صفة للولي فإن كان طلب الولد فوصفه بأن تكون الإجابة في حياته حتى يرثه لئلا تكون الإجابة في الولد لكن يحرمه فلا يحصل ما قصده‏.‏ وقرأ النحويان والزهري والأعمش وطلحة واليزيدي وابن عيسى الأصبهاني وابن محيصن وقتادة بجزمهما على جواب الأمر‏.‏ وقرأ عليّ وابن عباس والحسن وابن يعمر والجحدري وقتادة وأبو حرب بن أبي الأسود وجعفر بن محمد وأبو نهيك ‏{‏يرثني‏}‏ بالرفع والياء وارث جعلوه فعلاً مضارعاً من ورث‏.‏ قال صاحب اللوامح‏:‏ وفيه تقديم فمعناه ‏{‏فهب لي من لدنك ولياً‏}‏ من آل يعقوب ‏{‏يرثني‏}‏ إن مت قبله أي نبوّتي وأرثه إن مات قبلي أي ماله، وهذا معنى قول الحسن‏.‏ وقرأ عليّ وابن عباس والجحدري ‏{‏يرثني‏}‏ وارث ‏{‏من آل يعقوب‏}‏‏.‏ قال أبو الفتح هذا هو التجريد التقدير ‏{‏يرثني‏}‏ منه وارث‏.‏ وقال الزمخشري وارث أي ‏{‏يرثني‏}‏ به وارث ويسمى التجريد في علم البيان، والمراد بالإرث إرث العلم لأن الأنبياء لا تورث المال‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏يرثني‏}‏ الحبورة وكان حبراً ويرث ‏{‏من آل يعقوب‏}‏ الملك يقال‏:‏ ورثته وورثت منه لغتان‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏من‏}‏ للتبعيض لا للتعدية لأن ‏{‏آل يعقوب‏}‏ ليسوا كلهم أنبياء ولا علماء‏.‏ وقرأ مجاهد أو يرث من آل يعقوب على التصغير، وأصله وويرث فأبدلت الواو همزة على اللزوم لاجتماع الواوين وهو تصغير وارث أي غُلَيم صغير‏.‏ وعن الجحدري وارث بكسر الواو يعني به الإمالة المحضة لا الكسر الخالص، والظاهر أن يعقوب هو ابن إسحاق بن إبراهيم‏.‏ وقيل‏:‏ هو يعقوب بن ماثان أخو زكرياء‏.‏ وقيل‏:‏ يعقوب هذا وعمران أبو مريم أخوان من نسل سليمان بن داود ومرضياً بمعنى مرضي‏.‏

‏{‏يا زكريا‏}‏ أي قيل له بإثر الدعاء‏.‏ وقيل‏:‏ رزقه بعد أربعين سنة من دعائه‏.‏ وقيل‏:‏ بعد ستين والمنادي والمبشر زكرياء هم الملائكة بوحي من الله تعالى قال تعالى ‏{‏فنادته الملائكة‏}‏ الآية والغلام الولد الذكر، وقد يقال للأثنى غلامة كما قال‏:‏

تهان لها الغلامة والغلام *** والظاهر أن ‏{‏يحيى‏}‏ ليس عربياً لأنه لم تكن عادتهم أن يسموا بألفاظ العربية فيكون منعه الصرف للعلمية والعجمة، وإن كان عربياً فيكون مسمى بالفعل كيعمر ويعيش قد سموا بيموت وهو يموت بن المزرع ابن أخت الجاحظ‏.‏

وعلى أنه عربي‏.‏ فقيل‏:‏ سمي بذلك لأنه يحيى بالحكمة والعفة‏.‏ وقيل‏:‏ يحيى بهدايته وإشاده خلق كثير‏.‏ وقيل لأنه يستشهد والشهداء أحياء‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه يعمر زمناً طويلاً‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه حيي بين شيخ كبير وأمّ عاقر‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه حيي به عقر أمه وكانت لا تلد‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة والسدّي وابن أسلم‏:‏ لم نسم قبله أحداً بيحيى‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وهذا شاهد على أن الأسامي الشنع جديرة بالأثرة وإياها كانت العرب تنحي في التسمية لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النفر، حتى قال القائل في مدح قوم‏:‏

شنع الأسامي مسبلي أزر *** حمر تمس الأرض بالهدب

وقال رؤبة للنسابة البكري‏:‏ وقد سأله عن نسبه أنا ابن العجاج فقال‏:‏ قصرت وعرفت انتهى‏.‏ وقيل للصلت بن عطاء‏:‏ كيف تقدمت عند البرامكة وعندهم من هو آدب منك، فقال‏:‏ كنت غريب الدار غريب الأسم خفيف الحزم شحيحاً بالاشلاء‏.‏ فذكر مما قدمه كونه غريب الاسم إذ كان اسمه الصلت‏.‏ وقال مجاهد وغيره ‏{‏سمياً‏}‏ أي مثلاً ونظيراً وكأنه من المساماة والسموّ‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا فيه بعد لأنه لا يفضل على إبراهيم وموسى‏.‏ وقال ابن عباس أيضاً لم تلد العواقر مثله‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ وإنما قيل للمثل سمّي لأن كل متشاكلين يسمى كل واحد منهما باسم المثل والشبيه والشكل والنظير فكل واحد منهما سَمِي لصاحبه‏.‏ وقيل‏:‏ لم يكن له مثل في أنه لم يعص ولم يهم بمعصية قط، وأنه ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر وأنه كان حصوراً انتهى‏.‏

و ‏{‏أنّى‏}‏ بمعنى كيف‏:‏ وتقدم الكلام عليها في قوله ‏{‏قال رب أنّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر‏}‏ في آل عمران والعتيّ المبالغة في الكبر‏.‏ ويبس العود‏.‏ وقرأ أبو بحرية وابن أبي ليلى والأعمش وحمزة والكسائي ‏{‏عتياً‏}‏ بكسر العين وباقي السبعة بالضم وعبد الله بفتح العين وصاد صلياً جعلهما مصدرين كالعجيج والرحيل، وفي الضم هما كذلك إلاّ أنهما على فعول‏.‏ وعن عبد الله ومجاهد عسياً بضم العين والسين كمسورة‏.‏ وحكاها الداني عن ابن عباس وحكاها الزمخشري عن أُبيّ ومجاهد يقال عتا العود وعسا يبس وجسا‏.‏

‏{‏قال‏:‏ كذلك‏}‏ أي الأمر كذلك تصديق له ثم ابتدأ ‏{‏قال ربك‏}‏ فالكاف رفع أو نصب بقال، وذلك إشارة إلى مبهم يفسره ‏{‏هو عليّ هين‏}‏ ونحوه ‏{‏وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين‏}‏ وقرأ الحسن ‏{‏وهو عليّ هين‏}‏ ولا يخرج هذا إلاّ على الوجه الأول أي الأمر كما قلت، وهو عليّ ذلك يهون، ووجه آخر وهو أن يشار بذلك إلى ما تقدم من وعد الله لا إلى قول زكرياء وقال‏:‏ محذوف في كلتا القراءتين أي قال ‏{‏هو عليّ هين‏}‏ وإن شئت لم تنوه لأن الله هو المخاطب، والمعنى أنه قال ذلك ووعده وقوله الحق قاله الزمخشري‏:‏ وقال ابن عطية وقوله ‏{‏قال كذلك‏}‏ قيل إن المعنى قال له الملك ‏{‏كذلك‏}‏ فليكن الوجود كما قيل لك ‏{‏قال ربك‏}‏ خلق الغلام ‏{‏عليّ هين‏}‏ أي غير بدع وكما خلقتك قبل وأخرجتك من عدم إلى وجود كذلك أفعل الآن‏.‏

وقال الطبري‏:‏ معنى قوله ‏{‏كذلك‏}‏ أي الأمر أن اللذان ذكرت من المرأة العاقر والكبر هو كذلك ولكن ‏{‏قال ربك‏}‏ والمعنى عندي قال الملك ‏{‏كذلك‏}‏ أي على هذه الحال ‏{‏قال ربك هو عليّ هين‏}‏ انتهى‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏هو عليّ هين‏}‏ بكسر الياء‏.‏ وقد أنشدوا قول النابغة‏:‏

عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة *** لوالده ليست بذات عقارب

بكسر ياء المتكلم وكسرها شبيه بقراءة حمزة ‏{‏وما أنتم بمصرخي‏}‏ بكسر الياء‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏وقد خلقتك‏}‏ بتاء المتكلم‏.‏ وقرأ الأعمش وطلحة وابن وثاب وحمزة والكسائي خلقناك بنون العظمة ‏{‏ولم تك شيئاً‏}‏ أي شيئاً موجوداً‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏شيئاً‏}‏ لأن المعدوم ليس بشيء أو شيئاً يعتد به كقولهم‏:‏ عجبت من لا شيء إذا رأى غير شيء ظنه رجلاً‏.‏

‏{‏قال‏}‏ أي زكريا ‏{‏رب اجعل لي آية‏}‏ أي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به وطلب ذلك ليزداد يقيناً كما قال إبراهيم عليه السلام ‏{‏ولكن ليطمئن قلبي‏}‏ لا لتوقف منه على صدق ما وعد به، ولا لتوهم أن ذلك من عند غير الله لعصمة الأنبياء عن مثل ذلك‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ وقعت البشارة مطلقة فلم يعرف الوقت فطلب الآية ليعرف وقت الوقوع‏.‏ ‏{‏قال آيتك‏}‏ روي عن ابن زيد أنه لما حملت زوجته بيحيى أصبح لا يستطيع أن يكلم أحداً وهو مع ذلك يقرأ التوراة ويذكر الله، فإذا أراد مناداة أحد لم يطقه‏.‏ و‏{‏سوياً‏}‏ حال من ضمير أي ‏{‏لا تكلم‏}‏ في حال صحتك ليس بك خرس ولا علة قاله الجمهور وعن ابن عباس ‏{‏سوياً‏}‏ عائد على الليالي أي كاملات مستويات فتكون صفة لثلاث، ودل ذكر الليالي هنا والأيام في آل عمران على أن المنع من الكلام استمر له ثلاثة أيام بلياليهن‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن علي ‏{‏أن لا تكلم‏}‏ برفع الميم جعلها أن المخففة من الثقيلة التقدير أنه لا يكلم‏.‏ وقرأ الجمهور بنصبها جعلوا أن الناصبة للمضارع ‏{‏فخرج على قومه من المحراب‏}‏ أي وهو بتلك الصفة من كونه لا يستطيع أن يكلم الناس، ومحرابه موضع مصلاه، والمحراب تقدم الكلام عليه في آل عمران ‏{‏فأوحى إليهم‏}‏ أي أشار‏.‏ قال قتادة وابن منبه والكلبي والقرطبي أوحى إليهم أشار، وذكره الزمخشري عن مجاهد قال‏:‏ ويشهد له إلاّ رمزاً‏.‏ وعن ابن عباس كتب لهم على الأرض‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وقال مجاهد‏:‏ بل كتب لهم في التراب وكلا الوجهين وحي انتهى‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ كتب في ورقة والوحي في كلام العرب الكتابة‏.‏ ومنه قول ذي الرمة‏:‏

سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها *** بقية وحي في بطون الصحائف

وقال عنترة‏:‏

كوحي صحائف من عهد كسرى *** فأهداها لأعجم طمطميِّ

وقال جرير‏:‏

كأن أخا اليهود يخط وحياً *** بكاف في منازلها ولام

والجمهور على أن المعنى ‏{‏أن سبحوا‏}‏ صلوا‏.‏ وقيل أمرهم بذكر الله والتسبيح‏.‏ قال المفسرون كان يخرج على قومه بكرة وعشياً فيأمرهم بالصلاة إشارة‏.‏ وقال صاحب التحرير والتحبير وعندي في هذا معنى لطيف وهو أنه إنما خص بالتسبيح بالذكر لأن العادة جارية أن كل من رأى أمراً عجب منه أو رأى فيه بديع صنعة أو غريب حكمة يقول‏:‏ سبحان الله سبحان الخالق، فلما رأى حصول الولد من شيخ وعاقر عجب من ذلك فسبح وأمر بالتسبيح انتهى‏.‏ وقال الزمخشري وابن عطية و‏{‏أن‏}‏ مفسرة‏.‏ وقال الحوفي ‏{‏أن سبحوا‏}‏ ‏{‏أن‏}‏ نصب بأوحى‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ يجوز أن تكون مصدرية، وأن تكون بمعنى أي انتهى‏.‏ وقرأ طلحة أن سبحوه بهاء الضمير عائدة على الله تعالى‏.‏ وروى ابن غزوان عن طلحة أن سبحن بنون مشددة من غير واو ألحق فعل الأمر نون التوكيد الشديد‏.‏

‏{‏يا يحيى خذ الكتاب بقوة‏}‏ في الكلام حذف والتقدير فلما ولد يحيى وكبر وبلغ السنّ الذي يؤمر فيه قال الله له على لسان الملك وأبعد التبريزي في قوله إن المنادي له أبوه حين ترعرع ونشأ، والصحيح ما سبق لقوله ‏{‏وآتيناه الحكم صبياً‏}‏ و‏{‏الكتاب‏}‏ هو التوراة‏.‏ قال ابن عطية بلا خلاف لأنه ولد قبل عيسى ولم يكن الإنجيل موجوداً انتهى‏.‏ وليس كما قال بل قيل له كتاب خص به كما خص كثير من الأنبياء بمثل ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏الكتاب‏}‏ هنا اسم جنس أي اتل كتب الله‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏الكتاب‏}‏ صحف إبراهيم‏.‏ وقال الحسن وعلمه التوراة والإنجيل وأرسله إلى بني إسرائيل، وكان يصوم ويصلي في حال طفوليته ويدعو إلى الله بقوة بجد واستظهار وعمل بما فيه والحكم النبوة أو حكم الكتاب أو الحكمة أو العلم بالأحكام أو اللب وهو العقل، أو آداب الخدمة أو الفراسة الصادقة أقوال ‏{‏صبياً‏}‏ أي شاباً لم يبلغ سن الكهولة‏.‏ وقيل‏:‏ ابن سنتين‏.‏ وقيل‏:‏ ابن ثلاث‏.‏ وعن ابن عباس في حديث مرفوع‏:‏ «ابن سبع سنين» ‏{‏وحناناً‏}‏ معطوف على الحكم والحنان الرحمة قاله ابن عباس في رواية والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك وأبو عبيدة والفراء وأنشد أبو عبيدة‏:‏

تحنن على هداك المليك *** فإن لكل مقام مقالا

قال‏:‏ وأكثر ما تستعمل مثنى كما قال‏:‏

حنانيك بعض الشر أهون من بعض *** وقال ابن الأنباري‏:‏ المعنى وجعلناه ‏{‏حناناً‏}‏ لأهل زمانه‏.‏ وقال مجاهد وتعطفاً من ربه عليه‏.‏ وعن ابن جبير‏:‏ ليناً‏.‏ وعن عكرمة وابن زيد‏:‏ محبة، وعن عطاء تعظيماً‏.‏

وقوله ‏{‏وزكاة‏}‏ عن الضحاك وقتادة عملاً صالحاً‏.‏ وعن ابن السائب‏:‏ صدقة تصدق بها على أبويه‏.‏ وعن الزجاج تطهيراً‏.‏ وعن ابن الأنباري زيادة في الخير‏.‏ وقيل ثناء كما يزكي الشهود‏.‏ ‏{‏وكان تقياً‏}‏‏.‏ قال قتادة‏:‏ لم يهم قط بكبيرة ولا صغيرة ولا همَّ بامرأة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ جعله متقياً له لا يعدل به غيره‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ كان طعامه العشب المباح وكان للدمع في خديه مجار بائنة ‏{‏وبراً بوالديه‏}‏ أي كثير البر والإكرام والتبجيل‏.‏ وقرأ الحسن وأبو جعفر في رواية وأبو نهيك وأبو مجلز ‏{‏وبراً‏}‏ في الموضعين بكسر الباء أي وذا بر ‏{‏ولم يكن جباراً‏}‏ أي متكبراً ‏{‏عصياً‏}‏ أي عاصياً كثير العصيان، وأصله عصوى فعول للمبالغة، ويحتمل أن يكون فعيلاً وهي من صيغ المبالغة‏.‏

‏{‏وسلام عليه‏}‏‏.‏ قال الطبري‏:‏ أي أمان‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والأظهر أنها التحية المتعارفة وإنما الشرف في أن سلم الله عليه وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله، وذكر الطبري عن الحسن أن عيسى ويحيى عليهما السلام التقيا وهما ابنا الخالة، فقال يحيى لعيسى‏:‏ ادع لي فأنت خير مني، فقال له عيسى‏:‏ بل أنت ادع لي فأنت خير مني سلم الله عليك وأنا سلمت على نفسي‏.‏

وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ ‏{‏يوم ولد‏}‏ أي أمان عليه من أن يتاله الشيطان ‏{‏ويوم يموت‏}‏ أي أمان من عذاب القبر ‏{‏ويوم يبعث حياً‏}‏ من عذاب الله يوم القيامة‏.‏ وفي قوله ‏{‏ويوم يبعث حياً‏}‏ تنبيه على كونه من الشهداء لقوله ‏{‏بل أحياء عند ربهم يرزقون‏}‏ وهذا السلام يحتمل أن يكون من الله وأن يكون من الملائكة انتهى‏.‏ والأظهر أنه من الله لأنه في سياق ‏{‏وآتيناه الحكم‏}‏‏.‏