فصل: تفسير الآيات رقم (66- 69)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 39‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ‏(‏36‏)‏ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ‏(‏37‏)‏ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ‏(‏38‏)‏ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

لما أمر تعالى بثلاثة أشياء، الإيفاء بالعهد، والإيفاء بالكيل، والوزن بالقسطاس المستقيم أتبع ذلك بثلاثة أمّناه‏:‏ ‏{‏ولا تقف‏}‏ ‏{‏ولا تمش‏}‏ ‏{‏ولا تجعل‏}‏‏.‏ ومعنى ‏{‏ولا تقف‏}‏ لا تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل، نهى أن نقول ما لا نعلم وأن نعمل بما لا نعلم، ويدخل فيه النهي عن اتباع التقليد لأنه اتباع بما لا يعلم صحته‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ معناه لا ترم أحداً بما لا تعلم‏.‏ وقال قتادة لا تقل رأيت ولم تره وسمعت ولم تسمعه وعلمت ولم تعلمه‏.‏ وقال محمد بن الحنيفة‏:‏ لا تشهد بالزور‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ولا تقل لكنها كلمة تستعمل في القذف والعضة انتهى‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «من قفا مؤمناً بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتي يأتى بالمخرج» وقال في الحديث أيضاً‏:‏ «نحن بنو النضر بن كنانة لا تقفو منا ولا ننتفي من أبينا» ومنه قول النابغة الجعدي‏:‏

ومثل الدمى شم العرانين ساكن *** بهنّ الحيا لا يتبعن التقافيا

وقال الكميت

فلا أرمي البريء بغير ذنب *** ولا أقفو الحواضن إن قفينا

وحاصل هذا أنه نهى عن اتباع ما لا يكون معلوماً، وهذه قضية كلية تندرج تحتها أنواع‏.‏ فكل من القائلين حمل على واحد من تلك الأنواع‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وقد استدل به مبطل الاجتهاد ولم يصح لأن ذلك نوع من العلم، وقد أقام الشرع غالب الظنّ مقام العلم وأمر بالعمل به انتهى‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ولا تقف‏}‏ بحذف الواو للجزم مضارع قفا‏.‏ وقرأ زيد بن عليّ ولا تقفو بإثبات الواو‏.‏ كما قال الشاعر‏:‏

هجوت زبان ثم جئت معتذراً *** من هجو زبان لم تهجو ولم تدع

وإثبات الواو والياء والألف مع الجازم لغة لبعض العرب وضرورة لغيرهم‏.‏ وقرأ معاذ القارئ‏:‏ ‏{‏ولا تقف‏}‏ مثل تقل، من قاف يقوف تقول العرب‏:‏ قفت أثره وقفوت أثره وهما لغتان لوجود التصاريف فيهما كجبذ وجذب، وقاع الجمل الناقة وقعاها إذا ركبها، وليس قاف مقلوباً من قفا كما جوّزه صاحب اللوامح‏.‏ وقرأ الجرّاح العقيلي‏:‏ ‏{‏والفؤاد‏}‏ بفتح الفاء والواو قلبت الهمزة واواً بعد الضمة في الفؤاد ثم استصحب القلب مع الفتح وهي لغة في ‏{‏الفؤاد‏}‏ وأنكرها أبو حاتم وغيره وبه لا تتعلق بعلم لأنه يتقدّم معموله عليه‏.‏ قال الحوفي‏:‏ يتعلق بما تعلق به ‏{‏لك‏}‏ وهو الاستقرار وهو لا يظهر وفي قوله‏:‏ ‏{‏إن السمع والبصر والفؤاد‏}‏ دليل على أن العلوم مستفادة من الحواس ومن العقول، وجاء هذا على الترتيب القرآني في البداءة بالسمع، ثم يليه البصر، ثم يليه الفؤاد‏.‏ و‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى ‏{‏السمع والبصر والفؤاد‏}‏ وهو اسم إشارة للجمع المذكر والمؤنث العاقل وغيره‏.‏

وتخيل ابن عطية أنه يختص بالعاقل‏.‏ فقال‏:‏ وعبر عن ‏{‏السمع والبصر والفؤاد‏}‏ بأولئك لأنها حواس لها إدراك، وجعلها في هذه الآية مسؤولة فهي حالة من يعقل، ولذلك عبر عنها بأولئك‏.‏ وقد قال سيبويه رحمه الله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رأيتهم لي ساجدين‏}‏ إنما قال‏:‏ رأيتهم في نجوم لأنه إنما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل عبر عنها بكناية من يعقل‏.‏ وحكى الزجّاج أن العرب تعبر عمن يعقل وعما لا يعقل بأولئك، وأنشد هو والطبري‏:‏

ذمّ المنازل بعد منزلة اللوى *** والعيش بعد أولئك الأيام

وأما حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده، وأما البيت فالرواية فيه الأقوام انتهى‏.‏ وليس ما تخيله صحيحاً، والنحاة ينشدونه بعد أولئك الأيام ولم يكونوا لينشدوا إلاّ ما روي، وإطلاق أولاء وأولاك وأولئك وأولالك على ما لا يعقل لا نعلم خلافاً فيه، و‏{‏كل‏}‏ مبتدأ والجملة خبره، واسم ‏{‏كان‏}‏ عائد على ‏{‏كل‏}‏ وكذا الضمير في ‏{‏مسؤولاً‏}‏‏.‏ والضمير في ‏{‏عنه‏}‏ عائد على ما من قوله ‏{‏ما ليس لك به علم‏}‏ فيكون المعنى أن كل واحد من ‏{‏السمع والبصر والفؤاد‏}‏ يسأل عما لا علم له به أي عن انتفاء ما لا علم له به‏.‏ وهذا الظاهر‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يستشهد بها كما قال ‏{‏يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم‏}‏ وقال القرطبي في أحكامه‏:‏ يسأل الفؤاد عما اعتقده، والسمع عما سمع، والبصر عما رأى‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ إن الله تعالى يسأل سمع الإنسان وبصره وفؤاده عما قال مما لا علم له به، فيقع تكذيبه من جوارحه وتلك غاية الخزي‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في ‏{‏كان‏}‏ و‏{‏مسؤولاً‏}‏ عائدان على القائف ما ليس له به علم، والضمير في ‏{‏عنه‏}‏ عائد على ‏{‏كل‏}‏ فيكون ذلك من الالتفات إذ لو كان على الخطاب لكان التركيب كل أولئك كنت عنه مسؤولاً‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ و‏{‏عنه‏}‏ في موضع الرفع بالفاعلية، أي كل واحد منها كان مسؤولاً عنه، فمسؤول مسند إلى الجار والمجرور كالمغضوب في قوله ‏{‏غير المغضوب عليهم‏}‏ يقال للإنسان‏:‏ لم سمعت ما لا يحل لك سماعه‏؟‏ ولم نظرت ما لم يحل لك النظر إليه‏؟‏ ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه‏؟‏ انتهى‏.‏ وهذا الذي ذهب إليه من أن ‏{‏عنه‏}‏ في موضع الرفع بالفاعلية، ويعني به أنه مفعول لم يسم فاعله لا يجوز لأن الجار والمجرور وما يقام مقام الفاعل من مفعول به ومصدر وظرف بشروطهما جار مجرى الفاعل، فكما أن الفاعل لا يجوز تقديمه فكذلك ما جرى مجراه وأقيم مقامه، فإذا قلت غضب على زيد فلا يجوز على زيد غضب بخلاف غضبت على زيد فيجوز على زيد غضبت‏.‏ وقد حكي الاتفاق من النحويين على أنه لا يجوز تقديم الجار والمجرور الذي يقام مقام الفاعل على الفعل أبو جعفر النحاس ذكر ذلك في المقنع من تأليفه، فليس ‏{‏عنه مسؤولاً‏}‏ كالمغضوب عليهم لتقدّم الجار والمجرور في ‏{‏عنه مسؤولاً‏}‏ وتأخيره في ‏{‏المغضوب عليهم‏}‏ وقول الزمخشري‏:‏ ولم نظرت ما لم يحل لك أسقط إلى، وهو لا يجوز إلاّ إن جاء في ضرورة شعر لأن نظر يتعدّى بإلى فكان التركيب، ولم نظرت إلى ما لم يحل لك كما قال النظر إليه فعداه بإلى‏.‏

وانتصب ‏{‏مرَحاً‏}‏ على الحال أي ‏{‏مرَحاً‏}‏ كما تقول‏:‏ جاء زيد ركضاً أي راكضاً أو على حذف مضاف أي ذا مرح، وأجاز بعضهم أن يكون مفعولاً من أجله أي ‏{‏ولا تمش في الأرض‏}‏ للمرح ولا يظهر ذلك، وتقدم أن المرح هو السرور والاغتباط بالراحة والفرح وكأنه ضمن معنى الاختيال لأن غلبة السرور والفرح يصحبها التكبر والاختيال، ولذلك بقوله علل ‏{‏إنك لن تخرق الأرض‏}‏‏.‏ وقرأت فرقة فيما حكي يعقوب‏:‏ ‏{‏مرحاً‏}‏ بكسر الراء وهو حال أي لا تمش متكبراً مختالاً‏.‏ قال مجاهد‏:‏ لن تخرق بمشيك على عقبيك كبراً وتنعماً، ‏{‏ولن تبلغ الجبال‏}‏ بالمشي على صدور قدميك تفاخراً و‏{‏طولاً‏}‏ والتأويل أن قدرتك لا تبلغ هذا المبلغ فيكون ذلك وصلة إلى الاختيال‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏لا تمش في الأرض‏}‏ مختالاً فخوراً، ونظيره‏:‏ ‏{‏وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً‏}‏ و‏{‏اقصد في مشيك ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور‏}‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏لن تخرق الأرض‏}‏ لن تجعل فيها خرقاً بدوسك لها وشدّة وطئك، ‏{‏ولن تبلغ الجبال طولاً‏}‏ بتطاولك وهو تهكُّم بالمختال‏.‏ وقرأ الجراح الأعرابي‏:‏ ‏{‏لن تخرق‏}‏ بضم الراء‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ لا تعرف هذه اللغة‏.‏ وقيل‏:‏ أشير بذلك إلى أن الإنسان محصور بين جمادين ضعيف عن التأثير فيهما بالخرق وبلوغ الطول ومن كان بهذه المثابة لا يليق به التكبر‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا *** فكم تحتها قوم هم منك أرفع

والأجود انتصاب قوله ‏{‏طولاً‏}‏ على التمييز، أي لن يبلغ طولك الجبال‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ ‏{‏طولاً‏}‏ نصب على الحال، والعامل في الحال ‏{‏تبلغ‏}‏ ويجوز أن يكون العامل تخرق، و‏{‏طولاً‏}‏ بمعنى متطاول انتهى‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ ‏{‏طولاً‏}‏ مصدر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول، ويجوز أن يكون تمييزاً ومفعولاً له ومصدراً من معنى تبلغ انتهى‏.‏ وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأبو جعفر والأعرج سيئة بالنصب والتأنيث‏.‏ وقرأ باقي السبعة والحسن ومسروق ‏{‏سيئة‏}‏ بضم الهمزة مضافاً لهاء المذكر الغائب‏.‏ وقرأ عبد الله سيئاته بالجمع مضافاً للهاء، وعنه أيضاً سيئات بغيرها، وعنه أيضاً كان خبيثه‏.‏ فأما القراءة الأولى فالظاهر أن ذلك إشارة إلى مصدري النهيين السابقين، وهما قفو ما ليس له به علم، والمشي في الأرض مرحاً‏.‏ وقيل‏:‏ إشارة إلى جميع المناهي المذكورة فيما تقدم في هذه السورة، وسيئة خبر كان وأنت ثم قال مكروهاً فذكر‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب، والاسم زال عنه حكم الصفات فلا اعتبار بتأنيثه، ولا فرق بين من قرأ سيئة ومن قرأ سيئاً، ألا تراك تقول‏:‏ الزنا سيئة كما تقول السرقة سيئة، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث انتهى‏.‏ وهو تخريج حسن‏.‏

وقيل‏:‏ ذكر ‏{‏مكروهاً‏}‏ على لفظ ‏{‏كل‏}‏ وجوزوا في ‏{‏مكروهاً‏}‏ أن يكون خبراً ثانياً لكان على مذهب من يجيز تعداد الأخبار لكان، وأن يكون بدلاً من سيئة والبدل بالمشتق ضعيف، وأن يكون حالاً من الضمير المستكن في الظرف قبله والظرف في موضع الصفة‏.‏ قيل‏:‏ ويجوز أن يكون نعتاً لسيئة لما كان تأنيثها مجازياً جاز أن توصف بمذكر، وضعف هذا بأن جواز ذلك إنما هو في الإسناد إلى المؤنث المجازي إذا تقدم، أما إذا تأخر وأسند إلى ضميرها فهو قبيح، تقول‏:‏ أبقل الأرض إبقالها فصيحاً والأرض أبقل قبيح، وأما من قرأ ‏{‏سيئة‏}‏ بالتذكير والإضافة فسيئة اسم ‏{‏كان‏}‏ و‏{‏مكروهاً‏}‏ الخبر، ولما تقدم من الخصال ما هو سيء وما هو حسن أشير بذلك إلى المجموع وأفرد سيئة وهو المنهي عنه، فالحكم عليه بالكراهة من قوله لا تجعل إلى آخر المنهيات‏.‏ وأما قراءة عبد الله فتخرج على أن يكون مما أخبر فيه عن الجمع إخبار الواحد المذكر وهو قليل نحو قوله‏:‏

فإن الحوادث أودى بها *** لصلاحية الحدثان مكان الحوادث وكذلك هذا أيضاً كان ما يسوء مكان سيئاته ذلك إشارة إلى جميع أنواع التكاليف من قوله ‏{‏لا تجعل مع الله إلها آخر‏}‏ إِلَى قَوله ‏{‏ولا تمش في الأرض مرحاً‏}‏ وهي أربعة وعشرون نوعاً من التكاليف بعضها أمر وبعضها نهي بدأها بقوله ‏{‏لا تجعل‏}‏‏.‏ واختتم الآيات بقوله ‏{‏ولا تجعل‏}‏ وقال‏:‏ مما أوحى لأن ذلك بعض مما أوحي إليه إذا أوحى إليه بتكاليف أخر، و‏{‏مما أوحى‏}‏ خبر عن ذلك، و‏{‏من الحكمة‏}‏ يجوز أن يكون متعلقاً بأوحى وأن يكون بدلاً من ما، وأن يكون حالاً من الضمير المنصوب المحذوف العائد على ما وكانت هذه التكاليف حكمة لأن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، والعقول تدل على صحتها وهي شرائع في جميع الأديان لا تقبل النسخ‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ إن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه السلام، أولها ‏{‏لا تجعل مع الله إلهاً آخر‏}‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء‏}‏ وكرر تعالى النهي عن الشرك، ففي النهي الأول‏.‏ ‏{‏فتقعد مذموماً مخذولاً‏}‏ وفي الثاني ‏{‏فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً‏}‏ والفرق بين مذموم وملوم أن كونه مذموماً أن يذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح منكر، وكونه ملوماً أن يقال له بعد الفعل وذمّه لم فعلت كذا وما حملك عليه وما استفذت منه إلاّ إلحاق الضرر بنفسك، فأول الأمر الذم وآخره اللوم، والفرق بين مخذول ومدحور أن المخذول هو المتروك إعانته ونصره والمفوض إلى نفسه، والمدحور المطرود المبعد على سبيل الإهانة له والاستخفاف به، فأول الأمر الخذلان وآخره الطرد مهاناً‏.‏

وكان وصف الذم والخذلان يكون في الدنيا ووصف اللوم والدحور يكون في الآخرة، ولذلك جاء ‏{‏فتلقى في جهنم‏}‏ والخطاب بالنهي في هذه الآيات للسامع غير الرسول‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ولقد جعل الله عز وعلا فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها، ومن عدِمَه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذَّ فيها الحكماء وحك بيافوخه السماء، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم وهم عن دين الله أضل من النعم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 44‏]‏

‏{‏أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا ‏(‏40‏)‏ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا ‏(‏41‏)‏ قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ‏(‏42‏)‏ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ‏(‏43‏)‏ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

لما نبه تعالى على فساد من أثبت لله شريكاً ونظيراً أتبعه بفساد طريقة من أثبت لله ولداً، والاستفهام معناه الإنكار والتوبيخ والخطاب لمن اعتقد أن الملائكة بنات الله ومعنى ‏{‏أفأصفاكم‏}‏ آثركم وخصكم وهذا كما قال‏:‏ أله البنات ولكم البنون ‏{‏ألكم الذكر وله الأنثى‏}‏ وهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم، فإن العبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء وأصفاها من الشوب ويكون أردؤها وأدونها للسادات‏.‏ ومعنى ‏{‏عظيماً‏}‏ مبالغاً في المنكر والقبح حيث أضفتم إليه الأولاد ثم حيث فضلتم عليه تعالى أنفسكم فجعلتم له ما تكرهون، ثم نسبة الملائكة الذين هم من شريف ما خلق إلى الأنوثة‏.‏ ومعنى ‏{‏صرّفنا‏}‏ نوَّعنا من جهة إلى جهة ومن مثال إلى مثال، والتصريف لغة صرف الشيء من جهة إلى جهة ثم صار كناية عن التبيين‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏وصرّفنا‏}‏ بتشديد الراء‏.‏ فقال‏:‏ لم نجعله نوعاً واحداً بل وعداً ووعيداً، ومحكماً ومتشابهاً، وأمراً ونهياً، وناسخاً ومنسوخاً، وأخباراً وأمثالاً مثل تصريف الرياح من صبا ودبور وجنوب وشمال، ومفعول ‏{‏صرّفنا‏}‏ على هذا المعنى محذوف وهي هذه الأشياء أي‏:‏ صرّفنا الأمثال والعبر والحكم والأحكام والأعلام‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لم ننزله مرة واحدة بل نجوماً ومعناه أكثرنا صرف جبريل إليك والمفعول محذوف أي ‏{‏صرّفنا‏}‏ جبريل‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏في‏}‏ زائدة أي ‏{‏صرّفنا‏}‏ ‏{‏هذا القرآن‏}‏ كما قال ‏{‏وأصلح لي في ذريتي‏}‏ وهذا ضعيف لأن في لا تزاد‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ يجوز أن يريد بهذا القرآن إبطال إضافتهم إلى الله البنات لأنه مما صرفه وكرر ذكره، والمعنى ولقد ‏{‏صرّفنا‏}‏ القول في هذا المعنى، وأوقعنا التصريف فيه وجعلناه مكاناً للتكرير، ويجوز أن يشير بهذا ‏{‏القرآن‏}‏ إلى التنزيل، ويريد ولقد صرفناه يعني هذا المعنى في مواضع من التنزيل، فترك الضمير لأنه معلوم انتهى‏.‏ فجعل التصريف خاصاً بما دلت عليه الآية قبله وجعل مفعول ‏{‏صرفنا‏}‏ أما القول في هذا المعنى أو المعنى وهو الضمير الذي قدره في صرفناه وغيره جعل التصريف عامّاً في أشياء فقدر ما يشمل ما سيق له ما قبله وغيره‏.‏ وقرأ الحسن بتخفيف الراء‏.‏ فقال صاحب اللوامح‏:‏ هو بمعنى العامة يعني بالعامة قراءة الجمهور، قال‏:‏ لأن فعل وفعل ربما تعاقبا على معنى واحد‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ على معنى صرفنا فيه الناس إلى الهدى بالدعاء إلى الله‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ليذّكروا‏}‏ أي ليتذكروا من التذكير، أدغمت التاء في الذال‏.‏ وقرأ الأخوان وطلحة وابن وثاب والأعمش ليذكروا بسكون الذال وضم الكاف من الذكر أو الذكر، أي ليتعظوا ويعتبروا وينظروا فيما يحتج به عليهم ويطمئنوا إليه ‏{‏وما يزيدهم‏}‏ أي التصريف ‏{‏إلاّ نفوراً‏}‏ أي بعداً وفراراً عن الحق كما قال‏:‏ ‏{‏فزادتهم رجساً إلى رجسهم‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمُر مستنفرة‏}‏

والنفور من أوصاف الدواب الشديدة الشماس، ولما ذكر تعالى نسبة الولد إليهم ورد عليهم في ذلك ذكر قولهم إنه تعالى معه آلهة وردَّ عليهم‏.‏

وقرأ ابن كثير وحفص ‏{‏كما يقولون‏}‏ بالياء من تحت، والجمهور بالتاء‏.‏ ومعنى ‏{‏لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً‏}‏ إلى مغالبته وإفساد ملكه لأنهم شركاؤه كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض‏.‏ وقال هذا المعنى أو مثله ابن جبير وأبو عليّ الفارسي والنقاش والمتكلمون أبو منصور وغيره، وعلى هذا تكون الآية بياناً للتمانع كما في قوله ‏{‏لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا‏}‏ ويأتي تفسيرها إن شاء الله تعالى‏.‏ وقال قتادة ما معناه‏:‏ لابتغوا إلى التقرب إلى ذي العرش والزلفى لديه، وكانوا يقولون‏:‏ إن الأصنام تقربهم إلى الله فإذا علموا أنها تحتاج إلى الله فقد بطل كونها آلهة، ويكون كقوله ‏{‏أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة‏}‏ أيهم أقرب، والكاف من ‏{‏كما‏}‏ في موضع نصب‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ متعلقة بما تعلقت به مع وهو الاستقرار و‏{‏معه‏}‏ خبر كان‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ كوناً لقولكم‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ و‏{‏إذاً‏}‏ دالة على أن ما بعدها وهو ‏{‏لابتغوا‏}‏ جواب عن مقالة المشركين وجزاء للو انتهى‏.‏ وعطف ‏{‏وتعالى‏}‏ على قوله ‏{‏سبحانه‏}‏ لأنه اسم قام مقام المصدر الذي هو في معنى الفعل، أي براءة الله وقدر تنزه وتعالى يتعلق به على سبيل الأعمال إذ يصح لسبحان أن يتعلق به عن كما في قوله ‏{‏سبحان ربك رب العزة عما يصفون‏}‏ والتعالي في حقه تعالى هو بالمكانة لا بالمكان‏.‏ وقرأ الإخوان‏:‏ عما تقولون بالتاء من فوق وباقي السبعة بالياء‏.‏ وانتصب ‏{‏علوّاً‏}‏ على أنه مصدر على غير الصدر أي تعالياً ووصف تكبيراً مبالغة في معنى البراءة والبعد عما وصفوه به لأن المنافاة بين الواجب لذاته والممكن لذاته، وبين القديم والمحدث، وبين الغني والمحتاج منافاة لا تقبل الزيادة، ونسبة التسبيح للسموات والأرض ومن فيهن من ملك وإنس وجن حمله بعضهم على النطق بالتسبيح حقيقة، وأن ما لا حياة فيه ولا نمو يحدث الله له نطقاً وهذا هو ظاهر اللفظ، ولذلك جاء ‏{‏ولكن لا تفقهون تسبيحهم‏}‏‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ما كان من نام حيوان وغيره يسبح حقيقة، وبه قال عكرمة قال‏:‏ الشجرة تسبّح والأسطوانة لا تسبّح‏.‏

وسئل الحسن عن الخوان أيسبّح‏؟‏ فقال‏:‏ قد كان تسبّح مرة يشير إلى أنه حين كان شجرة كان يسبّح، وحين صار خواناً مدهوناً صار جماداً لا يسبّح‏.‏ وقيل‏:‏ التسبيح المنسوب لما لا يعقل مجاز ومعناه أنها تسبّح بلسان الحال حيث يدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته وكماله، فكأنها تنطق بذلك وكأنها تنزه الله عما لا يجوز عليه من الشركاء وغيرها‏.‏ ويكون قوله‏:‏ ‏{‏ولكن لا تفقهون تسبيحهم‏}‏ خطاباً للمشركين، وهم وإن كانوا معترفين بالخالق أنه الله لكنهم لما جعلوا معه آلهة لم ينظروا ولم يقروا لأن نتيجة النظر الصحيح والإقرار الثابت خلاف ما كانوا عليه، فإذا لم يفقهوا التسبيح ولم يستوضحوا الدلالة على الخالق فيكون التسبيح المسند إلى السموات والأرض ومن فيهن على سبيل المجاز قدراً مشتركاً بين الجميع، وإن كان يصدر التسبيح حقيقة ممن فيهن من ملك وإنس وجان ولا يحمل نسبته إلى السموات والأرض على المجاز، ونسبته إلى الملائكة والثقلين على الحقيقة لئلا يكون جمعاً بين المجاز والحقيقة بلفظ واحد‏.‏

وقال ابن عطية ثم أعاد على السموات والأرض ضمير من يعقل لما أسند إليها فعل العاقل وهو التسبيح انتهى‏.‏ ويعنى بالضمير في قوله ‏{‏ومن فيهن‏}‏ وكأنه تخيل أن هن لا يكون إلاّ لمن يعقل من المؤنثات وليس كما تخيل بل هن يكون ضمير الجمع المؤنث مطلقاً‏.‏ وقرأ النحويان وحزة وحفص‏:‏ تسبّح بالتاء من فوق وباقي السبعة بالياء، وفي بعض المصاحف سبّحت له السموات بلفظ الماضي وتاء التأنيث وهي قراءة عبد الله والأعمش وطلحة بن مصرف‏.‏ ‏{‏إنه كان حليماً‏}‏ حيث لا يعاجلكم بالعقوبة على سوء نظركم ‏{‏غفوراً‏}‏ إن رجعتم ووحدتم الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 49‏]‏

‏{‏وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ‏(‏45‏)‏ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ‏(‏46‏)‏ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ‏(‏47‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ‏(‏48‏)‏ وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ‏(‏49‏)‏‏}‏

نزلت ‏{‏وإذا قرأت القرآن‏}‏ في أبي سفيان والنضر وأبي جهل وأم جميل امرأة أبي لهب، كانوا يؤذون الرسول إذا قرأ القرآن، فحجب الله أبصارهم إذا قرأ فكانوا يمرون به ولا يرونه قاله الكلبي‏:‏ ‏"‏ وعن ابن عباس نزلت في امرأة أبي لهب، دخلت منزل أبي بكر وبيدها فهر والرسول صلى الله عليه وسلم عنده، فقالت‏:‏ هجاني صاحبك، قال‏:‏ ما هو بشاعر، قالت‏:‏ قال ‏{‏في جيدها حبل من مسد‏}‏ وما يدريه ما في جيدي‏؟‏ فقال لأبي بكر‏:‏ «سلها هل ترى غيرك فإن ملكاً لم يزل يسترني عنها» فسألها فقالت‏:‏ أتهزأ بي ما أرى غيرك‏؟‏ فانصرفت ولم تر الرسول صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وقيل‏:‏ نزلت في قوم من بني عبد الدار كانوا يؤذونه في الليل إذا صلى وجهر بالقراءة، فحال الله بينهم وبين أذاه‏.‏

ولما تقدّم الكلام في تقرير الإلهية جاء بعده تقرير النبوة وذكر شيء من أحوال الكفرة في إنكارها وإنكار المعاد، والمعنى وإذا شرعت في القراءة وليس المعنى على الفراغ من القراءة بل المعنى على أنك إذا التبست بقراءة القرآن ولا يراد بالقرآن جميعه بل ما ينطلق عليه الاسم، فإنك تقول لمن يقرأ شيئاً من القرآن هذا يقرأ القرآن، والظاهر أن القرآن هنا هو ما قرئ من القرآن أي شيء كان منه‏.‏ وقيل‏:‏ ثلاث آيات منه معينة وهي في النحل ‏{‏أولئك الذين طبع‏}‏ إِلى ‏{‏الغافلون‏}‏ وفي الكهف ‏{‏ومن أظلم‏}‏ إِلى ‏{‏إذا أبدا‏}‏ وفي الجاثية ‏{‏أفرأيت من اتخذ إلهه هواه‏}‏ إِلى ‏{‏أفلا تتذكرون‏}‏ وعن كعب أن الرسول كان يستتر بهذه الآيات، وعن ابن سيرين أنه عينها له هاتف من جانب البيت، وعن بعضهم أنه أسر زماناً ثم اهتدى قراءتها فخرج لا يبصره الكفار وهم يتطلبونه تمس ثيابهم ثيابه‏.‏ قال القرطبي‏:‏ ويزاد إلى هذه الآي أول يس إلى ‏{‏فهم لا يبصرون‏}‏ ففي السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين نام على فراشه خرج ينثر التراب على رؤوس الكفار فلا يرونه وهو يتلو هذه الآيات من يس، ولم يبق أحد منهم إلاّ وضع على رأسه تراباً‏.‏ والظاهر أن المعنى جعلنا بين رؤيتك وبين أبصار الذين لا يؤمنون بالآخرة كما ورد في سبب النزول‏.‏

وقال قتادة والزجّاج وجماعة ما معناه‏:‏ ‏{‏جعلنا‏}‏ بين فهم ما تقرأ وبينهم ‏{‏حجاباً‏}‏ فلا يقرون بنبوتك ولا بالبعث، فالمعنى قريب من الآية بعدها، والظاهر إقرار ‏{‏مستوراً‏}‏ على موضوعه من كونه اسم مفعول أي ‏{‏مستوراً‏}‏ عن أعين الكفار فلا يرونه، أو ‏{‏مستوراً‏}‏ به الرسول عن رؤيتهم‏.‏ ونسب الستر إليه لما كان مستوراً به قاله المبرد، ويؤول معناه إلى أنه ذو ستر كما جاء في صيغة لابن وتامر أي ذو لبن وذو تمر‏.‏ وقالوا‏:‏ رجل مرطوب أي ذو رطبة ولا يقال رطبته، ومكان مهول أي ذو هول، وجارية مغنوجة ولا يقال هلت المكان ولا غنجت الجارية‏.‏

وقال الأخفش وجماعة ‏{‏مستوراً‏}‏ ساتراً واسم الفاعل قد يجيء بلفظ المفعول كما قالوا مشؤوم وميمون يريدون شائم ويامن‏.‏ وقيل‏:‏ مستور وصف على جهة المبالغة كما قالوا شعر شاعر، وردّ بأن المبالغة إنما تكون باسم الفاعل ومن لفظ الأول ‏{‏وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً‏}‏ تقدم تفسيره في أوائل الأنعام ‏{‏وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده‏}‏‏.‏ قيل‏:‏ ‏"‏ دخل ملأ قريش على أبي طالب يزورونه، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ ومر بالتوحيد، ثم قال‏:‏ «يا معشر قريش قولوا لا إله إلاّ الله تملكون بها العرب وتدين لكم العجم» فولوا وأنفروا ‏"‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ والظاهر أن الآية في حال الفارّين عند وقت قراءته ومروره بتوحيد الله، والمعنى إذا جاءت مواضع التوحيد فرّ الكفار إنكاراً له واستبشاعاً لرفض آلهتهم واطّراحها‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ وحد يحد وحداً وحدة نحو وعد يعد وعداً وعدة و‏{‏وحده‏}‏ من باب رجع عوده على بدئه وافعله جهدك وطاقتك في أنه مصدر ساد مسدّ الحال، أصله يحد وحده بمعنى واحداً انتهى‏.‏ وما ذهب إليه من أن ‏{‏وحده‏}‏ مصدر ساد مسد الحال خلاف مذهب سيبويه و‏{‏وحده‏}‏ عند سيبويه ليس مصدراً بل هو اسم وضع موضع المصدر الموضوع موضع الحال، فوحده عنده موضوع موضع إيحاد، وإيحاد موضوع موضع موحد‏.‏ وذهب يونس إلى أن ‏{‏وحده‏}‏ منصوب على الظرف، وذهب قوم إلى أنه مصدر لا فعل له، وقوم إلى أنه مصدر لأوحد على حذف الزيادة، وقوم إلى أنه مصدر لوحد كما ذهب إليه الزمخشري وحجج هذه الأقوال مذكورة في كتب النحو‏.‏ وإذا ذكرت ‏{‏وحده‏}‏ بعد فاعل ومفعول نحو ضربت زيداً فمذهب سيبويه أنه حال من الفاعل، أي موحداً له بالضرب، ومذهب المبرد أنه يجوز أن يكون حالاً من المفعول فعلى مذهب سيبويه يكون التقدير ‏{‏وإذا ذكرت ربك‏}‏ موحداً له بالذكر وعلى مذهب أبي العباس يجوز أن يكون التقدير موحداً بالذكر‏.‏

و ‏{‏نفوراً‏}‏ حال جمع نافر كقاعد وقعود، أو مصدر على غير المصدر لأن معنى ‏{‏ولوا‏}‏ نفروا، والظاهر عود الضمير في ‏{‏ولوا‏}‏ على الكفار المتقدم ذكرهم‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ هو ضمير الشياطين لأنهم يفرون من القرآن دل على ذلك المعنى وإن لم يجر لهم ذكر‏.‏ وقال أبو الحوراء أوس بن عبد الله‏:‏ ليس شيء أطرد للشيطان من القلب من لا إله إلاّ الله ثم تلا ‏{‏وإذا ذكرت‏}‏ الآية‏.‏ وقال علي بن الحسين‏:‏ هو البسملة ‏{‏نحن أعلم بما يستمعون به‏}‏ أي بالاستخفاف الذي يستمعون به والهزء بك واللغو، كان إذا قرأ صلى الله عليه وسلم قام رجلان من بني عبد الله عن يمينه ورجلان منهم عن يساره، فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار‏.‏

وبما متعلق بأعلم، وما كان في معنى العلم والجهل وإن كان متعدياً لمفعول بنفسه فإنه إذا كان في باب أفعل في التعجب، وفي أفعل التفضيل تعدى بالباء تقول‏:‏ ما أعلم زيداً بكذا وما أجهله بكذا، وهو أعلم بكذا وأجهل بكذا بخلاف سائر الأفعال المتعدية لمفعول بنفسه، فإنه يتعدى في أفعل في التعجب وأفعل التفضيل باللام، تقول‏:‏ ما أضرب زيداً لعمرو وزيد أضرب لعمرو من بكر‏.‏ وبه قال الزمخشري في موضع الحال كما تقول‏:‏ يستمعون بالهزء أي هازئين ‏{‏وإذ يستمعون‏}‏ نصب بأعلم أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون وبما به يتناجون، إذ هم ذوو نجوى ‏{‏إذ يقول‏}‏ بدل من ‏{‏إذ هم‏}‏ انتهى‏.‏

وقال الحوفي‏:‏ لم يقل يستمعونه ولا يستمعونك لما كان الغرض ليس الإخبار عن الاستماع فقط، وكان مضمناً أن الاستماع كان على طريق الهزء بأن يقولوا‏:‏ مجنون أو مسحور، جاء الاستماع بالباء وإلى ليعلم أن الاستماع ليس المراد به تفهم المسموع دون هذا المقصد ‏{‏إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى‏}‏ فإذا الأولى تتعلق بيستمعون به وكذا ‏{‏وإذ هم نجوى‏}‏ لأن المعنى نحن أعلم بالذي يستمعون به إليك وإلى قراءتك وكلامك إنما يستمعون لسقطك وتتبع عيبك والتماس ما يطعنون به عليك، يعني في زعمهم ولهذا ذكر تعديته بالباء وإلى انتهى‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ يستمعون به‏.‏ قيل‏:‏ الباء بمعنى اللام، لا وإذ ظرف ليستمعون الأولى، والنجوى مصدر، ويجوز أن يكون جمع نجى كقتيل وقتلى، وإذ بدل من ‏{‏إذ‏}‏ الأولى‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير اذكر إذ تقول‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ الضمير في به عائد على ما هو بمعنى الذي، والمراد الاستخفاف والإعراض فكأنه قال‏:‏ نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به أي هو ملازمهم، ففضح الله بهذه الآية سرهم والعامل في ‏{‏إذ‏}‏ الأولى وفي المعطوف ‏{‏يستمعون‏}‏ الأولى انتهى‏.‏ تناجوا فقال النضر‏:‏ ما أفهم ما تقول، وقال أبو سفيان‏:‏ أرى بعضه حقاً، وقال أبو جهل‏:‏ مجنون، وقال أبو لهب‏:‏ كاهن، وقال حويطب‏:‏ شاعر، وقال بعضهم‏:‏ أساطير الأولين، وبعضهم إنما يعلمه بشر، وروي أن تناجيهم كان عند عتبة دعا أشراف قريش إلى طعام فدخل عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله‏.‏ فتناجوا يقولون ساحر مجنون، والظاهر أن ‏{‏مسحوراً‏}‏ من السحر أي خبل عقله السحر‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ مخدوعاً نحو ‏{‏فأنى تسحرون‏}‏ أي تخدعون‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ ‏{‏مسحوراً‏}‏ معناه أن له سحراً أي رئة فهو لا يستغني عن الطعام والشراب فهو مثلكم وليس بملك، وتقول العرب للجبان‏:‏ قد انتفخ سحره ولكل من أكل أو شرب من آدمي وغيره مسحور‏.‏ قال‏:‏

أرانا موضعين لأمر غيب *** ونسحر بالطعام والشراب

أي نغذى ونعلل ونسحر‏.‏ قال لبيد‏:‏

فإن تسألينا فيم نحن فإننا *** عصافير من هذا الأنام المسحر

قال ابن قتيبة‏:‏ لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ الآية التي بعد هذا تقوي أن اللفظة من السحر بكسر السين لأن في قولهم ضرب مثل، وأما على أنها من السحر الذي هو الرئة ومن التغذي وأن تكون الإشارة إلى أنه بشر فلم يضرب له في ذلك مثل بل هي صفة حقيقة له، و‏{‏الأمثال‏}‏ تقدم ما قالوه في تناجيهم وكان ذلك منهم على جهة التسلية والتلبيس، ثم رأى الوليد بن المغيرة أن أقربها لتخييل الطارئين عليهم هو أنه ساحر فضلوا في جميع ذلك ضلال من يطلب فيه طريقاً يسلكه فلا يقدر عليه، فهو متحير في أمره عليهم فلا يستطيعون سبيلاً إلى الهدى والنظر المؤدي إلى الإيمان، أو سبيلاً إلى إفساد أمرك وإطفاء نور الله بضربهم الأمثال واتّباعهم كل حيلة في جهتك‏.‏

وحكى الطبري أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه ‏{‏وقالوا‏:‏ أئذا كنا‏}‏ هذا استفهام تعجب وإنكار واستبعاد لما ضربوا له الأمثال وقالوا عنه إنه مسحور ذكروا ما استدلوا به على زعمهم على اتصافه بما نسبوا إليه، واستبعدوا أنه بعدما يصير الإنسان رفاتاً يحييه الله ويعيده، وقد رد عليهم ذلك بأنه تعالى هو الذي فطرهم بعد العدم الصرف على ما يأتي شرحه في الآية بعد هذا، ومن قرأ من القراء إذاً وإنّا معاً أو إحداهما على صورة الخبر فلا يريد الخبر حقيقة لأن ذلك كان يكون تصديقاً بالبعث والنشأة الآخرة، ولكنه حذف همزة الاستفهام لدلالة المعنى‏.‏ وفي الكلام حذف تقديره إذا كنا تراباً وعظاماً نبعث أو نعاد، وحذف لدلالة ما بعده عليه وهذا المحذوف هو جواب الشرط عند سيبويه، والذي تعلق به الاستفهام وانصب عليه عند يونس وخلقاً حال وهو في الأصل مصدر أطلق على المفعول أي مخلوقاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 52‏]‏

‏{‏قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ‏(‏50‏)‏ أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا ‏(‏51‏)‏ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏52‏)‏‏}‏

الجديد معروف‏.‏ نغضت سنه‏:‏ تحركت قال‏.‏ ونغضت من هرم أسنانها‏.‏ تنغض وتنغض نغضاً ونغوضاً، وأنغض رأسه حركه برفع وخفض‏.‏ قال‏:‏

لما رأتني انغضت لي الرأسا *** وقال الآخر‏:‏

أنغض نحوي رأسه وأقنعا *** كأنه يطلب شيئاً أطعما

وقال الفراء‏:‏ أنغض رأسه حركه إلى فوق وإلى أسفل‏.‏ وقال أبو الهيثم‏:‏ إذا أخبر بشيء فحرك رأسه إنكاراً له فقد أنغض رأسه‏.‏ وقال ذو الرمّة‏:‏

ظعائن لم يسكنّ أكناف قرية *** بسيف ولم ينغض بهن القناطر

‏{‏قل كونوا حجارة أو حديداً أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً‏}‏‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ لما قالوا ‏{‏أئذا كنا عظاماً‏}‏ قيل لهم ‏{‏كونوا حجارة أو حديداً‏}‏ فردّ قوله ‏{‏كونوا‏}‏ على قولهم ‏{‏كنا‏}‏ كأنه قيل ‏{‏كونوا حجارة أو حديداً‏}‏ ولا تكونوا عظاماً فإنه يقدر على إحيائكم‏.‏ والمعنى أنكم تستبعدون أن يجدد الله خلقكم ويرده إلى حال الحياة وإلى رطوبة الحي وغضاضته بعدما كنتم عظاماً يابسة، مع أن العظام بعض أجزاء الحي بل هي عمود خلقه الذي يبنى عليه سائره، فليس ببدع أن يردها الله بقدرته إلى حالتها الأولى، ولكن لو كنتم أبعد شيء من الحياة ورطوبة الحي ومن جنس ما ركب به البشر، وهو أن تكونوا ‏{‏حجارة‏}‏ يابسة ‏{‏أو حديداً‏}‏ مع أن طباعها القساوة والصلابة لكان قادراً على أن يردكم إلى حال الحياة ‏{‏أو خلقاً مما يكبر‏}‏ عندكم عن قبول الحياة، ويعظم في زعمكم على الخالق احياؤه فإنه يحييه‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ كونوا إن استطعتم هذه الأشياء الصعبة الممتنعة التأتي لا بد من بعثكم‏.‏ وقوله ‏{‏كونوا‏}‏ هو الذي يسميه المتكلمون التعجيز من أنواع أفعل، وبهذه الآية مثل بعضهم وفي هذا عندي نظر وإنما التعجيز حيث يقتضي بالأمر فعل ما لا يقدر عليه المخاطب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فادرؤوا عن أنفسكم الموت‏}‏ ونحوه‏.‏ وأما هذه الآية فمعناها كونوا بالتوهم والتقدير كذا وكذا ‏{‏الذي فطركم‏}‏ كذلك هو يعيدكم انتهى‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ المعنى ‏{‏كونوا‏}‏ ما شئتم فستعادون‏.‏ وقال النحاس‏:‏ هذا قول حسن لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا حجارة وإنما المعنى أنهم قد أقروا بخالقهم وأنكروا البعث فقيل لهم استشعروا أن تكونوا ما شئتم، فلو كنتم ‏{‏حجارة أو حديداً‏}‏ لبعثتم كما خلقتم أول مرة انتهى‏.‏

‏{‏أو خلقا مما يكبر في صدوركم‏}‏ صلابته وزيادته على قوة الحديد وصلابته، ولم يعينه ترك ذلك إلى أفكارهم وجولانها فيما هو أصلب من الحديد، فبدأ أولاً بالصلب ثم ذكر على سبيل الترقي الأصلب منه ثم الأصلب من الحديد، أي افرضوا ذواتكم شيئاً من هذه فإنه لا بد لكم من البعث على أي حال كنتم‏.‏

وقال ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمر والحسن وابن جبير والضحاك الذي يكبر الموت، أي لو كنتم الموت لأماتكم ثم أحياكم‏.‏ وهذا التفسير لا يتم إلاّ إذا أريد المبالغة لا نفس الأمر، لأن البدن جسم والموت عرض ولا ينقلب الجسم عرضاً ولو فرض انقلابه عرضاً لم يكن ليقبل الحياة لأجل الضدية‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الذي يكبر السموات والأرض والجبال ولما ذكر أنهم لو كانوا أصلب شيء وأبعده من حلول الحياة به كان خلق الحياة فيه ممكناً‏.‏ قالوا‏:‏ من الذي هو قادر على صيرورة الحياة فينا وإعادتنا فنبههم على ما يقتضي الإعادة، وهو أن الذي أنشأكم واخترعكم أول مرة هو الذي يعيدكم و‏{‏الذي‏}‏ مبتدأ وخبره محذوف التقدير ‏{‏الذي فطركم أول مرة‏}‏ يعيدكم فيطابق الجواب السؤال، ويجوز أن يكون فاعلاً أي يعيدكم الذي فطركم، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ، أي معيدكم الذي فطركم و‏{‏أول مرة‏}‏ ظرف العامل فيه ‏{‏فطركم‏}‏ قاله الحوفي‏.‏

‏{‏فسينغضون‏}‏ أي يحركونها على سبيل التكذيب والاستبعاد، ويقولون‏:‏ متى هو‏؟‏ أي متى العود‏؟‏ ولم يقولوا ذلك على سبيل التسليم للعود‏.‏ ولكن حيدة وانتقالاً لما لا يسأل عنه لأن ما يثبت إمكانه بالدليل العقلي لا يسأل عن تعيين وقوعه، ولكن أجابهم عن سؤالهم بقرب وقوعه لا بتعيين زمانه لأن ذلك مما استأثر الله تعالى بعلمه، واحتمل أن يكون في ‏{‏عسى‏}‏ إضمار أي ‏{‏عسى‏}‏ هو أي العود، واحتمل أن يكون مرفوعها ‏{‏أن يكون‏}‏ فتكون تامة‏.‏ و‏{‏قريباً‏}‏ يحتمل أن يكون خبر كان على أنه يكون العود متصفاً بالقرب، ويحتمل أن يكون ظرفاً أي زماناً قريباً وعلى هذا التقدير يوم ندعوكم بدلاً من قريباً‏.‏

وقال أبو البقاء‏:‏ ‏{‏يوم يدعوكم‏}‏ ظرف ليكون، ولا يجوز أن يكون ظرفاً لاسم كان وإن كان ضمير المصدر لأن الضمير لا يعمل انتهى‏.‏ أما كونه ظرفاً ليكون فهذا مبنيّ على جواز عمل كان الناقصة في الظرف وفيه خلاف‏.‏ وأما قوله لأن الضمير لا يعمل فهو مذهب البصريين، وأما الكوفيون فيجيزون أن يعمل نحو مروري بزيد حسن وهو بعمرو قبيح، يعلقون بعمرو بلفظ هو أي ومروري بعمرو قبيح‏.‏ والظاهر أن الدعاء حقيقة أي ‏{‏يدعوكم‏}‏ بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة كما قال ‏{‏يوم ينادي المناد من مكان قريب‏}‏ الآية ويقال‏:‏ إن إسرافيل عليه السلام ينادي أيتها الأجسام البالية والعظام النخِرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت‏.‏ وروي في الحديث أنه قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم» ومعنى ‏{‏فتستجيبون‏}‏ توافقون الداعي فيما دعاكم إليه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ الدعاء والاستجابة كلاهما مجاز، والمعنى يوم يبعثكم فتنبعثون مطاوعين منقادين لا تمتنعون انتهى‏.‏ والظاهر أن الخطاب للكفار إذ الكلام قبل ذلك معهم فالضمير لهم و‏{‏بحمده‏}‏ حال منهم‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ وهي مبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بركوب ما يشق عليه فيتأبى ويمتنع ستركبه وأنت حامد شاكر، يعني أنك تحمل عليه وتقسر قسراً حتى أنك تلين لين المسمح الراغب فيه الحامد عليه‏.‏ وعن سعيد بن جبير ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون‏:‏ سبحانك اللهم وبحمدك انتهى‏.‏ وذلك لما ظهر لهم من قدرته‏.‏

وقيل‏:‏ معنى ‏{‏بحمده‏}‏ أن الرسول قائل ذلك لا أنهم يكون بحمده حالاً منهم فكأنه قال‏:‏ عسى أن تكون الساعة قريبة يوم يدعوكم فتقومون بخلاف ما تعتقدون الآن، وذلك بحمد الله على صدق خبري كما تقول لرجل خصمته أو حاورته في علم‏:‏ قد أخطأت بحمد الله فبحمد الله ليس حالاً من فاعل أخطأت، بل المعنى أخطأت والحمد لله‏.‏ وهذا معنى متكلف نحا إليه الطبري وكان ‏{‏بحمده‏}‏ يكون اعتراضاً إذ معناه والحمد لله‏.‏ ونظيره قول الشاعر‏:‏

فإني بحمد الله لا ثوبَ فاجرٍ *** لبست ولا من غدرةٍ أتقنع

أي فإني والحمد لله فهذا اعتراض بين اسم إن وخبرها، كما أن ‏{‏بحمده‏}‏ اعتراض بين المتعاطفين ووقع في لفظ ابن عطية حين قرر هذا المعنى قوله‏:‏ عسى أن الساعة قريبة وهو تركيب لا يجوز، لا تقول عسى أن زيداً قائم بخلاف عسى أن يقوم زيد، وعلى أن يكون ‏{‏بحمده‏}‏ حالاً من ضمير ‏{‏فتستجيبون‏}‏‏.‏ قال المفسرون‏:‏ حمدوا حين لا ينفعهم الحمد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ معناه بمعرفته وطاعته ‏{‏وتظنون إن لبثتم إلاّ قليلاً‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ بين النفختين الأولى والثانية فإنه يزال عنهم العذاب في ذلك الوقت، ويدل عليه من بعثنا من مرقدنا هذا فهذا عائد إلى ‏{‏لبثهم‏}‏ فيما بين النفختين‏.‏ وقال الحسن‏:‏ تقريب وقت البعث فكأنك بالدنيا ولم تكن وبالآخرة لم تزل فهذا يرجع إلى استقلال مدة اللبث في الدنيا‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏وتظنون‏}‏ وترون الهول فعنده تستقصرون مدة لبثكم في الدنيا وتحسبونها يوماً أو بعض يوم، وعن قتادة تحاقرت الدنيا في أنفسهم حين عاينوا الآخرة انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ استقلوا لبثهم في عرصة القيامة لأنه لما كانت عاقبة أمرهم الدخول إلى النار استقصروا مدة لبثهم في برزخ القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ تم الكلام عند قوله ‏{‏قل عسى أن يكون قريباً‏}‏‏.‏

و ‏{‏يوم يدعوكم‏}‏ خطاب مع المؤمنين لا مع الكافرين لأنهم يستجيبون لله ‏{‏بحمده‏}‏ يحمدونه على إحسانه إليهم فلا يليق هذا إلاّ بهم‏.‏ وقيل‏:‏ يحمده المؤمن اختياراً والكافر اضطراراً، وهذا يدل على أن الخطاب للكافر والمؤمن وهو الذي يدل عليه ما روي عن ابن جبير، وإذا كان الخطاب للكفار وهو الظاهر فيحمل أن يكون الظن على بابه فيكون لما رجعوا إلى حالة الحياة وقع لهم الظن أنهم لم ينفصلوا عن الدنيا إلاّ في زمن قليل إذ كانوا في ظنهم نائمين، ويحتمل أن يكون بمعنى اليقين من حيث علموا أن ذلك منقض متصرم‏.‏ والظاهر أن ‏{‏وتظنون‏}‏ معطوف على تستجيبون وقاله الحوفي‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ أي وأنتم ‏{‏تظنون‏}‏ والجملة حال انتهى‏.‏ وأن هنا نافية، ‏{‏وتظنون‏}‏ معلق عن العمل فالجملة بعده في موضع نصب، وقلما ذكر النحويون في أدوات التعليق أن النافية، ويظهر أن انتصاب قليلاً على أنه نعت لزمان محذوف أي إلاّ زمن قليلاً‏.‏ كقوله ‏{‏قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم‏}‏ ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف أي لبثاً قليلاً ودلالة الفعل على مصدره دلالة قوية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 55‏]‏

‏{‏وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ‏(‏53‏)‏ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ‏(‏54‏)‏ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

قيل‏:‏ سبب نزولها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شتمه بعض الكفرة، فسبه عمر وهم بقتله فكاد يثير فتنة فنزلت الآية وهي منسوخة بآية السيف، وارتباطها بما قبلها أنه لما تقدم ما نسب الكفار لله تعالى من الولد، ونفورهم عن كتاب الله إذا سمعوه، وإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم ونسبته إلى أنه مسحور، وإنكار البعث كان ذلك مدعاة لإيذاء المؤمنين ومجلبة لبغض المؤمنين إياهم ومعاملتهم بما عاملوهم، فأمر الله تعالى نبيه أن يوصي المؤمنين بالرفق بالكفار واللطف بهم في القول، وأن لا يعاملوهم، بمثل أفعالهم وأقوالهم، فعلى هذا يكون المعنى ‏{‏قل لعبادي‏}‏ المؤمنين ‏{‏يقولوا‏}‏ للمشركين الكلم ‏{‏التي هي أحسن‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ‏{‏يقولوا‏}‏ أي يقول بعض المؤمنين لبعض الكلم التي هي أحسن أي يجل بعضهم بعضاً ويعظمه، ولا يصدر منه إلاَّ الكلام الطيب والقول الجميل، فيكونوا مثل المشركين في معاملة بعضهم بعضاً بالتهاجي والسباب والحروب والنهب للأموال والسبي للنساء والذراري‏.‏

وقيل‏:‏ عبادي هنا المشركون إذا المقصود هنا الدعاء إلى الإسلام، فخوطبوا بالخطاب الحسن ليكون ذلك سبباً إلى قبول الدين فكأنه قيل‏:‏ قل للذين أقروا أنهم عباد لي يقولوا ‏{‏التي هي أحسن‏}‏ وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن الولد واتخاذ الملائكة بنات فإن ذلك من نزغ الشيطان ووسوسته وتحسينه‏.‏ وقيل‏:‏ عبادي شامل للفريقين المؤمنين والكافرين على ما يأتي تفسير ‏{‏التي هي أحسن‏}‏ والذي يظهر أن لفظة عبادي مضافة إليه تعالى كثر استعمالها في المؤمنين في القرآن كقوله ‏{‏فبشر عبادي الذين يستمعون القول‏}‏ ‏{‏فادخلي في عبادي‏}‏ عيناً ‏{‏يشرب بها عباد الله‏}‏

و ‏{‏قل‏}‏ خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أمر، ومعمول القول محذوف تقديره قولوا ‏{‏التي هي أحسن‏}‏ وانجزم ‏{‏يقولوا‏}‏ على أنه جواب للأمر الذي هو قل قاله الأخفش، وهو صحيح المعنى على تقدير أن يكون عبادي يراد به المؤمنون لأنهم لمسارعتهم لامتثال أمر الله تعالى بنفس ما يقول لهم ذلك قالوا ‏{‏التي هي أحسن‏}‏‏.‏ وعن سيبويه إنه انجزم على جواب لشرط محذوف، أي إن يقل لهم ‏{‏يقولوا‏}‏ فيكون في قوله حذف معمول القول وحذف الشرط الذي ‏{‏يقولوا‏}‏ جوابه‏.‏ وقال المبرد‏:‏ انجزم جواباً للأمر الذي هو معمول ‏{‏قل‏}‏ أي قولوا ‏{‏التي هي أحسن‏}‏ ‏{‏يقولوا‏}‏‏.‏ وقيل معمول ‏{‏قل‏}‏ مذكور لا محذوف وهو ‏{‏يقولوا‏}‏ على تقدير لام الأمر وهو مجزوم بها قاله الزجّاج‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏يقولوا‏}‏ مبني وهو مضارع حل محل المبني الذي هو فعل الأمر فبني، والمعنى ‏{‏قل لعبادي‏}‏ قولوا قاله المازني، وهذه الأقوال جرت في قوله ‏{‏قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة‏}‏ وترجيح ما ينبغي أن يرجح مذكور في علم النحو‏.‏

و ‏{‏التي هي أحسن‏}‏ قالت فرقة منهم ابن عباس هي قول لا إله إلاّ الله‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ ويلزم على هذا أن يكون قوله ‏{‏لعبادي‏}‏ يريد به جميع الخلق لأن جميعهم مدعو إلى لا إله إلاّ الله‏.‏ ويجيء قوله بعد ذلك ‏{‏إن الشيطان ينزغ بينهم‏}‏ غير مناسب للمعنى إلاّ على تكبره بأن يجعل بينهم بمعنى خلالهم وأثناءهم ويجعل النزغ بمعنى الوسوسة والإملال‏.‏ وقال الحسن يرحمك الله يغفر الله لك، وعنه أيضاً الأمر بامتثال الأوامر واجتناب المناهي‏.‏ وقيل القول للمؤمن يرحمك الله وللكافر هداك الله‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ وهي المحاورة الحسنى بحسب معنى معنى‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فسر ‏{‏التي هي أحسن‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم‏}‏ يعني يقول لهم هذه الكلمة ونحوها ولا تقولوا لهم أنكم من أهل النار وأنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن الشيطان ينزغ بينهم‏}‏ اعتراض بمعنى يلقي بينهم الفساد ويغري بعضهم على بعض ليقع بينهم المشارّة والمشاقة‏.‏

وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه‏:‏ إذا أردتم الحجة على المخالف فاذكروها بالطريق الأحسن وهو أن لا يخلط بالسب كقوله ‏{‏ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن‏}‏ ‏{‏ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن‏}‏ وخلط الحجة بالسب سبب للمقابلة بمثله، وتنفير عن حصول المقصود من إظهار الحجة وتأثيرها، ثم نبه على هذا الطريق بقوله‏:‏ ‏{‏إن الشيطان ينزغ بينهم‏}‏ جامعاً للفريقين أي متى امتزجت الحجة بالإيذاء كانت الفتنة انتهى‏.‏ وقرأ طلحة ‏{‏ينزغ‏}‏ بكسر الزاي‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ لعلها لغة والقراءة بالفتح‏.‏ وقال صاحب اللوامح‏:‏ هي لغة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ هما لغتان نحو يعرشون ويعرشون انتهى‏.‏ ولو مثل بينطح وينطح كان أنسب وبين تعالى سبب النزغ وهي العداوة القائمة لأبيهم آدم قبلهم وقوله ‏{‏ثم لآتينهم من بين أيديهم‏}‏ الآية وغيرها من الآيات الدالة على تسلطه على الإنسان وابتغاء الغوائل المهلكة له‏.‏ والخطاب بقوله ‏{‏ربكم‏}‏ إن كان للمؤمنين فالرحمة الإنجاء من كفار مكة وأذاهم والتعذيب تسليطهم عليهم‏.‏

‏{‏وما أرسلناك عليهم‏}‏ أي على الكفار حافظاً وكفيلاً فاشتغل أنت بالدعوة وإنما هدايتهم إلى الله‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏يرحمكم‏}‏ بالهداية إلى التوفيق والأعمال الصالحة، وإن شاء عذبكم بالخذلان وإن كان الخطاب للكفار فقال يقابل يرحمكم الله بالهداية إلى الإيمان ويعذبكم يميتكم على الكفر‏.‏ وذكر أبو سليمان الدمشقي لما نزل القحط بالمشركين قالوا ‏{‏ربنا اكشف عنا العذاب إنّا مؤمنون‏}‏ فقال الله ‏{‏ربكم أعلم بكم‏}‏ بالذي يؤمن من الذي لا يؤمن ‏{‏إن يشأ يرحمكم‏}‏ فيكشف القحط عنكم ‏{‏أو إن يشأ يعذبكم‏}‏ فيتركه عليكم‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ هذه الآية تقوي أن الآية التي قبلها هي ما بين العباد المؤمنين وكفار مكة، وذلك أن قوله ‏{‏ربكم أعلم بكم‏}‏ مخاطبة لكفار مكة بدليل قوله ‏{‏وما أرسلناك عليهم وكيلاً‏}‏ فكأنه أمر المؤمنين أن لا يخاشنوا الكفار في الدين ثم قال إنه أعلم بهم ورجاهم وخوّفهم، ومعنى ‏{‏يرحمكم‏}‏ بالتوبة عليكم قاله ابن جريج وغيره انتهى‏.‏

وتقدم من قول الزمخشري أن قوله ‏{‏ربكم أعلم بكم‏}‏ هي من قول المؤمنين للكفار وأنه تفسير لقوله ‏{‏التي هي أحسن‏}‏‏.‏

وقال ابن الأنباري‏:‏ ‏{‏أو‏}‏ دخلت هنا لسعة الأمرين عند الله ولا يرد عنهما، فكانت ملحقة بأو المبيحة في قولهم جالس الحسن أو ابن سيرين يعنون قد وسعنا لك الأمر‏.‏ وقال الكرماني‏:‏ ‏{‏أو‏}‏ للإضراب ولهذا كرر ‏{‏إن‏}‏ ولما ذكر تعالى أنه أعلم بمن خاطبهم بقوله‏:‏ ‏{‏ربكم أعلم بكم‏}‏ انتقل من الخصوص إلى العموم فقال مخاطباً لرسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وربك أعلم بمن في السموات والأرض‏}‏ ليبين أن علمه غير مقصور عليكم بل علمه متعلق بجميع من في السموات والأرض، بأحوالهم ومقاديرهم وما يستأهل كل واحد منهم، و‏{‏بمن‏}‏ متعلق بأعلم كما تعلق بكم قبله بأعلم ولا يدل تعلقه به على اختصاص أعلميته تعالى بما تعلق به كقولك‏:‏ زيد أعلم بالنحو لا يدل هذا على أنه ليس أعلم بغير النحو من العلوم‏.‏ وقال أبو عليّ‏:‏ الباء تتعلق بفعل تقديره علم ‏{‏بمن‏}‏ قال لأنه لو علقها بأعلم لاقتضى أنه ليس بأعلم بغير ذلك وهذا لا يلزم، وأيضاً فإن علم لا يتعدى بالباء إنما يتعدّى لواحد بنفسه لا بواسطة حرف الجر أو لا يبين على ما تقرر في علم النحو‏.‏ ولما كان الكفار قد استبعدوا تنبئة البشر إذ فيه تفضيل الأنبياء على غيرهم أخبر تعالى بتفضيل الأنبياء على بعض إشارة إلى أنه لا يستبعد تفضيل الأنبياء على غيرهم إذ وقع التفضيل في هذا الجنس المفضل على الناس والله تعالى أعلم بما خص كل واحد من المزايا فهو يفضل من شاء منهم على من شاء إذ هو الحكيم فلا يصدر شيء إلاّ عن حكمته‏.‏ وفيه إشارة إلى أنه لا يستنكر تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء وخص ‏{‏داود‏}‏ بالذكر هنا لأنه تعالى ذكر في الزبور أن محمداً خاتم الأنبياء وأن أمته خير الأمم‏.‏ وقال تعالى ‏{‏ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون‏}‏ وهم محمد وأمته، وكانت قريش ترجع إلى اليهود كثيراً فيما يخبرون به مما في كتبهم، فنبه على أن زبور داود تضمن البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفي ذلك إشارة رد على مكابري اليهود حيث قالوا‏:‏ لا نبيّ بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة، ونص تعالى هنا على إيتاء داود الزبور وإن كان قد آتاه مع ذلك الملك إشارة إلى أن التفضيل المحض هو بالعلم الذي آتاه، والكتاب الذي أنزل عليه كما فضل محمد صلى الله عليه وسلم بما آتاه من العلم والقرآن الذي خصه به‏.‏ وتقدم تفسير ‏{‏وآتينا داود زبوراً‏}‏ في أواخر النساء وذكر الخلاف في ضم الزاي وفتحها‏.‏

وقال الزمخشري هنا‏:‏ فإن قلت‏:‏ هلا عرّف الزبور كما عرف في ‏{‏ولقد كتبنا في الزبور‏}‏ قلت‏:‏ يجوز أن يكون الزبور وزبور كالعباس وعباس والفضل وفضل، وأن يريد ‏{‏وآتينا داود‏}‏ بعض الزبور وهي الكتب وأن يريد ما ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الزبور، فسُميِّ ذلك ‏{‏زبوراً‏}‏ لأنه بعض الزبور كما سُمي بعض القرآن قرآناً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 59‏]‏

‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا ‏(‏56‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ‏(‏57‏)‏ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ‏(‏58‏)‏ وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

قال ابن مسعود‏:‏ نزلت في عَبدةَ الشياطين وهم خزاعة أسلمت الشياطين وبقوا يعبدونهم‏.‏ وقال ابن عباس في عزير والمسيح وأمه، وعنه أيضاً وعن ابن مسعود وابن زيد والحسن في عبدة الملائكة وعن ابن عباس في عبدة الشمس والقمر والكواكب وعزير والمسيح وأمه انتهى‏.‏ ويكون ‏{‏الذين زعمتم من دونه‏}‏ عاماً غلب فيه من يعقل على ما لا يعقل، والمعنى أدعوهم فلا يستطيعون أن يكشفوا عنكم‏.‏ الضر من مرض أو فقر أو عذاب ولا أن يحوّلوه من واحد إلى آخر أو يبدلوه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يدعون‏}‏ بياء الغيبة وابن مسعود وقتادة بتاء الخطاب، وزيد بن عليّ بياء الغيبة مبنياً للمفعول، والمعنى يدعونهم آلهة أو يدعونهم لكشف ما حل بكم من الضر كما حذف من قوله ‏{‏قل ادعوا‏}‏ أي ادعوهم لكشف الضر‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏زعمتم‏}‏ ضمير محذوف عائد على ‏{‏الذين‏}‏ وهو المفعول الأول والثاني محذوف تقديره زعمتموهم آلهة من دون الله، و‏{‏أولئك‏}‏ مبتدأ و‏{‏الذين‏}‏ صفته، والخبر ‏{‏يبتغون‏}‏‏.‏ و‏{‏الوسيلة‏}‏ القرب إلى الله تعالى، والظاهر أن ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى المعبودين والواو في ‏{‏يدعون‏}‏ للعابدين، والعائد على ‏{‏الذين‏}‏ منصوب محذوف أي يدعونهم‏.‏

وقال ابن فورك‏:‏ الإشارة بقوله بأولئك إلى النبيين الذين تقدّم ذكرهم، والضمير المرفوع في ‏{‏يدعون‏}‏ و‏{‏يبتغون‏}‏ عائد عليهم، والمعنى يدعون الناس إلى دين الله، والمعنى على هذا أن الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء لا يعبدون إلاّ الله ولا يبتغون الوسيلة إلاّ إليه، فهم أحق بالاقتداء بهم فلا يعبدوا غير الله‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏إلى ربهم‏}‏ بضمير الجمع الغائب‏.‏ وقرأ ابن مسعود إلى ربك بالكاف خطاباً للرسول، واختلفوا في إعراب ‏{‏أيهم أقرب‏}‏ وتقديره‏.‏ فقال الحوفي‏:‏ ‏{‏أيهم أقرب‏}‏ ابتداء وخبر، والمعنى ينظرون ‏{‏أيهم أقرب‏}‏ فيتوسلون به ويجوز أن يكون ‏{‏أيهم أقرب‏}‏ بدلاً من الواو في ‏{‏يبتغون‏}‏ انتهى‏.‏ ففي الوجه الأول أضمر فعل التعليق، و‏{‏أيهم أقرب‏}‏ في موضع نصب على إسقاط حرف الجر لأن نظر إن كان بمعنى الفكر تعدّى بفي، وإن كانت بصرية تعدّت بإلى، فالجملة المعلق عنها الفعل على كلا التقديرين تكون في موضع نصب على إسقاط حرف الجر كقوله ‏{‏فلينظر أيها أزكى طعاماً‏}‏ وفي إضمار الفعل المعلق نظر، والوجه الثاني قاله الزمخشري قال‏:‏ وتكون أي موصولة، أي يبتغى من هو أقرب منهم وأزلف الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب انتهى‏.‏ فعلى الوجه يكون ‏{‏أقرب‏}‏ خبر مبتدأ محذوف، واحتمل ‏{‏أيهم‏}‏ أن يكون معرباً وهو الوجه، وأن يكون مبنياً لوجود مسوغ البناء‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ أو ضمن ‏{‏يبتغون‏}‏ ‏{‏الوسيلة‏}‏ معنى يحرصون فكأنه قيل يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله، وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح، فيكون قد ضمن ‏{‏يبتغون‏}‏ معنى فعل قلبي وهو يحرصون حتى يصح التعليق، وتكون الجملة الابتدائية في موضع نصب على إسقاط حرف الجر لأن حرص يتعدى بعلى، كقوله

‏{‏إن تحرص على هداهم‏}‏ وقال ابن عطية‏:‏ و‏{‏أيهم‏}‏ ابتدأ و‏{‏أقرب‏}‏ خبره، والتقدير نظرهم وددكهم ‏{‏أيهم أقرب‏}‏ وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ فبات الناس يدوكون أيهم يعطاها، أي يتبارون في طلب القرب‏.‏ فجعل المحذوف نظرهم وودكهم وهذا مبتدأ فإن جعلت ‏{‏أيهم أقرب‏}‏ في موضع نصب بنظرهم المحذوف بقي المبتدأ الذي هو نظرهم بغير خبر محتاج إلى إضمار الخبر، وإن جعلت ‏{‏أيهم أقرب‏}‏ هو الخبر فلا يصح لأن نظرهم ليس هو ‏{‏أيهم أقرب‏}‏ وإن جعلت التقدير نظرهم في ‏{‏أيهم أقرب‏}‏ أي كائن أو حاصل فلا يصح ذلك لأن كائناً وحاصلاً ليس مما تعلق‏.‏

وقال أبو البقاء‏:‏ ‏{‏أيهم‏}‏ مبتدأ و‏{‏أقرب‏}‏ خبره، وهو استفهام في موضع نصب بيدعون، ويجوز أن يكون ‏{‏أيهم‏}‏ بمعنى الذي وهو بدل من الضمير في ‏{‏يدعون‏}‏ والتقدير الذي هو أقرب انتهى‏.‏ ففي الوجه الأولى علق ‏{‏يدعون‏}‏ وهو ليس فعلاً قلبياً، وفي الثاني فصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحالية، ولا يضر ذلك لأنها معمولة للصلة ‏{‏ويرجون رحمته ويخافون عذابه‏}‏ كغيرهم من عباد الله، فكيف يزعمون أنهم آلهة ‏{‏إن عذاب ربك كان محذوراً‏}‏ يحذره كل أحد‏.‏

و ‏{‏إن من قرية‏}‏ ‏{‏إن‏}‏ نافية و‏{‏من‏}‏ زائدة في المبتدأ تدل على استغراق الجنس، والجملة بعد ‏{‏إلاّ‏}‏ خبر المبتدأ‏.‏ وقيل‏:‏ المراد الخصوص والتقدير وإن من قرية ظالمة‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ومن لبيان الجنس انتهى‏.‏ والتي لبيان الجنس على قول من يثبت لها هذا المعنى هو أن يتقدم قبل ذلك ما يفهم منه إبهام ما فتأتي ‏{‏من‏}‏ لبيان ما أريد بذلك الذي فيه إبهام ما‏.‏ كقوله ‏{‏ما يفتح الله للناس من رحمة‏}‏ وهنا لم يتقدم شيء مبهم تكون من فيه بياناً له، ولعل قوله لبيان الجنس من الناسخ ويكون هو قد قال لاستغراق الجنس ألا ترى أنه قال بعد ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ المراد الخصوص انتهى‏.‏

والظاهر أن جميع القرى تهلك قبل يوم القيامة وإهلاكها تخريبها وفناؤها، ويتضمن تخريبها هلاك أهلها بالاستئصال أو شيئاً فشيئاً أو تعذب والمعنى أهلها بالقتل وأنواع العذاب‏.‏ وقيل‏:‏ الهلاك للصالحة والعذاب للطالحة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ وجدت في كتب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها‏:‏ أما مكة فتخربها الحبشة، وتهلك المدينة بالجوع، والبصرة بالغرق، والكوفة بالترك، والجبال بالصواعق‏.‏ والرواجف، وأما خراسان فعذابها ضروب ثم ذكرها بلداً بلداً ونحو ذلك عن وهب بن منبه فذكر فيه أن هلاك الأندلس وخرابها يكون بسنابك الخيل واختلاف الجيوش‏.‏ ‏{‏كان ذلك في الكتاب مسطوراً‏}‏ أي في سابق القضاء أو في اللوح المحفوظ أي مكتوباً أسطاراً ‏{‏وما منعنا أن نرسل‏}‏ بالآيات عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏ أن أهل مكة سألوا أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعون، اقترحوا ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم فأوحى الله إليه إن شئت أن أفعل ذلك لهم فإن تأخروا عاجلتهم بالعقوبة، وإن شئت استأنيت بهم عسى أن أجتبي منهم مؤمنين فقال‏:‏ «بل تستأني بهم يا رب» ‏"‏

فنزلت، واستعير المنع للترك أي ما تركنا إرسال الآيات المقترحة إلاّ لتكذيب الأولين بها، وتكذيب الأولين ليس علة في إرسال الآيات لقريش، فالمعنى إلاّ ابتاعهم طريقة تكذيب الأولين بها، فتكذيب الأولين فاعل على حذف المضاف فإذا كذبوا بها كما كذب الأولون عاجلتهم بعذاب الاستئصال وقد اقتضت الحكمة أن لا أستأصلهم‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ فالمعنى وما صرفنا عن إرسال ما تقترحونه من الآيات إلاّ أن كذب بها الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود، وإنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك وقالوا هذا سحر مبين كما يقولون في غيرها، واستوجبوا العذاب المستأصل وقد عزمنا أن نؤخر أمر من بعثت إليهم إلى يوم القيامة، ثم ذكر من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت إليهم فأهلكوا واحدة وهي ناقة صالح لأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم انتهى‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ثمود‏}‏ ممنوع الصرف‏.‏ وقال هارون‏:‏ أهل الكوفة ينونون ‏{‏ثمود‏}‏ في كل وجه‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ لا تنون العامة والعلماء بالقرآن ‏{‏ثمود‏}‏ في وجه من الوجوه، وفي أربعة مواطن ألف مكتوبة ونحن نقرؤها بغير ألف انتهى‏.‏ وانتصب ‏{‏مبصرة‏}‏ على الحال وهي قراءة الجمهور‏.‏ وقرأ زيد بن عليّ ‏{‏مبصرة‏}‏ بالرفع على إضمار مبتدأ أي هي مبصرة، وأضاف الإبصار إليها على سبيل المجاز لما كانت يبصرها الناس، والتقدير آية مبصرة‏.‏ وقرأ قوم‏:‏ بفتح الصاد اسم مفعول أي يبصرها الناس ويشاهدونها‏.‏ وقرأ قتادة بفتح الميم والصاد مفعلة من البصر أي محل إبصار كقوله‏:‏

والكفر مخبثة لنفس النعم *** أجراها مجرى صفات الأمكنة نحو أرض مسبعة ومكان مضبة، وقالوا‏:‏ الولد مبخلة مجبنة ‏{‏فظلموا بها‏}‏ أي بعقرها بعد قوله ‏{‏فذروها تأكل في أرض الله‏}‏ الآية‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أنهم جحدوا كونها من عند الله‏.‏ وقيل‏:‏ جعلوا التكذيب بها موضع التصديق وهو معنى القول قبله، والظاهر أن الآيات الأخيرة غير الآيات الأولى، لوحظ في ذلك وصف الاقتراح وفي هذه وصف غير المقترحة وهي آيات معها إمهال لا معاجلة كالكسوف والرعد والزلزلة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ والموت الذريع، وفي حديث الكسوف‏:‏ «فافزعوا إلى الصلاة» قال ابن عطية‏:‏ وآيات الله المعتبر بها ثلاثة أقسام قسم عام في كل شيء إذ حيث ما وضعت نظرك وجدت آية‏.‏ وهنا فكرة العلماء، وقسم معتاد كالرعد والكسوف ونحوه وهنا فكرة الجهلة فقط، وقسم خارق للعادة وقد انقضى بانقضاء النبوة وإنما يعتبر توهماً لما سلف منه انتهى‏.‏ وهذا القسم الأخير قال فيه وقد انقضى بانقضاء النبوة وكثير من الناس يثبت هذا القسم لغير الأنبياء ويسميه كرامة‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ إن أراد بالآيات المقترحة فالمعنى لا نرسلها ‏{‏إلاّ تخويفاً‏}‏ من نزول العذاب العاجل كالطليعة والمقدمة له، فإن لم يخافوا وقع عليهم، وإن أراد غيرها فالمعنى ‏{‏وما نرسل‏}‏ ما نرسل من الآيات كآيات القرآن وغيرها ‏{‏إلاّ تخويفاً‏}‏ وإنذاراً بعذاب الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ الآيات التي جعلها الله تخويفاً لعباده سماوية كسوف الشمس، وخسوف القمر، والرعد، والبرق، والصواعق، والرجوم وما يجري مجرى ذلك‏.‏ وأرضية زلازل، وخسف، ومحول ونيران تظهر في بعض البلاد، وغور ماء العيون وزيادتها على الحد حتى تغرق بعض الأرضين، ولا سماوية ولا أرضية الرياح العواصف وما يحدث عنها من قلع الأشجار وتدمير الديار وما تسوقه من السواقي والرياح السموم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا ‏(‏60‏)‏‏}‏

لما طلبوا الرسول بالآيات المقترحة وأخبر الله بالمصلحة في عدم المجيء بها طعن الكفار فيه، وقالوا‏:‏ لو كان رسولاً حقاً لأتى بالآيات المقترحة فبين الله أنه ينصره ويؤيده وأنه ‏{‏أحاط بالناس‏}‏‏.‏ فقيل بعلمه فلا يخرج شيء عن علمه‏.‏ وقيل‏:‏ بقدرته فقدرته غالبة كل شيء‏.‏ وقيل‏:‏ الإحاطة هنا الإهلاك كقوله ‏{‏وأحيط بثمره‏}‏ والظاهر أن الناس عام‏.‏ وقيل‏:‏ أهل مكة بشره الله تعالى أنه يغلبهم ويظهر عليهم، و‏{‏أحاط‏}‏ بمعنى يحيط عبر عن المستقبل بالماضي لأنه واقع لا محالة، والوقت الذي وقعت فيه الإحاطة بهم‏.‏ قيل يوم بدر‏.‏ وقال العسكري‏:‏ هذا خبر غيب قدمه قبل وقته، ويجوز أن يكون ذلك في أمر الخندق ومجيء الأحزاب يطلبون ثأرهم ببدر فصرفهم الله بغيظهم لم ينالوا خيراً‏.‏ وقيل‏:‏ يوم بدر ويوم الفتح‏.‏ وقيل‏:‏ الأشبه أنه يوم الفتح فإنه اليوم الذي أحاط أمر الله بإهلاك أهل مكة فيه وأمكن منهم‏.‏ وقال الطبري‏:‏ ‏{‏أحاط بالناس‏}‏ في منعك يا محمد وحياطتك وحفظك، فالآية إخبار له أنه محفوظ من الكفرة أمن أن يقتل وينال بمكروه عظيم، أي فلتبلغ رسالة ربك ولا تتهيب أحداً من المخلوقين‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا تأويل بين جار مع اللفظ‏.‏ وقد روي نحوه عن الحسن والسدّي إلاّ أنه لا يناسب ما بعده مناسبة شديدة، ويحتمل أن يجعل الكلام مناسباً لما بعده توطئة له‏.‏

فأقول‏:‏ اختلف الناس في ‏{‏الرؤيا‏}‏‏.‏ فقال الجمهور هي رؤيا عين ويقظة وهي ما رأى في ليلة الإسراء من العجائب قال الكفار‏:‏ إن هذا لعجب نخبّ إلى بيت المقدس شهرين إقبالاً وإدباراً ويقول محمد جاءه من ليلته وانصرف منه، فافتتن بهذا التلبيس قوم من ضعفاء المسلمين فارتدوا وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، فعلى هذا يحسن أن يكون معنى قوله ‏{‏وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس‏}‏ أي في إضلالهم وهدايتهم، وإن كل واحد ميسر لما خلق له أي فلا تهتم أنت بكفر من كفر ولا تحزن عليهم فقد قيل لك إن الله محيط بهم مالك لأمرهم وهو جعل رؤياك هذه فتنة ليكفر من سبق عليه الكفر، وسميت الرؤية في هذا التأويل رؤياً إذ هما مصدران من رأى‏.‏ وقال النقاش‏:‏ جاء ذلك من اعتقاد من اعتقد أنها منامية وإن كانت الحقيقة غير ذلك انتهى‏.‏ وعن ابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم‏:‏ هو قصة الإسراء والمعراج عياناً آمن به الموفقون وكفر به المخذولون، وسماه رؤيا لوقوعه في الليل وسرعة تقضيه كأنه منام‏.‏ وعن ابن عباس أيضاً هو رؤياه أنه يدخل مكة فعجل في سنته الحديبية ورد فافتتن الناس، وهذا مناسب لصدر الآية فإن الإحاطة بمكة أكثر ما كانت‏.‏

وعن سهل بن سعد‏:‏ هي رؤياه بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فاهتم لذلك وما استجمع ضاحكاً من يومئذ حتى مات، فنزلت الآية مخبرة أن ذلك من ملكهم وصعودهم المنابر إنما يجعلها الله فتنة للناس‏.‏ ويجيء قوله ‏{‏أحاط بالناس‏}‏ أي بأقداره وإن كان ما قدّره الله فلا تهتم بما يكون بعدك من ذلك‏.‏

وقال الحسن بن عليّ في خطبته في شأن بيعته لمعاوية‏:‏ وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين‏.‏ وقالت عائشة‏:‏ ‏{‏الرؤيا‏}‏ رؤيا منام‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذه الآية تقضي بفساده، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها وما كان أحد لينكرها انتهى‏.‏ ولبس كما قال ابن عطية‏:‏ فإن رؤيا الأنبياء حق ويخبر النبيّ بوقوع ذلك لا محالة فيصير إخباره بذلك فتنة لمن يريد الله به ذلك‏.‏ وقال صاحب التحرير‏:‏ سألت أبا العباس القرطبي عن هذه الآية فقال‏:‏ ذهب المفسرون فيها إلى أمر غير ملائم في سياق أول الآية، والصحيح أنها رؤية عين يقظة لما آتاه بدراً أراه جبريل عليه السلام مصارع القوم فأراها الناس، وكانت فتنة لقريش فإنهم لما سمعوا أخذوا في الهزء والسخرية بالرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏والشجرة الملعونة‏}‏ هنا هي أبو جهل انتهى‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ولعل الله تعالى أراه مصارعهم في منامه فقد كان يقول حين ورد ماء بدر‏:‏ «والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم» وهو يرمئ إلى الأرض ويقول‏:‏ «هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان»‏.‏ فتسامعت قريش بما أُوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر بدر وما أُرِي في منامه من مصارعهم، فكانوا يضحكون ويستسخرون به استهزاء‏.‏ وقيل‏:‏ رأى في المنام أن ولد الحكم يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة انتهى‏.‏ والظاهر أنه أريد بالشجرة حقيقتها‏.‏ فقال ابن عباس‏:‏ هي الكشوث المذكورة في قوله ‏{‏كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار‏}‏ وعنه أيضاً‏:‏ هي ‏{‏الشجرة‏}‏ التي تلتوي على الشجرة فتفسدها‏.‏ قال‏:‏ والفتنة قولهم ما بال الحشائش تذكر في القرآن‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ هي شجرة الزقوم لما نزل أمرها في الصافات وغيرها‏.‏ قال أبو جهل وغيره‏:‏ هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يزعم أنها تنبت الشجر والنار تأكل الشجر وما نعرف الزقوم إلاّ التمر بالزبد، ثم أمر أبو جهل جارية له فأحضرت تمراً وزبداً وقال لأصحابه‏:‏ «تزقموا» فافتتن أيضاً بهذه المقالة بعض الضعفاء‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ وما أنكروا أن يجعل الله ‏{‏الشجرة‏}‏ من جنس لا تأكله النار، فهذا وبر السمندل وهو دويبة ببلاد الترك يتخذ منها مناديل إذا اتسخت طرحت في النار فيذهب الوسخ وبقي المنديل سالماً لا تعمل فيه النار، وترى النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد الحمر كالجمر بإحماء النار فلا يضرها ثم أقرب من ذلك أنه خلق في كل شجرة ناراً فلا تحرقها فما أنكروا أن يخلق في النار شجرة لا تحرقها‏.‏

والمعنى أن الآيات إنما نرسل بها تخويفاً للعباد، وهؤلاء قد خوفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر فما كان ما أريناك منه في منامك بعد الوحي إليك إلاّ فتنة لهم حيث اتخذوه سخرياً وخوفوا بعذاب الآخرة وبشجرة الزقوم فما أثر فيهم ثم قال ‏{‏ونخوفهم‏}‏ أي بمخاوف الدنيا والآخرة ‏{‏فما يزيدهم‏}‏ التخويف ‏{‏إلاّ طغياناً كبيراً‏}‏ فكيف يخاف قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات انتهى‏.‏ وقوله بعد الوحي إليك هو قوله ‏{‏سيهزم الجمع ويولون الدبر‏}‏ وقوله ‏{‏قل للذين كفروا ستغلبون‏}‏ والظاهر إسناد اللعنة إلى ‏{‏الشجرة‏}‏ واللعن الإبعاد من الرحمة وهي في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة‏.‏ وقيل تقول العرب لكل طعام مكروه ضار ملعون‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ وسألت بعضهم فقال نعم الطعام الملعون القشب الممحون‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏الملعونة‏}‏ يريد آكلها، ونمقه الزمخشري فقال‏:‏ لعنت حيث لعن طاعموها من الكفرة والظلمة لأن الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن على الحقيقة وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز انتهى‏.‏ وقيل لما شبه طلعها برؤوس الشياطين، والشيطان ملعون نسبت اللعنة إليها‏.‏ وقال قوم ‏{‏الشجرة‏}‏ هنا مجاز عن واحد وهو أبو جهل‏.‏ وقيل هو الشيطان‏.‏ وقيل مجاز عن جماعة وهم اليهود الذين تظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعنهم الله تعالى وفتنتهم أنهم كانوا ينتظرون بعثة الرسول عليه السلام، فلما بعثه الله كفروا به وقالوا‏:‏ ليس هو الذي كنا ننتظره فثبطوا كثيراً من الناس بمقالتهم عن الإسلام‏.‏ وقيل بنو أمية حتى إن من المفسرين من لا يعبر عنهم إلاّ بالشجرة الملعونة لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة وأخذ الأموال من غير حلها وتغيير قواعد الدين وتبديل الأحكام، ولعنها في القرآن ‏{‏ألا لعنة الله على الظالمين‏}‏ إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏الشجرة الملعونة‏}‏ عطفاً على ‏{‏الرؤيا‏}‏ فهي مندرجة في الحصر، أي ‏{‏وما جعلنا الرؤيا التي أريناك‏}‏ ‏{‏والشجرة الملعونة‏}‏ في القرآن ‏{‏إلاّ فتنة للناس‏}‏‏.‏ وقرأ زيد بن عليّ برفع ‏{‏والشجرة الملعونة‏}‏ على الابتداء، والخبر محذوف تقديره كذلك أي فتنة، والضمير في ‏{‏ونخوفهم‏}‏ لكفار مكة‏.‏ وقيل لملوك بني أمية بعد الخلافة التي قال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الخلافة بعدي ثلاثون ثم تكون ملكاً عضوضاً» والأول أصوب‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ ويخوفهم بياء الغيبة والجمهور بنون العظمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 65‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ‏(‏61‏)‏ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏62‏)‏ قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا ‏(‏63‏)‏ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏64‏)‏ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ‏(‏65‏)‏‏}‏

حنك الدابة واحتنكها‏:‏ جعل في حنكها الأسفل حبلاً يقودها به، واحتنك الجراد الأرض أكلت نباتها‏.‏ قال‏:‏

نشكوا إليك سنة قد أجحفت *** جهداً إلى جهد بنا فأضعفت

واحتنكت أموالنا وحنفت، ومنه ما ذكر سيبويه من قولهم‏:‏ أحنك الشاتين أي آكلَهما‏.‏ استفز الرجل‏:‏ استخفه، والفز الخفيف وأصله القطع ومنه تفزز الثوب انقطع، واستفزني فلان خدعني حتى وقعت في أمر أراده‏.‏ وقيل لولد البقرة فز لخفته‏.‏ قال الشاعر‏:‏

كما استغاث بشيء فز غيطلة *** خاف العيون فلم ينظرنه الحشك

الجلبة الصياح قاله أبو عبيدة والفراء‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ جلب وأجلب‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أجلب على العدوّ وجمع عليه الخيل‏.‏ وقال ابن السكيت‏:‏ جلب عليه أعان عليه‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ أجلب على الرجل إذا توعده الشر، وجمع عليه الجمع‏.‏ الصوت معروف‏.‏

‏{‏وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس قال أأسجد لمن خلقت طيناً قال أرأيتك هذا الذي كرّمت عليّ لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلاّ قليلاً قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفوراً واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلاً‏}‏‏.‏

مناسبة هذه الآية لما قبلها من وجهين‏.‏ أحدهما أنه لما نازعوا الرسول عليه السلام في النبوّة واقترحوا عليه الآيات كان ذلك لكبرهم وحسدهم للرسول صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من النبوّة والدرجة الرفيعة، فناسب ذكر قصة آدم عليه السلام وإبليس حيث حمله الكبر والحسد على الامتناع من السجود‏.‏ والثاني أنه لما قال ‏{‏فما يزيدهم إلاّ طغياناً كبيراً‏}‏ بين ما سبب هذا الطغيان وهو قول إبليس ‏{‏لأحتنكنّ ذريته إلا قليلاً‏}‏ وانتصب ‏{‏طيناً‏}‏ على الحال قاله الزجاج وتبعه الحوفي، فقال‏:‏ من الهاء في خلقته المحذوفة، والعامل ‏{‏خلقت‏}‏ والزمخشري فقال ‏{‏طيناً‏}‏ أما من الموصول والعامل فيه ‏{‏أأسجد‏}‏ على آسجد له وهو طين أي أصله طين، أو من الراجع إليه من الصلة على آسجد لمن كان في وقت خلقه ‏{‏طيناً‏}‏ انتهى‏.‏ وهذا تفسير معنى‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ والعامل فيه ‏{‏خلقت‏}‏ يعني إذا كان حالاً من العائد المحذوف وأجاز الحوفي أن يكون نصباً على حذف من التقدير من طين كما صرح به في قوله ‏{‏وخلقته من طين‏}‏ وأجاز الزجّاج أيضاً وتبعه ابن عطية أن يكون تمييزاً ولا يظهر كونه تمييزاً وقوله ‏{‏أأسجد‏}‏ استفهام إنكار وتعجب‏.‏ وبين قوله ‏{‏آأسجد‏}‏ وما قبله كلام محذوف، وكأن تقديره قال‏:‏ لم لم تسجد لأدم قال‏:‏ ‏{‏أأسجد‏}‏ وبين قوله ‏{‏أرأيتك‏}‏ وقال آسجد جمل قد ذكرت حيث طولت قصته، والكاف في ‏{‏أرأيتك‏}‏ للخطاب وتقدّم الكلام عليها في سورة الأنعام ولا يلحق كاف الخطاب هذه إلاّ إذا كانت بمعنى أخبرني، وبهذا المعنى قدرها الحوفي وتبعة الزمخشري وهو قول سيبويه فيها والزجّاج‏.‏

قال الحوفي‏:‏ و‏{‏أرأيتك‏}‏ بمعنى عرفني وأخبرني، وهذا منصوب بأرأيتك، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ لم كرّمته عليّ وقد خلقتني من نار وخلقته من طين، وحذف هذا لما في الكلام من الدليل عليه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ الكاف للخطاب و‏{‏هذا‏}‏ مفعول به، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ أي فضلته لم كرمته عليّ وأنا خير منه، فاختصر الكلام بحذف ذلك ثم ابتدأ فقال‏:‏ ‏{‏لئن أخرتن‏}‏‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والكاف في ‏{‏أرأيتك‏}‏ حرف خطاب ومبالغة في التنبيه لا موضع لها من الإعراب فهي زائدة، ومعنى أرأيت أتأملت ونحوه كان المخاطب بها ينبه المخاطب ليستجمع لما ينصه عليه بعد‏.‏ وقال سيبويه‏:‏ هي بمعنى أخبرني ومثل بقوله ‏{‏أرأيتك‏}‏ زيداً أيؤمن هو‏.‏ وقاله الزجاج ولم يمثل، وقول سيبويه صحيح حيث يكون بعدها استفهام كمثاله، وأما في هذه الآية فهي كما قلت وليست التي ذكر سيبويه رحمه الله انتهى‏.‏ وما ذهب إليه الحوفي والزمخشري في ‏{‏أرأيتك‏}‏ هنا هو الصحيح، ولذلك قدر الاستفهام وهو لم كرمته عليّ فقد انعقد من قوله ‏{‏هذا الذي كرّمت عليّ‏}‏ لم كرمته عليّ جملة من مبتدأ وخبر، وصار مثل‏:‏ زيد أيؤمن هو دخلت عليه ‏{‏أرأيتك‏}‏ فعملت في الأول، والجملة الاستفهامية في موضع الثاني والمستقر في أرأيت بمعنى أخبرني أن تدخل على جملة ابتدائية يكون الخبر استفهاماً، فإن صرح به فذلك واضح وإلاّ قدر‏.‏ وقد أشبعنا الكلام في الأنعام وفي شرح التسهيل‏.‏

وقال الفراء‏:‏ هنا للكاف محمل من الإعراب وهو النصب أي أرأيت نفسك قال‏:‏ وهذا كما تقول أتدبرت آخر أمرك‏.‏ فإني صانع فيه كذا، ثم ابتدأ ‏{‏هذا الذي كرمت عليّ‏}‏ انتهى‏.‏ والرد عليه مذكور في علم النحو، ولو ذهب ذاهب إلى أن هذا مفعول أول لقوله‏:‏ ‏{‏أرأيتك‏}‏ بمعنى أخبرني والثاني الجملة القسمية بعده لانعقادهما مبتدأ وخبراً قبل دخول ‏{‏أرأيتك‏}‏ لذهب مذهباً حسناً، إذ لا يكون في الكلام إضمار، وتلخص من هذا كله الكاف إما في موضع نصب وهذا مبتدأ، وإما حرف خطاب وهذا مفعول بأرأيت بمعنى محذوف، وهو الجملة الاستفهامية أو مذكور وهو الجملة القسمية، ومعنى ‏{‏لئن أخرتن‏}‏ أي أخرت مماتي وأبقيتني حياً‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏لأحتنكنّ‏}‏ لأستولين عليهم وقاله الفراء‏.‏ وقال ابن زيد لأضلنهم‏.‏ وقال الطبري‏:‏ لأستأصلن وكفر إبليس بجهله صفة العدل من الله حين لحقته الأنفة والكبر، وظهر ذلك في قوله ‏{‏أرأيتك هذا الذي كرمت عليّ‏}‏ إذ نص على أنه لا ينبغي أن يكرم بالسجود مني من أنا خير منه، وأقسم إبليس على أنه يحتنك ذرية آدم وعلم ذلك إما بسماعه من الملائكة، وقد أخبرهم الله به أو استدل على ذلك بقولهم‏:‏

‏{‏أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء‏}‏ أو نظر إليه فتوسم في مخايله أنه ذو شهوة وعوارض كالغضب ونحوه، ورأى خلقته مجوفة مختلفة الأجزاء، وقال الحسن‏:‏ ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عزما فظن ذلك بذريته وهذا ليس بظاهر لأن قول ذلك كان قبل وسوسته لآدم في أكل الشجرة، واستثنى القليل لأنه علم أنه يكون في ذرية آدم من لا يتسلط عليه كما قال ‏{‏لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين‏}‏ والأمر بالذهاب ليس على حقيقته من نقيض المجيء ولكن المعنى اذهب لشأنك الذي اخترته، وعقبه بذكر ما جرّه سوء فعله من جزائه وجزاء اتباعه جهنم، ولما تقدم اسم غائب وضمير خطاب غلب الخطاب فقال‏:‏ ‏{‏جزاؤكم‏}‏ ويجوز أن يكون ضمير من على سبيل الالتفات والموفور المكمل ووفر متعد كقوله‏:‏

ومن يجعل المعروف من دون عرضه *** يفره ومن لا يتق الشتم يشتم

ولازم تقول وفر المال يفر وفوراً، وانتصب ‏{‏جزاءً‏}‏ على المصدر والعامل فيه ‏{‏جزاؤكم‏}‏ أو يجاوز مضمره أو على الحال الموطئة‏.‏ وقيل‏:‏ تمييز ولا يتعقل ‏{‏واستفزز‏}‏ معطوف على فاذهب وعطف عليه ما بعده من الأمر وكلها بمعنى التهديد كقوله ‏{‏اعملوا ما شئتم‏}‏ ومن في ‏{‏من استطعت‏}‏ موصولة مفعولة باستفزز‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ ‏{‏من استطعت‏}‏ من استفهام في موضع نصب باستطعت، وهذا ليس بظاهر لأن ‏{‏استفزز‏}‏ ومفعول ‏{‏استطعت‏}‏ محذوف تقديره ‏{‏من استطعت‏}‏ أن تستفزه والصوت هنا الدعاء إلى معصية الله‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الغناء والمزامير واللهو‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ صوت المزمار وذكر الغزنوي أن آدم أسكن ولد هابيل أعلى الجبل وولد قابيل أسفله‏.‏ وفيهم بنات حسان، فزمر الشيطان فلم يتمالكوا أن انحدروا واقترنوا‏.‏ وقيل‏:‏ الصوت هنا الوسوسة‏.‏

وقرأ الحسن ‏{‏واجلب عليهم‏}‏ بوصل الألف وضم اللام من جلب ثلاثياً، والظاهر أن إبليس له خيل ورجالة من الجن جنسه قاله قتادة، والخيل تطلق على الأفراس حقيقة وعلى أصحابها مجازاً وهم الفرسان، ومنه‏:‏ يا خيل الله اركبي، والباء في ‏{‏بخيلك‏}‏ قيل زائدة‏.‏ وقيل‏:‏ من الآدميين أضيفوا إليه لانخراطهم في طاعته وكونهم أعوانهم على غيرهم قاله مجاهد‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ وقوله ‏{‏بخيلك ورجلك‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ هذا مجاز واستعارة بمعنى اسع سعيك وابلغ جهدك انتهى‏.‏ وقال أبو علي ليس للشيطان خيل ولا رجل ولا هو مأمور إنما هذا زجر واستخفاف به كما تقول لمن تهدده اذهب فاصنع ما شئت واستعن بما شئت‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله‏؟‏ قلت‏:‏ هو كلام وارد مورد التمثيل مثلت حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع على قوم فصوت بهم صوتاً يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم، واجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم انتهى‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ورجلك‏}‏ بفتح الراء وسكون الجيم وهو اسم جمع واحده راجل كركب وراكب، وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية وحفص بكسر الجيم‏.‏

قال صاحب اللوامح بمعنى الرجال‏.‏ وقال ابن عطية هي صفة يقال فلان يمشي رَجِلاً أي غير راكب ومنه قول الشاعر‏:‏

رجلاً إلاّ بأصحاب *** وقال الزمخشري‏:‏ وقرئ ‏{‏ورجلك‏}‏ على أن فعلاً بمعنى فاعل نحو تعب وتاعب، ومعناه وجمعك الرجل وتضم جيمه أيضاً فيكون مثل حدث وحدثُ وندس وندس وأخوات لهما انتهى‏.‏ وقرأ قتادة وعكرمة ورجالك‏.‏ وقرئ‏:‏ ورجل لك بضم الراء وتشديد الجيم والمشاركة في الأموال‏.‏ قال الضحاك‏:‏ ما يذبحون لآلهتهم وقتادة البحيرة والسائبة‏.‏ وقيل‏:‏ ما أصيب من مال وحرام‏.‏ وقيل‏:‏ ما جعلوه من أموالهم لغير الله‏.‏ وقيل‏:‏ ما صرف في الزنا والأولى ما أخذ من غير حقه وما وضع في غير حقه والمشاركة في الأولاد‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ تسميتهم عبد العزّى وعبد اللات وعبد الشمس وعبد الحارث، وعنه أيضاً ترغيبهم في الأديان الباطلة كاليهودية والنصرانية‏.‏ وعنه أيضاً إقدامهم على قتل الأولاد قال الحسن وقتادة‏.‏ ما مجّسوه وهوّدوه ونصروه وصبغوهم غير صبغة الإسلام‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ عدم التسمية عند الجماع فالجان ينطوي إذ ذاك على إحليله فيجامع معه‏.‏ وقيل ترغيبهم في القتال والقتل وحفظ الشعر المشتمل على الفحش، والأولى أنه كل تصرّف في الولد يؤدي إلى ارتكاب منكر وقبيح، وأما وعده فهو الوعد الكاذب كوعدهم أن لا بعث وهذه مشاركة في النفوس‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏وعدهم‏}‏ المواعيد الكاذبة من شفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة، وتسويف التوبة ومغفرة الذنوب بدونها، والاتكال على الرحمة وشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكبائر والخروج من النار بعد أن يصيروا حميماً، وإيثار العاجل على الآجل انتهى‏.‏ وهو جار على مذهب المعتزلة في أنه لا تغفر الذنوب بدون التوبة، وبأنه لا شفاعة في الكبائر، وبأنه لا يخرج من النار أبداً من دخلها من فاسق مؤمن‏.‏ وانتصب ‏{‏غروراً‏}‏ وهو مصدر على أنه وصف لمصدر محذوف أي وعداً غروراً على الوجوه التي في رجل صوم، ويحتمل أن يكون مفعولاً من أجله أي ‏{‏وما يعدكم‏}‏ ويمنيكم ما لا يتم ولا يقع إلاّ لأن يغركم، والإضافة إليه تعالى في ‏{‏إن عبادي‏}‏ إضافة تشريف، والمعنى المختصين بكونهم ‏{‏عبادي‏}‏ لا يضافون إلى غيري كما قال في مقابلهم أولياؤهم الطاغوت وأولياء الشيطان‏.‏

وقيل‏:‏ ثم صفة محذوفة أي ‏{‏إن عبادي‏}‏ الصالحين، ونفى السلطان وهو الحجة والاقتدار على إغوائهم عن الإيمان ويدل على لحظ الصفة قوله ‏{‏إنما سلطانه على الذين يتولونه‏}‏ وقال الجبائي‏:‏ ‏{‏عبادي‏}‏ عام في المكلفين، ولذلك استثنى منه في أي من اتبعه في قوله ‏{‏إلا من اتبعك من الغاوين‏}‏ واستدل بهذا على أنه لا سبيل له ولا قدرة على تخليط العقل وإنما قدرته على الوسوسة، ولو كان له قدرة على ذلك لخبط العلماء ليكون ضرره أتم، ومعنى ‏{‏وكيلاً‏}‏ حافظاً لعباده الذين ليس له عليهم سلطان من إغواء الشيطان أو ‏{‏وكيلاً‏}‏ يكلون أمورهم إليه فهو حافظهم بتوكلهم عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 69‏]‏

‏{‏رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ‏(‏66‏)‏ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا ‏(‏67‏)‏ أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا ‏(‏68‏)‏ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ‏(‏69‏)‏‏}‏

الحاصب الريح ترمي بالحصباء قاله الفراء، والحصب الرمي بالحصباء وهي الحجارة الصغار‏.‏

وقال الفرزذق‏:‏

مستقبلين شمال الشام نضربهم *** بحاصب كنديف القطن منثور

والحاصب العارض الرامي بالبرد والحجارة‏.‏ تارة مرة وتجمع على تير وتارات‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وإنسان عيني يحسر الماء تارة *** فيبدوا وتارات يجم فيغرق

القاصف الذي يكسر كل ما يلقى، ويقال قصف الشجر يقصفه قصفاً كسره‏.‏ وقال أبو تمام‏:‏

إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت *** عيدان نجد ولا يعبأن بالرتم

وقيل‏:‏ القاصف الريح التي لها قصيف وهو الصوت الشديد كأنها تتقصف أي تتكسر‏.‏

‏{‏ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيماً وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلاّ إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصباً ثم لا تجدوا لكم وكيلاً أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفاً من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً‏}‏‏.‏

لما ذكر تعالى وصف المشركين في اعتقادهم آلهتهم وأنها تضر وتنفع، وأتبع ذلك بقصة إبليس مع آدم، وتمكينه من وسوسة ذريته وتسويله ذكر ما يدل من أفعاله على وحدانيته، وأنه هو النافع الضار المتصرف في خلقه بما يشاء، فذكر إحسانه إليهم بحراً وبراً، وأنه تعالى متمكن بقدرته مما يريده‏.‏ وإزجاء الفلك سوقها من مكان إلى مكان بالريح اللينة والمجاديف، وذلك من رحمته بعباده وابتغاء الفضل طلب التجارة أو الحج فيه أو الغزو‏.‏ والضر في البحر الخوف من الغرق باضطرابه وعصف الريح، ومعنى ‏{‏ضل‏}‏ ذهب عن أوهامكم من تدعونه إلهاً فيشفع أو ينفع، أو ‏{‏ضل‏}‏ من تعبدونه إلاّ الله وحده فتفردونه إذ ذاك بالالتجاء إليه والاعتقاد أنه لا يكشف الضر إلاّ هو ولا يرجون لكشف الضر غيره‏.‏ ثم ذكر حالهم إذ كشف عنهم من إعراضهم عنه وكفرانهم نعمة إنجائهم من الغرق، وجاءت صفة ‏{‏كفوراً‏}‏ دلالة على المبالغة، ثم لم يخاطبهم بذلك بل أسند ذلك إلى الإنسان لطفاً بهم وإحالة على الجنس إذ كل أحد لا يكاد يؤدّي شكر نعم الله‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ المراد بالإنسان الكفار، والظاهر أن ‏{‏إلاّ إياه‏}‏ استثناء منقطع لأنه لم يندرج في قوله ‏{‏من تدعون‏}‏ إذ المعنى ضلت آلهتهم أي معبوداتهم وهم لا يعبدون الله‏.‏ وقيل‏:‏ هو استثناء متصل وهذا على معنى ضل من يلجؤون إليه وهم كانوا يلجؤون في بعض أمورهم إلى معبوداتهم، وفي هذه الحالة لا يلجؤون إلاّ إلى الله والهمزة في ‏{‏أفأمنتم‏}‏ للإنكار‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم فأمنتم انتهى‏.‏ وتقدم لنا الكلام معه في دعواه أن الفاء والواو في مثل هذا التركيب للعطف على محذوف بين الهمزة وحرف العطف، وأن مذهب الجماعة أن لا محذوف هناك، وأن الفاء والواو للعطف على ما قبلها وأنه اعتنى بهمزة الاستفهام لكونها لها صدر الكلام فقدمت والنية التأخير، وأن التقدير فأمنتم‏.‏

وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة والخطاب للسابق ذكرهم أي ‏{‏أفأمنتم‏}‏ أيها الناجون المعرضون عن صنع الله الذي نجاكم، وانتصب ‏{‏جانب‏}‏ على المفعول به بنخسف كقوله ‏{‏فخسفنا به وبداره الأرض‏}‏ والمعنى أن نغيره بكم فتهلكون بذلك‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أن نقلبه وأنتم عليه‏.‏

وقال الحوفي‏:‏ ‏{‏جانب البر‏}‏ منصوب على الظرف، ولما كان الخسف تغييباً في التراب قال‏:‏ ‏{‏جانب البر‏}‏ و‏{‏بكم‏}‏ حال أي نخسف ‏{‏جانب البر‏}‏ مصحوباً بكم‏.‏ وقيل‏:‏ الباء للسبب أي بسببكم، ويكون المعنى ‏{‏جانب البر‏}‏ الذي أنتم فيه، فيحصل بخسفه إهلاكهم وإلاّ فلا يلزم من خسف ‏{‏جانب البر‏}‏ بسببهم إهلاكهم‏.‏

قال قتادة‏:‏ الحاصب الحجارة‏.‏ وقال السدّي‏:‏ رام يرميكم بحجارة من سجيل، والمعنى أن قدرته تعالى بالغة فإن كان نجاكم من الغرق وكفرتم نعمته فلا تأمنوا إهلاكه إياكم وأنتم في البر، إما بأمر يكون من تحتكم وهو تغوير الأرض بكم، أو من فوقكم بإرسال حاصب عليكم، وهذه الغاية في تمكن القدرة ثم ‏{‏لا تجدوا‏}‏ عند حلول أحد هذين بكم من تكلون أموركم إليه فيتوكل في صرف ذلك عنكم‏.‏ و‏{‏أم‏}‏ في ‏{‏أم أمنتم‏}‏ منقطعة تقدر ببل، والهمزة أي بل ‏{‏أمنتم‏}‏ والضمير في ‏{‏فيه‏}‏ عائد على البحر، وانتصب تارة على الظرف أي وقتاً غير الوقت الأول، والباء في ‏{‏بما كفرتم‏}‏ سببية وما مصدرية، أي بسبب كفركم السابق منكم، والوقت الأول الذي نجاكم فيه أو بسبب كفركم الذي هو دأبكم دائماً‏.‏ والضمير في ‏{‏به‏}‏ عائد على المصدر الدال عليه فنغرقكم، إذ هو أقرب مذكور وهو نتيجة الإرسال‏.‏ وقيل عائد على الإرسال‏.‏ وقيل‏:‏ عليهما فيكون كاسم الإشارة والمعنى بما وقع من الإرسال والإغراق‏.‏ والتبيع قال ابن عباس‏:‏ النصير، وقال الفراء‏:‏ طالب الثأر‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ المطالب‏.‏ وقال الزجّاج‏:‏ من يتبع بالإنكار ما نزل بكم، ونظيره قوله تعالى ‏{‏فسواها ولا يخاف عقباها‏}‏ وفي الحديث‏:‏ «إذا اتّبع أحدكم على ملئ فليتبع» وقال الشماخ‏:‏

كما لاذ الغريم من التبيع *** ويقال‏:‏ فلان على فلان تبيع، أي مسيطر بحقه مطالب به‏.‏ وأنشد ابن عطية‏:‏

غدوا وغدت غزلانهم فكأنها *** ضوامن غرم لدهن تبيع

أي مطالب بحقه‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمر‏:‏ ونخسف وأو نرسل وأن نعيدكم وفنرسل وفنغرقكم خمستها بالنون، وباقي القراء بياء الغيبة ومجاهد وأبو جعفر فتغرقكم بناء الخطاب مسنداً إلى الريح والحسن وأبو رجاء ‏{‏فيغرقكم‏}‏ بياء الغيبة وفتح الغين وشد الراء، عدّاه بالتضعيف، والمقري لأبي جعفر كذلك إلاّ أنه بتاء الخطاب، وحميد بالنون وإسكان الغين وإدغام القاف في الكاف، ورويت عن أبي عمرو وابن محيصن‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏من الريح‏}‏ بالإفراد وأبو جعفر من الرياح جمعاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 72‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ‏(‏70‏)‏ يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏71‏)‏ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ‏(‏72‏)‏‏}‏

لما ذكر تعالى ما امتّن به عليهم من إزجاء الفلك في البحر ومن تنجيتهم من الغرق، تمم ذكر المنة بذكر تكرمتهم ورزقهم وتفضيلهم، أو لما هددهم بما هدد من الخسف والغرق وأنهم كافرو نعمته ذكر ما أنعم به عليهم ليتذكروا فيشكروا نعمه ويقلعوا عن ما كانوا فيه من الكفر ويطيعوه تعالى، وفي ذكر النعم وتعدادها هز لشكرها وكرم معدى بالتضعيف من كرم أي جعلناهم ذوي كرم بمعنى الشرف والمحاسن الجمة، كما تقول‏:‏ ثوب كريم وفر كريم أي جامع للمحاسن‏.‏ وليس من كرم المال‏.‏ وما جاء عن أهل التفسير من تكريمهم وتفضيلهم بأشياء ذكرها هو على سبيل التمثيل لا على الحصر في ذلك كما روي عن ابن عباس أن التفضيل بالعقل وعن الضحاك بالنطق‏.‏ وعن عطاء بتعديل القامة وامتدادها، وعن زيد بن أسلم بالمطاعم واللذات، وعن يمان بحسن الصورة، وعن محمد بن كعب بجعل محمد عليه الصلاة والسلام منهم‏.‏ وعن ابن جرير بالتسليط على غيره من الخلق وتسخيره له‏.‏ وقيل‏:‏ بالخط‏.‏ وقيل‏:‏ باللحية للرجل والذؤابة للمرأة‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ بأكله بيده وغيره بفمه‏.‏ وقيل‏:‏ بتدبير المعاش والمعاد‏.‏ وقيل‏:‏ بخلق الله آدم بيده‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقد ذكر أن من الحيوان ما يفضل بنوع ما ابن آدم كجري الفرس وسمعه وإبصاره، وقوة الفيل، وشجاعة الأسد، وكرم الديك‏.‏ قال‏:‏ وإنما التكريم والتفضيل بالعقل الذي يملك به الحيوان كله وبه يعرف الله ويفهم كلامه ويوصل إلى نعيمه انتهى‏.‏

‏{‏وحملناهم في البر والبحر‏}‏ وهذا أيضاً من تكريمهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل، وفي البحر على السفن‏.‏ وقال غيره‏:‏ على أكباد رطبة وأعواد يابسة‏.‏ ‏{‏والطيبات‏}‏ كما تقدم الحلال أو المستلذ ولا يتسع غيره من الحيوان في الرزق اتساعه لأنه يكتسب المال ويلبس الثياب ويأكل المركب من الأطعمة بخلاف الحيوان، فإنه لا يكتسب ولا يلبس ولا يأكل غالباً إلا لحماً نيئاً وطعاماً غير مركب، والظاهر أن كثيراً باق على حقيقته، فقالت طائفة‏:‏ فضلوا على الخلائق كلهم غير جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وأشباههم وهذا عن ابن عباس‏.‏ وعنه إن الإنسان ليس أفضل من الملك وهو اختيار الزجّاج‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والحيوان والجن هو الكثير المفضول والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ الآية تقضي بفضل الملائكة على الإنس من حيث هم المستثنون، وقد قال تعالى ‏{‏ولا الملائكة المقربون‏}‏ وهذا غير لازم من الآية، بل التفضيل بين الإنس والجن لم تعن له الآية بل يحتمل أن الملائكة أفضل ويحتمل التساوي، وإنما يصح تفضيل الملائكة من مواضع أخر من الشرع انتهى‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏على كثير ممن خلقنا‏}‏ هو ما سوى الملائكة عليهم الصلاة والسلام، وحسب بني آدم ‏{‏تفضيلاً‏}‏ أن ترفع عليهم الملائكة وهم هم ومنزلتهم عند الله منزلتهم، والعجب من المجبرة كيف عكسوا في كل شيء وكابروا حتى جسرتهم المكابرة على العظيمة التي هي تفضيل الإنسان على الملك، ثم ذكر تشنيعاً أقذع فيه يوقف عليه من كتابه‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏وفضلناهم على كثير‏}‏ بالغلبة والاستيلاء‏.‏ وقيل‏:‏ بالثواب والجزاء يوم القيامة، وعلى هذين القولين لم تتعرض الآية للتفضيل المختلف فيه بين الإنس والملائكة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بكثير مجازه وهو إطلاقه على الجميع، والعرب تفعل ذلك وهذا القول لا ينبغي أن يقال هنا لأنك لو جعلت جميعاً كان بكثير، فقلت على جميع ممن خلقنا لكان نائياً عن الفصاحة، ولا يليق أن يحمل كلام الله تعالى الذي هو أفصح الكلام عليه، ولأبي عبد الله الرازي كلام في تكريم ابن آدم وتفضيله مستمد من كلام الذين يسمونهم حكماء يوقف عليه في تفسيره إذ هو جار على غير طريقة العرب في كلامها‏.‏

ولما ذكر تعالى أنواعاً من كرامات الإنسان في الدنيا ذكر شيئاً من أحوال الآخرة فقال‏:‏ ‏{‏يوم ندعو كل إناس بإمامهم‏}‏ واختلفوا في العامل في ‏{‏يوم‏}‏‏.‏ فقيل‏:‏ العامل فيه ما دل عليه قوله متى هو‏.‏ وقيل‏:‏ فتستجيبون‏.‏ وقيل‏:‏ هو بدل من يوم يدعوكم وهذه أقوال في غاية الضعف، ولولا أنهم ذكروها لضربت عن ذكرها صفحاً وهو في هذه الأقوال ظرف‏.‏ وقال الحوفي وابن عطية انتصب على الظرف والعامل فيه اذكر وعلى تقدير اذكر لا يكون ظرفاً بل هو مفعول‏.‏ وقال ابن عطية أيضاً بعد قوله هو ظرف‏:‏ والعامل فيه أذكر أو فعل يدل عليه قوله ‏{‏ولا يظلمون‏}‏، وحكاه أبو البقاء وقدره ‏{‏ولا يظلمون‏}‏ يوم ندعو‏.‏ وقال ابن عطية أيضاً‏:‏ ويصح أن يعمل فيه ‏{‏وفضلناهم‏}‏ وذلك أن فضل البشر يوم القيامة على سائر الحيوان بيِّن لأنهم المنعمون المكلفون المحاسبون الذين لهم القدر إلاّ أن هذا يرده أن الكفار يومئذ أخسر من كل حيوان، إذ يقول الكافر‏:‏ يا ليتني كنت تراباً‏.‏ وقال ابن عطية أيضاً‏:‏ ويصح أن يكون ‏{‏يوم‏}‏ منصوباً على البناء لما أضيف إلى غير متمكن، ويكون موضعه رفعاً بالابتداء، والخبر في التقسيم الذي أتى بعد في قوله ‏{‏فمن أوتي كتابه‏}‏ إلى قوله ‏{‏ومن كان‏}‏ انتهى‏.‏ وقوله منصوباً على البناء كان ينبغي أن يقول مبنياً على الفتح، وقوله‏:‏ لما أضيف إلى غير متمكن ليس بجيد لأن الذي ينقسم إلى متمكن وغير متمكن هو الاسم لا الفعل، وهذا أضيف إلى فعل مضارع ومذهب البصريين أنه إذا أضيف إلى فعل مضارع معرب لا يجوز بناؤه، وهذا الوجه الذي ذكره هو على رأي الكوفيين‏.‏ وأما قوله‏:‏ والخبر في التقسيم فالتقسيم عار من رابط لهذه الجملة التقسيمية بالمبتدأ لا أن قدر محذوفاً، فقد يمكن أي ممن ‏{‏أوتي كتابه‏}‏ فيه ‏{‏بيمينه‏}‏ وهو بعد ذلك التخريج تخريج متكلف‏.‏

وقال بعض النحاة‏:‏ العامل فيه ‏{‏وفضلناهم‏}‏ على تقدير ‏{‏وفضلناهم‏}‏ بالثواب، وهذا القول قريب من قول ابن عطية الذي ذكرناه عنه قبل‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هو ظرف لقوله ثم لا تجد‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هو معمول لقوله نعيدكم مضمرة أي نعيدكم ‏{‏يوم ندعو‏}‏ والأقرب من هذه الأقوال أن يكون منصوباً على المفعول به بأذكر مضمرة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ندعو‏}‏ بنون العظمة، ومجاهد يدعو بياء الغيبة أي يدعو الله، والحسن فيما ذكر أبو عمرو الداني يُدعى مبنياً للمفعول ‏{‏كل‏}‏ مرفوع به، وفيما ذكر غيره يدعو بالواو وخرج على إبدال الألف واواً على لغة من يقول‏:‏ أفعو في الوقف على أفعى، وإجراء الوصل مجرى الوقف وكل مرفوع به، وعلى أن تكون الواو ضميراً مفعولاً لم يسم فاعله، وأصله يدعون فحذفت النون كما حذفت في قوله‏:‏

أبيت أسري وتبيتي تدلكي *** وجهك بالعنبر والمسك الزكي

أي تبيتين تدلكين وكل بدل من واو الضمير‏.‏ ‏{‏وأناس‏}‏ اسم جمع لا واحد له من لفظه، والباء في ‏{‏بإمامهم‏}‏ الظاهر أنها تتعلق بندعو، أي باسم إمامهم‏.‏ وقيل‏:‏ هي باء الحال أي مصحوبين ‏{‏بإمامهم‏}‏‏.‏ والإمام هنا قال ابن عباس والحسن وأبو العالية والربيع كتابهم الذي فيه أعمالهم‏.‏ وقال الضحاك وابن زيد‏:‏ كتابهم الذي نزل عليهم‏.‏ وقال مجاهد وقتادة‏:‏ نبيهم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والإمام يعم هذا كله لأنه مما يؤتم به‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ إمامهم من ائتموا به من نبيّ أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين، فيقال‏:‏ يا أهل دين كذا وكتاب كذا‏.‏ وقيل‏:‏ بكتاب أعمالهم يا أصحاب كتاب الخير ويا أصحاب كتاب الشر‏.‏ وفي قراءة الحسن بكتابهم ومن بدع التفسير أن الإمام جمع أُم وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء رعاية حق عيسى وشرف الحسن والحسين‏.‏ وأن لا يفتضح أولاد الزنا وليت شعري أيهما أبدع أصحة لفظه أم بهاء حكمته انتهى‏.‏ وإيتاء الكتاب دليل على ما تقرر في الشريعة من الصحف التي يؤتاها المؤمن والكافر، وإيتاؤه باليمين دليل على نجاة الطائع وخلاص الفاسق من النار إن دخلها وبشارته أنه لا يخلد فيها ‏{‏فأولئك‏}‏ جاء جمعاً على معنى من إذ قد حمل على اللفظ أولاً فأفرد في قوله ‏{‏أوتي كتابه بيمينه‏}‏ وقراءتهم كتبهم هو على سبيل التلذذ بالاطّلاع على ما تضمنتها من البشارة، وإلاَّ فقد علموا من حيث إيتاؤهم إياها باليمين أنهم من أهل السعادة ومن فرحهم بذلك يقول الباري لأهل المحشر‏:‏ ‏{‏هاؤم اقرؤوا كتابيه‏}‏ ولم يأت هنا قسيم من ‏{‏أوتي كتابه بيمينه‏}‏ وهو من يؤتي كتابه بشماله، وإن كان قد أتى في غير هذه الآية بل جاء قسيمه قوله‏.‏

‏{‏ومن كان في هذه أعمى‏}‏ وذلك من حيث المعنى مقابله لأن من ‏{‏أوتي كتابه بيمينه‏}‏ هم أهل السعادة ‏{‏ومن كان في هذه أعمى‏}‏ هم أهل الشقاوة ‏{‏ولا يظلمون فتيلاً‏}‏ أي لا ينقصون أدنى شيء وتقدم شرح الفتيل في سورة النساء‏.‏

والظاهر أن الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏في هذه‏}‏ إلى الدنيا وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد أي‏:‏ من كان في هذه الدار أعمى عن النظر في آيات الله وعبره والإيمان بأنبيائه، فهو في الآخرة أعمى إما أن يكون على حذف مضاف أي في شأن الآخرة، وإما أن يكون فهو يوم القيامة أعمى معنى أنه خبر إن لا يتوجه له صواب ولا يلوح له نجح‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو أعمى في الآخرة عن حججه‏.‏ وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ ‏{‏ومن كان في هذه‏}‏ النعم يشير إلى نعم التكريم والتفضيل فهو في الآخرة التي لم تر ولم تعاين ‏{‏أعمى‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ ومن كان في الدنيا ضالاً كافراً فهو في الآخرة أعمى ‏{‏وأضل سبيلاً‏}‏ لأنه في الدنيا تقبل توبته، وفي الآخرة لا تقبل وفي الدنيا يهتدي إلى التخلص من الآفات، وفي الآخرة لا يهتدي إلى ذلك البتة‏.‏ وقيل‏:‏ فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنة‏.‏ وقيل‏:‏ أعمى البصر كما قال ‏{‏ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً‏}‏ وقيل‏:‏ من كان في الدنيا أعمى عن إبصار الحق والاعتبار فهو في الآخرة أعمى عن الاعتذار‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ والظاهر عندي أن الإشارة بهذه إلى الدنيا ‏{‏أي من كان‏}‏ في دنياه ‏{‏هذه‏}‏ وقت إدراكه وفهمه ‏{‏أعمى‏}‏ عن النظر في آيات الله فهو في يوم القيامة أشدّ حيرة وعمى لأنه قد باشر الخيبة ورأى مخائل العذاب، وبهذا التأويل تكون معادلة التي قبلها من ذكر من يؤتى كتابه بيمينه‏.‏ وإذا جعلنا قوله ‏{‏في الآخرة‏}‏ بمعنى في شأن الآخرة لم تطرد المعادلة بين الآيتين‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ والأعمى مستعار ممن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة، أما في الدنيا فلفقد النظر، وأما في الآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه وقد جوّزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل‏.‏ ومن ثم قرأ أبو عمر الأول مما لا والثاني مفخماً لأن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلام كقوله ‏{‏أعمالكم‏}‏ وأما الأول فلم يتعلق به شيء فكانت ألفه واقعة في الطرف معرضة للإمالة انتهى‏.‏ وتعليله ترك إمالة أعمى الثاني أخذه الزمخشري من أبي عليّ قال أبو عليّ‏:‏ لأن الإمالة إنما تحسن في الأواخر، و‏{‏أعمى‏}‏ ليس كذلك لأن تقديره ‏{‏أعمى‏}‏ من كذا فليس يتم إلا في قولنا من كذا فهو إذن ليس بآخر، ويقوي هذا التأويل عطف ‏{‏وأضل سبيلاً‏}‏ لأن الإنسان في الدنيا يمكن أن يؤمن فينجو وهو في الآخرة لا يمكنه ذلك فهو ‏{‏أضل سبيلاً‏}‏ وأشدّ حيرة وأقرب إلى العذاب، و‏{‏أعمى‏}‏ هنا من عمى القلب لا من عمى البصر لأن ذلك يقع فيه التفاضل لا هذا‏.‏