فصل: تفسير الآيات رقم (41- 46)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 38‏]‏

‏{‏اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏35‏)‏ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ‏(‏36‏)‏ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ‏(‏37‏)‏ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏38‏)‏‏}‏

النور في كلام العرب الضوء المدرك بالبصر، فإسناده إلى الله تعالى مجاز كما تقول زيد كرم وجود وإسناده على اعتبارين، إما على أنه بمعنى اسم الفاعل أي منوّر السموات والأرض، ويؤيد هذا التأويل قراءة عليّ بن أبي طالب وأبي جعفر وعبد العزيز المكي وزيد بن عليّ وثابت بن أبي حفصة والقورصي ومسلمة بن عبد الملك وأبي عبد الرحمن السلمي وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة ‏{‏نور‏}‏ فعلاً ماضياً و‏{‏الأرض‏}‏ بالنصب‏.‏ وإما على حذف أي ذو نور، ويؤيده قوله ‏{‏مثل نوره‏}‏ ويحتمل أن يجعل نوراً على سبيل المدح، كما قالوا فلان شمس البلاد ونور القبائل وقمرها، وهذا مستفيض في كلام العرب وأشعارها‏.‏ قال الشاعر‏:‏

كأنك شمس والملوك كواكب *** وقال‏:‏

قمر القبائل خالد بن زيد *** وقال‏:‏

إذا سار عبد الله من مرو ليلة *** فقد سار منها بدرها وجمالها

ويروى نورها، وأضاف النور إلى ‏{‏السموات والأرض‏}‏ لدلالة على سعة إشراقه وفشو إضاءته حتى يضيء له السموات والأرض، أو يراد أهل السموات والأرض وأنهم يستضيئون به‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏نور السموات‏}‏ أي هادي أهل السموات‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ مدبر أمور السموات‏.‏ وقال الحسن‏:‏ منور السموات‏.‏ وقال أبي‏:‏ الله به نور السموات أو منه نور السموات أي ضياؤها‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ مزين السموات بالشمس والقمر والنجوم، ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء‏.‏ وقيل‏:‏ المنزه من كل عيب امرأة نوار بريئة من الريبة والفحشاء‏.‏ وقال الكرماني‏:‏ هو الذي يرى ويرى به مجاز وصف الله به لأنه يرى ويرى بسببه مخلوقاته لأنه خلقها وأوجدها‏.‏

والظاهر أن الضمير في ‏{‏مثل نوره‏}‏ عائد على الله تعالى‏.‏ واختلفوا في هذا القول ما المراد بالنور المضاف إليه تعالى‏.‏ فقيل‏:‏ الآيات البينات في قوله ‏{‏ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات‏}‏ وقيل‏:‏ الإيمان المقذوف في قلوب المؤمنين‏.‏ وقيل‏:‏ النور هنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ النور هنا المؤمن‏.‏ وقال كعب وابن جبير‏:‏ الضمير في ‏{‏نوره‏}‏ عائد على محمد صلى الله عليه وسلم، أي مثل نور محمد‏.‏ وقال أبيّ‏:‏ هو عائد على المؤمنين وفي قراءته مثل نور المؤمن‏.‏ وروي أيضاً فيها مثل نور من آمن به‏.‏ وقال الحسن‏:‏ يعود على القرآن والإيمان وهذه الأقوال الثلاثة عاد فيها الضمير على غير مذكور، ونقلت المعنى المقصود بالآية بحلاف عوده على الله تعالى، ولذلك قال مكي يوقف على ‏{‏الأرض‏}‏ في تلك الأقوال الثلاثة‏.‏ واختلفوا في هذا التشبيه أهو تشبيه جملة بجملة لا يقصد فيها إلى تشبيه جزء بجزء ومقابلة شيء بشيء، أو مما قصد به ذلك أي مثل نور الله الذي هو هداه واتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس، أي مثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر‏.‏

وقيل‏:‏ هو من التشبيه المفصل المقابل جزءاً بجزء، وقرروه على تلك الأقوال الثلاثة أي ‏{‏مثل نوره‏}‏ في محمد أو في المؤمن أو في القرآن والإيمان ‏{‏كمشكاة‏}‏ فالمشكاة هو الرسول أو صدره ‏{‏والمصباح‏}‏ هو النبوة وما يتصل بها من علمه وهداه و‏{‏الزجاجة‏}‏ قلبه‏.‏ والشجرة المباركة الوحي والملائكة رسل الله إليه، وشبه الفصل به بالزيت وهو الحجج والبراهين والآيات التي تضمنها الوحي وعلى قول المؤمن فالمشكاة صدره و‏{‏المصباح‏}‏ الأيمان والعلم‏.‏ و‏{‏الزجاجة‏}‏ قلبه والشجرة القرآن وزيتها هو الحجج والحكمة التي تضمنها‏.‏ قال أبيّ‏:‏ فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات، وعلى قول الإيمان والقرآن أي مثل الإيمان والقرآن في صدر المؤمن في قلبه ‏{‏كمشكاة‏}‏ وهذا القول ليس في مقابلة التشبيه كالأولين، لأن المشكاة ليست تقابل الإيمان‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ أي صفة ‏{‏نوره‏}‏ لعجيبة الشأن في الإضاءة ‏{‏كمشكاة‏}‏ أي كصفة مشكاة انتهى‏.‏ ويظهر لي أن قوله ‏{‏كمشكاة‏}‏ هو على حذف مضاف أي ‏{‏مثل نوره‏}‏ مثل نور مشكاة وتقدّم في المفردات أن المشكاة هي الكوة غير النافذة، وهو قول ابن جبير وسعيد بن عياض والجمهور‏.‏ وقال أبو موسى‏:‏ المشكاة الحديدة والرصاصة التي تكون فيها الفتيل في جوف الزجاجة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ المشكاة العمود الذي يكون المصباح على رأسه، وقال أيضاً الحدائد التي تعلق فيها القناديل‏.‏

‏{‏فيها مصباح‏}‏ أي سراج ضخم، والظاهر أن ‏{‏الزجاجة‏}‏ ظرف للمصباح لقوله ‏{‏المصباح في زجاجة‏}‏ وقدره الزمخشري في زجاج شامي، وكان عنده أصفى الزجاج هو الشامي ولم يقيد في الآية‏.‏ وقرأ أبو رجاء ونصر بن عاصم ‏{‏في زجاجة الزجاجة‏}‏ بكسر الزاي فيهما، وابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية ابن مجاهد بفتحها‏.‏ ‏{‏كأنها‏}‏ أي كأن الزجاجة لصفاء جوهرها وذاتها وهو أبلغ في الإنارة، ولما احتوت عليه من نور المصباح‏.‏

‏{‏كوكب دري‏}‏ قال الضحاك‏:‏ هو الزهرة شبه الزجاجة في زهرتها بأحد الدراري من الكواكب المشاهير، وهي المشتري، والزهرة، والمريخ، وسهيل ونحو ذلك‏.‏ وقرأ الجمهور من السبعة نافع وابن عامر وحفص وابن كثير ‏{‏دُرّي‏}‏ بضم الدال وتشديد الراء والياء، والظاهر نسبة الكوكب إلى الدر لبياضه وصفائه، ويحتمل أن يكون أصله الهمز فأبدل وأدغم‏.‏ وقرأ قتادة وزيد بن عليّ والضحاك كذلك إلاّ أنهما فتحا الدال‏.‏ وروى ذلك عن نصر بن عاصم وأبي رجاء وابن المسيب‏.‏ وقرأ الزهري كذلك إلاّ أنه كسر الدال‏.‏ وقرأ حمزة كذلك إلاّ أنه همز من الدرء بمعنى الدفع، أي يدفع بعضها بعضاً، أو يدفع ضوؤها خفاءها ووزنها فعيل‏.‏ قيل‏:‏ ولا يوجد فعيل إلاّ قولهم مريق للعصفر ودريء في هذه القراءة‏.‏

قيل‏:‏ وسرية إذا قيل إنها مشتقة من السرور، وأبدل من أحد المضعفات الياء فأدغمت فيها ياء فعيل، وسمع أيضاً مريخ للذي في داخل القرن اليابس بضم الميم وكسرها‏.‏ وقيل‏:‏ منه عليه‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏دري‏}‏ ووزنه في الأصل فعول كسبوح فاستثقل الضم فرد إلى الكسر، وكذا قيل في سرته ودرته‏.‏ وقرأ أبو عمرو والكسائي كذلك إلاّ أنه كسر الدال وهو بناء كثير في الأسماء نحو سكين وفي الأوصاف سكير‏.‏ وقرأ قتادة أيضاً وأبان بن عثمان وابن المسيب وأبو رجاء وعمرو بن فائد والأعمش ونصر بن عاصم كذلك إلاّ أنه بفتح الدال‏.‏ قال ابن جني‏:‏ وهذا عزيز لم يحفظ منه إلاّ السكينة بفتح السين وشدّ الكاف انتهى‏.‏ وفي الأبنية حكى الأخفش كوكب دريء من درأته ودرية وعليك بالسكينة والوقار عن أبي زيد‏.‏ وحكى الفراء بكسر السين‏.‏

وقرأ الأخوان وأبو بكر والحسن وزيد بن عليّ وقتادة وابن وثاب وطلحة وعيسى والأعمش ‏{‏تُوقد‏}‏ بضم التاء أي ‏{‏الزجاجة‏}‏ مضارع أوقدت مبيناً للمفعول، ونافع وابن عامر وحفص كذلك إلاّ أنه بالياء أي ‏{‏المصباح‏}‏ وابن كثير وأبو عمرو ‏{‏توقد‏}‏ بفتح الأربعة فعلاً ماضياً أي ‏{‏المصباح‏}‏‏.‏ والحسن والسلمي وقتادة وابن محيصن وسلام ومجاهد وابن أبي إسحاق والمفضل عن عاصم كذلك إلاّ أنه بضم الدال مضارع ‏{‏توقد‏}‏ وأصله تتوقد أي ‏{‏الزجاجة‏}‏‏.‏ وقرأ عبد الله وقد بغير تاء وشدد القاف جعله فعلاً ماضياً أي وقد المصباح‏.‏ وقرأ السلمي وقتادة وسلام أيضاً كذلك إلاّ أنه بالياء من تحت‏.‏ وجاء كذلك عن الحسن وابن محيصن، وأصله يتوقد أي ‏{‏المصباح‏}‏ إلاّ أن حذف الياء في يتوقد مقيس لدلالة ما أبقى على ما حذف‏.‏ وفي ‏{‏يوقد‏}‏ شاذ جدّاً لأن الياء الباقية لا تدل على التاء المحذوفة، وله وجه من القياس وهو حمله على يعد إذ حمل يعد وتعد وأعد في حذف الواو كذلك هذ لما حذفوا من تتوقد بالتاءين حذفوا التاء مع الياء وإن لم يكن اجتماع التاء والياء مستثقلاً‏.‏

‏{‏من شجرة‏}‏ أي من زيت شجرة، وهي شجرة الزيتون‏.‏ ‏{‏مباركة‏}‏ كثيرة المنافع أو لأنها تنبت في الأرض التي بارك فيها للعالمين‏.‏ وقيل‏:‏ بارك فيها للعالمين‏.‏ وقيل‏:‏ بارك فيها سبعون نبياً منهم إبراهيم عليه السلام، والزيتون من أعظم الشجر ثمراً ونماء واطراد أفنان ونضارة أفنان‏.‏ وقال أبو طالب‏:‏

بورك الميت الغريب كما *** بورك نضر الرمان والزيتون

‏{‏لا شرقية ولا غربية‏}‏‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ هي من شجر الشام فهي ليست من شرق الأرض ولا من غربها، لأن شجر الشام أفضل الشجر‏.‏ وقال ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم‏:‏ هي في منكشف من الأرض تصيبها الشمس طول النهار تستدير عليها، فليست خالصة للشرق فتسمى ‏{‏شرقية‏}‏، ولا للغرب فتسمى ‏{‏غربية‏}‏ وقال الحسن‏:‏ هذا مثل وليست من شجر الدنيا إذ لو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ أنها في درجة أحاطت بها فليست منكشفة لا من جهة الشرق ولا من جهة الغرب، وهذا لا يصح عن ابن عباس لأنها إذا كانت بهذه الصفة فسد جناها‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ إنها في وسط الشجر لا تصيبها الشمس طالعة ولا غاربة، بل تصيبها بالغداة والعشي‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ هي من شجر الجنة‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏ الشجرة مثل أي إنها ملة إبراهيم ليست بيهودية ولا نصرانية‏.‏ وقيل‏:‏ ملة الإسلام ليست بشديدة ولا لينة‏.‏ وقيل‏:‏ لا مضحى ولا مفيأة، ولكن الشمس والظل يتعاقبان عليها، وذلك أجود لحملها وأصفى لدهنها‏.‏

و ‏{‏زيتونة‏}‏ بدل من ‏{‏شجرة‏}‏ وجوز بعضهم فيه أن يكون عطف بيان، ولا يجوز على مذهب البصريين لأن عطف البيان عندهم لا يكون إلاّ في المعارف، وأجاز الكوفيون وتبعهم الفارسي أنه يكون في النكرات‏.‏ و‏{‏لا شرقية‏}‏ ‏{‏ولا‏}‏ على ‏{‏غربية‏}‏ على قراءة الجمهور بالخفض صفة لزيتونة‏.‏ وقرأ الضحاك بالرفع أي لا هي شرقية ولا غربية، والجملة في موضع الصفة‏.‏

‏{‏يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار‏}‏ مبالغة في صفاء الزيت وأنه لإشراقه وجودته يكاد يضيء من غير نار‏.‏ والجملة من قوله ‏{‏ولو لم تمسسه نار‏}‏ حالية معطوفة على حال محذوفة أي ‏{‏يكاد زيتها يضيء‏}‏ في كل حال ولو في هذه الحال التي تقتضي أنه لا يضيء لانتفاء مس النار له، وتقدم لنا أن هذا العطف إنما يأتي مرتباً لما كان لا ينبغي أن يقع لامتناع الترتيب في العادة وللاستقصاء حتى يدخل ما لا يقدر دخوله فيما قبله نحو‏:‏ «أعطوا السائل ولو جاء على فرس، ردوا السائل ولو بظلف محرق»‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تمسسه‏}‏ بالتاء وابن عباس والحسن بالياء من تحت، وحسنه الفصل وأن تأنيث النار مجازي وهو مؤنث بغير علامة‏.‏

‏{‏نور على نور‏}‏ أي متضاعف تعاون عليه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت، فلم يبق مما يقوى النور ويزيده إشراقاً شيء لأن المصباح إذا كان في مكان ضيق كان أجمع لنوره بخلاف المكان المتسع، فإنه ينشر النور، والقنديل أعون شيء على زيادة النور وكذلك الزيت وصفاؤه، وهنا تم المثال‏.‏

ثم قال ‏{‏يهدي الله لنوره من يشاء‏}‏ أي لهداه والإيمان من يشاء هدايته ويصطفيه لها‏.‏ ومن فسر ‏{‏النور‏}‏ في ‏{‏مثل نوره‏}‏ بالنبوة قدر يهدي الله إلى نبوته‏.‏ وقيل‏:‏ إلى الاستدلال بالآيات، ثم ذكر تعالى أنه يضرب الأمثال للناس ليقع لهم العبرة والنظر المؤدّي إلى الإيمان، ثم ذكر إحاطة علمه بالأشياء فهو يضع هداه عند من يشاء‏.‏ ‏{‏في بيوت‏}‏ متعلق بيوقد قاله الرماني، أو في موضع الصفة لقوله ‏{‏كمشكاة‏}‏ أي كمشكاة في بيوت قاله الحوفي، وتبعه الزمخشري قال ‏{‏كمشكاة‏}‏ في بعض بيوت الله وهي المساجد‏.‏

وقال ‏{‏مثل نوره‏}‏ كما ترى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت انتهى‏.‏ وقوله كأنه إلى آخره تفسير معنى لا تفسير إعراب أو في موضع الصفة لمصباح أي مصباح ‏{‏في بيوت‏}‏ قاله بعضهم أو في موضع الصفة لزجاجة قاله بعضهم، وعلى هذه الأقوال الأربعة لا يوقف على قوله ‏{‏عليم‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏في بيوت‏}‏ مستأنف والعامل فيه ‏{‏يسبح‏}‏ حكاه أبو حاتم وجوزه الزمخشري‏.‏ فقال‏:‏ وقد ذكر تعلقه بكمشكاة قال‏:‏ أو بما بعده وهو ‏{‏يسبح‏}‏ أي ‏{‏يسبح له‏}‏ رجال في بيوت وفيها تكرير كقولك زيد في الدار جالس فيها أو بمحذوف كقوله ‏{‏في تسع آيات‏}‏ أي سبحوا في بيوت انتهى‏.‏ وعلى هذه الأقوال الثلاثة يوقف على قوله ‏{‏عليم‏}‏ والذي اختاره أن يتعلق ‏{‏في بيوت‏}‏ بقوله ‏{‏يسبح‏}‏ وإن ارتباط هذه بما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر أنه يهدي لنوره من يشاء ذكر حال من حصلت له الهداية لذلك النور وهم المؤمنون، ثم ذكر أشرف عبادتهم القلبية وهو تنزيههم الله عن النقائص وإظهار ذلك بالتلفظ به في مساجد الجماعات، ثم ذكر سائر أوصافهم من التزام ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وخوفهم ما يكون في البعث‏.‏ ولذلك جاء مقابل المؤمنين وهم الكفار في قوله ‏{‏والذين كفروا‏}‏ وكأنه لما ذكرت الهداية للنور جاء في التقسيم لقابل الهداية وعدم قابلها، فبدئ بالمؤمن وما تأثر به من أنواع الهدى ثم ذكر الكافر‏.‏ والظاهر أن قوله ‏{‏في بيوت‏}‏ أريد به مدلوله من الجمعية‏.‏

وقال الحسن‏:‏ أريد به بيت المقدس، وسمى بيوتاً من حيث فيه يتحيز بعضها عن بعض، ويؤثر أن عادة بني إسرائيل في وقيده في غاية التهمم والزيت مختوم على ظروفه وقد صنع صنعة وقدس حتى لا يجري الوقيد بغيره، فكان أضوأ بيوت الأرض‏.‏ والظاهر أن ‏{‏في بيوت‏}‏ مطلق فيصدق على المساجد والبيوت التي تقع فيها الصلاة والعلم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ بيوت الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال ابن عباس والحسن أيضاً ومجاهد‏:‏ هي المساجد التي من عادتها أن تنور بذلك النوع من المصابيح‏.‏ وقيل‏:‏ الكعبة وبيت المقدس ومسجد الرسول عليه الصلاة والسلام ومسجد قباء‏.‏ وقيل‏:‏ بيوت الأنبياء‏.‏ ويقوي أنها المساجد قوله ‏{‏يسبح له فيها بالغدو والآصال‏}‏ وإذنه تعالى وأمره بأن ‏{‏ترفع‏}‏ أي يعظم قدرها قاله الحسن والضحاك‏.‏ وقال ابن عباس ومجاهد‏:‏ تبنى وتعلى من قوله ‏{‏وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل‏}‏ وقيل‏:‏ ‏{‏ترفع‏}‏ تطهر من الأنجاس والمعاصي‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏ترفع‏}‏ أي ترفع فيها الحوائج إلى الله‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏ترفع‏}‏ الأصوات بذكر الله وتلاوة القرآن‏.‏

‏{‏ويذكر فيها اسمه‏}‏ ظاهره مطلق الذكر فيعم كل ذكر عموم البدل‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ توحيده وهو لا إله إلاّ الله‏.‏ وعنه‏:‏ يتلى فيها كتابه‏.‏ وقيل‏:‏ أسماؤه الحسنى‏.‏ وقيل‏:‏ يصلى فيها‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يُسبح‏}‏ بكسر الباء وبالياء من تحت، وابن وثاب وأبو حيوة كذلك إلاّ أنه بالتاء من فوق، وابن عامر وأبو بكر والبحتري عن حفص ومحبوب عن أبي عمرو والمهال عن يعقوب والمفضل وأبان بفتحها وبالياء من تحت واحد المجرورات في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله، والأولى الذي يلي الفعل لأن طلب الفعل للمرفوع أقوى من طلبه للمنصوب الفضلة‏.‏ وقرأ أبو جعفر‏:‏ تسبح بالتاء من فوق وفتح الباء‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ووجهها أن تسند إلى أوقات الغدو والآصال على زيادة الباء، وتجعل الأوقات مسبحة‏.‏ والمراد بها كصيد عليه يومان والمراد وحشهما انتهى‏.‏ ويجوز أن يكون المفعول الذي لم يسم فاعله ضمير التسبيحة الدال عليه ‏{‏تسبح‏}‏ أي تسبح له هي أي التسبيحة كما قالوا ‏{‏ليجزي قوماً‏}‏ في قراءة من بناه للمفعول أي ليجزي هو أي الجزاء‏.‏

وقرأ أبو مجلز‏:‏ والإيصال وتقدم نظيره وارتفع ‏{‏رجال‏}‏ على هاتين القراءتين على الفاعلية بإضمار فعل أي ‏{‏يسبح‏}‏ أو يسبح له رجال‏.‏ واختلف في اقتياس هذا، فعلى اقتياسه نحو ضربت هند زيد أي ضربها زيد، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي المسبح رجال‏.‏ وتقدم الكلام في تفسير الغدو والآصال والمراد بهما‏.‏

ثم ذكر تعالى وصف المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمر الله وطلبهم رضاه لا يشتغلون عن ذكر الله واحتمل قوله ‏{‏لا تلهيهم تجارة ولا بيع‏}‏ وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنهم لا تجارة لهم ولا بيع فيلهيهم عن ذكر الله كقوله‏:‏

على لا حب لا يهتدى بمناره *** أي لا منار له فيهتدى به‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم ذوو تجارة وبيع ولكن لا يشغلهم ذلك عن ذكر الله وعما فرض عليهم، والظاهر مغايرة التجارة والبيع، ولذلك عطف فاحتمل أن تكون تجارة من إطلاق العام ويراد به الخاص، فأراد بالتجارة الشراء ولذلك قابله بالبيع، أو يراد تجارة الجلب ويقال‏:‏ تجر فلان في كذا إذا جلبه وبالبيع البيع بالأسواق، ويحتمل أن يكون ‏{‏ولا بيع‏}‏ من ذكر خاص بعد عام، لأن التجارة هي البيع والشراء طلباً للربح‏.‏ ونبه على هذا الخاص لأنه في الإلهاء أدخل من قبل أن التاجر إذا اتجهت له بيعة رابحة وهي طلبته الكلية من صناعته ألهته ما لا يلهيه شيء يتوقع فيه الربح لأن هذا يقين وذاك مطنون‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ التاء في إقامة عوض من العين الساقطة للإعلال والأصل أقوام، فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض فأسقطت ونحوه‏:‏

وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا *** انتهى‏.‏ وهذا الذي ذكر من أن التاء سقطت لأجل الإضافة هو مذهب الفراء ومذهب البصريين، أن التاء من نحو هذا لا تسقط للإضافة وتقدم لنا الكلام على ‏{‏وإقام الصلاة‏}‏ في الأنبياء وصدر البيت الذي أنشد عجزه قوله‏:‏

إن الخليط أجدوا البين فانجردوا *** وقد تأول خالد بن كلثوم قوله عدا الأمر على أنه جمع عدوة، والعدوة الناحية كأن الشاعر أراد نواحي الأمر وجوانبه‏.‏

‏{‏يخافون يوماً‏}‏ هو يوم القيامة، والظاهر أن معنى ‏{‏تتقلب‏}‏ تضطرب من هول ذلك اليوم كما قال تعالى ‏{‏وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر‏}‏ فتقلبها هو قلقها واضطرابها، فتتقلب من طمع في النجاة إلى طمع ومن حذر هلاك إلى هلاك‏.‏ وهذا المعنى تستعمله العرب في الحروب كقوله‏:‏

بل كان قلبك في جناحي طائر *** ويبعد قول من قال ‏{‏تتقلب‏}‏ على جمر جهنم لأن ذلك ليس في يوم القيامة بل بعده‏.‏ وقول من قال إن تقلبها ظهور الحق لها أي فتتقلب عن معتقدات الضلال إلى اعتقاد الحق على وجهه فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعاً عليها، وتبصر الأبصار بعد أن كانت عمياً والقول الأول أبلغ في التهويل‏.‏ وقرأ ابن محيصن‏:‏ تُقلب بإدغام التاء في التاء‏.‏

واللام في ‏{‏ليجزيهم‏}‏ متعلقة بمحذوف أي فعلوا ذلك ‏{‏ليجزيهم‏}‏ ويجوز أن تتعلق بيسبح وهو الظاهر‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ والمعنى يسبحون ويخافون ‏{‏ليجزيهم‏}‏ انتهى‏.‏ والظاهر أن قوله ‏{‏يخافون‏}‏ صفة لرجال كما أن ‏{‏لا تلهيهم‏}‏ كذلك‏.‏ ‏{‏أحسن‏}‏ هو على حذف مضاف أي ثواب أحسن ما عملوا، أو ‏{‏أحسن‏}‏ جزاء ما عملوا‏.‏ ‏{‏ويزيدهم من فضله‏}‏ على ما تقتضيه أعمالهم، فأهل الجنة أبداً في مزيد‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏ليجزيهم‏}‏ ثوابهم مضاعفاً ‏{‏ويزيدهم‏}‏ على الثواب تفضيلاً وكذلك معنى قوله ‏{‏الحسنى‏}‏ وزيادة المثوبة الحسنى، وزيادة عليها من التفضل وعطاء الله عز وجل إما تفضل وإما ثواب وإما عوض‏.‏

‏{‏والله يرزق من يشاء‏}‏ ما يتفضل به ‏{‏بغير حساب‏}‏ فأما الثواب فله حسنات لكونه على حسب الاستحقاق انتهى‏.‏ وفي قوله على حسب الاستحقاق دسيسة اعتزال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 40‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏39‏)‏ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ‏(‏40‏)‏‏}‏

لما ذكر تعالى حالة الإيمان والمؤمنين وتنويره قلوبهم ووصفهم بما وصفهم من الأعمال النافعة في الآخرة أعقب ذلك بذكر مقابلهم الكفرة وأعمالهم، فمثل لهم ولأعمالهم مثلين أحدهما يقتضي بطلان أعمالهم في الآخرة وأنهم لا ينتفعون بها‏.‏ والثاني يقتضي حالها في الدنيا من ارتباكها في الضلال والظلمة شبه أولاً أعمالهم في اضمحلالها وفقدان ثمرتها بسراب في مكان منخفض ظنه العطشان ماء فقصده وأتعب نفسه في الوصول إليه‏.‏ ‏{‏حتى إذا جاءه‏}‏ أي جاء موضعه الذي تخيله‏.‏ فيه ‏{‏لم يجده شيئاً‏}‏ أي فقده لأنه مع الدنو لا يرى شيئاً‏.‏ كذلك الكافر يظن أن عمله في الدنيا نافعه حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم ينفعه عمله بل صار وبالاً عليه‏.‏

وقرأ مسلمة بن محارب‏:‏ بقيعات بتاء ممطوطة جمع قيعة كديمات وقيمات في ديمة وقيمة، وعنه أيضاً بتاء شكل الهاء ويقف عليها بالهاء فيحتمل أن يكون جمع قيعة، ووقف بالهاء على لغة طيء كما قالوا البناه والأخواه في الوقف على البنات والأخوات‏.‏ قال صاحب اللوامح‏:‏ ويجوز أن يريد قيعة كالعامة أي كالقراءة العامة، لكنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف مثل مخر نبق لينباع‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وقد جعل بعضهم بقيعات بتاء ممدودة كرجل عزهاة‏.‏ وقال صاحب اللوامح‏:‏ ويجوز أنه جعله مثل سعلة وسعلاة وليلة وليلاة، والقيعة مفرد مرادف للقاع أو جمع قاع كنار ونيرة، فتكون على هذا قراءة قيعات جمع صحة تناول جمع تكسير مثل رجالات قريش وجمالات صفر‏.‏

وقرأ شيبة وأبو جعفر ونافع بخلاف عنهما ‏{‏الظمآن‏}‏ بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم، والظاهر أن قوله ‏{‏يحسبه الظمآن‏}‏ هو من صفات السراب ولا يعني إلاّ مطلق ‏{‏الظمآن‏}‏ لا الكافر ‏{‏الظمآن‏}‏ وقال الزمخشري‏:‏ شبه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان ولا يتبع الحق من الأعمال الصالحة التي يحسبها أن تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه يوم القيامة، ثم يخيب في العاقبة أمله ويلقى خلاف ما قدر بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش يوم القيامة فيحسبه ماء، فيأتيه فلا يجد ما رجاه ويجد ربانية الله عنده، يأخذونه ويعتلونه ويسقونه الحميم والغساق وهم الذين قال الله فيهم ‏{‏عاملة ناصبه‏}‏ ‏{‏يحسبون أنهم يحسنون صنعاً‏}‏ ‏{‏وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً‏}‏ وقيل‏:‏ نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام انتهى‏.‏ فجعل ‏{‏الظمآن‏}‏ هو الكافر حتى تطرد الضمائر في ‏{‏جاءه‏}‏ و‏{‏لم يجده‏}‏ ‏{‏ووجد‏}‏ و‏{‏عنده‏}‏ و‏{‏فوفاه‏}‏ لشخص واحد، وغيره غاير بين الضمائر فالضمير في ‏{‏جاءه‏}‏ و‏{‏لم يجده‏}‏ للظمآن‏.‏ وفي ‏{‏ووجد‏}‏ للكافر الذي ضرب له مثلاً بالظمآن، أي ووجد هذا الكافر وعد الله بالجزاء على عمله بالمرصاد ‏{‏فوفاه حسابه‏}‏ عمله الذي جازاه عليه‏.‏

وهذا معنى قول أبي وابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأفرد الضمير في ‏{‏ووجد‏}‏ بعد تقدم الجمع حملاً على كل واحد من الكفار‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ يحتمل أن يعود الضمير في ‏{‏جاءه‏}‏ على السراب‏.‏ ثم في الكلام متروك كثير يدل عليه الظاهر تقديره وكذلك الكافر يوم القيامة يظن عمله نافعاً ‏{‏حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً‏}‏ ويحتمل الضمير أن يعود على العمل الذي يدل عليه قوله ‏{‏أعمالهم‏}‏ ويكون تمام المثل في قوله ‏{‏ماء‏}‏ ويستغني الكلام عن متروك على هذا التأويل، لكن يكون في المثل إيجاز واقتضاب لوضوح المعنى المراد به‏.‏

‏{‏ووجد الله عنده‏}‏ أي بالمجازاة، والضمير في ‏{‏عنده‏}‏ عائد على العمل انتهى‏.‏ والذي يظهر لي أنه تعالى شبه أعمالهم في عدم انتفاعهم بها بسراب صفته كذا، وأن الضمائر فيما بعد ‏{‏الظمآن‏}‏ له‏.‏ والمعنى في ‏{‏ووجد الله عنده‏}‏ أي ‏{‏ووجد‏}‏ مقدور ‏{‏الله‏}‏ عليه من هلاك بالظمأ ‏{‏عنده‏}‏ أي عند موضع السراب ‏{‏فوفاه‏}‏ ما كتب له من ذلك‏.‏ وهو المحسوب له، والله معجل حسابه لا يؤخره عنه فيكون الكلام متناسقاً آخذاً بعضه بعنق بعض‏.‏ وذلك باتصال الضمائر لشيء واحد، ويكون هذا التشبيه مطابقاً لأعمالهم من حيث أنهم اعتقدوها نافعة فلم تنفعهم وحصل لهم الهلاك بأثر ما حوسبوا‏.‏ وأما في قول الزمخشري‏:‏ فإنه وإن جعل الضمائر للظمآن لكنه جعل ‏{‏الظمآن‏}‏ هو الكافر وهو تشبيه الشيء بنفسه كما قال‏.‏ وشبه الماء بعد الجهد بالماء‏.‏ وأما في قول غيره‏:‏ ففيه تفكيك الكلام إذ غاير بين الضمائر وانقطع ترصيف الكلام بجعل بعضه مفلتاً من بعض‏.‏

‏{‏أو كظلمات‏}‏ هذا التشبيه الثاني لأعمالهم فالأول فيما يؤول إليه أعمالهم في الآخرة، وهذا الثاني فيما هم عليه في حال الدنيا‏.‏ وبدأ بالتشبيه الأول لأنه آكد في الإخبار لما فيه من ذكر ما يؤول إليه أمرهم من العقاب الدائم والعذاب السرمدي‏.‏ ثم أتبعه بهذا التمثيل الذي نبههم على ما هي أعمالهم عليه لعلهم يرجعون إلى الإيمان ويفكرون في نور الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والظاهر أنه تشبيه لأعمالهم وضلالهم بالظلمات المتكاثفة‏.‏

وقال أبو علي الفارسي‏:‏ التقدير أو كذي ظلمات، قال‏:‏ ودل على هذا المضاف قوله ‏{‏إذا أخرج يده‏}‏ فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف، فالتشبيه وقع عند أبي عليّ للكافر لا للأعمال وهو خلاف الظاهر، ويتخيل في تقرير كلامه أن يكون التقدير أو هم كذي ظلمات فيكون التشبيه الأول لأعمالهم‏.‏ والثاني لهم في حال ضلالهم‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ في التقدير وجهان أحدهما‏:‏ أو كأعمال ذي ظلمات، فيقدر ذي ظلمات ليعود الضمير من قوله ‏{‏إذا أخرج يده‏}‏ إليه، ويقدر أعمال ليصح تشبيه أعمال الكفار بأعمال صاحب الظلمة إذ لا معنى لتشبيه العمل بصاحب الظلمات‏.‏

والثاني‏:‏ لا حذف فيه، والمعنى أنه شبه أعمال الكفار بالظلمة في حيلولتها بين القلب وبين ما يهتدى إليه، فأما الضمير في قوله ‏{‏إذا أخرج يده‏}‏ فيعود إلى مذكور حذف اعتماداً على المعنى تقديره إذا أخرج من فيها يده‏.‏

وقال الجرجاني‏:‏ الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار‏.‏ والثانية في ذكر كفرهم ونسق الكفر على أعمالهم لأن الكفر أيضاً من أعمالهم، وقد قال تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور‏.‏ من الكفر إلى الإيمان، فيكون التمثيل قد وقع لأعمالهم بكفر الكافر و‏{‏أعمالهم‏}‏ منها كفرهم، فيكون قد شبه ‏{‏أعمالهم‏}‏ بالظلمات، والعطف بأو هنا لأنه قصد التنويع والتفصيل لا أن ‏{‏أَو‏}‏ للشك‏.‏ وقال الكرماني‏:‏ ‏{‏أَو‏}‏ للتخيير على تقدير شبه أعمال الكفار بأيهما شئت‏.‏

وقرأ سفيان بن حسين ‏{‏أو كظلمات‏}‏ بفتح الواو جعلها واو عطف تقدّمت عليها الهمزة التي لتقرير التشبيه الخالي عن محض الاستفهام‏.‏ والظاهر أن الضمير في ‏{‏يغشاه‏}‏ عائد على ‏{‏بحر لجي‏}‏ أي يغشى ذلك البحر أي يغطي بعضه بعضاً، بمعنى أن تجيء موجة تتبعها أخرى فهو متلاطم لا يسكن، وأخوف ما يكون إذا توالت أمواجه، وفوق هذا الموج ‏{‏سحاب‏}‏ وهو أعظم للخوف لإخفائه النجوم التي يهتدى بها، وللريح والمطر الناشئين مع السحاب‏.‏ ومن قدر أو كذي ظلمات أعاد الضمير في ‏{‏يغشاه‏}‏ على ذي المحذوف، أي يغشى صاحب الظلمات‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏سحاب‏}‏ بالتنوين ‏{‏ظلمات‏}‏ بالرفع على تقدير خبر لمبتدأ محذوف، أي هذه أو تلك ‏{‏ظلمات‏}‏ وأجاز الحوفي أن تكون مبتدأ و‏{‏بعضها فوق بعض‏}‏ مبتدأ وخبره في موضع خبر ‏{‏ظلمات‏}‏‏.‏ والظاهر أنه لا يجوز لعدم المسوغ فيه للابتداء بالنكرة إلاّ إن قدرت صفة محذوفة أي ظلمات كثيرة أو عظيمة ‏{‏بعضها فوق بعض‏}‏‏.‏ وقرأ البزي ‏{‏سحاب ظلمات‏}‏ بالإضافة‏.‏ وقرأ قنبل ‏{‏سحاب‏}‏ بالتنوين ‏{‏ظلمات‏}‏ بالجر بدلاً من ‏{‏ظلمات‏}‏ و‏{‏بعضها فوق بعض‏}‏ مبتدأ وخبر في موضع الصفة لكظلمات‏.‏

قال الحوفي‏:‏ ويجوز على رفع ‏{‏ظلمات‏}‏ أن يكون ‏{‏بعضها‏}‏ بدلاً منها، وهو لا يجوز من جهة المعنى لأن المراد والله أعلم الأخبار بأنها ظلمات، وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض أي هي ظلمات متراكمة وليس على الأخبار بأن بعض ظلمات فوق بعض من غير إخبار بأن تلك الظلمات السابقة ظلمات متراكمة‏.‏ وتقدم الكلام في كاد إذا دخل عليها حرف نفي مشبعاً في البقرة في قوله ‏{‏وما كادوا يفعلون‏}‏ فأغنى عن إعادته، والمعنى هنا انتفاء مقاربة الرؤية، ويلزم من ذلك انتفاء الرؤية ضرورة وقول من اعتقد زيادة يكد أو أنه يراها بعد عسر ليس بصحيح، والزيادة قول ابن الأنباري وأنه لم يرها إلاّ بعد الجهد قول المبرد والفراء‏.‏

وقال ابن عطية ما معناه‏:‏ إذا كان الفعل بعد كان منفياً دل على ثبوته نحو كاد زيد لا يقوم، أو مثبتاً دل على نفيه كاد زيد يقوم، وإذا تقدم النفي على كاد احتمل أن يكون منفياً تقول‏:‏ المفلوخ لا يكاد يسكن فهذا تضمن نفي السكون‏.‏

وتقول‏:‏ رجل منصرف لا يكاد يسكن فهذا تضمن إيجاب السكون بعد جهد انتهى‏.‏ والظاهر أن هذا التشبيه الثاني هو تشبيه أعمال الكفار بهذه الظلمات المتكاثفة من غير مقابلة في المعنى بأجزائه لا جزاء المشبه‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ وشبهها يعني أعماله في ظلمتها وسوادها لكونا باطلة، وفي خلوها عن نور الحق بظلمات متراكمة من لجج البحر والأمواج والسحاب، ومنهم من لاحظ التقابل فقال‏:‏ الظلمات الأعمال الفاسدة والمعتقدات الباطلة‏.‏ والبحر اللجيّ صدر الكافر وقلبه، والموج الضلال والجهالة التي غمرت قلبه والفكر المعوجة والسحاب شهوته في الكفر وإعراضه عن الإيمان‏.‏

وقال الفراء‏:‏ هذا مثل لقلب الكافر أي إنه يعقل ولا يبصر‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏الظلمات‏}‏ أعماله والبحر هواه‏.‏ القيعان القريب الغرق فيه الكثير الخطر، والموج ما يغشى قلبه من جهل وغفلة، والموج الثاني ما يغشاه من شك وشبهة، والسحاب ما يغشاه من شرك وحيرة فيمنعه من الاهتداء على عكس ما في مثل نور الدين انتهى‏.‏ والتفسير بمقابلة الأجزاء شبيه بتفسير الباطنية، وعدول عن منهج كلام العرب‏.‏

ولما شبه أعمال الكفار بالظلمات المتراكمة وذكر أنه لا يكاد يرى اليد من شدة الظلمة قال ‏{‏ومن لم يجعل الله له نوراً‏}‏ أي من لم ينور قلبه بنور الإيمان ويهده إليه فهو في ظلمة ولا نور له، ولا يهتدي أبداً‏.‏ وهذا النور هو في الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ هو في الآخرة أي من لم ينوره الله بعفوه ويرحمه برحمته فلا رحمة له، وكونه في الدنيا أليق بلفظ الآية وأيضاً فذلك متلازم لأن نور الآخرة هو لمن نور الله قلبه في الدنيا‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ومن لم يوله نور توفيقه وعصمته ولطفه فهو في ظلمة الباطل لا نور له‏.‏ وهذا الكلام مجراه مجرى الكنايات لأن الألطاف إنما تردف الإيمان والعمل الصالح أو كونهما مرتقبين، ألا ترى إلى قوله ‏{‏والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا‏}‏ وقوله ‏{‏ويضل الله الظالمين‏}‏ انتهى‏.‏ وهو على طريقة الاعتزال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 46‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏41‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏42‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ‏(‏43‏)‏ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏44‏)‏ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏45‏)‏ لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏46‏)‏‏}‏

لما ذكر تعالى مثل المؤمن والكافر وأن الإيمان والضلال أمرهما راجع إليه أعقب بذكر الدلائل على قدرته وتوحيده، والظاهر حمل التسبيح على حقيقته وتخصيص ‏{‏من‏}‏ في قوله ومن في الأرض بالمطيع لله تعالى من الثقلين‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏من‏}‏ عام لكل موجود غلب من يعقل على ما لا يعقل، فأدرج ما لا يعقل فيه ويكون المراد بالتسبيح دلالته بهده الأشياء على كونه تعالى منزهاً عن النقائص موصوفاً بنعوت الكمال‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالتسبيح التعظيم فمن ذي الدين بالنطق والصلاة ومن غيرهم من مكلف وجماد بالدلالة، فيكون ذلك قدراً مشتركاً بينهما وهو التعظيم‏.‏ وقال سفيان‏:‏ تسبيح كل شيء بطاعته وانقياده‏.‏

‏{‏والطير صافات‏}‏ أي صفت أجنحتها في الهواء للطيران، وإنما خص الطير بالذكر لأنها تكون بين السماء والأرض إذا طارت فهي خارجة من جملة ‏{‏من في السموات والأرض‏}‏ حالة طيرانها‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏والطيرُ‏}‏ مرفوعاً عطفاً على ‏{‏من‏}‏ و‏{‏وصافات‏}‏ نصب على الحال‏.‏ وقرأ الأعرج ‏{‏والطير‏}‏ بالنصب على أنه مفعول معه‏.‏ وقرأ الحسن وخارجة عن نافع ‏{‏والطيرُ صافاتٌ‏}‏ برفعهما مبتدأ وخبر تقديره يسبحن‏.‏ قيل‏:‏ وتسبيح الطير حقيقي قاله الجمهور‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها‏.‏ وقال الحسن وغيره‏:‏ هو تجوّز إنما تسبيحه ظهور الحكمة فيه فهو لذلك يدعو إلى التسبيح‏.‏

‏{‏كل‏}‏ أي كل ممن ذكر، فيشمل الطير والظاهر أن الفاعل المستكن في ‏{‏علم‏}‏ وفي ‏{‏صلاته وتسبيحه‏}‏ عائد على ‏{‏كل‏}‏ وقاله الحسن قال‏:‏ فهو مثابر عليهما يؤديهما‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الضمير في ‏{‏علم‏}‏ وفي ‏{‏صلاته وتسبيحه‏}‏ لكل‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في ‏{‏علم‏}‏ لكل وفي ‏{‏صلاته وتسبيحه‏}‏ لله أي صلاة الله وتسبيحه اللذين أمر بهما وهدى إليهما، فهذه إضافة خلق إلى خالق‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الصلاة للبشر والتسبيح لما عداهم‏.‏

وقرأ الحسن وعيسى وسلام وهارون عن أبي عمر وتفعلون بتاء الخطاب، وفيه وعيد وتخويف‏.‏ ‏{‏ولله ملك السموات والأرض‏}‏ إخبار بأن جميع المخلوقات تحت ملكه يتصرف فيهم بما يشاء تصرف القاهر الغالب‏.‏ وإليه ‏{‏المصير‏}‏ أي إلى جزائه من ثواب وعقاب‏.‏ وفي ذلك تذكير وتخويف‏.‏

ولما ذكر انقياد من في السموات والأرض والطير إليه تعالى وذكر ملكه لهذا العالم وصيرورتهم إليه أكد ذلك بشيء عجيب من أفعاله مشعر بانتقال من حال إلى حال‏.‏ وكان عقب قوله وإليه المصير فاعلم بانتقال إلى المعاد فعطف عليه ما يدل على تصرفه في نقل الأشياء من حال إلى حال ومعنى ‏{‏يزجي‏}‏ يسوق قليلاً قليلاً ويستعمل في سوق الثقيل برفق كالسحاب والإبل، والسحاب اسم جنس واحده سحابة، والمعنى يسوق سحابة إلى سحابة‏.‏ ‏{‏ثم يؤلف بينه‏}‏ أي بين أجزائه لأنه سحابة تتصل بسحابة فجعل ذلك ملتئماً بتأليف بعض إلى بعض‏.‏

وقرأ ورش يولف بالواو، وباقي السبعة بالهمز وهو الأصل‏.‏ فيجعله ‏{‏ركاماً‏}‏ أي متكاثفاً يجعل بعضه إلى بعض، وانعصاره بذلك ‏{‏من خلاله‏}‏ أي فتوقه ومخارجه التي حدثت بالتراكم والانعصار‏.‏ والخلال‏:‏ قيل مفرد‏.‏ وقيل‏:‏ جمع خلل كجبال وجبل‏.‏ وقرأ ابن مسعود وابن عباس والضحاك ومعاذ العنبري عن أبي عمرو والزعفراني من خلله بالإفراد، والظاهر أن في السماء جبالاً من برد قاله مجاهد والكلبي وأكثر المفسرين‏:‏ خلقها الله كما خلق في الأرض جبالاً من حجر‏.‏ وقيل‏:‏ جبال مجاز عن الكثرة لا أن في السماء جبالاً كما تقول‏:‏ فلان يملك جبالاً من ذهب، وعنده جبال من العلم يريد الكثرة‏.‏ قيل‏:‏ أو هو على حذف حرف التشبيه‏.‏

و ‏{‏السماء‏}‏ السحاب أي ‏{‏من السماء‏}‏ التي هي جبال أي كجبال كقوله ‏{‏حتى إذا جعله ناراً‏}‏ أي كنار قاله الزجاج، فجعل السماء هو السحاب المرتفع سمي بذلك لسموه وارتفاعه‏.‏ وعلى القول الأول المراد بالسماء الجسم الأزرق المخصوص وهو المتبادر للذهن، ومن استعماله الجبال في الكثرة مجازاً قول ابن مقبل‏:‏

إذا مت عن ذكر القوافي فلن *** ترى لها شاعراً مني أطلب وأشعرا

وأكثر بيتاً شاعراً ضربت له *** بطون جبال الشعر حتى تيسرا

واتفقوا على أن ‏{‏من‏}‏ الأولى لابتداء الغاية‏.‏ وأما ‏{‏من جبال‏}‏‏.‏ فقال الحوفي‏:‏ هي بدل من ‏{‏السماء‏}‏ ثم قال‏:‏ وهي للتبعيض، وهذا خطأ لأن الأولى لابتداء الغاية في ما دخلت عليه، وإذ كانت الثانية بدلاً لزم أن يكون مثلها لابتداء الغاية، لو قلت‏:‏ خرجت من بغداد من الكرخ لزم أن يكونا معاً لابتداء الغاية‏.‏ وقال الزمخشري وابن عطية‏:‏ هي للتبعيض فيكون على قولهما في موضع المفعول لينزل‏.‏ قال الحوفي والزمخشري‏:‏ والثانية للبيان انتهى‏.‏ فيكون التقدير وينزل من السماء بعض جبال فيها التي هي البرد فالمنزل برد لأن بعض البرد برد فمفعول ‏{‏ينزل‏}‏ ‏{‏من جبال‏}‏‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ أو الأولان للابتداء والأخيرة للتبعيض، ومعناه أنه ينزل البرد من السماء من جبال فيها انتهى‏.‏ فيكون ‏{‏من جبال‏}‏ بدلاً ‏{‏من السماء‏}‏‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏من‏}‏ الثانية والثالثة زائدتان وقاله الأخفش، وهما في موضع نصب عنده كأنه قال‏:‏ وينزل من السماء جبالاً فيها أي في السماء برداً وبرداً بدل أي برد جبال‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هما زائدتان أي جبالاً فيها برد لا حصى فيها ولا حجر، أي يجتمع البرد فيصير كالجبال على التهويل فبرد مبتدأ وفيها خبره‏.‏ والضمير في ‏{‏فيها‏}‏ عائد على ‏{‏الجبال‏}‏ أو فاعل بالجار والمجرور لأنه قد اعتمد بكونه في موضع الصفة لجبال‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏من‏}‏ الأولى والثانية لابتداء الغاية، والثالثة زائدة أي ‏{‏وينزل من السماء من جبال‏}‏ السماء برداً‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه ‏{‏وينزل من السماء من جبال‏}‏ برد فيها كما تقول‏:‏ هذا خاتم في يدي من حديد، أي خاتم حديد في يدي، وإنما جئت في هذا وفي الآية بمن لما فرقت، ولأنك إذا قلت‏:‏ هذا خاتم حديد كان المعنى واحداً انتهى‏.‏

فعلى هذا يكون ‏{‏من برد‏}‏ في موضع الصفة لجبال، كما كان من في من حديد صفة لخاتم، فيكون في موضع جر ويكون مفعول ‏{‏ينزل‏}‏ هو ‏{‏من جبال‏}‏ وإذا كانت الجبال ‏{‏من برد‏}‏ لزم أن يكون المنزل برداً‏.‏ والظاهر إعادة الضمير في ‏{‏به‏}‏ على البرد، ويحتمل أن يكون أريد به الودق والبرد وجرى في ذلك مجرى اسم الإشارة‏.‏ وكأنه قال‏:‏ فيصيب بذلك والمطر هو أعم وأغلب في الإصابة والصرف أبلغ في المنفعة والامتنان‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏سنا‏}‏ مقصوراً ‏{‏برقه‏}‏ مفرداً‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف سناء ممدوداً ‏{‏بُرَقه‏}‏ بضم الباء وفتح الراء جمع برقه بضم الباء، وهي المقدار من البرق كالغرفة واللقمة، وعنه بضم الباء والراء اتبع حركة الراء لحركة الباء كما اتبعت في ‏{‏ظلمات‏}‏ وأصلها السكون‏.‏ والسناء بالمدّ ارتفاع الشأن كأنه شبه المحسوس من البرق لارتفاعه في الهواء بغير المحسوس من الإنسان، فإن ذلك صيب لا يحس به بصر‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏يذهب‏}‏ بفتح الياء والهاء وأبو جعفر ‏{‏يُذْهِب‏}‏ بضم الياء وكسر الهاء‏.‏ وذهب الأخفش وأبو حاتم إلى تخطئة أبي جعفر في هذه القراءة قالا‏:‏ لأن الياء تعاقب الهمزة وليس بصواب لأنه لم يكن ليقرأ إلاّ بما روي‏.‏ وقد أخذ القراءة عن سادات التابعين الآخذين عن جلة الصحابة أُبيّ وغيره، ولم ينفرد بها أبو جعفر بل قرأه شيبة كذلك وخرج ذلك على زيادة الباء أي يذهب الأبصار‏.‏ وعلى أن الباء بمعنى من والمفعول محذوف تقديره يذهب النور من الأبصار كما قال‏:‏

شرب النزيف ببرد ماء الحشرج *** يريد من برد‏.‏ وتقليب الليل والنهار آيتان أحدهما بعد الآخر أو زيادة هذا وعكسه، أو يغير النهار بظلمة السحاب مرة وضوء الشمس أخرى، ويغير الليل باشتداد ظلمته مرة وضوء القمر أخرى، أو باختلاف ما يقدر فيهما من الخير والنفع والشدة والنعمة والأمن ومقابلاتها ونحو ذلك أقوال أربعة إن في ذلك إشارة إلى ما تقدم من الدلائل الدالة على وحدانيته من تسبيح من ذكر وتسخير السحاب‏.‏ وما يحدثه تعالى فيه من أفعاله حتى ينزل المطر فيقسم رحمته بين خلقه وإراءتهم البرق في السحاب الذي يكاد يخطف الأبصار ويقلب الليل والنهار‏.‏

‏{‏لعبرة‏}‏ أي اتّعاظاً‏.‏ وخص أولو الأبصار بالاتّعاظ لأن البصر والبصيرة إذا استعملا وصلا إلى إدراك الحق كقوله ‏{‏إنما يتذكر أولوا الألباب‏.‏‏}‏ وقرأ الجمهور ‏{‏خَلقَ‏}‏ فعلاً ماضياً‏.‏ ‏{‏كل‏}‏ نصب‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش خالق اسم فاعل مضاف إلى ‏{‏كل‏}‏‏.‏ والدابة‏:‏ ما يحرك أمامه قدماً ويدخل فيه الطير‏.‏ قال الشاعر‏:‏

دبيب قطا البطحاء في كل منهل *** والحوت وفي الحديث‏:‏

«دابة من البحر مثل الظرب» واندرج في ‏{‏كل دابة‏}‏ المميز وغيره، فسهل التفصيل بمن التي لمن يعقل وما لا يعقل إذا كان مندرجاً في العام، فحكم له بحكمه كان الدواب كلهم مميزون‏.‏ والظاهر أن ‏{‏من ماء‏}‏ متعلق بخلق‏.‏ و‏{‏من‏}‏ لابتداء الغاية، أي ابتدأ خلقها من الماء‏.‏ فقيل‏:‏ لما كان غالب الحيوان مخلوقاً من الماء لتولده من النطفة أو لكونه لا يعيش إلاّ بالماء أطلق لفظ ‏{‏كل‏}‏ تنزيلاً للغالب منزلة العام، ويخرج عما خلق من ماء ما خلق من نور وهم الملائكة، ومن نار وهم الجنّ، ومن تراب وهم آدم‏.‏ وخلق عيسى من الروح وكثير من الحيوان لا يتولد من نطفة‏.‏ وقيل ‏{‏كل دابة‏}‏ على العموم في هذه الأشياء كلها وإن أصل جميع المخلوقات الماء، فروي أن أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماءً، ثم خلق من ذلك الماء النار والهواء والنور، ولما كان المقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة وكان الأصل الأول هو الماء قال‏:‏ ‏{‏خلق كل دابة من ماء‏}‏‏.‏ وقال القفال‏:‏ ليس ‏{‏من ماء‏}‏ متعلقاً بخلق وإنما هو في موضع الصفة لكل دابة، فالمعنى الإخبار أنه تعالى خلق كل دابة متولدة من الماء أي متولدة من الماء مخلوقة لله تعالى‏.‏ ونكر الماء هنا وعرف في ‏{‏وجعلنا من الماء كل شيء حي‏}‏ لأن المعنى هنا ‏{‏خلق كل دابة‏}‏ من نوع من الماء مختص بهذه الدابة، أو ‏{‏من ماء‏}‏ مخصوص وهو النطفة، ثم خالف بين المخلوقات من النطفة هوامّ وبهائم وناس كما قال ‏{‏يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل‏}‏ وهنا قصد أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس الذي هو جنس الماء، وذلك أنه هو الأصل وإن تخللت بينها وبينه وسائط كما قيل‏:‏ إن أصل النور والنار والتراب الماء‏.‏ وسمي الزحف على البطن مشياً لمشاكلته ما بعده من ذكر الماشين أو استعارة، كما قالوا‏:‏ قد مشى هذا الأمر وما يتمشى لفلان أمر، كما استعاروا المشفر للشفة والشفة للجحفلة‏.‏ والماشي ‏{‏على بطنه‏}‏ الحيات والحوت ونحو ذلك من الدود وغيره‏.‏ و‏{‏على رجلين‏}‏ الإنسان والطير والأربع لسائر حيوان الأرض من البهائم وغيرها، فإن وجد من له أكثر من أربع‏.‏ فقيل‏:‏ اعتماده إنما هو على أربع ولا يفتقر في مشيه إلى جميعها وقدم ما هو أعرف في القدرة وأعجب وهو الماشي بغير آلة مشى من له رجل وقوائم، ثم الماشي على رجلين ثم الماشي على أربع‏.‏ وفي مصحف أُبيّ ومنهم من يمشي على أكثر، فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان لكنه لم يثبت قرآناً ولعله ما أورده مورد قرآن بل تنبيهاً على أن الله خلق من يمشي على أكثر من أربع كالعنكبوت والعقرب والرتيلاء وذي أربع وأربعين رجلاً وتسمى الاذن وهذا النوع لندوره لم يذكر‏.‏

‏{‏يخلق الله ما يشاء‏}‏ إشارة إلى أنه تعالى ما تعلقت به إرادة خلقه أنشأه واخترعه، وفي ذلك تنبيه على كثرة الحيوان وأنها كما اختلفت بكيفية المشيء اختلفت بأمور أخر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 57‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ‏(‏49‏)‏ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏50‏)‏ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏51‏)‏ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏52‏)‏ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏53‏)‏ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏54‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏55‏)‏ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏56‏)‏ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏57‏)‏‏}‏

نزلت إلى قوله ‏{‏إلا البلاغ المبين‏}‏ في المنافقين بسبب منافق اسمه بشر، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ودعا هو إلى كعب بن الأشرف فنزلت‏.‏

ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد أتبع ذلك بذمّ قوم آمنوا بألسنتهم دون عقائدهم‏.‏ ‏{‏ثم يتولى فريق منهم‏}‏ عن الإيمان‏.‏ ‏{‏بعد ذلك‏}‏ أي بعد قولهم ‏{‏آمنا‏}‏ ‏{‏وما أولئك‏}‏ إشارة إلى القائلين فينتفي عن جميعهم الإيمان، أو إلى الفريق المتولي فيكون ما سبق لهم من الإيمان ليس إيماناً إنما كان ادّعاء باللسان من غير مواطأة بالقلب‏.‏ وأفرد الضمير في ‏{‏ليحكم بينهم‏}‏ وقد تقدم قوله ‏{‏إلى الله ورسوله‏}‏ لأن حكم الرسول هو عن الله‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ كقولك أعجبني زيد وكرمه يريد كرم زيد ومنه‏:‏

ومنهل من الفلافي أوسطه *** غلسته قبل القطا وفرطه

أراد قبل فرط القطا انتهى‏.‏ أي قبل تقدم القطا إليه‏.‏ وقرأ أبو جعفر ‏{‏ليحكم‏}‏ في الموضعين مبنياً للمفعول و‏{‏إذا‏}‏ الثانية للفجاءة‏.‏ جواب ‏{‏إذا‏}‏ الأولى الشرطية، وهذا أحد الدلائل على أن الجواب لا يعمل في إذا الشرطية خلافاً للأكثرين من النحاة، لأن إذا الفجائية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها‏.‏ وقد أحكم ذلك في علم النحو‏.‏ والظاهر أن ‏{‏إليه‏}‏ متعلق بيأتوا‏.‏ والضمير في ‏{‏إليه‏}‏ عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأجاز الزمخشري أن يتعلق ‏{‏إليه‏}‏ بمذعنين قال‏:‏ لأنه بمعنى مسرعين في الطاعة وهذا أحسن لتقدم صلته ودلالته على الاختصاص‏.‏ وقد رددنا عليه ذلك وفي ما رجح تهيئة العامل للعمل وقطعه عن العمل وهو مما يضعف، والمعنى أنهم لمعرفتهم أنه ليس معه إلا الحق المرّ والعدل البحت يزورون عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحق لئلا تنزعه منهم بقضائك عليهم لخصومهم، وإن ثبت لهم الحق على خصم أسرع إليك كلهم ولم يرضوا إلا بحكومتك‏.‏

‏{‏أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون‏}‏ ‏{‏أم‏}‏ هنا منقطعة والتقدير‏:‏ بل ارتابوا بل أيخافون وهو استفهام توقيف وتوبيخ، ليقروا بأحد هذه الوجوه التي عليهم في الإقرار بها ما عليهم، وهذا التوقيف يستعمل في الأمور الظاهرة مما يوبخ به ويذم، أو مما يمدح به وهو بليغ جداً فمن المبالغة في الذم‏.‏ قول الشاعر‏:‏

ألست من القوم الذين تعاهدوا *** على اللؤم والفحشاء في سالف الدهر

ومن المبالغة في المدح‏.‏ قول جرير‏:‏

ألستم خير من ركب المطايا *** وأندى العالمين بطون راح

وقسم تعالى جهات صدودهم عن حكومته فقال ‏{‏أفي قلوبهم مرض‏}‏ أي نفاق وعدم إخلاص ‏{‏أم ارتابوا‏}‏ أي عرضت لهم الريبة والشك في نبوته بعد أن كانوا مخلصين ‏{‏أم يخافون‏}‏ أي يعرض لهم الخوف من الحيف في الحكومة، فيكون ذلك ظلماً لهم‏.‏

ثم استدرك ببل أنهم ‏{‏هم الظالمون‏}‏‏.‏

وقرأ عليّ وابن أبي إسحاق والحسن ‏{‏إنما كان قول‏}‏ بالرفع والجمهور بالنصب‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ والنصب أقوى لأن أولى الاسمين بكونه اسماً لكان أو غلهما في التعريف و‏{‏أن يقولوا‏}‏ أو غل لأنه لا سبيل عليه للتنكير بخلاف قول المؤمنين‏.‏ وكان هذا من قبيل كان في قوله ‏{‏ما كان لله أن يتخذ من ولد‏}‏ ‏{‏ما يكون لنا أن نتكلم بهذا‏}‏ انتهى‏.‏ ونص سيبويه على أن اسم كان وخبرها إذا كانتا معرفتين فأنت بالخيار في جعل ما شئت منهما الاسم والآخر الخبر من غير اعتبار شرط في ذلك ولا اختيار‏.‏

وقرأ أبو جعفر والجحدري وخالد بن الياس ‏{‏ليحكم بينهم‏}‏ مبنياً للمفعول، والمفعول الذي لم يسم فاعله هو ضمير المصدر أي ‏{‏ليحكم‏}‏ هو أي الحكم، والمعنى ليفعل الحكم ‏{‏بينهم‏}‏ ومثله قولهم‏:‏ جمع بينهما وألف بينهما وقوله تعالى ‏{‏وحيل بينهم‏}‏ قال الزمخشري‏:‏ ومثله ‏{‏لقد تقطع بينكم‏}‏ فيمن قرأ ‏{‏بينكم‏}‏ منصوباً أي وقع التقطع بينكم انتهى‏.‏ ولا يتعين ما قاله في الآية إذ يجوز أن يكون الفاعل ضميراً يعود على شيء قبله وتقدم الكلام في ذلك في موضعه‏.‏

‏{‏أن يقولوا سمعنا‏}‏ أي قول الرسول ‏{‏وأطعنا‏}‏ أي أمره‏.‏ وقرئ ‏{‏ويتقه‏}‏ بالإشباع والاختلاس والإسكان‏.‏ وقرئ ‏{‏ويتقه‏}‏ بسكون القاف وكسر الهاء من غير إشباع أجرى خبر كان المنفصل مجرى المتصل، فكما يسكن علم فيقال علم كذلك سكن ويتقه لأنه تقه كعلم وكما قال السالم‏:‏

قالت سليمى اشتر لنا سويقاً *** يريد اشتر لنا ‏{‏ومن يطع الله‏}‏ في فرائضه ‏{‏ورسوله‏}‏ في سننه و‏{‏ويخشى الله‏}‏ على ما مضى من ذنوبه ‏{‏ويتقه‏}‏ فيما يستقبل‏.‏ وعن بعض الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت له هذه‏.‏

ولما بلغ المنافقين ما أنزل تعالى فيهم أتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأقسموا إلى آخره أي ‏{‏ليخرجن‏}‏ عن ديارهم وأموالهم ونسائهم و‏{‏لئن أمرتهم‏}‏ بالجهاد ‏{‏ليخرجن‏}‏ إليه وتقدم الكلام في ‏{‏جهد أيمانهم‏}‏ في الأنعام‏.‏ ونهاهم تعالى عن قسمهم لعلمه تعالى أنه ليس حقاً‏.‏ ‏{‏طاعة معروفة‏}‏ أي معلومة لا شك فيها ولا يرتاب، كطاعة الخلص من المؤمنين المطابق باطنهم لظاهرهم، لا أيمان تقسموا بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها، أو طاعتكم طاعة معروفة بالقول دون الفعل، أو طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة قاله الزمخشري‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ يحتمل معاني‏.‏

أحدها‏:‏ النهي عن القسم الكاذب إذ قد عرف أن طاعتهم دغلة رديئة فكأنه يقول‏:‏ لا تغالطوا فقد عرف ما أنتم عليه‏.‏

والثاني‏:‏ لا تتكلفوا القسم طاعة معروفة متوسطة على قدر الاستطاعة أمثل وأجدى عليكم، وفي هذا الوجه إبقاء عليهم‏.‏

والثالث‏:‏ لا تقنعوا بالقسم طاعة تعرف منكم وتظهر عليكم هو المطلوب منكم‏.‏

والرابع‏:‏ لا تقنعوا لأنفسكم بإرضائنا بالقسمة طاعة الله معروفة وجهاد عدوه مهيع لائح انتهى‏.‏

و ‏{‏طاعة‏}‏ مبتدأ و‏{‏معروفة‏}‏ صفة والخبر محذوف، أي أمثل وأولى أو خبر مبتدأ محذوف أي أمرنا أو المطلوب ‏{‏طاعة معروفة‏}‏‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ ولو قرئ بالنصب لكان جائزاً في العربية وذلك على المصدر أي أطيعوا طاعة انتهى‏.‏ وقدراه بالنصب زيد بن عليّ واليزيدي وتقدير بعضهم الرفع على إضمار ولتكن ‏{‏طاعة معروفة‏}‏ ضعيف لأنه لا يحذف الفعل ويبقى الفاعل، إلاّ إذا كان ثم مشعر به نحو ‏{‏رجال‏}‏ بعد ‏{‏يسبح‏}‏ مبنياً للمفعول أي يسبحه رجال، أو يجاب به نفي نحو‏:‏ بلى زيد لمن قال‏:‏ ما جاء أحد‏.‏ أو استفهام نحو قوله‏:‏

ألا هل أتى أم الحويرث مرسل *** بلى خالد إن لم تعقه العوائق

أي أتاها خالد‏.‏ ‏{‏إن الله خبير بما تعملون‏}‏ أي مطلع على سرائركم ففاضحكم‏.‏ والتفت من الغيبة إلى الخطاب لأنه أبلغ في تبكيتهم‏.‏

ولما بكتهم بأن مطلع على سرائرهم تلطف بهم فأمرهم بطاعة الله والرسول وهو أمر عام للمنافقين وغيرهم‏.‏ ‏{‏فإن تولوا‏}‏ أي فإن تتولوا‏.‏ ‏{‏فإنما عليه‏}‏ أي على الرسول ‏{‏ما حمل‏}‏ وهو التبليغ ومكافحة الناس بالرسالة وإعمال الجهد في إنذارهم‏.‏ ‏{‏وعليكم ما حملتم‏}‏ وهو السمع والطاعة واتّباع الحق‏.‏ ثم علق هدايتهم على طاعته فلا يقع إلا بطاعته ‏{‏وما على الرسول إلاّ البلاغ المبين‏}‏ تقدم الكلام على مثل هذه الجملة في المائدة‏.‏

روي أن بعض الصحابة شكا جهد مكافحة العدو وما كانوا فيه من الخوف وأنهم لا يضعون أسلحتهم فنزل ‏{‏وعد الله الذين آمنوا منكم‏}‏‏.‏ وروي أنه عليه الصلاة والسلام لما قال بعضهم ما أتى علينا يوم نأمن من فيه ونضع السلاح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تغبرون إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليس معه حديدة» قال ابن عباس‏:‏ وهذا الوعد وعده الله أمّة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل‏.‏ والخطاب في ‏{‏منكم‏}‏ للرسول وأتباعه و‏{‏من‏}‏ للبيان أي الذين هم أنتم وعدهم الله أن ينصر الإسلام على الكفر ويورثهم الأرض ويجعلهم خلفاء‏.‏ وقوله ‏{‏في الأرض‏}‏ هي البلاد التي تجاورهم وهي جزيرة العرب، ثم افتتحوا بلاد الشرق والغرب ومزقوا ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ «زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي عنها» قال بعض العلماء‏:‏ ولذلك اتسع نطاق الإسلام في الشرق والغرب دون اتساعه في الجنوب والشمال‏.‏ قلت‏:‏ ولا سيما في عصرنا هذا بإسلام معظم العالم في المشرق كقبائل الترك، وفي المغرب كبلاد السودان التكرور والحبشة وبلاد الهند‏.‏

‏{‏كما استخلف الذين من قبلهم‏}‏ أي بني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد هلاك الجبابرة‏.‏

وقيل‏:‏ هو ما كان في زمان داود وسليمان عليهما السلام، وكان الغالب على الأرض المؤمنون‏.‏ وقرئ ‏{‏كما استُخْلِفَ‏}‏ مبنياً للمفعول‏.‏ واللام في ‏{‏ليستخلفنهم‏}‏ جواب قسم محذوف، أي وأقسم ‏{‏ليستخلفنهم‏}‏ أو أجرى وعد الله لتحققه مجرى القسم فجووب بما يجاوب به القسم‏.‏ وعلى التقدير حذف القسم بكون معمول ‏{‏وعد‏}‏ محذوفاً تقديره استخلافكم وتمكين دينكم‏.‏ ودل عليه جواب القسم المحذوف‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هذه الآية تتضمن خلافه أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ لأنهم أهل الإيمان وعمل الصالحات‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الخلافة بعدي ثلاثون» انتهى‏.‏ ونيدرج من جرى مجراهم في العدل من استخلف من قريش كعمر بن عبد العزيز من الأمويين، والمهتدين بالله في العباسيين‏.‏

‏{‏وليمكنن لهم دينهم‏}‏ أي يثبته ويوطده بإظهاره وإعزاز أهله وإذلال الشرك وأهله‏.‏ و‏{‏الذي ارتضى لهم‏}‏ صفة مدح جليلة وقد بلغت هذه الأمة في تمكين هذا الدين الغاية القصوى مما أظهر الله على أيديهم من الفتوح والعلوم التي فاقوا فيها جميع العالم من لدن آدم إلى زمان هذه الملة المحمدية‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏وليبدلنهم‏}‏ بالتشديد وابن كثير وأبو بكر والحسن وابن محيصن بالتخفيف‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ لما أظهر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم على جزيرة العرب وضعوا السلاح وآمنوا، ثم قبض الله نبيه عليه السلام فكانوا آمنين كذلك في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا فيه وكفروا بالنعمة، فأدخل الله عليهم الخوف فغيروا فغير الله ما بهم‏.‏

‏{‏يعبدونني‏}‏ الظاهر أنه مستأنف فلا موضع له من الإعراب كأنه قيل‏:‏ ما لهم يستخلفون ويؤمنون فقال ‏{‏يعبدونني‏}‏ قاله الزمخشري‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ‏{‏يعبدونني‏}‏ فعل مستأنف أي هم ‏{‏يعبدونني‏}‏ ويعني بالاستئناف الجملة لا نفس الفعل وحده وقاله الحوفي قال‏:‏ ويجوز أن يكون مستأنفاً على طريق الثناء عليهم أي هم ‏{‏يعبدونني‏}‏‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وإن جعلته حالاً عن وعدهم أي وعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم فمحله النصب انتهى‏.‏ وقال الحوفي قبله‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ ‏{‏يعبدونني‏}‏ حال من ‏{‏ليستخلفنهم‏}‏ و‏{‏ليبدلنهم‏}‏ ‏{‏لا يشركون‏}‏ بدل من ‏{‏يعبدونني‏}‏ أو حال من الفاعل في ‏{‏يعبدونني‏}‏ موحدين انتهى‏.‏ والظاهر أنه متى أطلق الكفر كان مقابل الإسلام والإيمان وهو ظاهر قول حذيفة قال‏:‏ كان النفاق على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد ذهب ولم يبق إلاّ كفر بعد إيمان‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ يحتمل أن يريد كفر هذه النعم إذا وقعت ويكون الفسق على هذا غير مخرج عن الملة‏.‏ قيل‏:‏ ظهر في قتلة عثمان‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏ومن كفر‏}‏ يريد كفران النعمة كقوله ‏{‏فكفرت بأنعم الله‏}‏ ‏{‏فأولئك هم الفاسقون‏}‏ أي هم الكاملون في فسقهم حيث كفروا تلك النعمة العظيمة‏.‏ والظاهر أن قوله ‏{‏وأقيموا‏}‏ التفات من الغيبة إلى الخطاب ويحسنه الخطاب في منكم‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏وأقيموا الصلاة‏}‏ معطوف على ‏{‏أطيعوا الله وأطيعوا الرسول‏}‏ وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه‏.‏ فاصل‏.‏ وإن طال لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه وكررت طاعة الرسول توكيداً لوجوبها انتهى‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏لا تحسبن‏}‏ بتاء الخطاب والتقدير، ‏{‏لا تحسبن‏}‏ أيها المخاطب ولا يندرج فيه الرسول، وقالوا‏:‏ هو خطاب للرسول وليس بجيد لأن مثل هذا الحسبان لا يتصوّر وقوعه فيه عليه السلام‏.‏ وقرأ حمزة وابن عامر لا يحسبن بالياء للغيبة، والتقدير لا يحسبن حاسب، والرسول لا يندرج في حاسب وقالوا‏:‏ يكون ضمير الفاعل للرسول لتقدم ذكره في ‏{‏وأطيعوا الرسول‏}‏ قاله أبو عليّ والزمخشري وليس بجيد لما ذكرناه في قراءة التاء‏.‏ وقال النحاس‏:‏ ما علمت أحداً من أهل العربية بصرياً ولا كوفياً إلاّ وهو يخطئ قراءة حمزة، فمنهم من يقول‏:‏ هي لحن لأنه لم يأت إلاّ بمفعول واحد ليحسبن، وممن قال هذا أبو حاتم انتهى‏.‏ وقال الفرّاء‏:‏ هو ضعيف وأجازه على حذف المفعول الثاني وهو قول البصريين تقديره أنفسهم‏.‏ و‏{‏معجزين‏}‏ المفعول الثاني‏.‏

وقال عليّ بن سليمان‏:‏ ‏{‏الذين كفروا‏}‏ في موضع نصب قال‏:‏ ويكون المعنى ولا يحسبن الكافر ‏{‏الذين كفروا معجزين في الأرض‏}‏‏.‏ وقال الكوفيون‏:‏ ‏{‏معجزين‏}‏ المفعول الأول‏.‏ و‏{‏في الأرض‏}‏ الثاني قيل‏:‏ وهو خطأ وذلك لأن ظاهر في ‏{‏الأرض‏}‏ تعلقه بمعجزين، فلا يكون مفعولاً ثانياً‏.‏ وخرج الزمخشري ذلك متبعاً قول الكوفيين‏.‏ فقال ‏{‏معجزين في الأرض‏}‏ هما المفعولان والمعنى لا يحسبن الذين كفروا أحداً يعجز الله في الأرض حتى يطمعوا لهم في مثل ذلك، وهذا معنى قوي جيد انتهى‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ يكون الأصل‏:‏ لا يحسبنهم ‏{‏الذين كفروا معجزين‏}‏ ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول، وكان الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت كالشيء الواحد اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث انتهى‏.‏ وقد رددنا هذا التخريج في آل عمران في قوله ‏{‏لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا‏}‏ في قراءة من قرأ بياء الغيبة، وجعل الفاعل ‏{‏الذين يفرحون‏}‏ وملخصه أنه ليس هذا من الضمائر التي يفسرها ما بعدها فلا يتقدر لا يحسبنهم إذ لا يجوز ظنه زيد قائماً على تقدير رفع زيد بظنه‏.‏

‏{‏ومأواهم النار‏}‏ قال الزمخشري‏:‏ عطف على ‏{‏لا تحسبن‏}‏ كأنه قيل الذين كفروا لا يفوتون الله ‏{‏ومأواهم النار‏}‏ والمراد بهم المقسمون جهد أيمانهم انتهى‏.‏ وقال صاحب النظام لا يحتمل أن يكون ‏{‏ومأواهم‏}‏ متصلاً بقوله ‏{‏لا تحسن الذين كفروا معجزين في الأرض‏}‏ بل هم مقهورون ‏{‏ومأواهم النار‏}‏ انتهى‏.‏ واستبعد العطف من حيث إن ‏{‏لا تحسبن‏}‏ نهي ‏{‏ومأواهم النار‏}‏ جملة خبرية فلم يناسب عنده أن يعطف الجملة الخبرية على جملة النهي لتباينهما وهذا مذهب قوم‏.‏ ولما أحس الزمخشري بهذا قال‏:‏ كأنه قيل الذين كفروا لا يفوتون الله فتأول جملة النهي بجملة خبرية حتى تقع المناسبة، والصحيح أن ذلك لا يشترط بل يجوز عطف الجمل على اختلافها بعضاً على بعض وإن لم تتحد في النوعية وهو مذهب سيبويه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 61‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏58‏)‏ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏59‏)‏ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏60‏)‏ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

روي أن عمر بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً من الأنصار يقال له مدلج، وكان نائماً فدق عليه الباب ودخل، فاستيقظ وجلس فانكشف منه شيء فقال عمر‏:‏ وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلاّ بإذن‏.‏ ثم انطلق إلى الرسول فوجد هذه الآية قد نزلت فخرّ ساجداً‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في أسماء بنت أبي مرثد قيل‏:‏ دخل عليها غلام لها كبير في وقت كرهت دخوله، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا حالاً نكرهها‏.‏

‏{‏ليستأذنكم‏}‏ أمر والظاهر حمله على الوجوب والجمهور على الندب‏.‏ وقيل‏:‏ بنسخ ذلك إذ صار للبيوت أبواب روي ذلك عن ابن عباس وابن المسيب والظاهر عموم ‏{‏الذين ملكت أيمانكم‏}‏ في العبيد والإماء وهو قول الجمهور‏.‏ وقال ابن عمر وآخرون، العبيد دون الإماء‏.‏ وقال السلمي‏:‏ الإماء دون العبيد‏.‏ ‏{‏والذين لم يبلغوا الحلم منكم‏}‏ عام في الأطفال عبيد كانوا أو أحراراً‏.‏ وقرأ الحسن وأبو عمر وفي رواية وطلحة ‏{‏الحلْم‏}‏ بسكون اللام وهي لغة تميم‏.‏ وقيل ‏{‏منكم‏}‏ أي من الأحرار ذكوراً كانوا أو إناثاً‏.‏ والظاهر من قوله ‏{‏ثلاث مرات‏}‏ ثلاث استئذانات لأنك إذا ضربت ثلاث مرات لا يفهم منه إلاّ ثلاث ضربات ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الاستئذان ثلاث» والذي عليه الجمهور أن معنى ‏{‏ثلاث مرات‏}‏ ثلاث أوقات وجعلوا ما بعده من ذكر تلك الأوقات تفسيراً لقوله ‏{‏ثلاث مرات‏}‏ ولا يتعين ذلك بل تبقى ‏{‏ثلاث مرات‏}‏ على مدلولها‏.‏

‏{‏من قبل صلاة الفجر‏}‏ لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ما ينام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة وقد ينكشف النائم‏.‏ ‏{‏وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة‏}‏ لأنه وقت وضع الثياب للقائلة لأن النهار إذ ذاك يشتد حره في ذلك الوقت‏.‏ و‏{‏من‏}‏ في ‏{‏من الظهيرة‏}‏ قال أبو البقاء‏:‏ لبيان الجنس أي حين ذلك هو الظهيرة، قال‏:‏ أو بمعنى من أجل حر الظهيرة و‏{‏حين‏}‏ معطوف على موضع ‏{‏من قبل‏}‏ ‏{‏ومن بعد صلاة العشاء‏}‏ لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم ‏{‏ثلاث عورات لكم‏}‏ سمى كل واحد منها عورة لأن الناس يختل تسترهم وتحفظهم فيها، والعورة الخلل ومنه أعور الفارس وأعور المكان، والأعور المختل العين‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏ثلاث‏}‏ بالنصب قالوا‏:‏ بدل من ‏{‏ثلاث عورات‏}‏ وقدره الحوفي والزمخشري وأبو البقاء أوقات ‏{‏ثلاث عورات‏}‏ وقال ابن عطية‏:‏ إنما يصح يعنى البدل بتقدير أوقات ‏{‏عورات‏}‏ فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه‏.‏ وقرأ باقي السبعة بالرفع أي هن ‏{‏ثلاث عورات‏}‏ وقرأ الأعمش ‏{‏عَوَرات‏}‏ بفتح الواو وتقدم أنها لغة هذيل بن مدركة وبني تميم وعلى رفع ‏{‏ثلاث‏}‏‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ يكون ‏{‏ليس عليكم‏}‏ الجملة في محل رفع على الوصف والمعنى هن ‏{‏ثلاث عورات‏}‏ مخصوصة بالاستئذان، وإذا نصبت لم يكن له محل وكان كلاماً مقرراً بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة‏.‏

‏{‏بعدهن‏}‏ أي بعد استئذانهم فيهن حذف الفاعل وحرف الجر بفي بعد استئذانهن ثم حذف المصدر وقيل ‏{‏ليس‏}‏ على العبيد والإماء ومن لم يبلغ الحلم في الدخول ‏{‏عليكم‏}‏ بغير استئذان ‏{‏جناح‏}‏ بعد هذه الأوقات الثلاث ‏{‏طوافون‏}‏ يمضون ويجيؤون وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هم ‏{‏طوافون‏}‏ أي المماليك والصغار ‏{‏طوافون عليكم‏}‏ أي يدخلون عليكم في المنازل غدوة وعشية بغير إذن إلاّ في تلك الأوقات‏.‏ وجوّزوا في ‏{‏بعضكم على بعض‏}‏ أن يكون مبتدأ وخبراً لكن الجر قدروه طائف على بعض وهو كون مخصوص فلا يجوز حذفه‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وحذف لأن طوافون يدل عليه وأن يكون مرفوعاً بفعل محذوف تقديره يطوف بعضكم‏.‏ وقال ابن عطية ‏{‏بعضكم‏}‏ بدل من قوله ‏{‏طوافون‏}‏ ولا يصح لأنه إن أراد بدلاً من ‏{‏طوافون‏}‏ نفسه فلا يجوز لأنه يصير التقدير هم ‏{‏بعضكم على بعض‏}‏ وهذا معنى لا يصح‏.‏ وإن جعلته بدلاً من الضمير في ‏{‏طوافون‏}‏ فلا يصح أيضاً إن قدر الضمير ضمير غيبة لتقدير المبتدأ هم لأنه يصير التقدير هم يطوف ‏{‏بعضكم على بعض‏}‏ وهو لا يصح‏.‏ فإن جعلت التقدير أنتم يطوف ‏{‏عليكم بعضكم على بعض‏}‏ فيدفعه أن قوله ‏{‏عليكم‏}‏ بدل على أنهم هم المطوف عليهم، وأنتم طوافون، يدل على أنهم طائفون فتعارضا‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة طوافين بالنصب على الحال من ضمير ‏{‏عليهم‏}‏‏.‏ وقال الحسن‏:‏ إذا بات الرجل خادمه معه فلا استئذان عليه ولا في هذه الأوقات الثلاثة‏.‏

‏{‏وإذا بلغ الأطفال‏}‏ أي من أولادكم وأقربائكم ‏{‏فليستأذنوا‏}‏ أي في كل الأوقات فإنهم قبل البلوغ كانوا يستأذنون في ثلاث الأوقات‏.‏ ‏{‏كما استأذن الذين من قبلهم‏}‏ يعني البالغين‏.‏ وقيل‏:‏ الكبار من أولاد الرجل وأقربائه‏.‏ ودل ذلك على أن الابن والأخ البالغين كالأجنبي في ذلك وتكلموا هنا فيما به البلوغ وهي مسألة تذكر في الفقه‏.‏ كذلك الإشارة إلى ما تقدم ذكره من استئذان المماليك وغير البلغ‏.‏

ولما أمر تعالى النساء بالتحفظ من الرجال ومن الأطفال غير البلغ في الأوقات التي هي مظنة كشف عورتهن استثنى ‏{‏القواعد من النساء‏}‏ اللاتي كبرن وقعدن عن الميل إليهن والافتتان بهن فقال ‏{‏والقواعد‏}‏ وهو جمع قاعد من صفات الإناث‏.‏ وقال ابن السكيت‏:‏ امرأة قاعد قعدت عن الحيض‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ سُميِّن بذلك لأنهن بعد الكبر يكثرن القعود‏.‏ وقال ربيعة لقعودهن عن الاستمتاع بهن فأيسن ولم يبق لهن طمع في الأزواج‏.‏ وقيل قعدن عن الحيض والحبل‏.‏ و‏{‏ثيابهن‏}‏ الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار والملاء الذي فوق الثياب أو الخمر أو الرداء والخمار أقوال، ويقال للمرأة إذا كبرت امرأة واضع أي وضعت خمارها‏.‏

‏{‏غير متبرجات بزينة‏}‏ أي غير متظاهرات بالزينة لينظر إليهن، وحقيقة التبرج إظهار ما يجب إخفاؤه أو غير قاصدات التبرج بالوضع، ورب عجوز يبدو منها الحرص على أن يظهر بها جمال‏.‏

‏{‏وأن يستعففن‏}‏ عن وضع الثياب ويتسترن كالشباب أفضل لهن‏.‏ ‏{‏والله سميع‏}‏ لما يقول كل قائل ‏{‏عليم‏}‏ بالمقاصد‏.‏ وفي ذكر هاتين الصفتين توعد وتحذير‏.‏

عن ابن عباس لما نزل ‏{‏ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏ تحرج المسلمون عن مواكلة الأعمى لأنه لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لأنه لا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض لأنه لا يستطيع استيفاء الطعام فأنزل الله هذه الآية قيل‏:‏ وتحرجوا عن أكل طعام القرابات فنزلت مبيحة جميع هذه المطاعم ومبينة أن تلك إنما هي في التعدي والقمار وما يأكله المؤمن من مال من يكره أهله أو بصفقة فاسدة ونحوه‏.‏ وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وابن المسيب كانوا إذا نهضوا إلى الغزو وخلفوا أهل العذر في منازلهم وأموالهم تحرجوا من أكل مال الغائب فنزلت مبيحة لهم ما تمس إليه حاجتهم من مال الغائب إذا كان الغائب قد بنى على ذلك‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ كان الرجل إذا ذهب بأهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئاً ذهب بهم إلى بيوت قراباته فتحرج أهل الأعذار من ذلك فنزلت‏.‏ وقيل‏:‏ كانت العرب ومن بالمدينة قبل البعث تجتنب الأكل مع أهل هذه الأعذار فبعضهم تقذراً لمكان جولان يد الأعمى، ولانبساط الجلسة مع الأعرج، ولرائحة المريض وهي أخلاق جاهلية وكبر‏.‏ فنزلت واستبعد هذا لأنه لو كان هذا السبب لكان التركيب ليس عليكم حرج أن تأكلوا معهم ولم يكن ‏{‏ليس على الأعمى حرج‏}‏ وأجاب بعضهم‏:‏ بأن ‏{‏على‏}‏ في معنى أي في مواكلة الأعمى وهذا بعيد جداً‏.‏ وفي كتاب الزهراوي عن ابن عباس أن أهل هذه الأعذار تحرجوا في الأكل مع الناس من أجل عذرهم فنزلت‏.‏ وعلى هذه الأقوال كلها يكون نفي الحرج عن أهل العذر ومن بعدهم في المطاعم‏.‏ وقال الحسن وعبد الرحمن بن زيد الحرج المنفي عن أهل العذر هو في القعود عن الجهاد وغيره مما رخص لهم فيه، والحرج المنفي عمن بعدهم في الأكل مما ذكر وهو مقطوع مما قبله إذ متعلق الحرجين مختلف‏.‏ وإن كان قد اجتمعا في انتفاء الحرج‏.‏ وهذا القول هو الظاهر‏.‏ ولم يذكر بيوت الأولاد اكتفاء بذكر بيوتكم لأن ولد الرجل بعضه وحكمه حكم نفسه، وبيته بيته‏.‏ وفي الحديث «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه»‏.‏ ومعنى ‏{‏من بيوتكم‏}‏‏.‏ من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم، والولد أقرب من عدد من القرابات فإذا كان سبب الرخصة هو القرابة كان الذي هو أقرب منهم أولى‏.‏

وقرأ طلحة إمهاتكم بكسر الهمزة‏.‏ ‏{‏أو ما ملكتم مفاتحه‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هو وكيل الرجل أن يتناول من التمر ويشرب من اللبن‏.‏ وقال قتادة‏:‏ العبد لأن ماله لك‏.‏ وقال مجاهد والضحاك‏:‏ خزائن بيوتكم إذا ملكتم مفاتيحها‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ الزمنى ملكوا التصرف في البيوت التي سلمت إليهم مفاتيحها‏.‏ وقيل‏:‏ ولي اليتيم يتناول من ماله بقدر مّا قال تعالى ‏{‏ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف‏}‏ ومفاتحه بيده‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ملكتم‏}‏ بفتح الميم واللام خفيفة‏.‏ وقرأ ابن جبير بضم الميم وكسر اللام مشددة، والجمهور ‏{‏مفاتحه‏}‏ جمع مفتح وابن جبير مفاتيحه جمع مفتاح، وقتادة وهارون عن أبي عمرو مفتاحه مفرداً‏.‏ ‏{‏أو صديقكم‏}‏ قرئ بكسر الصاد إتباعاً لحركة الدال حكاه حميد الخزاز، قرن الله الصديق بالقرابة المحضة‏.‏ قيل لبعضهم‏:‏ من أحب إليك أخوك أم صديقك‏؟‏ فقال‏:‏ لا أحب أخي إلاّ إذا كان صديقي‏.‏ وقال معمر‏:‏ قلت لقتادة ألا أشرب من هذا الحب‏؟‏ قال‏:‏ أنت لي صديق فما هذا الاستئذان‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الصديق أوكد من القرابة ألا ترى استغاثة الجهنميين ‏{‏فما لنا من شافعين ولا صديق حميم‏}‏ ولم يستغيثوا بالآباء والأمهات ومعنى ‏{‏أو صديقكم‏}‏ أو بيوت أصدقائكم، والصديق يكون للواحد والجمع كالخليط والقطين، وقد أكل جماعة من أصحاب الحسن من بيته وهو غائب فجاء فسر بذلك وقال‏:‏ هكذا وجدناهم يعني كبراء الصحابة، وكان الرجل يدخل بيت صديقه فيأخذ من كيسه فيعتق جاريته التي مكنته من ذلك‏.‏ وعن جعفر الصادق‏:‏ من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من الأنس والثقة والانبساط وترك الحشمة بمنزلة النفس والأب والابن والأخ‏.‏ وقال هشام بن عبد الملك‏:‏ نلت ما نلت حتى الخلافة وأعوزني صديق لا أحتشم منه‏.‏ وقال أهل العلم‏:‏ إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح‏.‏

وانتصب ‏{‏جميعاً أو أشتاتاً‏}‏ على الحال أي مجتمعين أو متفرقين‏.‏ قال الضحاك وقتادة‏:‏ نزلت في حي من كنانة تحرجوا أن يأكل الرجل وحده فربما قعدوا لطعام بين يديه لا يجد من يؤاكله حتى يمسي فيضطر إلى الأكل وحده‏.‏ وقال بعض الشعراء‏:‏

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له *** أكيلاً فإني لست آكله وحدي

وقال عكرمة في قوم من الأنصار‏:‏ إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلاّ معه‏.‏ وقيل في قوم‏:‏ تحرجوا أن يأكلوا جميعاً مخافة أن يزيد أحدهم على الآخرة في الأكل‏.‏ وقيل ‏{‏أو صديقكم‏}‏ هو إذا دعاك إلى وليمة فحسب‏.‏ وقيل‏:‏ هذه الآية منسوخة بقوله عليه السلام «ألا إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام» وبقوله عليه السلام من حديث ابن عمر‏:‏ «لا يحلبن أحد ماشية أحد إلاّ بإذنه» وبقوله تعالى ‏{‏لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا‏}‏ الآية‏.‏

‏{‏فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم‏}‏‏.‏

قال ابن عباس والنخعي‏:‏ المساجد فسلموا على من فيها فإن لم يكن فيها أحد قال السلام على رسول الله‏.‏ وقيل‏:‏ يقول السلام عليكم يعني الملائكة، ثم يقول‏:‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين‏.‏ وقال جابر وابن عباس وعطاء‏:‏ البيوت المسكونة وقالوا يدخل فيها غير المسكونة، فيقول‏:‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏ بيوتاً خالية‏.‏ وقال السدّي ‏{‏على أنفسكم‏}‏ على أهل دينكم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ على أهاليكم في بيوت أنفسكم‏.‏ وقيل‏:‏ بيوت الكفار ‏{‏فسلموا على أنفسكم‏}‏ وقال الزمخشري ‏{‏فإذا دخلتم بيوتاً‏}‏ من هذه البيوت لتأكلوا، فابدؤوا بالسلام على أهلها الذين هم فيها منكم ديناً وقرابة‏.‏ و‏{‏تحية من عند الله‏}‏ أي ثابتة بأمره مشروعة من لدنه، أو لأن التسليم والتحية طلب للسلامة وحياة للمسلم عليه ووصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله زيادة وطيب الرزق انتهى‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ مباركة بالأجر‏.‏ وقيل‏:‏ بورك فيها بالثواب‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ في السلام عشر حسنات، ومع الرحمة عشرون، ومع البركات ثلاثون‏.‏ وانتصب ‏{‏تحية‏}‏ بقوله ‏{‏فسلموا‏}‏ لأن معناه فحيوا كقولك‏:‏ قعدت جلوساً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 64‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏62‏)‏ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏63‏)‏ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏64‏)‏‏}‏

لما افتتح السورة بقوله ‏{‏سورة أنزلناها‏}‏ وذكر أنواعاً من الأوامر والحدود مما أنزله على الرسول عليه السلام اختتمها بما يجب له عليه السلام على أمته من التتابع والتشايع على ما فيه مصلحة الإسلام ومن طلب استئذانه إن عرض لأحد منهم عارض، ومن توقيره في دعائهم إياه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أراد عز وجل أن يريهم عظيم الجناية في ذهاب الذاهب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذنه‏.‏

‏{‏إذا كانوا معه على أمر جامع‏}‏ فجعل ترك ذهابهم ‏{‏حتى تستأذنوه‏}‏ ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، وجعلهما كالتسبيب له والنشاط لذكره‏.‏ وذلك مع تصدير الجملة بإنما وارتفاع المؤمنين مبتدأ ومخبر عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين، ثم عقبه بما يزيده توكيداً وتسديداً بحيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله ‏{‏إن الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله‏}‏ وضمنه شيئاً آخر وهو أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين، وعرّض بحال الماضين وتسللهم لو إذاً‏.‏

ومعنى قوله ‏{‏لم يذهبوا حتى يستأذنوه‏}‏ لم يذهبوا حتى يستأذنوه وبأذن لهم، ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استصوب أن يأذن له، والأمر الجامع الذي يجمع له الناس، فوصف بالجمع على المجاز وذلك نحو مقابلة عدو وتشاور في أمرهم أو تضام لإرهاب مخالف، أو ما ينتج في حلف وغير ذلك‏.‏ والأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه وفي قوله ‏{‏وإذا كانوا معه على أمر جامع‏}‏ أنه خطب جليل لا بد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه من ذوي رأي وقوة يظاهرونه عليه ويعاونونه ويستضيء بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم في كفاءته، فمفارقة أحدهم في مثل هذه الحالة مما يشق على قلبه ويشعث عليه رأيه‏.‏ فمن ثم غلظ عليهم وضيق الأمر في الاستئذان مع العذر المبسوط ومساس الحاجة إليه واعتراض ما يهمهم ويعينهم، وذلك قوله ‏{‏لبعض شأنهم‏}‏ وذكر الاستغفار للمستأذنين دليل على أن الأحسن الأفضل أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ولا يستأذنوا فيه‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في حفر الخندق وكان قوم يتسللون بغير إذن لذلك ينبغي أن يكون الناس مع أئمتهم ومقدميهم في الدين والعلم يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلة من النوازل، ولا يتفرقون عنهم، والأمر في الإذن مفوض إلى الإمام إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن على حسب ما اقتضاه رأيه انتهى‏.‏ وهو تفسير حسن ويجري هذا المجرى إمام الأمرة إذا كان الناس معه مجتمعين لمراعاة مصلحة دينية فلا يذهب أحد منهم عن المجمع إلاّ بإذن منه إذ قد يكون له رأي في حضور ذلك الذاهب‏.‏ وقال مكحول والزهري‏:‏ الجمعة من الأمر الجامع، فإذا عرض للحاضر ما يمنعه الحضور من سبق رعاف فليستأذن حتى يذهب عنه سوء الظن به‏.‏

وقال ابن سيرين‏:‏ كانوا يستأذنون الإمام على المنبر، فلما كثر ذلك قال زياد‏:‏ من جعل يده على أنفه فليخرج دون إذن وقد كان هذا بالمدينة حتى إنّ سهيل بن أبي صالح رعف يوم الجمعة فاستأذن الإمام‏.‏ وقال ابن سلام‏:‏ هو كل صلاة فيها خطبة كالجمعة والعيدين والاستسقاء‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ في الجهاد‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الاجتماع في طاعة الله‏.‏ قيل‏:‏ في قوله ‏{‏فائذن لمن شئت منهم‏}‏ أريد بذلك عمر بن الخطاب‏.‏ وقرأ اليماني على أمر جميع‏.‏

‏{‏لا تجعلوا‏}‏ خطاب لمعاصري الرسول عليه السلام لما كان التداعي بالأسماء على عادة البداوة، أمروا بتوقير رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحسن ما يدعى به نحو‏:‏ يا رسول الله، يا نبي الله، ألا ترى إلى بعض جفاة من أسلم كان يقول‏:‏ يا محمد وفي قوله ‏{‏كدعاء بعضكم بعضاً‏}‏ إشارة إلى جواز ذلك مع بضعهم لبعض إذ لم يؤمر بالتوقير والتعظيم في دعائه عليه السلام إلاّ من دعاه لا من دعا غيره‏.‏ وكانوا يقولون‏:‏ يا أبا القاسم يا محمد فنهوا عن ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ نهاهم عن الإبطاء والتأخر إذا دعاهم، واختارهم المبرد والقفال ويدل عليه ‏{‏فليحذر الذين يخالفون عن أمره‏}‏ وهذا القول موافق لمساق الآية ونظمها‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ إذا احتاج إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تتفرّقوا عنه إلاّ بإذنه، ولا تقيسوا دعاءه على دعاء بعضكم بعضاً ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي انتهى‏.‏ وهو قريب مما قبله‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ ويحتمل ‏{‏لا تجعلوا‏}‏ دعاء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم كبيركم وفقيركم غنيكم، يسأله حاجة فربما أجابه وربما رده، وإن دعوات رسول الله صلى الله عليه وسلم مسموعة مستجابة انتهى‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إنما هو لا تحسبوا دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض أي دعاؤه عليكم مجاب فاحذروه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ولفظ الآية يدفع هذا المعنى انتهى‏.‏

وقرأ الحسن ويعقوب في رواية نبيكم بنون مفتوحة وباء مكسورة وياء مشددة بدل قوله ‏{‏بينكم‏}‏ ظرفاً قراءة الجمهور‏.‏ قال صاحب اللوامح‏:‏ وهو النبيّ عليه السلام على البدل من ‏{‏الرسول‏}‏ فإنما صار بدلاً لاختلاف تعريفهما باللام مع الإضافة، يعني أن الرسول معرفة باللام ونبيكم معرفة بالإضافة إلى الضمير فهو في رتبة العلم، فهو أكثر تعريفاً من ذي اللام فلا يصح النعت به على المذهب المشهور، لأن النعت يكون دون المنعوت أو مساوياً له في التعريف‏.‏ ثم قال صاحب اللوامح‏:‏ ويجوز أن يكون نعتاً لكونهما معرفتين انتهى‏.‏ وكأنه مناقض لما قرر من اختياره البدل وينبغي أن يجوز النعت لأن الرسول قد صار علماً بالغلبة كالبيت للكعبة إذ ما جاء في القرآن والسنة من لفظ الرسول إنما يفهم منه أنه محمد صلى الله عليه وسلم، فإاذ كان كذلك فقد تساويا في التعريف‏.‏

ومعنى ‏{‏يتسللون‏}‏ ينصرفون قليلاً قليلاً عن الجماعة في خفية، ولواذ بعضهم ببعض أي هذا يلوذ بهذا وهذا بذاك بحيث يدور معه حيث دار استتاراً من الرسول‏.‏

وقال الحسن ‏{‏لواذاً‏}‏ فراراً من الجهاد‏.‏ وقيل‏:‏ في حفر الخندق ينصرف المنافقون بغير إذن ويستأذن المؤمنون إذا عرضت لهم حاجة‏.‏ وقال مجاهد لوذاً خلافاً‏.‏ وقال أيضاً ‏{‏يتسللون‏}‏ من الصف في القتال وقيل‏:‏ ‏{‏يتسللون‏}‏ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى كتابه وعلى ذكره‏.‏ وانتصب ‏{‏لواذاً‏}‏ على أنه مصدر في موضع الحال أي متلاوذين، و‏{‏لواذاً‏}‏ مصدر لاوذ صحت العين في الفعل فصحت في المصدر، ولو كان مصدر لاذ لكان لياذاً كقام قياماً‏.‏ وقرأ يزيد بن قطيب ‏{‏لواذاً‏}‏ بفتح اللام، فاحتمل أن يكون مصدر لاذ ولم يقبل لأنه لا كسرة قبل الواو فهو كطاف طوافاً‏.‏ واحتمل أن يكون مصدر لاوذ وكانت فتحة اللام لأجل فتحة الواو وخالف يتعدى بنفسه تقول‏:‏ خالفت أمر زيد وبالي تقول‏:‏ خالفت إلى كذا فقوله ‏{‏عن أمره‏}‏ ضمن خالف معنى صدّ وأعرض فعداه بعن‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ معناه يقع خلافهم بعد أمره كما تقول كان المطر عن ريح و‏{‏عن‏}‏ هي لما عدا الشيء‏.‏ وقال أبو عبيدة والأخفش ‏{‏عن‏}‏ زائدة أي ‏{‏أمره‏}‏ والظاهر أن الأمر بالحذر للوجوب وهو قول الجمهور، وأن الضمير في ‏{‏أمره‏}‏ عائد على الله‏.‏ وقيل على الرسول‏.‏

وقرئ يخلفّون بالتشديد أي يخلفون أنفسهم بعد أمره، والفتنة القتل قاله ابن عباس أيضاً أو بلاء قاله مجاهد، أو كفر قاله السدي ومقاتل، أو إسباغ النعم استدراجاً قاله الجراح، أو قسوة القلب عن معرفة المعروف والمنكر قاله الجنيد، أو طبع على القلوب قاله بعضهم‏.‏ وهذه الأقوال خرجت مخرج التمثيل لا الحصر وهي في الدنيا‏.‏ أو ‏{‏عذاب أليم‏}‏‏.‏ قيل‏:‏ عذاب الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ هو القتل في الدنيا‏.‏

‏{‏ألا إن لله ما في السموات والأرض‏}‏ هذا كالدلالة على قدرته تعالى عليهما وعلى المكلف فيما يعامله به من المجازاة من ثوابه وعقابه‏.‏ ‏{‏قد يعلم ما أنتم عليه‏}‏ أي من مخالفة أمر الله وأمر رسوله وفيه تهديد ووعيد، والظاهر أنه خطاب للمنافقين‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ادخل ‏{‏قد‏}‏ ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق، ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد وذلك أن قد إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى ربما، فوافقت ربما في خروجها إلى معنى التنكير في نحو قوله‏:‏

فإن يمس مهجور الفناء فربما *** أقام به بعد الوفود وفود

ونحو من ذلك قول زهير‏:‏

أخي ثقة لا يهلك الخمر ماله *** ولكنه قد يهلك المال نائله

انتهى‏.‏ وكون قد إذا دخلت على المضارع أفادت التكثير قول بعض النحاة وليس بصحيح، وإنما التكثير مفهوم من سياقة الكلام في المدح والصحيح في رب إنها لتقليل الشيء أو تقليل نظيره فإن فهم تكثير فليس ذلك من رب‏.‏

ولا قد إنما هو من سياقه الكلام، وقد بين ذلك في علم النحو‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يُرجعون‏}‏ مبنياً للمفعول‏.‏ وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحاق وأبو عمرو مبنياً للفاعل‏.‏ والتفت من ضمير الخطاب في ‏{‏أنتم‏}‏ إلى ضمير الغيبة في ‏{‏يرجعون‏}‏ ويجوز أن يكون ‏{‏ما أنتم عليه‏}‏ خطاباً عاماً ويكون ‏{‏يرجعون‏}‏ للمنافقين‏.‏ والظاهر عطف ‏{‏ويوم‏}‏ على ‏{‏ما أنتم عليه‏}‏ فنصبه نصب المفعول‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويجوز أن يكون التقديم والعلم الظاهر لكم أو نحو هذا يوم فيكون النصب على الظرف‏.‏

مفردات سورة الفرقان

الهباء قال أبو عبيدة والزجاج‏:‏ مثل الغبار يدخل الكوة مع ضوء الشمس‏.‏ وقال ابن عرفة‏:‏ الهبوة والهباء التراب الدقيق‏.‏ وقال الجوهري يقال منه إذا ارتفع هبا يهبو هبواً، وأهبيتُه أنا إهباءً‏.‏ وقيل‏:‏ هو الشرر الطائر من النار إذا أضرمت‏.‏ النثر‏:‏ التفريق‏.‏ العض‏:‏ وقع الأسنان على المعضوض بقوة وفعله على وزن فعل بكسر العين، وحكى الكسائي عضضت بفتح عين الكلمة‏.‏ فلان كناية عن علم من يعقل‏.‏ الجملة من الكلام هو المجتمع غير المفرق‏.‏ الترتيل سرد اللفظ بعد اللفظ يتخلل بينهما زمن يسير من قولهم‏:‏ ثغر مرتل أي مفلج الأسنان‏.‏ السبات‏:‏ الراحة، ومنه يوم السبت لما جرت العادة من الاستراحة فيه ويقال للعليل إذا استراح من تعب العلة مسبوت قاله أبو مسلم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ السبات الموت والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة‏.‏ مرج‏:‏ قال ابن عرفة خلط ومرج الأمر اختلط واضطرب‏.‏ وقيل‏:‏ مرج وأمرج أجرى، ومرج لغة الحجاز وأمرج لغة نجد‏.‏ العذب‏:‏ الحلو‏.‏ والفرات البالغ في الحلاوة‏.‏ الملح‏:‏ المالح‏.‏ والأجاج البالغ في الملوحة‏.‏ وقيل‏:‏ المر‏.‏ وقيل‏:‏ الحار‏.‏ الصهر، قال الخليل‏:‏ لا يقال لأهل بيت المرأة إلاّ أصهار، ولأهل بيت الرجل إلاّ أختان، ومن العرب من يجعلهم أصهاراً كلهم‏.‏ السراج‏:‏ الشمس‏.‏ الهون‏:‏ الرفق واللين‏.‏ الغرفة‏:‏ العلية وكل بناء عال فهو غرفة‏.‏ عباءً من العبء وهو الثقيل، يقال‏:‏ عبأت الجيش بالتخفيف والتثقيل هيأته للقتال، ويقال‏:‏ ما عبأت به أي ما اعتددت به كقولك‏:‏ ما اكترثت به‏.‏