فصل: تفسير الآيات رقم (128- 135)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 89‏]‏

‏{‏وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى ‏(‏83‏)‏ قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ‏(‏84‏)‏ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ‏(‏85‏)‏ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ‏(‏86‏)‏ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ‏(‏87‏)‏ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ‏(‏88‏)‏ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ‏(‏89‏)‏‏}‏

لما نهض موسى عليه السلام ببني إسرائيل إلى جانب الطور الأيمن حيث كان الموعد أن يكلم الله موسى بما فيه شرف العاجل والآجل، رأى على وجه الاجتهاد أن يقدم وحده مبادراً إلى أمر الله وحرصاً على القرب منه وشوقاً إلى مناجاته، واستخلف هارون على بني إسرائيل وقال لهم موسى‏:‏ تسيرون إلى جانب الطور فلما انتهى موسى عليه السلام وناجى ربه، زاده في الأجل عشراً وحينئذ وقفه على استعجاله دون القوم ليخبره موسى أنهم على الأثر فيقع الإعلام له بما صنعوا ‏{‏وما‏}‏ استفهام أي أي شيء عجل بك عنهم‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وكان قد مضى مع النقباء إلى الطور على الموعد المضروب ثم تقدمهم شوقاً إلى كلام ربه وينجز ما وعد به بناء على اجتهاده، وظن أن ذلك أقرب إلى رضا الله، وزال عنه أنه عز وجل ما وقت أفعاله إلا نظراً إلى دواعي الحكمة وعلماً بالمصالح المتعلقة بكل وقت، فالمراد بالقوم النقباء انتهى‏.‏

والظاهر أن قوله عز وجل ‏{‏عن قومك‏}‏ يريد به جميع بني إسرائيل كما قد بيّنا قبل لا السبعين‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وليس يقول من جوز أن يراد جميع قومه وأن يكون قد فارقهم قبل الميعاد وجه صحيح ما يأباه قوله ‏{‏هم أولاء على أثري‏}‏ انتهى‏.‏ ‏{‏وما أعجلك‏}‏ سؤال عن سبب العجلة وأجاب بقوله ‏{‏هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى‏}‏ لأن قوله ‏{‏وما أعجلك‏}‏ تضمن تأخر قومه عنه، فأجاب مشيراً إليهم لقربهم منه إنهم على أثره جائين للموعد، وذلك على ما كان عهد إليهم أن يجيئوا للموعد‏.‏ ثم ذكر السبب الذي حمله على العجلة وهو ما تضمنه قوله ‏{‏وعجلت إليك رب لترضى‏}‏ من طلبه رضا الله تعالى في السبق إلى ما وعده ربه ومعنى ‏{‏إليك‏}‏ إلى مكان وعدك و‏{‏لترضى‏}‏ أي ليدوم رضاك ويستمر، لأنه تعالى كان عنه راضياً‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ ‏{‏ما أعجلك‏}‏ سؤال عن سبب العجلة، فكان الذي ينطبق عليه من الجواب أن يقال‏:‏ طلب زيادة رضاك والشوق إلى كلامك وينجز موعدك وقوله ‏{‏هم أولاء على أثري‏}‏ كما ترى غير منطبق عليه‏.‏ قلت‏:‏ قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين أحدهما إنكار العجلة في نفسها، والثاني السؤال عن سبب المستنكر والحامل عليه، فكان أهم الأمرين إلى موسى بسط العذر وتمهيد العلة في نفس ما أنكر عليه، فاعتل بأنه لم يوجد مني إلاّ تقدم يسير مثله لا يعتد به في العادة ولا يحتفل به، وليس بيني وبين من سبقته إلا مسافة قريبة يتقدم بمثلها الوفد رأسهم ومقدمهم، ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال ‏{‏وعجلت إليك رب لترضى‏}‏ ولقائل أن يقول‏:‏ حارَ لِما وَرَد عليه من التهيب لعتاب الله فأذهله ذلك عن الجواب المنطبق المترتب على حدود الكلام انتهى‏.‏

وفيه سوء أدب على الأنبياء عليهم السلام‏.‏

وقرأ الحسن وابن معاذ عن أبيه أولائي بياء مكسورة وابن وثاب وعيسى في رواية ‏{‏أولاء‏}‏ بالقصر‏.‏ وقرأت فرقة أولاي بياء مفتوحة‏.‏ وقرأ عيسى ويعقوب وعبد الوارث عن أبي عمرو وزيد بن علي إثري بكسر الهمزة وسكون الثاء‏.‏ وحكى الكسائي أثْرِي بضم الهمزة وسكون الثاء وتروى عن عيسى‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏أولاء‏}‏ بالمد والهمز على ‏{‏أَثَرِي‏}‏ بفتح الهمز والثاء و‏{‏على أثري‏}‏ يحتمل أن يكون خبراً بعد خبر، أو في موضع نصب على الحال‏.‏

قال‏:‏ ‏{‏فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري‏}‏ أي اختبرناهم بما فعل السامري أو ألقيناهم في فتنة أي ميل مع الشهوات ووقوع في اختلاف ‏{‏من بعدك‏}‏ أي من بعد فراقك لهم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أراد بالقوم المفتونين الذين خلفهم مع هارون، وكانوا ستمائة ألف ما نجا من عبادة العجل إلاّ اثنا عشر ألفاً فإن قلت‏:‏ في القصة أنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة وحسبوا أربعين مع أيامها، وقالوا قد أكملنا العدة ثم كان أمر العجل بعد ذلك، فكيف التوفيق بين هذا وبين قوله تعالى لموسى عند مقدمه ‏{‏إنا قد فتنا قومك من بعدك‏}‏‏؟‏ قلت‏:‏ قد أخبر الله تعالى عن الفتنة المترقبة بلفظ الموجودة الكائنة على عادته، وافترض السامري غيبته فعزم على إضلالهم غب انطلاقه‏.‏ وأخذ في تدبير ذلك فكان بدء الفتنة موجوداً انتهى‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وأضلهم‏}‏ فعلاً ماضياً‏.‏ وقرأ أبو معاذ وفرقة وأضَلُهم برفع اللام مبتدأ والسامري خبره وكان أشدهم ضلالاً لأنه ضال في نفسه مضل غيره‏.‏ وفي القراءة الشهري أسند الضلال إلى السامري لأنه كان السبب في ضلالهم، وأسند الفتنة إليه تعالى لأنه هو الذي خلقها في قلوبهم‏.‏ و‏{‏السامري‏}‏ قيل اسمه موسى بن ظفر‏.‏ وقيل‏:‏ منجا وهو ابن خالة موسى أو ابن عمه أو عظيم من بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسامرة، أو علج من كرمان، أو من باجرما أو من اليهود أو من القبط آمن بموسى وخرج معه، وكان جاره أو من عبّاد البقر وقع في مصر فدخل في بني إسرائيل بظاهره وفي قلبه عبادة البقر أقوال وتقدم في الأعراف كيفية اتخاذ العجل وقبل ذلك في البقرة فأغنى عن إعادته هنا‏.‏

‏{‏فرجع موسى إلى قومه‏}‏ وذلك بعدما استوفى الأربعين وانتصب ‏{‏غضبان أسفاً‏}‏ على الحال، والأسف أشد الغضب‏.‏ وقيل‏:‏ الحزن وغضبه من حيث له قدرة على تغيير منكرهم، وأسفه وهو حزنه من حيث علم أنه موضع عقوبة لا يد له بدفعها ولا بد منها‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والأسف في كلام العرب متى كان من ذي قدرة على من دونه فهو غضب، ومتى كان من الأقل على الأقوى فهو حزن، وتأمل ذلك فهو مطرد، ثم أخذ موسى عليه السلام يوبخهم على إضلالهم والوعد الحسن ما وعدهم من الوصول إلى جانب الطور الأيمن وما بعد ذلك من الفتوح في الأرض والمغفرة لمن تاب وآمن وغير ذلك مما وعد الله أهل طاعته‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ وعدهم الله بعدما استوفى الأربعين أن يعطيهم التوراة التي فيها هدى ونور، ولا وعد أحسن من ذاك وأجمل‏.‏ وقال الحسن‏:‏ الوعد الحسن الجنة‏.‏ وقيل‏:‏ أن يسمعهم كلامه والعهد الزمان، يريد مفارقته لهم يقال طال عهدي بكذا أي طال زماني بسبب مفارقتك، وعدوه أن يقيموا على أمره وما تركهم عليه من الإيمان فأخلفوا موعده بعبادتهم العجل انتهى‏.‏

وانتصب ‏{‏وعداً‏}‏ على المصدر والمفعول الثاني ليعدكم محذوف أو أطلق الوعد ويراد به الموعود فيكون هو المفعول الثاني وفي قوله ‏{‏أفطال‏}‏ إلى آخره توقيف على أعذار لم تكن ولا تصح لهم وهو طول العهد حتى يتبين لهم خلف في الموعد وإرادة حلول غضب الله، وذلك كله لم يكن ولكنهم عملوا عمل من لم يتدبر‏.‏ وسُمِّي العذاب غضباً من حيث هو ناشئ عن الغضب فإن جعل بمعنى الإرادة فصفة ذات أو عن ظهور النقمة والعذاب فصفة فعل‏.‏ و‏{‏موعدي‏}‏ مصدر يحتمل أن يضاف إلى الفاعل أي أوجدتموني أخلفت ما وعدتكم من قول العرب‏:‏ فلان أخلف وعد فلان إذا وجده وقع فيه الخلف قاله المفضل، وأن يضاف إلى المفعول وكانوا وعدوه أن يتمسكوا بدين الله وسنة موسى عليه السلام ولا يخالفوا أمر الله أبداً فأخلفوا موعده بعبادتهم العجل‏.‏

وقرأ الأخوان والحسن والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وقعنب بِمُلْكِنا بضم الميم‏.‏ وقرأ زيد بن عليّ ونافع وعاصم وأبو جعفر وشيبة وابن سعدان بفتحها وباقي السبعة بكسرها‏.‏ وقرأ عمر رضي الله عنه بِمَلَكِنا بفتح الميم واللام وحقيقته بسلطاننا، فالملك والملك بمنزلة النقض والنقض‏.‏ والظاهر أنها لغات والمعنى واحد وفرق أبو عليّ وغيره بين معانيها فمعنى الضم أنه لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك بسلطانه وإنما أخلفناه بنظر أدّى إليه ما فعل السامري، فليس المعنى أن لهم ملكاً وإنما هذا كقول ذي الرّمة‏:‏

لا يشتكي سقط منها وقد رقصت *** بها المفاوز حتى ظهرها حدب

أي لا يكون منها سقطة فتشتكي، وفتح الميم مصدر من ملك والمعنى ما فعلنا ذلك بأنا ملكنا الصواب ولا وقفنا له، بل غلبتنا أنفسننا وكسر الميم كثر استعماله فيما تحوزه اليد ولكنه يستعمل في الأمور التي يبرمها الإنسان ومعناها كمعنى التي قبلها‏.‏ والمصدر في هذين الوجهين مضاف إلى الفاعل والمفعول مقدر أي ‏{‏بملكنا‏}‏ الصواب‏.‏ وقال الزمخشري؛ أي ‏{‏ما أخلفنا موعدك‏}‏ بأن ملكنا أمرنا أي لو ملكنا أمرنا وخلينا ورأينا لما أخلفناه، ولكن غُلبنا من جهة السامري وكيده‏.‏

وقرأ الأخوان وأبو عمرو وابن محيصن بفتح الحاء والميم وأبو رجاء بضم الحاء وكسر الميم‏.‏ وقرأ باقي السبعة وأبو جعفر وشيبة وحميد ويعقوب غير روح كذلك إلا أنهم شدّدوا الميم، والأوزار الأثقال أطلق على ما كانوا استعاروا من لقيط برسم التزين أوزاراً لثقلها، أو لسبب أنهم أثموا في ذلك فسميت أوزاراً لما حصلت الأوزار التي هي الآثام بسببها‏.‏ والقوم هنا القبط‏.‏ وقيل‏:‏ أمرهم بالاستعارة موسى‏.‏ وقيل‏:‏ أمر الله موسى بذلك‏.‏ وقيل‏:‏ هو ما ألقاه البحر مما كان على الذين غرقوا‏.‏ وقيل‏:‏ الأوزار التي هي الآثام من جهة أنهم لم يردوها إلى أصحابها، ومعنى أنهم حملوا الآثام وقذفوها على ظهورهم كما جاؤهم يحملون أوزارهم على ظهورهم‏.‏ وقيل معنى ‏{‏فقذفناها‏}‏ أي الحليّ على أنفسنا وأولادنا‏.‏ وقيل ‏{‏فقذفناها‏}‏ في النار أي ذلك الحليّ، وكان أشار عليهم بذلك السامري فحفرت حفرة وسجرت فيها النار وقذف كل من معه شيء ما عنده من ذلك في النار‏.‏ وقذف السامري ما معه‏.‏ ومعنى ‏{‏فكذلك‏}‏ أي مثل قذفنا إياها ‏{‏ألقى السامري‏}‏ ما كان معه‏.‏ وظاهر هذه الألفاظ أن العجل لم يصنعه السامري‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏فكذلك ألقى السامري‏}‏ أراهم أنه يلقي حلياً في يده مثل ما ألقوا وإنما ألقى التربة التي أخدها من موطئ حيزوم فرس جبريل عليه السلام، أوحى إليه وليه الشيطان أنها إذا خالطت مواتاً صار حيواناً فأخرج لهم السامري من الحفرة عجلاً خلقه الله من الحلي التي سبكتها النار تخور كخور العجاجيل‏.‏ والمراد بقوله ‏{‏إنا قد فتنا قومك‏}‏ هو خلق العجل للامتحان أي امتحناهم بخلق العجل وحملهم السامري على الضلال وأوقعهم فيه حين قال لهم ‏{‏هذا إلهكم وإله موسى‏}‏ انتهى‏.‏

وقيل‏:‏ معنى ‏{‏جسداً‏}‏ شخصاً‏.‏ وقيل‏:‏ لا يتغذى، وتقدم الكلام على قوله ‏{‏له خوار‏}‏ في الأعراف‏.‏ والضمير في ‏{‏فقالوا‏}‏ لبني إسرائيل أي ضلوا حين قال كبارهم لصغارهم و‏{‏هذا‏}‏ إشارة إلى العجل‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في ‏{‏فقالوا‏}‏ عائد على السامري أخبر عنه بلفظ الجمع تعظيماً لجرمه‏.‏ وقيل‏:‏ عليه وعلى تابعيه‏.‏ وقرأ الأعمش فنَسِيْ بسكون الياء، والظاهر أن الضمير في ‏{‏فَنَسِيَ‏}‏ عائد على السامري أي ‏{‏فنسي‏}‏ إسلامه وإيمانه قاله ابن عباس، أو فترك ما كان عليه من الدين قاله مكحول، وهو كقول ابن عباس أو ‏{‏فنسي‏}‏ أن العجل ‏{‏لا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً‏}‏ و‏{‏فنسي‏}‏ الاستدلال على حدوث الأجسام وأن الإله لا يحل في شيء ولا يحل فيه شيء وعلى هذه الأقوال يكون ‏{‏فنسي‏}‏ إخباراً من الله عن السامري‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير عائد على موسى عليه السلام أي ‏{‏فنسي‏}‏ موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهكم أو ‏{‏فنسي‏}‏ الطريق إلى ربه، وكلا هذين القولين عن ابن عباس‏.‏ أو ‏{‏فنسي‏}‏ موسى إلهه عندكم وخالفه في طريق آخر قاله قتادة، وعلى هذه الأقوال يكون من كلام السامري‏.‏

ثم بيَّن تعالى فساد اعتقادهم بأن الألوهية لا تصلح لمن سلبت عنه هذه الصفات فقال‏:‏ ‏{‏أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً‏}‏ وهذا كقول إبراهيم لأبيه ‏{‏لمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر‏}‏ والرؤية هنا بمعنى العلم، ولذلك جاء بعدها أن المخففة من الثقيلة كما جاء ‏{‏ألم يروا أنه لا يكلمهم‏}‏ بأن الثقيلة وبرفع يرجع قرأ الجمهور‏.‏ وقرأ أبو حيوة ‏{‏أن لا يرجع‏}‏ بنصب العين قاله ابن خالويه‏.‏ وفي الكامل ووافقه على ذلك وعلى نصب ‏{‏ولا يملك‏}‏ الزعفراني وابن صبيح وأبان والشافعي محمد بن إدريس الإمام المطلبي جعلوها أن الناصبة للمضارع وتكون الرؤية من الإبصار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 98‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ‏(‏90‏)‏ قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ‏(‏91‏)‏ قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ‏(‏92‏)‏ أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ‏(‏93‏)‏ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ‏(‏94‏)‏ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ‏(‏95‏)‏ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ‏(‏96‏)‏ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ‏(‏97‏)‏ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ‏(‏98‏)‏‏}‏

اللحية معروفة وتجمع على لِحَى بكسر اللام وضمها‏.‏

‏{‏ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري قال يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي قال فما خطبك يا سامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سوّلت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعداً لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفاً إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً‏}‏‏.‏

أشفق هارون على نفسه وعليهم وبذل لهم النصيحة، وبيَّن أن ما ذهبوا إليه من أمر العجل إنما هو فتنة إذ كان مأموراً من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أخيه موسى عليه السلام ‏{‏اخلفني في قومي‏}‏ الآية ولا يمكنه أن يخالف أمر الله وأمر أخيه‏.‏ وروي أن الله أوحى إلى يوشع إني مهلك من قومك أربعين ألفاً فقال‏:‏ يا رب فما بال الأخيار‏؟‏ قال‏:‏ إنهم لم تغضبوا لغضبي، والمضاف إليه المقطوع عنه من قبل قدره الزمخشري من قبل أن يقول لهم السامري ما قال، كأنهم أول ما وقعت عليه أبصارهم حين طلع من الحفرة افتتنوا به واستحسنوه قبل أن ينطق السامري بادر هارون عليه السلام بقوله ‏{‏إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن‏}‏‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ أخبر عز وجل أن هارون قد كان قال لهم في أول حال العجل إنما هي فتنة وبلاء وتمويه من السامري، وإنما ربكم الرحمن الذي له القدرة والعلم والخلق والاختراع ‏{‏فاتبعوني‏}‏ إلى الطور الذي واعدكم الله تعالى إليه ‏{‏وأطيعوا أمري‏}‏ فيما ذكرته لكم انتهى‏.‏ والضمير في ‏{‏به‏}‏ عائد على العجل، زجرهم أولاً هارون عن الباطل وإزالة الشبهة بقوله ‏{‏إنما فتنتم به‏}‏ ثم نبههم على معرفة ربهم وذكر وصف الرحمة تنبيهاً على أنهم متى تابوا قبلهم وتذكيراً لتخليصهم من فرعون زمان لم يوجد العجل، ثم أمرهم باتباعه تنبيهاً على أنه نبيّ يجب أن يتبع ويطاع أمره‏.‏

وقرأ الحسن وعيسى وأبو عمرو في رواية وأن ربكم بفتح الهمزة والجمهور بكسرها، والمصدر المنسبك منها في موضع خبر مبتدأ محذوف تقديره والأمر ‏{‏إن ربكم الرحمن‏}‏ فهو من عطف جملة على جملة، وقدره أبو حاتم ولأن ربكم الرحمن‏.‏ وقرأت فرقة أنما وأن ربكم بفتح الهمزتين وتخريج هذه القراءة على لغة سليم حيث يفتحون أن بعد القول مطلقاً‏.‏

ولما وعظهم هارون ونبههم على ما فيه رشدهم اتبعوا سبيل الغي و‏{‏قالوا لن نبرح‏}‏ على عبادته مقيمين ملازمين له، وغيوا ذلك برجوع موسى وفي قولهم ذلك دليل على عدم رجوعهم إلى الاستدلال وأخذ بتقليدهم السامري ودلالة على أن ‏{‏لن‏}‏ لا تقتضي التأبيد خلافاً للزمخشري إذ لو كان من موضوعها التأبيد لما جازت التغيية بحتى لأن التغيية لا تكون إلا حيث يكون الشيء محتملاً فيزيل ذلك الاحتمال بالتغيية‏.‏

وقبل قوله ‏{‏قال يا هارون‏}‏ كلام محذوف تقديره فرجع موسى ووجدهم عاكفين على عبادة العجل ‏{‏قال يا هارون‏}‏ وكان ظهور العجل في سادس وثلاثين يوماً وعبدوه وجاءهم موسى بعد استكمال الأربعين، فعتب موسى على عدم اتباعه لما رآهم قد ضلوا و‏{‏لا‏}‏ زائدة كهي في قوله ‏{‏ما منعك أن لا تسجد‏}‏ وقال عليّ بن عيسى دخلت ‏{‏لا‏}‏ هنا لأن المعنى ما دعاك إلى أن لا تتبعني، وما حملك على أن لا تتبعني بمن معك من المؤمنين ‏{‏أفعصيت أمري‏}‏ يريد قوله ‏{‏اخلفني‏}‏ الآية‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ما منعك أن تتبعني في الغضب لله وشدّة الزجر على الكفر والمعاصي، وهلا قاتلت من كفر بمن آمن وما لك لم تباشر الأمر كما كنت أباشره أنا لو كنت شاهداً، أو ما لك لم تلحقني‏.‏ وفي ذلك تحميل للفظ ما لا يحتمله وتكثير ولما كان قوله تتبعني لم يذكر متعلقه كان الظاهر أن لا تتبعني إلى جبل الطور ببني إسرائيل فيجيء اعتذار هارون بقوله ‏{‏إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل‏}‏ إذ كان لا يتبعه إلاّ المؤمنون ويبقى عباد العجل عاكفين عليه كما قالوا ‏{‏لن نبرح عليه عاكفين‏}‏ ويحتمل أن يكون المعنى تتبعني تسير بسيري في الإصلاح والتسديد، فيجيء اعتذاره أن الأمر تفاقم فلو تقويت عليه تقاتلوا واختلفوا فكان تفريقاً بينهم وإنما لاينت جهدي‏.‏

وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي بِلَحْيَتِي بفتح اللام وهي لغة أهل الحجاز‏.‏ وكان موسى عليه السلام شديد الغضب لله ولدينه، ولما رأى قومه عبدوا عجلاً من دون الله بعد ما شاهدوا من الآيات العظام لم يتمالك أن أقبل على أخيه قابضاً على شعر رأسه، وكان كثير الشعر وعلى شعر وجهه يجره إليه فأبدى عذره فإنه لو قاتل بعضهم ببعض لتفرقوا وتفانوا، فانتظرتك لتكون المتدراك لهم، وخشيت عتابك على اطراح ما وصيتني به والعمل بموجبها‏.‏ وتقدّم الكلام على ‏{‏ابن أم‏}‏ قراءة وإعراباً وغير ذلك‏.‏ وقرأ أبو جعفر ولم تُرْقِبْ بضم التاء وكسر القاف مضارع أرقب‏.‏

ولما اعتذر له أخوه رجع إلى مخاطبة الذي أوقعهم في الضلال وهو السامري وتقدّم الكلام في الخطب في سورة يوسف‏.‏ وقال ابن عطية ‏{‏ما خطبك‏}‏ كما تقول ما شأنك وما أمرك، لكن لفظة الخطب تقتضي انتهاراً لأن الخطب مستعمل في المكاره فكأنه قال‏:‏ ما نحسك وما شؤمك، وما هذا الخطب الذي جاء من قبلك انتهى‏.‏

وهذا ليس كما ذكر ألا ترى إلى قوله قال ‏{‏فما خطبكم أيها المرسلون‏}‏ وهو قول إبراهيم لملائكة الله فليس هذا يقتضي انتهاراً ولا شيئاً مما ذكر‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ خطب مصدر خطب الأمر إذا طلبه، فإذا قيل لمن يفعل شيئاً ما خطبك، فمعناه ما طلبك له انتهى‏.‏ ومنه خطبة النكاح وهو طلبه‏.‏ وقيل‏:‏ هو مشتق من الخطاب كأنه قال له‏:‏ ما حملك على أن خاطبت بني إسرائيل بما خاطبت وفعلت معهم ما فعلت ‏{‏قال‏:‏ بصرت بما لم يبصروا به‏}‏‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ علمت ما لم يعلموا‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ بصر بالشيء إذا علمه وأبصر إذا نظر‏.‏ وقيل‏:‏ بصر به وأبصره بمعنى واحد‏.‏ وقرأ الأعمش وأبو السماك‏:‏ بَصِرْتُ بكسر الصاد بما لم تَبْصَروا بفتح الصاد‏.‏ وقرأ عمرو بن عبيد بُصُرْتُ بضم الباء وضم الصاد بما لم تُبْصَروا بضم التاء وفتح الصاد مبنياً للمفعول فيهما‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏بَصُرْتُ‏}‏ بضم الصاد وحمزة والكسائي وأبو بحرية والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وابن مناذر وابن سعدان وقعنب تبصروا بتاء الخطاب لموسى وبني إسرائيل وباقي السبعة ‏{‏يبصروا‏}‏ بياء الغيبة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏فقبضت قبضة‏}‏ بالضاد المعجمة فيهما أي أخذت بكفي مع الأصابع‏.‏ وقرأ عبد الله وأبي وابن الزبير وحميد والحسن بالصاد فيهما، وهو الأخذ بأطراف الأصابع‏.‏ وقرأ الحسن بخلاف عنه وقتادة ونصر بن عاصم بضم القاف والصاد المهملة، وأدغم ابن محيصن الضاد المنقوطة في تاء المتكلم وأبقى الإطباق مع تشديد التاء‏.‏ وقال المفسرون ‏{‏الرسول‏}‏ هنا جبريل عليه السلام، وتقديره من ‏{‏أثر‏}‏ فرس ‏{‏الرسول‏}‏ وكذا قرأ عبد الله، والأثر التراب الذي تحت حافره ‏{‏فنبذتها‏}‏ أي ألقيتها على الحليّ الذي تصور منه العجل فكان منها ما رأيت‏.‏ وقال الأكثرون رأى السامري جبريل يوم فلق البحر، وعن عليّ رآه حين ذهب موسى إلى الطور وجاءه جبريل فأبصره دون الناس‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ لمَ سماه ‏{‏الرسول‏}‏ دون جبريل وروح القدس‏؟‏ قلت‏:‏ حين حل ميعاد الذهاب إلى الطور أرسل الله إلى موسى جبريل راكب حيزوم فرس الحياة ليذهب به، فأبصره السامري فقال‏:‏ إن لهذا لشأناً فقبض القبضة من تربة موطئه، فلما سأله موسى عن قصته قال قبضت من أثر فرس المرسل إليك يوم حلول الميعاد، ولعله لم يعرف أنه جبريل انتهى‏.‏ وهو قول عليّ مع زيادة‏.‏

وقال أبو مسلم الأصبهاني‏:‏ ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون، وهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام، وأثره سنته ورسمه الذي أمر به، فقد يقول الرجل‏:‏ فلان يقفو أثر فلان ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه، والتقدير أن موسى لما أقبل على السامري باللوم والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القول في العجل ‏{‏قال بصرت بما لم يبصروا به‏}‏ أي عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول أي شيئاً من دينك ‏{‏فنبذتها‏}‏ أي طرحتها‏.‏

فعند ذلك أعلم موسى بما له من العذاب في الدنيا والآخرة وإنما أراد لفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له‏:‏ ما يقول الأمير في كذا أو بماذا يأمر الأمير، وتسميته رسولاً مع جحده وكفره، فعلى مذهب من حكى الله عنه قوله ‏{‏يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون‏}‏ فإن لم يؤمنوا بالإنزال قيل‏:‏ وما ذكره أبو مسلم أقرب إلى التحقيق إلاّ أن فيه مخالفة المفسرين‏.‏ قيل‏:‏ ويبعد ما قالوه أن جبريل ليس معهوداً باسم رسول، ولم يجر له فيما تقدم ذكر حتى تكون اللام في الرسول لسابق في الذكر، ولأن ما قالوه لا بد من إضمار أي من أثر حافر فرس الرسول والإضمار خلاف الأصل، ولأن اختصاص السامري برؤية جبريل ومعرفته من بين الناس يبعد جداً، وكيف عرف أن حافر فرسه يؤثر هذا الأثر الغريب العجيب من إحياء الجماد به وصيرورته لحماً ودماً‏؟‏ وكيف عرف جبريل يتردّد إلى نبيّ وقد عرف نبوّته وصحت عنده فحاول الإضلال‏؟‏ ويكف اطلع كافر على تراب هذا شأنه‏؟‏ فلقائل أن يقول‏:‏ لعل موسى اطلع على شيء آخر يشبه هذا فلأجله أتى بالمعجزات، فيصير ذلك قادحاً فيما أتوا به من الخوارق انتهى‏.‏ ما رجح به هذا القائل قول أبي مسلم الأصبهاني‏.‏

‏{‏وكذلك سوَّلت لي نفسي‏}‏ أي كما حدث ووقع قربت لي نفسي وجعلته لي سولاً وإرباً حتى فعلته، وكان موسى عليه السلام لا يقتل بني إسرائيل إلا في حد أو وحي، فعاقبه باجتهاد نفسه بأن أبعده ونحاه عن الناس وأمر بني إسرائيل باجتنابه واجتناب قبيلته وأن لا يواكلوا ولا يناكحوا، وجعل له أن يقول مدة حياته ‏{‏لا مساس‏}‏ أي لا مماسّة ولا إذاية‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ عوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أطم منها وأوحش، وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعاً كلياً، وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضاً، وإذا اتفق أن يماس أحداً رجلاً أو امرأة حمّ الماسّ والممسوس فتحامى الناس وتحاموه، وكان يصيح ‏{‏لا مساس‏}‏ ويقال إن قومه باق فيهم ذلك إلى اليوم انتهى‏.‏ وكون الحمى تأخذ الماس والممسوس قول قتادة والأمر بالذهاب حقيقة، ودخلت الفاء للتعقيب إثر المحاورة وطرده بلا مهلة زمانية، وعبر بالمماسة عن المخالطة لأنها أدنى أسباب المخالطة فنبه بالأدنى على الأعلى، والمعنى لا مخالطة بينك وبين الناس فنفر من الناس ولزم البرية وهجر البرية وبقي مع الوحوش إلى أن استوحش وصار إذا رأى أحداً يقول ‏{‏لا مساس‏}‏ أي لا تمسني ولا أمسك‏.‏

وقيل‏:‏ ابتلي بعذاب قيل له ‏{‏لا مساس‏}‏ بالوسواس وهو الذي عناه الشاعر بقوله‏:‏

فأصبح ذلك كالسامري *** إذ قال موسى له لا مساسا

ومنه قول رؤبة‏:‏

حتى تقول الأزد لا مساسا *** وقيل‏:‏ أراد موسى قتله فمنعه الله من قتله لأنه كان شيخاً‏.‏ قال بعض شيوخنا وقد وقع مثل هذا في شرعنا في قصة الثلاثة الذين خلفوا أمر الرسول عليه السلام أن لا يكلموا ولا يخالطوا وأن يعتزلوا نساءهم حتى تاب الله عليهم‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏لا مِسَاس‏}‏ بفتح السين والميم المكسورة و‏{‏مساس‏}‏ مصدر ماس كقتال من قاتل، وهو منفي بلا التي لنفي الجنس، وهو نفي أريد به النهي أي لا تمسني ولا أمسك‏.‏ وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقعنب بفتح الميم وكسر السين‏.‏ فقال صاحب اللوامح‏:‏ هو على صورة نزال ونظار من أسماء الأفعال بمعنى أنزل وأنظر، فهذه الأسماء التي بهذه الصيغة معارف ولا تدخل عليها لا النافية التي تنصب النكرات نحو لا مال لك، لكنه فيه نفي الفعل فتقديره لا يكون منك مساس، ولا أقول مساس ومعناه النهي أي لا تمسني انتهى‏.‏ وظاهر هذا أن مساس اسم فعل‏.‏ وقال الزمخشري ‏{‏لا مساس‏}‏ بوزن فجار ونحوه قولهم في الظباء‏:‏

إن وردن الماء فلا عباب *** وإن فقدنه فلا إباب

وهي أعلام للمسة والعبة والأبة وهي المرة من الأب وهو الطلب‏.‏ وقال ابن عطية ‏{‏لا مساس‏}‏ هو معدول عن المصدر كفجار ونحوه، وشبهه أبو عبيدة وغيره بنزال ودراك ونحوه، والشبه صحح من حيث هي معدولات، وفارقه في أن هذه عدلت عن الأمر ومساس وفجار عدلت عن المصدر‏.‏ ومن هذا قول الشاعر‏:‏

تميم كرهط السامري وقوله *** ألا لا يريد السامري مساس

انتهى‏.‏ فكلام الزمخشري وابن عطية يدل على أن مساس معدول عن المصدر الذي هو المسة، كفجار معدولاً عن الفجرة ‏{‏وإن لك موعداً‏}‏ أي في يوم القيامة‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏لن تُخْلَفَهُ‏}‏ بالتاء المضمومة وفتح اللام على معنى لن يقع فيه خلف بل ينجزه لك الله في الآخرة على الشرك والفساد بعدما عاقبك في الدنيا‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وهذا من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفاً‏.‏ قال الأعشى‏:‏

أثوى وقصر ليله ليزوّدا *** فمضى وأخلف من قتيلة موعدا

وقرأ ابن كثير والأعمش وأبو عمرو بضم التاء وكسر اللام أي لن تستطيع الروغان عنه والحيدة فتزول عن موعد العذاب‏.‏ وقرأ أبو نهيك‏:‏ لن تَخْلُفُه بفتح التاء وضم اللام هكذا بالتاء منقوطة من فوق عن أبي نهيك في نقل ابن خالويه‏.‏ وفي اللوامح أبو نهيك لن يَخْلُفه بفتح الياء وضم اللام وهو من خلفه يخلفه إذا جاء بعده أي الموعد الذي لك لا يدفع قولك الذي تقوله فيما بعد ‏{‏لا مساس‏}‏ بالفعل فهو مسند إلى الموعد أو الموعد لن يختلف ما قدر لك من العذاب في الآخرة‏.‏

وقال سهل‏:‏ يعني أبا حاتم لا يعرف لقراءة أبي نهيك مذهباً انتهى‏.‏ وقرأ ابن مسعود والحسن بخلاف عنه نخلفه بالنون وكسر اللام أي لا ننقص مما وعدنا لك من الزمان شيئاً‏.‏ وقال ابن جني لن يصادفه مخلفاً‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ لن يخلفه الله‏.‏ حكى قوله عز وجل كما مر في ‏{‏لأهب لك‏}‏ انتهى‏.‏

ثم وبخ موسى عليه السلام السامري بما أراد أن يفعل بالعجل الذي اتخذه إلهاً من الاستطالة عليه بتغيير هيئته، فواجهه بقوله ‏{‏وانظر إلى إلهك‏}‏ وخاطبه وحده إذ كان هو رأس الضلال وهو ينظر لقولهم ‏{‏لن نبرح عليه عاكفين‏}‏ وأقسم ‏{‏لنحرقنه‏}‏ وهو أعظم فساد الصورة ‏{‏ثم لننسفنه في اليم‏}‏ حتى تتفرق أجزاؤه فلا يجتمع، ويظهر أنه لما كان قد أخذ السامري القبضة من أثر فرس جبريل وهو داخل البحر حالة تقدم فرعون وتبعه فرعون في الدخول ناسب أن ينسف ذلك العجل الذي صاغه السامري من الحليّ الذي كان أصله للقبط‏.‏ وألقى فيه القبضة في البحر ليكون ذلك تنبيهاً على أن ما كان به قيام الحياة آل إلى العدم‏.‏ وأُلقي في محل ما قامت به الحياة وإن أموال القبط قذفها الله في البحر بحيث لا ينتفع بها كما قذف الله أشخاص مالكيها في البحر وغرقهم فيه‏.‏

وقرأ الجمهور ونصر بن عاصم لابن يعمر ‏{‏ظَلْتَ‏}‏ بظاء مفتوحة ولام ساكنة‏.‏ وقرأ ابن مسعود وقتادة والأعمش بخلاف عنه وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن يعمر بخلاف عنه كذلك إلا أنهم كسروا الظاء، وعن ابن يعمر ضمها وعن أُبَيّ والأعمش ظللت بلامين على الأصل، فأما حذف اللام فقد ذكره سيبويه في الشذوذ يعني شذوذ القياس لا شذوذ الاستعمال مع مست وأصله مسست وأحست أصله أحسست، وذكر ابن الأنباري همت وأصله هممت ولا يكون ذلك إلاّ إذا سكن آخر الفعل نحو ظلت إذ أصله ظللت‏.‏ وذكر بعض من عاصرناه أن ذلك منقاس في كل مضاعف العين واللام في لغة بني سليم حيث تسكن آخر الفعل‏.‏ وقد أمعنّا الكلام على هذه المسألة في شرح التسهيل من تأليفنا، فأما من كسر الظاء فلأنه نقل حركة اللام إلى الظاء بعد نزع حركتها تقديراً ثم حذف اللام، وأما من ضمها فيكون على أنه جاء في بعض اللغات على فعل بضم العين فيهما، ونقلت ضمة اللام إلى الظاء كما نقلت في حالة الكسر على ما تقرر‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏لنحرّقنه‏}‏ مشدداً مضارع حرَّق مشدداً‏.‏ وقرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر وأبو رجاء والكلبي مخففاً من أحرق رباعياً‏.‏ وقرأ عليّ وابن عباس وحميد وأبو جعفر في رواية وعمرو بن فائد بفتح النون وسكون الحاء وضم الراء، والظاهر أن حرق وأحرق هو بالنار‏.‏

وأما القراءة الثالثة فمعناها لنبردنه بالمبرد يقال حرق يحرق ويحرق بضم راء المضارع وكسرها‏.‏ وذكر أبو عليّ أن التشديد قد يكون مبالغة في حرق إذا برد بالمبرد‏.‏ وفي مصحف أُبَيّ وعبد الله لنذبحنه ثم لنحرقنه ثم لننسفنه وتوافق هذه القراءة من روى أنه صار لحماً ودماً ذا روح، ويترتب الإحراق بالنار على هذا، وأما إذا كان جماداً مصوغاً من الحليّ فيترتب برده لا إحراقه إلا إن عنى به إذابته‏.‏

وقال السّدي‏:‏ أمر موسى بذبح العجل فذبح وسال منه الدم ثم أحرق ونسف رماده‏.‏ وقيل‏:‏ بردت عظامه بالمبرد حتى صارت بحيث يمكن نسفها‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏لَنَنسِفَنَّهُ‏}‏ بكسر السين‏.‏ وقرت فرقة منهم عيسى بضم السين‏.‏ وقرأ ابن مقسم‏:‏ لِنُنَسِّفنه بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين‏.‏ والظاهر وقول الجمهور أن موسى تعجل وحده فوقع أمر العجل، ثم جاء موسى وصنع بالعجل ما صنع ثم خرج بعد ذلك بالسبعين على معنى الشفاعة في ذنب بني إسرائيل وأن يطلعهم أيضاً على أمر المناجاة، فكان لموسى عليه السلام نهضتان‏.‏ وأسند مكي خلاف هذا أن موسى كان مع السبعين في المناجاة وحينئذ وقع أمر العجل، وأن الله أعلم موسى بذلك فكتمه عنهم وجاء بهم حتى سمعوا لغط بني إسرائيل حول العجل، فحينئذ أعلمهم موسى انتهى‏.‏ ولما فرغ من إبطال ما عمله السامري عاد إلى بيان الدين الحق فقال ‏{‏إنما إلهكم الله‏}‏ وقرأ الجمهور ‏{‏وسع‏}‏ فانتصب علماً على التمييز المنقول من الفاعل، وتقدم نظيره في الأنعام‏.‏ وقرأ مجاهد وقتادة وسَّع بفتح السين مشددة‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وجهه أن ‏{‏وسعْ‏}‏ متعد إلى مفعول واحد وهو كل شيء‏.‏ وأما ‏{‏عِلماً‏}‏ فانتصابه على التمييز وهو في المعنى فاعل، فلما ثقل نقل إلى التعدية إلى مفعولين فنصبهما معاً على المفعولية، لأن المميز فاعل في المعنى كما تقول‏:‏ خاف زيد عمراً خوّفت زيداً عمراً، فترد بالنقل ما كان فاعلاً مفعولاً‏.‏ وقال ابن عطية ‏{‏وسع‏}‏ بمعنى خلق الأشياء وكثرها بالاختراع فوسعها موجودات انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 114‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا ‏(‏99‏)‏ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ‏(‏100‏)‏ خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا ‏(‏101‏)‏ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ‏(‏102‏)‏ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا ‏(‏103‏)‏ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا ‏(‏104‏)‏ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ‏(‏105‏)‏ فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ‏(‏106‏)‏ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا ‏(‏107‏)‏ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ‏(‏108‏)‏ يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ‏(‏109‏)‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ‏(‏110‏)‏ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ‏(‏111‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ‏(‏112‏)‏ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ‏(‏113‏)‏ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ‏(‏114‏)‏‏}‏

نسف ينسف بكسر سين المضارع وضمها نسفاً فرّق وذرى‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ قلع من الأصل‏.‏ الزرقة‏:‏ لون معروف، يقال‏:‏ زرقت عينه وازرَّقت وازراقت، القاع قال ابن الأعرابي‏:‏ الأرض الملساء لا نبات فيها ولا بناء‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ المستوي من الأرض‏.‏ ومنه قول ضرار بن الخطاب‏:‏

ليكونن بالبطاح قريش *** فقعة القاع في أكف الإماء

والجمع أقوع وأقواع وقيعان‏.‏ وحكى مكي أن القاع في اللغة المكان المنكشف‏.‏ وقال بعض أهل اللغة‏:‏ القاع مستنقع الماء‏.‏ الصفصف‏:‏ المستوى الأملس‏.‏ وقيل‏:‏ الذي لا نبات فيه، وهو مضاعف كالسبسب‏.‏ الأمت‏:‏ التل‏.‏ والعوج‏:‏ التعوج في الفجاج قاله ابن الأعرابي‏.‏ الهمس‏:‏ الصوت الخفي قاله أبو عبيدة‏.‏ وقيل‏:‏ وطء الأقدام‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وهن يمشين بنا هميساً *** ويقال للأسد الهموس لخفاء وطئه، ويقال همس الطعام مضغه‏.‏ عنا يعنو‏:‏ ذل وخضع، وأعناه غيره أذلة‏.‏ وقال أمية بن أبي الصلت‏:‏

مليك على عرش السماء مهيمن *** لعزته تعنو الوجوه وتسجد

الهضم‏:‏ النقص تقول العرب‏:‏ هضمت لك حقي أي حططت منه، ومنه هضيم الكشحين أي ضامرهما وفي الصحاح‏:‏ رجل هضيم ومتهضم مظلوم وتهضمه واهتضمه ظلمه‏.‏ وقال المتوكل الليثي‏:‏

إن الأذلة واللئام لمعشر *** مولاهم المتهضم المظلوم

‏{‏كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكراً من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً‏.‏ خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملاً‏.‏ يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشراً نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوماً‏.‏ ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً‏.‏ فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكراً فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علماً‏}‏‏.‏

ذلك إشارة إلى نبأ موسى وبني إسرائيل وفرعون أي كقصنا هذا النبأ الغريب نقص عليك من أنباء الأمم السابقة، وهذا فيه ذكر نعمة عظيمة وهي الإعلام بأخبار الأمم السالفة ليتسلى بذلك ويعلم أن ما صدر من الأمم لرسلهم وما قاست الرسل منهم، والظاهر أن الذكر هنا القرآن امتن تعالى عليه بإيتائه الذكر المشتمل على القصص والأخبار الدال ذلك على معجزات أوتيها‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏ذكراً‏}‏ بياناً‏.‏ وقال أبو سهل‏:‏ شرفاً وذكراً في الناس‏.‏

‏{‏من أعرض عنه‏}‏ أي عن القرآن بكونه لم يؤمن به ولم يتبع ما فيه‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏يحمل‏}‏ مضارع حمل مخففاً مبنياً للفاعل‏.‏ وقرأت فرقة منهم داود بن رفيع‏:‏ يُحَمِّل مشدد الميم مبنياً للمفعول لأنه يكلف ذلك لا أنه يحمله طوعاً و‏{‏وزراً‏}‏ مفعول ثان و‏{‏وزراً‏}‏ ثقلاً باهظاً يؤده حمله وهو ثقل العذاب‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ إثماً‏.‏ وقال الثوري شركاً والظاهر أنه عبَّر عن العقوبة بالوزر لأنه سببها ولذلك قال ‏{‏خالدين فيه‏}‏ أي في العذاب والعقوبة وجمع خالدين، والضمير في ‏{‏لهم‏}‏ حملاً على معنى من بعد الحمل على لفظها في أعرض وفي فإنه يحمل، والمخصوص بالذم محذوف أي وزرهم و‏{‏لهم‏}‏ للبيان كهي في ‏{‏هيت لك‏}‏ لا متعلقة بساء ‏{‏وساء‏}‏ هنا هي التي جرت مجرى بئس لا ساء التي بمعنى أحزن وأهم لفساد المعنى‏.‏

ويوم ننفخ بدل من يوم القيامة‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏يُنفخ‏}‏ مبنياً للمفعول ‏{‏ونحشر‏}‏ بالنن مبنياً للفاعل بنون العظمة‏.‏ وقرأ أبو عمرو وابن محيصن وحميد‏:‏ ننفخ بنون العظمة لنحشر أسند النفخ إلى الآمرية، والنافخ هو إسرافيل ولكرامته أسند ما يتولاه إلى ذاته المقدسة و‏{‏الصور‏}‏ تقدم الكلام فيه في الأنعام‏.‏ وقرئ يَنْفُخُ ويَحْشُرُ بالياء فيهما مبنياً للفاعل‏.‏ وقرأ الحسن وابن عياض في جماعة ‏{‏في الصور‏}‏ على وزن درر والحسن‏:‏ يُحْشَرُ، بالياء مبنياً للمفعول، ويَحْشُرُ مبنياً للفاعل، وبالياء أي ويحشر الله‏.‏ والظاهر أن المراد بالزرق زرقة العيون، والزرقة أبغض ألوان العيون إلى العرب لأن الروم أعداؤهم وهم زرق العيون، ولذلك قالوا في صفة العدو‏:‏ أسود الكبد، أصهب السبال، أزرق العين‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

وما كنت أخشى أن تكون وفاته *** بكفي سبنتي أزرق العين مطرق

وقد ذكر في آية أخرى أنهم يحشرون سود الوجوه، فالمعنى تشويه الصورة من سواد الوجه وزرقة العين وأيضاً فالعرب تتشاءم بالزرقة‏.‏ قال الشاعر‏:‏

لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر *** ألا كل عليسى من اللؤم أزرق

وقيل‏:‏ المعنى عمياً لأن العين إذا ذهب نورها ازرقَّ ناظرها، وبهذا التأويل يقع الجمع بين قوله ‏{‏زرقاً‏}‏ في هذه الآية و‏{‏عمياً‏}‏ في الآية الأخرى‏.‏ وقيل‏:‏ زرق ألوان أبدانهم، وذلك غاية في التشويه إذ يجيؤن كلون الرماد وفي كلام العرب يسمى هذا اللون أزرق، ولا تزرق الجلود إلا من مكابدة الشدائد وجفوف رطوبتها‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏زرقاً‏}‏ عطاشاً والعطش الشديد يرد سواد العين إلى البياض، ومنه قولهم سنان أزرق وقوله‏:‏

فلما وردن الماء زرقاً جمامه *** أي ابيض، وذكرت الآيتان لابن عباس فقال‏:‏ ليوم القيامة حالات فحالة يكونون فيها زرقاً وحالة يكونون عمياً‏.‏

‏{‏يتخافتون‏}‏ يتسارّون لهول المطلع وشدة ذهاب أذهانهم قد عزب عنهم قدر المدة التي لبثوا فيها ‏{‏إن لبثتم‏}‏ أي في دار الدنيا أو في البرزح أو بين النفختين في الصور ثلاثة أقوال، ووصف ما لبثوا فيه بالقصر لأنها لما يعاينون من الشدائد كانت لهم في الدنيا أيام سرور، وأيام السرور قصار أو لذهابها عنهم وتقضيها، والذاهب وإن طالت مدته قصير بالانتهاء، أو لاستطالتهم الآخرة وأنها أبد سرمد يستقصر إليها عمر الدنيا، ويقال لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة و‏{‏إذ‏}‏ معمولة لأعلم‏.‏

و ‏{‏أمثلهم‏}‏ أعدلهم‏.‏ و‏{‏طريقة‏}‏ منصوبة على التمييز‏.‏ ‏{‏إلاّ يوماً‏}‏ إشارة لقصر مدة لبثهم‏.‏ و‏{‏إلا عشراً‏}‏ يحتمل عشر ليال أو عشرة أيام، لأن المذكر إذا حذف وأبقي عدده قد لا يأتي بالتاء‏.‏ حكى الكسائي عن أبي الجراح‏:‏ صمنا من الشهر خمساً، ومنه ما جاء في الحديث ثم أتبعه بست من شوال، يريد ستة أيام وحسن الحذف هنا كون ذلك فاصلة رأس آية ذكر أولاً منتهى أقل العدد وهو العشر، وذكر أعدلهم طريقة أقل العدد، وهو اليوم الواحد ودل ظاهر قوله ‏{‏إلاّ يوماً‏}‏ على أن المراد بقولهم ‏{‏عشراً‏}‏ عشرة أيام‏.‏

وضمير الغائب في ‏{‏ويسألونك‏}‏ عائد على قريش منكري البعث أو على المؤمنين سألوا عن ذلك، أو على رجل من ثقيف وجماعة من قومه أقوال ثلاثة‏.‏ والكاف خطاب للرّسول صلى الله عليه وسلم، والظاهر وجود السؤال ويبعد قول من قال إنه لم يكن سؤال بل المعنى أن يسألوك ‏{‏عن الجبال فقل‏}‏ فضمن معنى الشرط، فلذلك أجيب بالفاء وروي أن الله يرسل على الجبال ريحاً فيدكدكها حتى تكون كالعهن المنفوش، ثم يتوالى عليها حتى يعيدها كالهباء المنبث فذلك هو النسف، والظاهر عود الضمير في ‏{‏فيذرها‏}‏ على الجبال أي بعد النسف تبقى ‏{‏قَاعاً‏}‏ أي مستوياً من الأرض معتدلاً‏.‏ وقيل فيذر مقارها ومراكزها‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على الأرض وإن لم يجر لها ذكر لدلالة الجبال عليها‏.‏

وقال ابن عباس ‏{‏عوجاً‏}‏ ميلاً ‏{‏ولا أمتاً‏}‏ أثراً مثل الشراك‏.‏ وعنه أيضاً ‏{‏عوجاً‏}‏ وادياً ‏{‏ولا أمتاً‏}‏ رابية‏.‏ وعنه أيضاً الأمت الارتفاع‏.‏ وقال قتادة ‏{‏عوجاً‏}‏ صدعاً ‏{‏ولا أمتاً‏}‏ أكمة‏.‏ وقيل‏:‏ الأمت الشقوق في الأرض‏.‏ وقيل‏:‏ غلظ مكان في الفضاء والجبل ويرق في مكان حكاه الصولي‏.‏ وقيل‏:‏ كان الأمت في الآية العوج في السماء تجاه الهواء، والعوج في الأرض مختص بالأرض‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ قد فرقوا بين العوج والعوج فقالوا‏:‏ العِوَج بالكسر في المعاني، والعَوَج بالفتح في الأعيان والأرض، فكيف صح فيها المكسور العين‏؟‏ قلت‏:‏ اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء والملاسة ونفي الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون، وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسوّيتها وبالغت في التسوية على عينك وعيون البصراء من الفلاحة، واتفقتم على أن لم يبق فيها اعوجاج قط ثم استطلعت رأي المهندس فيها وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية لعثر فيها على عوج في غير موضع لا يدرك بذلك بحاسة البصر، ولكن بالقياس الهندسي فنفى الله عز وجل ذلك العوج الذي دق ولطف عن الإدراك اللهم إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير والهندسة، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلاّ بالقياس دون الإحساس لحق بالمعاني فقيل فيه عوج بالكسر‏.‏

الأمت النتوء اليسير، يقال‏:‏ مدّ حبله حتى ما فيه أمت انتهى‏.‏

‏{‏يومئذ‏}‏ أي يوم إذ ينسف الله الجبال ‏{‏يتبعون‏}‏ أي الخلائق ‏{‏الداعي‏}‏ داعي الله إلى المحشر نحو قوله ‏{‏مهطعين إلى الداع‏}‏ وهو إسرافيل يقوم على صخرة بيت المقدس يدعو الناس فيقبلون من كل جهة يضع الصور في فيه، ويقول‏:‏ أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرّقة هلم إلى العرض على الرحمن‏.‏ وقال محمد بن كعب‏:‏ يجمعون في ظلمة قد طويت السماء وانتثرت النجوم فينادي مناد فيموتون موته‏.‏ وقال عليّ بن عيسى ‏{‏الداعي‏}‏ هنا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعوهم إلى الله فيعوجون على الصراط يميناً وشمالاً ويميلون عنه ميلاً عظيماً، فيومئذ لا ينفعهم اتباعه، والظاهر أن الضمير في ‏{‏له‏}‏ عائد على ‏{‏الداعي‏}‏ نفى عنه العوج أي ‏{‏لا عوج‏}‏ لدعائه يسمع جميعهم فلا يميل إلى ناس دون ناس‏.‏ وقيل‏:‏ هو على القلب أي ‏{‏لا عوج‏}‏ لهم عنه بل يأتون مقبلين إليه متبعين لصوته من غير انحراف‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أي لا يعوج له مدعوّ بل يستوون إليه انتهى‏.‏ وقيل ‏{‏لا عوج له‏}‏ في موضع وصف لمنعوت محذوف أي اتباعاً ‏{‏لا عوج له‏}‏ فيكون الضمير في ‏{‏له‏}‏ عائداً على ذلك المصدر المحذوف‏.‏ وقال ابن عطية يحتمل أن يريد به الإخبار أي لا شك فيه، ولا يخالف وجوده خبره ويحتمل أن يريد لا محيد لأحد عن اتباعه، والمشي نحو صوته والخشوع التطامن والتواضع وهو في الأصوات استعارة بمعنى الخفاء‏.‏ والاستسرار للرحمن أي لهيبة الرحمن وهو مطلع قدرته‏.‏ وقيل هو على حذف مضاف أي وخشع أهل الأصوات والهمس الصوت الخفي الخافت، ويحتمل أن يريد بالهمس المسموع تخافتهم بينهم وكلامهم السر، ويحتمل أن يريد صوت الأقدام وأن أصوات النطق ساكنة‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏إلا همساً‏}‏ وهو الركز الخفي ومنه الحروف المهموسة‏.‏ وقيل‏:‏ هو من همس الإبل وهو صوت إخفافها إذا مشت، أي لا يسمع إلا خَفْقُ الأقدام ونقلها إلى المحشر انتهى‏.‏ وعن ابن عباس وعكرمة وابن جبير‏:‏ الهمس وطء الإقدام، واختاره الفراء والزجاج وعن ابن عباس أيضاً تحريك الشفاه بغير نطق، وعن مجاهد الكلام الخفي ويؤيده قراءة أُبَيّ فلا ينطقون ‏{‏إلا همساً‏}‏ وعن أبي عبيدة الصوت الخفي يومئذ بدل من ‏{‏يومئذ يتبعون‏}‏ أو يكون التقدير يوم إذ ‏{‏يتبعون‏}‏ ويكون منصوباً بلا تنفع و‏{‏منْ‏}‏ مفعول بقوله ‏{‏لا تنفع‏}‏‏.‏ و‏{‏له‏}‏ معناه لأجله وكذا في ورضي له أي لأجله، ويكون من للمشفوع له أو بدل من الشفاعة على حذف مضاف أي إلاّ شفاعة من أذن له أو منصوب على الاستثناء على هذا التقدير، أو استثناء منقطع فنصب على لغة الحجاز، ورفع على لغة تميم، ويكون ‏{‏من‏}‏ في هذه الأوجه للشافع والقول المرضي عن ابن عباس لا إله إلا الله‏.‏

والظاهر أن الضمير في ‏{‏أيديهم وما خلفهم‏}‏ عائد على الخلق المحشورين وهم متبعو الداعي‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على الملائكة‏.‏ وقيل‏:‏ على الناس لا بقيد الحشر والاتباع، وتقدم تفسير هذه الجملة في آية الكرسي في البقرة، والضمير في ‏{‏به‏}‏ عائد على ‏{‏ما‏}‏ أي ‏{‏ولا يحيطون‏}‏ بمعلوماته ‏{‏علماً‏}‏ والظاهر عموم ‏{‏الوجوه‏}‏ أي وجوه الخلائق، وخص ‏{‏الوجوه‏}‏ لأن آثار الذل إنما تظهر في أول ‏{‏الوجوه‏}‏‏.‏ وقال طلق بن حبيب‏:‏ المراد سجود الناس على الوجوه والآراب السبعة، فإن كان روى أن هذا يكون يوم القيامة فتكون الآية إخباراً عنه، واستقام المعنى وإن كان أراد في الدنيا فليس ذلك بملائم للآيات التي قبلها وبعدها‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ المراد بالوجود وجوه العصاة وأنهم إذا عاينوا يوم القيامة الخيبة والشقوة وسوء الحساب صارت وجوههم عانية أي ذليلة خاضعة مثل وجوه العناة وهم الأسارى ونحوه ‏{‏فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا‏}‏ ‏{‏ووجوه يومئذ باسرة‏}‏ و‏{‏القيوم‏}‏ تقدم الكلام عليه في البقرة‏.‏

‏{‏وقد خاب‏}‏ أي لم ينجح ولا ظفر بمطلوبه، والظلم يعم الشرك والمعاصي وخيبة كل حامل بقدر ما حمل من الظلم، فخيبة المشرك دائماً وخيبة المؤمن العاصي مقيدة بوقت في العقوبة إن عوقب‏.‏ ولما خص الزمخشري الوجوه بوجوه العصاة قال في قوله ‏{‏وقد خاب من حمل ظلماً‏}‏ أنه اعتراض كقولك‏:‏ خابوا وخسروا حتى تكون الجملة دخلت بين العصاة وبين من يعمل من الصالحات، فهذا عنده قسيم ‏{‏وعنت الوجوه‏}‏‏.‏ وأما ابن عطية فجعل قوله ‏{‏ومن يعمل‏}‏- إلى- ‏{‏هضماً‏}‏ معادلاً لقوله ‏{‏وقد خاب من حمل ظلماً‏}‏ لأنه جعل ‏{‏وعنت الوجوه‏}‏ عامة في وجوه الخلائق‏.‏ و‏{‏من الصالحات‏}‏ بيسير في الشرع لأن ‏{‏من‏}‏ للتبعيض والظلم مجاوزة الحد في عظم سيئاته، والهضم نقص من حسناته قاله ابن عباس‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الظلم أن يزاد من ذنب غيره‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الظلم أن لا يجزى بعمله‏.‏ وقيل‏:‏ الظلم أن لا يجزى بعمله، وقيل‏:‏ الظلم أن يأخذ من صاحبه فوق حقه، والهضم أن يكسر من حق أخيه فلا يوفيه له كصفة المطفقين يسترجحون لأنفسهم إذا اكتالوا ويخسرون إذا كالوا انتهى‏.‏ والظلم والهضم متقاربان‏.‏ قال الماوردي‏:‏ والفرق أن الظلم منع الحق كله والهضم منع بعضه‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏فلا يخاف‏}‏ على الخبر أي فهو لا يخاف‏.‏ وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد فلا يَخَفْ على النهي ‏{‏وكذلك‏}‏ عطف على كذلك نقص أي ومثل ذلك الإنزال أو كما أنزلنا عليك هذه الآيات المضمنة الوعيد أنزلنا القرآن كله على هذه الوتيرة مكررين فيه آيات الوعيد ليكونوا بحيث يراد منهم ترك المعاصي أو فعل الخير والطاعة، والذكر يطلق على الطاعة والعبادة‏.‏

وقيل‏:‏ كما قدرنا هذه الأمور وجعلناها حقيقة بالمرصاد للعباد كذلك حذرنا هؤلاء أمرها و‏{‏أنزلناه قرآناً عربياً‏}‏ وتوعدنا فيه بأنواع ‏{‏من الوعيد لعلهم‏}‏ بحسب توقع الشر وترجيهم ‏{‏يتقون‏}‏ الله ويخشون عقابه فيؤمنون ويتذكرون نعمه عندهم، وما حذرهم من أليم عقابه هذا تأويل فرقة في قوله ‏{‏أو يحدث لهم ذكراً‏}‏ وقالت فرقة‏:‏ معناه أو يكسبهم شرفاً ويبقي عليهم إيمانهم ذكراً صالحاً في الغابرين‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى كما رغبنا أهل الإيمان بالوعد حذرنا أهل الشرك بالوعيد ‏{‏وصرّفنا فيه من الوعيد‏}‏ كالطوفان والصيحة والرجفة والمسخ، ولم يذكر الوعد لأن الآية سيقت مساق التهديد ‏{‏لعلهم يتقون‏}‏ أي ليكونوا على رجاء من أن يوقع في قلوبهم الاتقاء أو يتقون أن ينزل بهم ما نزل بمن تقدّمهم أي ‏{‏يحدث لهم ذكراً‏}‏ أي عظة وفكراً واعتباراً‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ورعاً‏.‏ وقيل‏:‏ أنزل القرآن ليصيروا محترزين عمالاً ينبغي ‏{‏أو يحدث لهم ذكراً‏}‏ يدعوهم إلى الطاعات، وأسند ترجي التقوى إليهم وترجي إحداث الذكر للقرآن لأن التقوى عبارة عن انتفاء فعل القبيح، وذلك استمرار على العدم الأصلي فلم يسند القرآن وأسند إحداث الذكر إلى القرآن لأنه أمر حدث بعد أن لم يكن والظاهر أن أو هنا لأحد الشيئين‏.‏ قيل‏:‏ ‏{‏أو‏}‏ كهي في جالس أو ابن سيرين أي لا تكن خالياً منهما‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏أو يحدث‏}‏ ساكنة الثاء‏.‏ وقرأ عبد الله ومجاهد وأبو حيوة والحسن في رواية والجحدري وسلام، أو نحدث بالنون وجزم الثاء، وذلك حمل وصل على وقف أو تسكين حرف الإعراب استثقالاً لحركته نحو قول جرير‏:‏

أو نهر تيري فلا تعرفكم العرب *** ولما كان فيما سبق تعظيم القرآن في قوله ‏{‏وقد آتيناك من لدنّا ذكراً‏}‏ ‏{‏وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً‏}‏ ذكر عظمة منزله تعالى ثم ذكر هاتين الصفتين وهي صفة ‏{‏الملك‏}‏ التي تضمنت القهر، والسلطنة والحق وهي الصفة الثابتة له إذ كل من يدعي إلهاً دونه باطل لا سيما الإله الذي صاغوه من الحلي ومضمحل ملكه ومستعار، وتقدّم أيضاً صفة سلطانه يوم القيامة وعظم قدرته وذلة عبيده وحسن تلطفه بهم، فناسب تعاليه ووصفه بالصفتين المذكورتين، ولما ذكر القرآن وإنزاله قال على سبيل الاستطراد طالباً منه التأني في تحفظ القرآن ‏{‏ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقْضَى إليك وحيه‏}‏ أي تأن حتى يفرغ الملقى إليك الوحي ولا تساوق في قراءتك قراءته وإلقاءه، كقوله تعالى ‏{‏لا تحرك به لسانك لتعجل به‏}‏ وقيل‏:‏ معناه لا تبلغ ما كان منه مجملاً حتى يأتيك البيان‏.‏

وقيل‏:‏ سبب الآية ‏"‏ أن امرأة شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن زوجها لطمها، فقال لها «بينكما القصاص» ‏"‏ ثم نزلت ‏{‏الرجال قوامون على النساء‏}‏ ونزلت هذه بمعنى الأمر بالتثبت في الحكم بالقرآن‏.‏

وقيل‏:‏ كان إذا نزل عليه الوحي أمر بكتبه للحين، فأمر أن يتأنى حتى يفسر له المعاني ويتقرر عنده‏.‏ وقال الماوردي‏:‏ معناه ولا تسأل قبل أن يأتيك الوحي إن أهل مكة وأسقف نجران قالوا‏:‏ يا محمد أخبرنا عن كذا وقد ضربنا لك أجلاً ثلاثة أيام فأبطأ الوحي عليه، وفشت المقالة بين اليهود قد غلب محمد فنزلت ‏{‏ولا تعجل بالقرآن‏}‏ أي بنزوله‏.‏ وقال أبو مسلم ‏{‏ولا تعجل‏}‏ بقراءته في نفسك أو في تأديته إلى غيرك أو في اعتقاد ظاهره أو في تعريف غيرك ما يقتضيه ظاهره احتمالات‏.‏

‏{‏من قبل أن يقضى إليك وحيه‏}‏ أي تمامه أو بيانه احتمالات، فالمراد إذاً أن لا ينصب نفسه ولا غيره عليه حتى يتبين بالوحي تمامه أو بيانه أو هما جميعاً، لأنه يجب التوقف في المعنى لما يجوز أن يحصل عقيبه من استثناء أو شرط أو غيرهما من المخصصات، وهذه العجلة لعله فعلها باجتهاده عليه السلام انتهى‏.‏ وفيه بعض تلخيص‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يُقضى إليك‏}‏ مبنياً للمفعول ‏{‏وحيه‏}‏ مرفوع به‏.‏ وقرأ عبد الله والجحدري والحسن وأبو حيوة ويعقوب وسلام والزعفراني وابن مقسم نقضي بنون العظمة مفتوح الياء وحيه بالنصب‏.‏ وقرأ الأعمش كذلك إلا أنه سكن الياء من يقضي‏.‏ قال صاحب اللوامح‏:‏ وذلك على لغة من لا يرى فتح الياء بحال إذا انكسر ما قبلها وحلت طرفاً انتهى‏.‏

‏{‏وقل رب زدني علماً‏}‏ قال مقاتل أي قرآناً‏.‏ وقيل‏:‏ فهماً‏.‏ وقيل‏:‏ حفظاً وهذا القول متضمن للتواضع لله والشكر له عند ما علم من ترتيب التعلم أي علمتني مآرب لطيفة في باب التعلم وأدباً جميلاً ما كان عندي، فزدني علماً‏.‏ وقيل‏:‏ ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلاّ في طلب العلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏115- 127‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ‏(‏115‏)‏ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى ‏(‏116‏)‏ فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ‏(‏117‏)‏ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى ‏(‏118‏)‏ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ‏(‏119‏)‏ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى ‏(‏120‏)‏ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ‏(‏121‏)‏ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ‏(‏122‏)‏ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ‏(‏123‏)‏ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ‏(‏124‏)‏ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ‏(‏125‏)‏ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ‏(‏126‏)‏ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ‏(‏127‏)‏‏}‏

عرى يُعَرَّى لم يكن على جلده شيء يقيه‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وإن يعرين إن كسى الجواري *** فتنبو العين عن كرم عجاف

ضحى يضحي‏:‏ برز للشمس‏.‏ قال عمرو بن أبي ربيعة‏:‏

رأت رجلاً أيما إذا الشمس عارضت *** فيضحي وأما بالعشي فيحضر

الضنك‏:‏ الضيق والشدّة، ضنك عيشه يضنك ضناكة وضنكاً، وامرأة ضناك كثيرة اللحم صار جلدها به‏.‏

‏{‏ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإمّا يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولَعذاب الآخرة أشد وأبقى‏}‏‏.‏

تقدّمت قصة آدم في البقرة والأعراف والحجر والكهف، ثم ذكر ههنا لما تقدّم ‏{‏كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق‏}‏ كان من هذا الإنباء قصة آدم ليتحفظ بنوه من وسوسة الشيطان ويتنبهوا على غوائله، ومن أطاع الشيطان منهم ذكر بما جرى لأبيه آدم معه وأنه أوضحت له عداوته، ومع ذلك نسي ما عهد إليه ربه وأيضاً لما أمر بأن يقول ‏{‏رب زدني علماً‏}‏ كان من ذلك ذكر قصة آدم وذكر شيء من أحواله فيها لم يتقدّم ذكرها، فكان في ذلك مزيد علم له عليه السلام، والعهد عند الجمهور الوصية‏.‏ والظاهر أن المضاف إليه المحذوف بعد قوله ‏{‏من قبل‏}‏ تقديره ‏{‏من قبل‏}‏ هؤلاء الذين صرف لهم من الوعيد في القرآن لعلهم يتقون، وهم الناقضو عهد الله والتاركو الإيمان‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ الرسول والقرآن‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ أن يأكل من الشجرة‏.‏

وقال الطبري‏:‏ المعنى أن يعرض يا محمد هؤلاء الكفرة عن آياتي ويخالفوا رسلي ويطيعوا إبليس، فقدما فعل ذلك أبوهم آدم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا ضعيف وذلك أن كون آدم مثالاً للكفار الجاحدين بالله ليس بشيء، وآدم عليه السلام إنما عصى بتأويل ففي هذا غضاضته عليه السلام، وإنما الظاهر في هذه الآية إما أن يكون ابتداء قصص لا تعلق له بما قبله، وإما أن يجعل تعلقه إنما هو لما عهد إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن لا يعجل بالقرآن مثل له بنبيّ قبله عهد إليه ‏{‏فنسي‏}‏ فعرف ليكون أشد في التحذير وأبلغ في العهد إلى محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ يقال في أوامر الملوك ووصاياهم‏:‏ تقدم الملك إلى فلان وأوغر عليه وعزم عليه وعهد إليه، عطف الله سبحانه وتعالى قصة آدم على قوله ‏{‏وصرّفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون‏}‏ والمعنى وأقسم قسماً لقد أمرنا أباهم آدم ووصيناه أن لا يقرب الشجرة، وتوعدناه بالدخول في جملة الظالمين إن قربها وذلك ‏{‏من قبل‏}‏ وجودهم و‏{‏من قبل‏}‏ أن نتوعدهم فخالف إلى ما نُهي عنه وتوعد في ارتكابه مخالفتهم، ولم يلتفت إلى الوعيد كما لا يلتفتون كأنه يقول‏:‏ إن أساس أمر بني آدم على ذلك وعرقهم راسخ فيه انتهى‏.‏ والظاهر أن النسيان هنا الترك إن ترك ما وصى به من الاحتراس عن الشجرة وأكل ثمرتها‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ يجوز أن يراد بالنسيان الذي هو نقيض الذكر وأنه لم يعن بالوصية العناية الصادقة ولم يستوثق منها بعقد القلب عليها وضبط النفس حتى تولد من ذلك النسيان انتهى‏.‏ وقاله غيره‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ونسيان الذهول لا يمكن هنا لأنه لا يتعلق بالناسي عقاب انتهى‏.‏ وقرأ اليماني والأعمش فَنُسِّيَ بضم النون وتشديد السين أي نسّاه الشيطان، والعزم التصميم والمضي‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ أي على ترك الأكل وأن يتصلب في ذلك تصلباً يؤيس الشيطان من التسويل له، والوجود يجوز أن يكون بمعنى العلم ومفعولاه ‏{‏له عزماً‏}‏ وأن يكون نقيض العدم كأنه قال وعد منا ‏{‏له عزماً‏}‏ انتهى‏.‏ وقيل ‏{‏ولم نجد له عزماً‏}‏ على المعصية وهذا يتخرج على قول من قال إنه فعل نسياناً‏.‏ وقيل‏:‏ حفظاً لما أمر به‏.‏ وقيل‏:‏ صبراً عن أكل الشجرة‏.‏ وقيل ‏{‏عزماً‏}‏ في الاحتياط في كيفية الاجتهاد‏.‏

وتقدم الكلام على نظير قوله ‏{‏وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس أبى‏}‏ و‏{‏أبى‏}‏ جملة مستأنفة مبينة أن امتناعه من السجود إنما كان عن إباء منه وامتناع، والظاهر حذف متعلق ‏{‏أبى‏}‏ وأنه يقدر هنا ما صرح به في الآية الأخرى ‏{‏أبى أن يكون مع الساجدين‏}‏ وقال الزمخشري ‏{‏أبى‏}‏ جملة مستأنفة كأنه جواب قائل قال‏:‏ لمَ لمْ يسجد‏؟‏ والوجه أن لا يقدر له مفعول وهو السجود المدلول عليه بقوله ‏{‏اسجدوا‏}‏ وأن يكون معناه أظهر الإباء وتوقف وتثبط انتهى‏.‏

و ‏{‏هذا‏}‏ إشارة إلى إبليس و‏{‏عدو‏}‏ يطلق على الواحد والمثنى والمجموع، عرف تعالى آدم عداوة إبليس له ولزوجته ليحذراه فلن يغنيَ الحذر عن القدر، وسبب العداوة فيما قيل إنّ إبليس كان حسوداً فلما رأى آثار نعم الله على آدم حسده وعاداه‏.‏ وقيل‏:‏ العداوة حصلت من تنافي أصليهما إذ إبليس من النار وآدم من الماء والتراب ‏{‏فلا يخرجنكما‏}‏ النهي له والمراد غيره أي لا يقع منكما طاعة له في إغوائه فيكون ذلك سبب خروجكما من الجنة، وأسند الإخراج إليه وإن كان المخرج هو الله تعالى لما كان بوسوسته هو الذي فعل ما ترتب عليه الخروج ‏{‏فتشقى‏}‏ يحتمل أن يكون منصوباً بإضمار أن في جواب النهي، وأن يكون مرفوعاً على تقدير فأنت تشقى‏.‏

وأسند الشقاء إليه وحده بعد اشتراكه مع زوجه في الإخراج من حيث كان هو المخاطب أولاً والمقصود بالكلام ولأن في ضمن شقاء الرجل شقاء أهله، وفي سعادته سعادتها فاختصر الكلام بإسناده إليه دونها مع المحافظة على الفاصلة‏.‏

وقيل‏:‏ أراد بالشقاء التعب في طلب القوت وذلك راجع إلى الرجل‏.‏ وعن ابن جبير‏:‏ أهبط له ثور أحمر يحرث عليه فيأكل بكد يمينه وعرق جبينه‏.‏ وقرأ شيبة ونافع وحفص وابن سعدان ‏{‏وإنك لا تظمأ‏}‏ بكسر همزة وإنك‏.‏ وقرأ الجمهور بفتحها فالكسر عطف على أن لك، والفتح عطف على المصدر المنسبك من أن لا تجوع، أي أن لك انتفاء جوعك وانتفاء ظمئك، وجاز عطف ‏{‏أنك‏}‏ على أن لاشتراكهما في المصدر، ولو باشرتها إن المكسورة لم يجز ذلك وإن كان على تقديرها ألا ترى أنها معطوفة على اسم إن، وهو أن لا تجوع لكنه يجوز في العطف ما لا يجوز في المباشرة، ولما كان الشبع والري والكسوة والسكن هي الأمور التي هي ضرورية للإنسان اقتصر عليها لكونها كافية له‏.‏ وفي الجنة ضروب من أنواع النعيم والراحة ما هذه بالنسبة إليها كالعدم فمنها الأمن من الموت الذي هو مكدر لكل لذة، والنظر إلى وجه الله سبحانه ورضاه تعالى عن أهلها، وأن لا سقم ولا حزن ولا ألم ولا كبر ولا هرم ولا غل ولا غضب ولا حدث ولا مقاذير ولا تكليف ولا حزن ولا خوف ولا ملل، وذكرت هذه الأربعة بلفظ النفي لأثبات أضدادها وهو الشبع والري والكسوة والسكن، وكانت نقائضها بلفظ النفي وهو الجوع والعُري والظمأ والضحو ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة التي حذره منها حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ وكان عرف الكلام أن يكون الجوع مع الظمأ والعُري مع الضحاء لأنها تتضاد إذ العُري نفسه البرد فيؤذي والحر يفعل ذلك بالضاحي، وهذه الطريقة مهيع في كلام العرب أن يقرن النسب‏.‏ ومنه قول امرئ القيس‏:‏

كأني لم أركب جواداً للذة *** ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال

ولم أسبأ الرق الروي ولم أقل *** لخيلي كري كرة بعد إجفال

وقد ذهب بعض الأدباء إلى أن بيتي امرئ القيس كافطاني للنسب، وأن ركوب الخيل للصيد وغيره من الملاذ يناسب تبطن الكاعب انتهى‏.‏

وقيل‏:‏ هذا الجواب على قدر السؤال لما أمر الله آدم بسكنى الجنة قال‏:‏ إلهي ألي فيها ما آكل‏؟‏ ألي فيها ما ألبس‏؟‏ ألي فيها ما أشرب‏؟‏ ألي فيها ما أستظل به‏؟‏ وقيل‏:‏ هي مقابلة معنوية، فالجوع خلو الباطن، والتعري خلو الظاهر، والظمأ إحراق الباطن، والضحو إحراق الظاهر فقابل الخلو بالخلو والإحراق بالإحراق‏.‏

وقيل‏:‏ جمع امرؤ القيس في بيتيه بين ركوب الخيل للذة والنزهة، وبين تبطن الكاعب للذة الحاصلة فيهما، وجمع بين سباء الرق وبين قوله لخيله كري لما فيهما من الشجاعة ولما عيب على أبي الطيب قوله‏:‏

وقفت وما في الموت شك لواقف *** كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمر بك الأبطال هَزْمَى كليمة *** ووجهك وضاح وثغرك باسم

فقال‏:‏ إن كنت أخطأت فقد أخطأ امرؤ القيس‏.‏ وتقدم الكلام في ‏{‏فوسوس‏}‏ والخلاف في كيفيتها في الأعراف، وتعدى وسوس هنا بإلى وفي الأعراف باللام، فالتعدي بإلى معناه أنهى الوسوسة إليه والتعدّي بلام الجر، قيل معناه‏:‏ لأجله ولما وسوس إليه ناداه باسمه ليكون أقبل عليه وأمكن للاستماع، ثم عرض عليه ما يلقى بقوله ‏{‏هل أدلك‏}‏ على سبيل الاستفهام الذي يشعر بالنضح‏.‏ ويؤثر قبول من يخاطبه كقول موسى ‏{‏هل لك إلى أن تزكى‏}‏ وهو عرض فيه مناصحة، وكان آدم قد رغبه الله تعالى في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله ‏{‏فلا يخرجنكما‏}‏ الآية ورغبة إبليس في دوام الراحة بقوله‏:‏ ‏{‏هل أدلك‏}‏ فجاءه إبليس من الجهة التي رغبه الله فيها‏.‏ وفي الأعراف ‏{‏ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة‏}‏ الآية‏.‏ وهنا ‏{‏هل أدلك‏}‏ والجمع بينهما أن قوله ‏{‏هل أدلك‏}‏ يكون سابقاً على قوله ‏{‏ما نهاكما‏}‏ لما رأى إصغاءه وميله إلى ما عرض عليه انتقل إلى الإخبار والحصر‏.‏

ومعنى ‏{‏على شجرة الخلد‏}‏ أي الشجرة التي مَن أكل منها خلد وحصل له ملك لا يخلق، وهذا يدل لقراءة الحسن بن عليّ وابن عباس إلا أن تكونا ملكين بكسر اللام ‏{‏فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة‏}‏ تقدم الكلام على نحو هذه الآية في الأعراف ‏{‏وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى‏}‏ قال الزمخشري عن ابن عباس‏:‏ لا شبهة في أن آدم صلوات الله عليه لم يمتثل ما رسم الله له وتخطى فيه ساحة الطاعة، وذلك هو العصيان‏.‏ ولما عصى خرج فعله من أن يكون رشداً وخيراً فكان غياً لا محالة لأن الغيَّ خلاف الرشد‏.‏ ولكن قوله ‏{‏عصى آدم ربه فغوى‏}‏ بهذا الإطلاق وهذا التصريح، وحيث لم يقل وزل آدم وأخطأ وما أشبه ذلك مما يعبر به عن الزلات والفرطات فيه لطف بالمكلفين ومزجرة بليغة وموعظة كافة، وكأنه قيل لهم‏:‏ انظروا واعتبروا كيف نعتب على النبيّ المعصوم حبيب الله الذي لا يجوز عليه اقتراف الصغيرة غير المنفرة زلته بهذه الغلظة وبهذا اللفظ الشنيع، فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من السيئات والصغائر فضلاً عن أن تجسروا عن التورط في الكبائر، وعن بعضهم ‏{‏فغوى‏}‏ فسئم من كثرة الأكل، وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المسكور ما قبلها ألفاً فيقول في فنى وبقى فنا وبقا، وهم بنو طيئ تفسير خبيث انتهى‏.‏

وقال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ لا يجوز لأحدنا اليوم أن يخبر بذلك عنه عليه السلام إلاّ إذا ذكرناه في أثناء قوله تعالى أو قول نبيه عليه السلام، فإما أن يبتدئ ذلك من قبل نفسه فليس بجائز لنا في آبائنا الأدنين إلينا المماثلين لنا، فكيف ففي أبينا الأقدم الأعظم الأكرم النبيّ المقدم الذي اجتباه الله وتاب عليه وغفر له‏.‏ قال القرطبي‏:‏ وإذا كان هذا في المخلوق لا يجوز والإخبار عن صفات الله كاليد والرجل والأصبع والجنب والنزول إلى غير ذلك أولى بالمنع، وأنه لا يجوز الابتداء بشيء من ذلك إلاّ في أثناء قراءة كتابه أو سنة رسول عليه السلام، ولهذا قال الإمام مالك بن أنس‏:‏ من وصف شيئاً من ذات الله مثل قوله تعالى ‏{‏وقالت اليهود يد الله مغلولة‏}‏ فأشار بيده إلى عنقه قطعت يده وكذلك في السمع والبصر يقطع ذلك منه لأنه شبه الله سبحانه بنفسه‏.‏

‏{‏ثم اجتباه‏}‏ أي اصطفاه وقربه وتاب عليه أي قبل توبته ‏{‏وهدى‏}‏ أي هداه للنبوة أو إلى كيفية التوبة، أو هداه رشده حتى رجع إلى الندم‏.‏ والضمير في ‏{‏اهبطا‏}‏ ضمير تثنية وهو أمر لآدم وحواء جعل هبوطهما عقوبتهما و‏{‏جميعاً‏}‏ حال منهما‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ثم أخبرهما بقوله ‏{‏جميعاً‏}‏ أن إبليس والحية مهبطان معهما، وأخبرهما أن العداوة بينهم وبين أنسالهم إلى يوم القيامة انتهى‏.‏ ولا يدل قوله ‏{‏جميعاً‏}‏ أن إبليس والحية يهبطان معهما لأن ‏{‏جميعاً‏}‏ حال من ضمير الاثنين أي مجتمعين، والضمير في ‏{‏بعضكم لبعض‏}‏ ضمير جمع‏.‏ قيل‏:‏ يريد إبليس وبنيه وآدم وبنيه‏.‏ وقيل‏:‏ أراد آدم وذريته، فالعداوة واقعة بينهم والبغضاء لاختلاف الأديان وتشتت الآراء‏.‏ وقيل‏:‏ آدم وإبليس والحية‏.‏ وقال أبو مسلم الأصبهاني‏:‏ الخطاب لآدم عليه السلام ولكونهما جنسين صح قوله ‏{‏اهبطا‏}‏ ولأجل اشتمال كل واحد من الجنسين على الكثرة صح قوله ‏{‏فإما يأتينكم مني هدى‏}‏‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ لما كان آدم وحواء عليهما السلام أصلي البشر والسببين اللذين منهما نشؤوا وتفرعوا جعلا كأنهما البشر في أنفسهما فخوطبا مخاطبتهم، فقيل ‏{‏فإما يأتينكم‏}‏ على لفظ الجماعة، ونظيره إسنادهم الفعل إلى السبب وهو في الحقيقة للمسبب انتهى‏.‏ و‏{‏هدى‏}‏ شريعة الله‏.‏ وعن ابن عباس ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم تلا ‏{‏فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى‏}‏ والمعنى أن الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضل في الدنيا عن طريق الدين، فمن اتبع كتاب الله وامتثل أوامره وانتهى عن نواهيه نجا من الضلال ومن عقابه‏.‏

وعن ابن جبير من قرأ القرآن واتبع ما فيه عصمه الله من الضلالة ووقاه سوء الحساب‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ وهذه الآية تدل على أن المراد بالهدى الذي ذكره الله تعالى اتباع الأدلة واتباعها لا يتكامل إلاّ بأن يستدل بها، وبأن يعمل بها، ومن هذه حاله فقد ضمن تعالى أن لا يضل ولا يشقى في الآخرة لأنه تعالى يهديه إلى الجنة‏.‏ وقيل ‏{‏لا يضل ولا يشقى‏}‏ في الدنيا‏.‏ فإن قيل‏:‏ المنعم بهدى الله قد يلحقه الشقاء في الدنيا‏.‏ قلنا‏:‏ المراد لا يضل في الدين ولا يشقى بسبب الدين فإن حصل بسبب آخر فلا بأس انتهى‏.‏

ولما ذكر تعالى من اتبع الهدى أتبعه بوعيد من أعرض عن ذكره، والذكر يقع على القرآن وعلى سائر الكتب الإلهية‏.‏ وضنك‏:‏ مصدر يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع، والمعنى النكد الشاق من العيش والمنازل ومواطن الحرب ربحوها‏.‏ ومنه قول عنترة‏:‏

إن المنية لو تمثل مثلت *** مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل

وعن ابن عباس‏:‏ نزلت هذه الآية في الأسود بن عبد الأسد المخزومي، والمراد ضغطة القبر تختلف فيه أضلاعه‏.‏ وقال الحسن وقتادة والكلبي‏:‏ هو الضيق في الآخرة في جهنم فإن طعامهم فيها الضريع والزقوم وشرابهم الحميم والغسلين، ولا يموتون فيها ولا يحيون، وقال عطاء‏:‏ المعيشة الضنك معيشة الكافر لأنه غير موقن بالثواب والعقاب‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ يسلب القناعة حتى لا يشبع‏.‏ وقال أبو سعيد الخدري والسدّي‏:‏ هو عذاب القبر، ورواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ المعيشة الضنك في الدنيا، والمعنى أن الكافر وإن كان متسع الحال والمال فمعه من الحرص والأمل والتعذيب بأمور الدنيا والرغبة وامتناع صفاء العيش لذلك ما تصير معيشته ضنكاً وقالت فرقة ‏{‏ضنكاً‏}‏ بأكل الحرام‏.‏

ويستدل على أن المعيشة الضنك قبل يوم القيامة ‏{‏ونحشره يوم القيامة أعمى‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولَعذاب الآخرة أشد وأبقى‏}‏ فكأنه ذكر نوعاً من العذاب، ثم ذكر أن عذاب الآخرة أشد وأبقى، وحسن قول الجمهور الزمخشري فقال‏:‏ ومعنى ذلك أن مع الدين التسليم والقناعة والتوكل على الله وعلى قسمته، فصاحبه ينفق ما رزقه بسماح وسهولة فيعيش عيشاً طيباً كما قال تعالى ‏{‏فلنحيينه حياة طيبة‏}‏ والمعرض عن الدين مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطيح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق، فعيشه ضنك وحاله مظلمة انتهى‏.‏

وقرأ الحسن ضنكي بألف التأنيث ولا تنوين وبالإمالة بناؤه صفة على فعلى من الضنك‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏ضنكاً‏}‏ بالتنوين وفتحة الكاف فتحة إعراب‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏ونحشره‏}‏ بالنون، وفرقة منهم أبان بن تغلب بسكون الراء فيجوز أن يكون تخفيفاً، ويجوز أن يكون جرماً بالعطف على موضع ‏{‏فإن له معيشة ضنكاً‏}‏ لأنه جواب الشرط، وكأنه قيل ‏{‏ومن أعرض عن ذكري‏}‏ تكن له معيشة ضنك ‏{‏ونحشره‏}‏ ومثله

‏{‏من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم‏}‏ في قراءة من سكن ويذرهم‏.‏ وقرأت فرقة ويحشره بالياء‏.‏ وقرئ ويحشره بسكون الهاء على لفظ الوقف قاله الزمخشري‏.‏ ونقل ابن خالويه هذه القراءة عن أبان بن تغلب والأحسن تخريجه على لغة بني كلاب وعقيل فإنهم يسكنون مثل هذه الهاء‏.‏ وقرئ ‏{‏لربه لكنود‏}‏ والظاهر أن قوله ‏{‏أعمى‏}‏ المراد به عمى البصر كما قال ‏{‏ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً‏}‏ وقيل‏:‏ أعمى البصيرة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ولو كان هذا لم يحس الكافر بذلك لأنه مات أعمى البصيرة ويحشر كذلك‏.‏ وقال مجاهد والضحاك ومقاتل وأبو صالح وروي عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏أعمى‏}‏ عن حجته لا حجة له يهتدي بها‏.‏ وعن ابن عباس يحشر بصيراً ثم إذا استوى إلى المحشر ‏{‏أعمى‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏أعمى‏}‏ عن الحيلة في دفع العذاب عن نفسه كالأعمى الذي لا حيلة له فيما لا يراه‏.‏ وقيل ‏{‏أعمى‏}‏ عن كل شيء إلاّ عن جهنم‏.‏ وقال الجبائي‏:‏ المراد من حشره ‏{‏أعمى‏}‏ لا يهتدي إلى شيء‏.‏ وقال إبراهيم بن عرفة‏:‏ كل ما ذكره الله عز وجل في كتابه فذمه فإنما يريد عَمَى القلب قال تعالى فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ معنى ‏{‏لم حشرتني أعمى‏}‏ أي لا حجة لي وقد كنت عالماً بحجتي بصيراً بها أحاجّ عن نفسي في الدنيا انتهى‏.‏ سأل العبد ربه عن السبب الذي استحق به أن يحشر أعمى لأنه جهله، وظن أنه لا ذنب له فقال له جل ذكره ‏{‏كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى‏}‏ أي مثل ذلك أنت، ثم فسر بأن آياتنا أتتك واضحة مستنيرة فلم تنظر إليها بعين المعتبر، ولم تتبصر وتركتها وعميت عنها فكذلك اليوم نتركك على عماك ولا نزيل غطاءه عن عينيك قاله الزمخشري‏.‏ والنسيان هنا بمعنى الترك لا بمعنى الذهول، ومعنى ‏{‏تُنْسَى‏}‏ تترك في العذاب ‏{‏وكذلك نجزي‏}‏ أي مثل ذلك الجزاء ‏{‏نجزي من أسرف‏}‏ أي من جاوز الحد في المعصية ثم أخبر تعالى أن عذاب الآخرة أشد أي من عذاب الدنيا لأنه أعظم منه ‏{‏وأبقى‏}‏ أي منه لأنه دائم مستمر وعذاب الدنيا منقطع‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ والحشر على العمى الذي لا يزوال أبداً أشد من ضيق العيش المنقضي، أو أراد ولتركنا إياه في العمى ‏{‏أشد وأبقى‏}‏ من تركه لآياتنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏128- 135‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ‏(‏128‏)‏ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ‏(‏129‏)‏ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ‏(‏130‏)‏ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏131‏)‏ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ‏(‏132‏)‏ وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى ‏(‏133‏)‏ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ‏(‏134‏)‏ قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ‏(‏135‏)‏‏}‏

زهرة‏:‏ بفتح الهاء وسكونها نحو نهر ونهر ما يروق من النور، وسراج زاهر له بريق، والأنجم الزهر المضيئة، وأزهر الشجر بدا زهره وهو النور‏.‏

‏{‏أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى‏.‏ ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً وأجل مسمى فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى‏.‏ ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى‏.‏ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ولو أنا أهلكناهم بعذاب قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى‏.‏ قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى‏}‏‏.‏

قرأ الجمهور ‏{‏يهد‏}‏ الياء‏.‏ وقرأ فرقة منهم ابن عباس والسلمي بالنون، وبخهم تعالى وذكرهم العبر بمن تقدم من القرون، ويعني بالإهلاك الإهلاك الناشئ عن تكذيب الرسل وترك الإيمان بالله واتباع رسله، والفاعل ليهد ضمير عائد على الله تعالى، ويؤيد هذا التخريج قراءة نهد بالنون ومعناه نبين وقاله الزجاج‏.‏ وقيل‏:‏ الفاعل مقدر تقديره الهدى والآراء والنظر والاعتبار‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وهذا أحسن ما يقدر به عندي انتهى‏.‏ وهو قول المبرد وليس بجيد إذ فيه حذف الفاعل وهو لا يجوز عند البصريين، وتحسينه أن يقال الفاعل مضمر تقديره ‏{‏يهد‏}‏ هو أي الهدى‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ الفاعل ما دل عليه ‏{‏أهلكنا‏}‏ والجملة مفسرة له‏.‏ قال الحوفي ‏{‏كم أهلكنا‏}‏ قد دل على هلاك القرون، فالتقدير أفلم نبين لهم هلاك من ‏{‏أهلكنا‏}‏ ‏{‏من القرون‏}‏ ومحو آثارهم فيتعظوا بذلك‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ فاعل ‏{‏لم يهد‏}‏ الجملة بعده يريد ألم يهد لهم هذا بمعناه ومضمونه ونظيره قوله تعالى ‏{‏وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين‏}‏ أي تركنا عليه هذا الكلام، ويجوز أن يكون فيه ضمير الله أو الرسول انتهى‏.‏ وكون الجملة فاعلاً هو مذهب كوفي، وأما تشبيهه وتنظيره بقوله ‏{‏تركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين‏}‏ فإن تركنا عليه معناه معنى القول فحكيت به الجملة كأنه قيل وقلنا عليه، وأطلقنا عليه هذا اللفظ والجملة تحكي بمعنى القول كما تحكى بلفظه، وأحسن التخاريج الأول وهو أن يكون الفاعل ضميراً عائداً على الله كأنه قال ‏{‏أفلم‏}‏ يبين الله ومفعول يبين محذوف، أي العبر بإهلاك القرون السابقة ثم قال ‏{‏كم أهلكنا‏}‏ أي كثيراً أهلكنا، فكم مفعوله بأهلكنا والجملة كأنها مفسرة للمفعول المحذوف ليهد‏.‏

وقال الحوفي‏:‏ قال بعضهم هي في موضع رفع فاعل ‏{‏يهد‏}‏ وأنكر هذا على قائله لأن كم استفهام لا يعمل فيها ما قبلها انتهى‏.‏ وليست كم هنا استفهاماً بل هي خبرية‏.‏

وقال أبو البقاء‏:‏ ‏{‏يهد لهم‏}‏ في فاعله وجهان أحدهما ضمير اسم الله تعالى أي ألم يبين الله لهم وعلق ‏{‏يهد‏}‏ هنا إذ كانت بمعنى يعلم كما علقت في قوله تعالى ‏{‏وتبين لكم كيف فعلنا بهم‏}‏ انتهى‏.‏

و ‏{‏كم‏}‏ هنا خبرية والخبرية لا تعلق العامل عنها، وإنما تعلق عنه الاستفهامية‏.‏ وقرأ ابن السميفع‏:‏ يُمَشُّون بالتشديد مبنياً للمفعول لأن المشي يخلق خطوة بخطوة وحركة بحركة وسكوناً بسكون، فناسب البناء للمفعول والضمير في ‏{‏يمشون‏}‏ عائد على ما عاد عليه لهم وهم الكفار الموبخون يريد قريشاً، والعرب يتقلبون في بلاد عاد وثمود والطوائف التي كانت قريش تمر عليها إلى الشام وغيره، ويعاينون آثار هلاكهم و‏{‏يمشون في مساكنهم‏}‏ جملة في موضع الحال من ضمير ‏{‏لهم‏}‏ والعامل ‏{‏يهد‏}‏ أي ألم نبين للمشركين في حال مشيهم في مساكن من أهلك من الكفار‏.‏ وقيل‏:‏ حال من مفعول ‏{‏أهلكنا‏}‏ أي أهلكناهم غارين آمنين متصرّفين في مساكنهم لم يمنعهم عن التمتع والتصرف مانع من مرض ولا غيره، فجاءهم الإهلاك بغتة على حين غفلة منهم به‏.‏

‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي في ذلك التبيين بإهلاك القرون الماضية ‏{‏لآيات لأولي النهى‏}‏ أي العقول السليمة‏.‏ ثم بين تعالى الوجه الذي لأجله لا يترك العذاب معجلاً على من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم والكلمة السابقة هي المعدة بتأخير جزائهم في الآخرة قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل الساعة موعدهم‏}‏ تقول‏:‏ لولا هذه العدة لكان مثل إهلاكنا عاداً وثموداً لازماً هؤلاء الكفرة، واللزام إما مصدر لازم وصف به وإما فعال بمعنى مفعل أي ملزم كأنه آلة للزوم، ولفظ لزومه كما قالوا لزاز خصم‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ لا شبهة أن الكلمة إخبار الله تعالى ملائكته وكتبه في اللوح المحفوظ أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم وإن كذبوا يؤخرون ولا يفعل بهم ما فعل بغيرهم من الاستئصال انتهى‏.‏

والأجل أجل حياتهم أو أجل إهلاكهم في الدنيا أو عذاب يوم القيامة، أقوال‏:‏ فعلى الأول يكون العذاب ما يلقى في قبره وما بعده‏.‏ وعلى الثاني‏:‏ قتلهم بالسيف يوم بدر‏.‏ وعلى الثالث‏:‏ هو عذاب جهنم‏.‏ وفي صحيح البخاري «أن يوم بدر هو اللزام وهو البطشة الكبرى» والظاهر عطف ‏{‏وأجل مسمى‏}‏ على كلمة وأخر المعطوف عن المعطوف عليه، وفصل بينهما بجواب ‏{‏لولا‏}‏ لمراعاة الفواصل ورؤوس الآي، وأجاز الزمخشري أن يكون ‏{‏وأجل‏}‏ معطوفاً على الضمير المستكن في كان قال أي ‏{‏لكان‏}‏ الأخذ العاجل ‏{‏وأجل مسمى‏}‏ لازمين له كما كانا لازمين لعاد وثمود، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل انتهى‏.‏

ثم أمره تعالى بالصبر على ما يقول مشركو قريش، وهم الذين عاد الضمير عليهم في ‏{‏أفلم يهد لهم‏}‏ وكانوا يقولون أشياء قبيحة مما نص الله عنهم في كتابه، فأمره تعالى بالصبر على أذاهم والاحتمال لما يصدر من سوء أخلاقهم، وأمره بالتسبيح والحمد لله و‏{‏بحمد ربك‏}‏ في موضع الحال، أي وأنت حامد لربك‏.‏ والظاهر أنه أمر بالتسبيح مقروناً بالحمد، وإما أن يراد اللفظ أي قل سبحان الله والحمد لله، أو أريد المعنى وهو التنزيه والتبرئة من السوء والثناء الجميل عليه‏.‏ وقال أبو مسلم‏:‏ لا يبعد حمله على التنزيه والإجلال، والمعنى اشتغل بتنزيه الله في هذه الأوقات‏.‏ قال أبو عبد الله الرازي‏:‏ وهذا القول أقرب إلى الظاهر وإلى ما تقدم ذكره لأنه صبره أولاً ‏{‏على ما يقولون‏}‏ من التكذيب ومن إظهار الكفر والشرك الذي يليق بذلك أن يؤمر بتنزيهه عن قولهم حتى يكون مظهراً لذلك وداعياً، ولذلك ما جمع كل الأوقات أو يراد المجاز فيكون المراد الصلاة فقبل طلوع الشمس صلاة الصبح وقبل غروبها صلاة العصر ‏{‏ومن آناء الليل‏}‏ المغرب والعتمة ‏{‏وأطراف النهار‏}‏ الظهر وحده‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويحتمل اللفظ أن يراد قول سبحان الله وبحمده من بعد صلاة الصبح إلى ركعتي الضحى وقبل غروب الشمس، فقد قال عليه السلام‏:‏ «من سبح عند غروب الشمس سبعين تسبيحة غربت بذنوبه» انتهى‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏وقبل غروبها‏}‏ يعني الظهر والعصر لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار بين زوال الشمس وغروبها، وتعمد ‏{‏آناء الليل‏}‏ ‏{‏وأطراف النهار‏}‏ مختصاً لها بصلاتك، وذلك أن أفضل الذكر ما كان بالليل لاجتماع القلب وهدوّ الرجل والخلو بالرب‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن ناشئة الليل‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏أمّن هو قانت آناء الليل‏}‏ الآيتين‏.‏ ولأن الليل وقت السكون والراحة فإذا صرف إلى العبادة كانت على النفس أشد وأشق وللبدن أتعب وأنصب، فكانت أدخل في معنى التكليف وأفضل عند الله وقد تناول التسبيح في ‏{‏آناء الليل‏}‏ صلاة العتمة ‏{‏وفي أطراف النهار‏}‏ صلاة المغرب وصلاة الفجر على التكرار إرادة الاختصاص كما اختصت في قوله ‏{‏حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى‏}‏ عند بعض المفسرين انتهى‏.‏ وجاء هنا ‏{‏وأطراف النهار‏}‏ وفي هود ‏{‏وأقم الصلاة طرفي النهار‏}‏ فقيل‏:‏ جاء على حد قوله‏:‏

ومهمهين قذفين مرتين *** ظهراهما مثل ظهور الترسين

جاءت التثنية على الأصل والجمع لا من اللبس إذ النهار ليس له إلاّ طرفان‏.‏ وقيل‏:‏ هو على حقيقة الجمع الفجر الطرف الأول، والظهر والعصر من الطرف الثاني، والطرف الثالث المغرب والعشاء‏.‏ وقيل‏:‏ النهار له أربعة أطراف عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وعند زوال الشمس، وعند وقوفها للزوال‏.‏ وقيل‏:‏ الظهر في آخر طرف النهار الأول، وأول طرف النهار الآخر، فهي في طرفين منه، والطرف الثالث غروب الشمس وهو وقت المغرب‏.‏ وقيل‏:‏ يجعل النهار للجنس فلكل يوم طرف فيتكرر بتكرره‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بالأطراف الساعات لأن الطرف آخر الشيء‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وأطراف‏}‏ بنصب الفاء وهو معطوف على ‏{‏ومن آناء الليل‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ معطوف على ‏{‏قبل طلوع الشمس‏}‏ وقرأ الحسن وعيسى بن عمر ‏{‏وأطراف‏}‏ بخفض الفاء عطفاً على ‏{‏آناء‏}‏‏.‏

‏{‏لعلك ترضى‏}‏ أي تثاب على هذه الأعمال بالثواب الذي تراه وأبرز ذلك في صورة الرجاء والطمع لا على القطع‏.‏ وقيل‏:‏ لعل من الله واجبة‏.‏ وقرأ أبو حيوة وطلحة والكسائي وأبو بكر وأبان وعصمة وأبو عمارة عن حفص وأبو زيد عن المفضل وأبو عبيد ومحمد بن عيسى الأصبهاني تُرْضَى بضم التاء أي يرضيك ربك‏.‏

ولما أمره تعالى بالصبر وبالتسبيح جاء النهي عن مد البصر إلى ما متع به الكفرة يقال‏:‏ مد البصر إلى ما متع به الكفار، يقال‏:‏ مد نظره إليه إذا أدام النظر إليه، والفكرة في جملته وتفصيله‏.‏ قيل‏:‏ والمعنى على هذا ولا تعجب يا محمد مما متعناهم به من مال وبنين ومنازل ومراكب وملابس ومطاعم، فإنما ذلك كله كالزهرة التي لا بقاء لها ولا دوام، وإنها عما قليل تفنى وتزول‏.‏ والخطاب وإن كان في الظاهر للرسول صلى الله عليه وسلم فالمراد أمته وهو كان صلى الله عليه وسلم أبعد شيء عن النظر في زينة الدنيا وأعلق بما عند الله من كل أحد، وهو القائل في الدنيا «ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أريد به وجه الله» وكان شديد النهي عن الاغترار بالدنيا والنظر إلى زخرفها ‏{‏ولا تمدن‏}‏ أبلغ من لا تنظر لأن مد البصر يقتضي الإدامة والاستحسان بخلاف النظر، فإنه قد لا يكون ذلك معه والعين لا تمدّ فهو على حذف مضاف أي ‏{‏لا تمدن‏}‏ نظر ‏{‏عينيك‏}‏ والنظر غير الممدد معفو عنه‏.‏ وذلك مثل من فاجأ الشيء ثم غض بصره‏.‏ والنظر إلى الزخارف مركوز في الطبائع فمن رأى منها شيئاً أحب إدمان النظر إليه، وقد شدّد المتقون في غض البصر عن أبنية الظلمة وعدد الفسقة مركوباً وملبوساً وغيرهما لأنهم إنما اتخذوها لعيون النظارة حتى يفتخروا بها، فالناظر إليها محصل لغرضهم وكالمغرى لهم على اتخاذها‏.‏ وانتصب ‏{‏أزواجاً‏}‏ على أنه مفعول به، والمعنى أصنافاً من الكفرة و‏{‏منهم‏}‏ في موضع الصفة لأزواجاً أي أصنافاً وأقواماً من الكفرة‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏وآخر من شكله أزواج‏}‏ وأجاز الزمخشري أن ينتصب ‏{‏أزواجاً‏}‏ عن الحال من ضمير ‏{‏به‏}‏ و‏{‏متعنا‏}‏ مفعوله منهم كأنه قيل إلى الذي متعنا به وهو أصناف بعضهم، وناساً منهم‏.‏ و‏{‏زهرة‏}‏ منصوب على الذم أو مفعول ثان لمتعنا على تضمينه معنى أعطينا أو بدل من محل الجار والمجرور، أو بدل من ‏{‏أزواجاً‏}‏ على تقدير ذوي زهرة، أو جعلهم ‏{‏زهرة‏}‏ على المبالغة أو منصوب بفعل محذوف يدل عليه ‏{‏متعنا‏}‏ أي جعلنا لهم ‏{‏زهرة‏}‏ أو حال من الهاء، أو ما على تقدير حذف التنوين من ‏{‏زهرة‏}‏ لالتقاء الساكنين وخبر ‏{‏الحياة‏}‏ على البدل من ‏{‏ما‏}‏ وكل هذه الأعاريب منقول والأخير اختاره مكي، وردّ كونه بدلاً من محل ‏{‏ما‏}‏ لأن فيه الفصل بالبدل بين الصلاة وهي ‏{‏متعنا‏}‏ ومعمولها وهو ‏{‏لنفتنهم‏}‏ فالبدل وهو ‏{‏زهرة‏}‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏زَهْرَة‏}‏ بسكون الهاء‏.‏ وقرأ الحسن وأبو البر هيثم وأبو حيوة وطلحة وحميد وسلام ويعقوب وسهل وعيسى والزهري بفتحها‏.‏ وقرأ الأصمعي عن نافع لِنُفْتِنَهم بضم النون من أفتنه إذا جعل الفتنة واقعة فيه، والزهرة والزهرة بمعنى واحد كالجهرة والجهرة‏.‏ وأجاز الزمخشري في ‏{‏زهرة‏}‏ المفتوح الهاء أن يكون جمع زاهر نحو كافر وكفرة، وصفهم بأنهم زاهر وهذه الدنيا الصفاء ألوانهم مما يلهون ويتنعمون وتهلل وجوههم وبهاء زيهم وشارتهم بخلاف ما عليه المؤمنون والصلحاء من شحوب الألوان والتقشف في الثياب، ومعنى ‏{‏لنفتنهم فيه‏}‏ أي لنبلوهم حتى يستوجبوا العذاب لوجود الكفران منهم أو لنعذبهم في الآخرة بسببه‏.‏

‏{‏ورزق ربك خير وأبقى‏}‏ أي ما ذخر لهم من المواهب في الآخرة ‏{‏خير‏}‏ مما متع به هؤلاء في الدنيا ‏{‏وأبقى‏}‏ أي أدوم‏.‏ وقيل‏:‏ ما رزقهم وإن كان قليلاً خير مما رزقوا وإن كان كثير الحلية ذلك وحرمية هذا‏.‏ وقيل‏:‏ ما رزقت من النبوة والإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ ما يفتح الله على المؤمنين من البلاد والغنائم‏.‏ وقيل‏:‏ القناعة‏.‏ وقيل‏:‏ ثواب الله على الصبر وقلة المبالاة بالدنيا‏.‏

ولما أمره تعالى بالتسبيح في تلك الأوقات المذكورة ونهاه عن مد بصره إلى ما متع به الكفار أمره تعالى بأن يأمر أهله بالصلاة التي هي بعد الشهادة آكد أركان الإسلام، وأمره بالاصطبار على مداومتها ومشاقها وأن لا يشتغل عنها، وأخبره تعالى أن لا يسأله أن يرزق نفسه وأن لا يسعى في تحصيل الرزق ويدأب في ذلك، بل أمره بتفريغ باله لأمر الآخرة ويدخل في خطابه عليه السلام أمته‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏نَرْزُقُكَ‏}‏ بضم القاف‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ منهم وابن وثاب بإدغام القاف في الكاف وجاء ذلك عن يعقوب‏.‏ قال صاحب اللوامح‏:‏ وإنما امتنع أبو عمرو من إدغام مثله بعد إدغامه ‏{‏نرزقكم‏}‏ ونحوها لحلول الكاف منه طرفاً وهو حرف وقف، فلو حرك وقفاً لكان وقوفه على حركة وكان خروجاً عن كلامهم‏.‏ ولو أشار إلى الفتح لكان الفتح أخف من أن يتبعض بل خروج بعضه كخروج كله، ولو سكن لأجحف بحرف‏.‏ ولعل من أدغم ذهب مذهب من يقول جعفر وعامر وتفعل فيشدد وقفاً أو أدغم على شرط أن لا يقف بحال فيصير الطرف كالحشو انتهى‏.‏

و ‏{‏العاقبة‏}‏ أي الحميدة أو حسن العاقبة لأهل التقوى ‏{‏وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه‏}‏ هذه عادتهم في اقتراح الآيات كأنهم جعلوا ما ظهر من الآيات ليس بآيات، فاقترحوا هم ما يختارون على ديدنهم في التعنت فأجيبوا بقوله ‏{‏أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى‏}‏ أي القرآن الذي سبق التبشير به وبإيحائي من الرسل به في الكتب الإلهية السابقة المنزّلة على الرسل، والقرآن أعظم الآيات في الإعجاز وهي الآية الباقية إلى يوم القيامة‏.‏

وفي هذا الاستفهام توبيخ لهم‏.‏ وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص ‏{‏تأتهم‏}‏ بالتاء على لفظ بينة‏.‏ وقرأ باقي السبعة وأبو بحرية وابن محيصن وطلحة وابن أبي ليلى وابن مناذر وخلف وأبو عبيدة وابن سعدان وابن عيسى وابن جبير الأنطاكي يأتهم بالياء لمجاز تأنيث الآية والفصل‏.‏ وقرأ الجمهور بإضافة ‏{‏بينة‏}‏ إلى ‏{‏ما‏}‏ وفرقة منهم أبو زيد عن أبي عمرو بالتنوين و‏{‏ما‏}‏ بدل‏.‏ قال صاحب اللوامح‏:‏ ويجوز أن يكون ما نفياً وأريد بذلك ما في القرآن من الناسخ والفصل مما لم يكن في غيره من الكتب‏.‏ وقرأت فرقة بنصب ‏{‏بينة‏}‏ والتنوين و‏{‏ما‏}‏ فاعل بتأتهم و‏{‏بينة‏}‏ نصب على الحال، فمن قرأ يأتهم بالياء فعلى لفظ ‏{‏ما‏}‏ ومن قرأ بالتاء راعى المعنى لأنه أشياء مختلفة وعلوم من مضى وما شاء الله‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏في الصُحُف‏}‏ بضم الحاء، وفرقة منهم ابن عباس بإسكانها والضمير في ضمن قبله يعود على البينة لأنها في معنى البرهان، والدليل قاله الزمخشري والظاهر عوده على الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله‏:‏ ‏{‏لولا أرسلت إلينا رسولاً‏}‏ ولذلك قدره بعضهم قبل إرساله محمداً إليهم والذل والخزي مقترنان بعذاب الآخرة‏.‏ وقيل ‏{‏نذل‏}‏ في الدنيا و‏{‏نخزَى‏}‏ في الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ الذل الهوان والخزي الافتضاح‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏نُذل ونَخزى‏}‏ مبنياً للفاعل، وابن عباس ومحمد بن الحنفية وزيد بن علي والحسن في رواية عباد والعمري وداود والفزاري وأبو حاتم ويعقوب مبنياً للمفعول‏.‏

‏{‏قل كل متربص فتربصوا‏}‏ أي منتظر منا ومنكم عاقبة أمره، وفي ذلك تهديد لهم ووعيد وأفرد الخبر وهو ‏{‏متربّص‏}‏ حملاً على لفظ ‏{‏كل‏}‏ كقوله ‏{‏قل كل يعمل على شاكلته‏}‏ والتربص التأني والانتظار للمفرج و‏{‏من أصحاب‏}‏ مبتدأ وخبر علق عنه ‏{‏فستعلمون‏}‏ وأجاز الفراء أن تكون ما موصولة بمعنى الذي فتكون مفعولة بفستعلمون و‏{‏أصحاب‏}‏ خبر مبتدأ محذوف تقديره الذي هم أصحاب، وهذا جار على مذهب الكوفيين إذ يجيزون حذف مثل هذا الضمير مطلقاً سواء كان في الصلة طول أم لم يكن وسواء كان الموصول أياً أم غيره‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏السوي‏}‏ على وزن فعيل أي المستوي‏.‏ وقرأ أبو مجلز وعمران بن حدير السواء أي الوسط‏.‏ وقرأ الجحدري وابن يعمر السوأى على وزن فعلى أنث لتأنيث ‏{‏الصراط‏}‏ وهو مما يذكر ويؤنث تأنيث الأسواء من السوأى على ضد الاهتداء قوبل به ‏{‏ومن اهتدى‏}‏ على الضد ومعناه ‏{‏فستعلمون‏}‏ أيها الكفار من على الضلال ومن على الهدى، ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس الصراط السوء وقد روي عنهما أنهما قرآ السوأى على وزن فعلى، فاحتمل أن يكون أصله السووي إذ روي ذلك عنهما فخفف الهمزة بإبدالها واواً وأدغم، واحتمل أن يكون فعلى من السواء أبدلت ياؤه واواً وأدغمت الواو وفي الواو، وكان القياس أنه لما بني فعلى من السواء ان يكون السويا فتجتمع واو وياء، وسبقت إحداهما بالسكون فتقلب الواو ياء وتدغم في الياء، فكان يكون التركيب السيا‏.‏

وقرئ السُوَيّ بضم السين وفتح الواو وشد الياء تصغير السوء‏.‏ قاله الزمخشري، وليس بجيد إذ لو كان تصغير سوء لثبتت همزته في التصغير، فكنت تقول سؤيي والأجود أن يكون تصغير سواء كما قالوا في عطاء عطي‏.‏ ومن قرأ السوأى أو السوء كان في ذلك مقابلة لقوله ‏{‏ومن اهتدى‏}‏ وعلى قراءة الجمهور لم تراع المقابلة في الاستفهام‏.‏