فصل: تفسير الآيات رقم (68- 77)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 56‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ ‏(‏42‏)‏ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ‏(‏43‏)‏ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏44‏)‏ ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏45‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ‏(‏46‏)‏ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ‏(‏47‏)‏ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ‏(‏48‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏49‏)‏ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ‏(‏50‏)‏ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏51‏)‏ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ‏(‏52‏)‏ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ‏(‏53‏)‏ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏54‏)‏ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ‏(‏55‏)‏ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏قروناً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هم بنو إسرائيل‏.‏ وقيل‏:‏ قصة لوط وشعيب وأيوب ويونس صلوات الله عليهم ‏{‏ما تسبق‏}‏ إلى آخر الآية تقدم الكلام عليها في الحجر ‏{‏ثم أرسلنا رسلنا تترى‏}‏ أي لأمم آخرين أنشأناهم بعد أولئك‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتادة وأبو جعفر وشيبه وابن محيصن والشافعي ‏{‏تترى‏}‏ منوناً وباقي السبعة بغير تنوين، وانتصب على الحال أي متواترين واحداً بعد واحد، وأضاف الرسل إليه تعالى وأضاف رسولاً إلى ضمير الأمة المرسل إليها لأن الإضافة تكون بالملابسة، والرسول يلابس المرسل والمرسل إليه، فالأول كانت الإضافة لتشريف الرسل، والثاني كانت الإضافة إلى الأمة حيث كذبته ولم ينجح فيهم إرساله إليهم فناسب الإضافة إليهم‏.‏

‏{‏فأتبعنا بعضهم بعضاً‏}‏ أي بعض القرون أو بعض الأمم بعضاً في الإهلاك الناشئ عن التكذيب‏.‏ و‏{‏أحاديث‏}‏ جمع حديث وهو جمع شاذ، وجمع أحدوثة وهو جمع قياسي‏.‏ والظاهر أن المراد الثاني أي صاروا يتحدث بهم وبحالهم في الإهلاك على سبيل التعجب والاعتبار وضرب المثل بهم‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ لا يقال هذا إلاّ في الشر ولا يقال في الخير‏.‏ قيل‏:‏ ويجوز أن يكون جمع حديث، والمعنى أنه لم يبق منهم عين ولا أثر إلاّ الحديث عنهم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ الأحاديث تكون اسم جمع للحديث ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى‏.‏ وأفاعيل ليس من أبنية اسم الجمع، وإنما ذكره أصحابنا فيما شذ من الجموع كقطيع وأقاطيع، وإذا كان عباديد قد حكموا عليه بأنه جمع تكسير وهو لم يلفظ له بواحد فأحرى ‏{‏أحاديث‏}‏ وقد لفظ له وهو حديث، فالصحيح أنه جمع تكسير لا اسم جمع لما ذكرناه‏.‏

‏{‏بآياتنا‏}‏ قال ابن عباس هي التسع وهي العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والبحر، والسنون، ونقص من الثمرات ‏{‏وسلطان مبين‏}‏ قيل‏:‏ هي العصا واليد، وهما اللتان اقترن بهما التحدي ويدخل في عموم اللفظ سائر آياتهما كالبحر والمرسلات الست، وأما غير ذلك مما جرى بعد الخروج من البحر فليست تلك لفرعون بل هي خاصة ببني إسرائيل‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ‏{‏بآياتنا‏}‏ أي بديننا‏.‏ ‏{‏وسلطان مبين‏}‏ هو المعجز، ويجوز أن يراد بالآيات نفس المعجزات، وبسلطان مبين كيفية دلالتها لأنها وإن شاركت آيات الأنبياء فقد فارقتها في قوة دلالتها على قول موسى عليه السلام‏.‏ قيل‏:‏ ويجوز أن يراد بالسلطان المبين العصا لأنها كانت أمّ آيات موسى وأولاها، وقد تعلقت بها معجزات شتى من انقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة، وانفلاق البحر، وانفجار العيون من الحجر بالضرب بها، وكونها حارساً وشمعة وشجرة خضراء مثمرة ودلواً ورشاء، جعلت كأنها ليست بعض الآيات لما استبدت به من الفضل فلذلك عطفت عليها كقوله ‏{‏وجبريل وميكال‏}‏ ويجوز أن يراد بسلطان مبين الآيات أنفسها أي هي آيات وحجة بينة ‏{‏فاستكبروا‏}‏ عن الإيمان بموسى وأخيه نفة‏.‏

‏{‏قوماً عالين‏}‏ أي رفيعي الحال في الدنيا أي متطاولين على الناس قاهرين بالظلم، أو متكبرين كقوله ‏{‏إن فرعون علا في الأرض‏}‏ أي وكان من شأنهم التكبر‏.‏ والبشر يطلق على المفرد والجمع كقوله ‏{‏فأما ترينّ من البشر أحداً‏}‏ ولما أطلق على الواحد جازت تثنيته فلذلك جاء ‏{‏لبشرين‏}‏ ومثل يوصف به المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث ولا يؤنث، وقد يطابق تثنية وجمعاً و‏{‏قومهما‏}‏ أي بنو إسرائيل ‏{‏لنا عابدون‏}‏ أي خاضعون متذللون، أو لأنه كان يدّعي الإلهية فادّعى الناس العبادة، وإن طاعتهم له عبادة على الحقيقة‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ العرب تسمي كل من دان للملك عابداً، ولما كان ذلك الإهلاك كالمعلول للتكذيب أعقبه بالفاء أي فكانوا ممن حكم عليهم بالغرق إذ لم يحصل الغرق عقيب التكذيب‏.‏

‏{‏موسى الكتاب‏}‏ أي قوم موسى و‏{‏الكتاب‏}‏ التوراة، ولذلك عاد الضمير على ذلك المحذوف في قوله ‏{‏لعلهم‏}‏ ولا يصح عود هذا الضمير في ‏{‏لعلهم‏}‏ على فرعون وقومه لأن ‏{‏الكتاب‏}‏ لم يؤته موسى إلا بعد هلاك فرعون لقوله‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى‏}‏ ‏{‏لعلهم‏}‏ ترج بالنسبة إليهم ‏{‏لعلهم يهتدون‏}‏ لشرائعها ومواعظها‏.‏

‏{‏وجعلنا ابن مريم وأمه‏}‏ أي قصتهما وهي ‏{‏آية‏}‏ عظمى بمجموعها وهي آيات مع التفصيل، ويحتمل أن يكون حذف من الأول آية لدلالة الثاني أي وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية‏.‏ والربوة هنا‏.‏ قال ابن عباس وابن المسيب‏:‏ الغوطة بدمشق، وصفتها أنها ‏{‏ذات قرار ومعين‏}‏ على الكمال‏.‏ وقال أبو هريرة‏:‏ رملة فلسطين‏.‏ وقال قتادة وكعب‏:‏ بيت المقدس، وزعم أن في التوراة أن بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء، وأنه يزيد على أعلى الأرض ثمانية عشر ميلاً‏.‏ وقال ابن زيد ووهب‏:‏ الربوة بأرض مصر، وسبب هذا الإيواء أن ملك ذلك الزمان عزم على قتل عيسى ففرت به أمه إلى أحد هذه الأماكن التي ذكرها المفسرون‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏رُبوة‏}‏ بضم الراء وهي لغة قريش، والحسن وأبو عبد الرحمن وعاصم وابن عامر بفتحها، وأبو إسحاق السبيعي بكسرها وابن أبي إسحاق رباوة بضم الراء بالألف، وزيد بن عليّ والأشهب العقيلي والفرزدق والسلمي في نقل صاحب اللوامح بفتحها وبالألف‏.‏ وقرئ بكسرها وبالألف ‏{‏ذات قرار‏}‏ أي مستوية يمكن القرار فيها للحرث والغراسة، والمعنى أنها من البقاع الطيبة‏.‏ وعن قتادة‏:‏ ذات ثمار وماء، يعني أنها لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها‏.‏

ونداء ‏{‏الرسل‏}‏ وخطابهم بمعنى نداء كل واحد وخطابه في زمانه إذ لم يجتمعوا في زمان واحد فينادون ويخاطبون فيه، وإنما أتى بصورة الجمع ليعتقد السامع أن أمراً نودي له جميع الرسل ووصوا به حقيق أن يوحد به ويعمل عليه‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء بلفظ الجمع لقيامه مقام ‏{‏الرسل‏}‏ وقيل‏:‏ ليفهم بذلك أن هذه طريقة كل رسول كما تقول تخاطب تاجراً‏:‏ يا تجار اتقوا الربا‏.‏

وقال الطبري‏:‏ الخطاب لعيسى، وروي أنه كان يأكل من غزل أمه والمشهور من بقل البرية‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى ومريم إلى الربوة فذكر على سبيل الحكاية أي ‏{‏آويناهما‏}‏ وقلنا لهما هذا الذي أعلمناهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا وكلا مما رزقناكما واعملا صالحاً اقتداء بالرسل والطيبات الحلال لذيذاً كان أو غير لذيذ‏.‏ وقيل‏:‏ ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه ويشهد له ‏{‏ذات قرار ومعين‏}‏ وقدم الأكل من الطيبات على العمل الصالح دلالة على أنه لا يكون صالحاً إلاّ مسبوقاً بأكل الحلال‏.‏

‏{‏إني بما تعملون عليم‏}‏ تحذير في الظاهر والمراد اتباعهم ‏{‏وإن هذه أمتكم‏}‏ الآية تقدم تفسير مثلها في أواخر الأنبياء‏.‏ وقرأ الكوفيون ‏{‏وإن‏}‏ بكسر الهمزة والتشديد على الاستئناف، والحرميان وأبو عمرو بالفتح والتشديد أي ولأن، وابن عامر بالفتح والتخفيف وهي المخففة من الثقيلة، ويدل على أن النداء للرسل نودي كل واحد منهم في زمانه قوله ‏{‏وإن هذه أمتكم‏}‏‏.‏

وقوله ‏{‏فتقطعوا‏}‏ وجاء هنا ‏{‏وأنا ربكم فاتقون‏}‏ وهو أبلغ في التخويف والتحذير من قوله في الأنبياء ‏{‏فاعبدون‏}‏ لأن هذه جاءت عقيب إهلاك طوائف كثيرين من قوم نوح، والأمم الذين من بعدهم وفي الأنبياء وإن تقدمت أيضاً قصة نوح وما قبلها فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام في قصة أيوب ويونس وزكريا ومريم، فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته تعالى وجاء هنا ‏{‏فتقطعوا‏}‏ بالفاء إيذاناً بأن التقطيع اعتقب الأمر بالتقوى، وذلك مبالغة في عدم قبولهم وفي نفارهم عن توحيد الله وعبادته‏.‏ وجاء في الأنبياء بالواو فاحتمل معنى الفاء، واحتمل تأخر تقطعهم عن الأمر بالعبادة، وفرح كل حزب بما لديه دليل على نعمته في ضلاله، وأنه هو الذي ينبغي أن يعتقد وكأنه لا ريبة عنده في أنه الحق‏.‏

ولما ذكر تعالى من ذكر من الأمم ومآل أمرهم من الإهلاك حين كذبوا الرسل كان ذلك مثالاً لقريش، فخاطب رسوله في شأنهم بقوله ‏{‏فذرهم في غمرتهم حتى حين‏}‏ وهذا وعيد لهم حيث تقطعوا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقائل هو شاعر، وقائل ساحر، وقائل به جنة كما تقطع من قبلهم من الأمم كما قال ‏{‏أتواصوا به بل هم قوم طاغون‏}‏ قال الكلبي ‏{‏في غمرتهم‏}‏ في جهالتهم‏.‏ وقال ابن بحر‏:‏ في حيرتهم‏.‏ وقال ابن سلام‏:‏ في غفلتهم‏.‏ وقيل‏:‏ في ضلالتهم ‏{‏حتى حين‏}‏ حتى ينزل بهم الموت‏.‏ وقيل‏:‏ حتى يأتي ما وعدوا به من العذاب‏.‏ وقيل‏:‏ هو يوم بدر‏.‏ وقيل‏:‏ هي منسوخة بآية السيف‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏في غمرتهم‏}‏ وعليّ بن أبي طالب وأبو حيوة والسلمي في غمراتهم على الجمع لأن لكل واحد غمرة، وعلى قراءة الجمهور فغمرة تعم إذا أضيفت إلى عام‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ الغمرة الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلاً لما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم، أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل، قال الشاعر‏:‏

كأني ضارب في غمرة لعب *** سلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخره انتهى‏.‏ ثم وقفهم تعالى على خطأ رأيهم في أن نعمة الله عليهم بالمال ونحوه إنما هي لرضاه عن حالهم، وبيّن تعالى أن ذلك إنما هو إملاء واستدراج إلى المعاصي واستجرار إلى زيادة الإثم وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات ومعاجلة بالإحسان‏.‏

وقرأ ابن وثاب ‏{‏إنما نمدهم‏}‏ بكسر الهمزة‏.‏ وقرأ ابن كثير في رواية يمدهم بالياء، وما في ‏{‏أنما‏}‏ إما بمعنى الذي أو مصدرية أو كافة مهيئة إن كانت بمعنى الذي فصلتها ما بعدها، وخبر إن هي الجملة من قوله ‏{‏نسارع لهم في الخيرات‏}‏ والرابط لهذه الجملة ضمير محذوف لفهم المعنى تقديره‏:‏ نسارع لهم به في الخيرات، وحسن حذفه استطالة الكلام مع أمن اللبس‏.‏ وتقدم نظيره في قوله ‏{‏إنما نمدهم به‏}‏ وقال هشام بن معونة‏:‏ الضرر الرابط هو الظاهر وهو ‏{‏في الخيرات‏}‏ وكان المعنى ‏{‏نسارع لهم‏}‏ فيه ثم أظهر فقال ‏{‏في الخيرات‏}‏ فلا حذف على هذا التقدير، وهذا يتمشى على مذهب الأخفش في إجازته نحو زيد قام أبو عبد الله إذا كان أبو عبد الله كنية لزيد، فالخيرات من حيث المعنى هي الذي مدُّوا به من المال والبنين وإن كانت ما مصدرية فالمسبوك منها ومما بعدها هو مصدر اسم إن وخبر إن هو ‏{‏نسارع‏}‏ على تقدير مسارعة فيكون الأصل أن نسارع فحذفت أن وارتفع الفعل، والتقدير أيحسبون أن إمدادنا لهم بالمال والبنين مسارعة لهم في الخيرات‏.‏ وإن كانت ما كافة مهيئة فهو مذهب الكسائي فيها هنا فلا تحتاج إلى ضمير ولا حذف، ويجوز الوقف على ‏{‏وبنين‏}‏ كما تقول حسبت إنما يقوم زيد، وحسبت أنك منطلق، وجاز ذلك لأن ما بعد حسبت قد انتظم مسنداً ومسنداً إليه من حيث المعنى، وإن كان في ما يقدر مفرداً لأنه ينسبك من أن وما بعدها مصدر‏.‏

وقرأ السلمي وعبد الرحمن بن أبي بكرة يسارع بالياء وكسر الراء فإن كان فاعل ‏{‏نسارع‏}‏ ضمير يعود على ما بمعنى الذي، أو على المصدر المنسبك من ما نمد فنسارع خبر لأن ولا ضمير ولا حذف أي يسارع هو أي الذي يمد ويسارع، هو أي إمدادنا‏.‏ وعن ابن أبي بكرة المذكور بالياء وفتح الراء مبنياً للمفعول‏.‏ وقرأ الحر النحوي نسرع بالنون مضارع أسرع ‏{‏بل لا يشعرون‏}‏ إضراب عن قوله ‏{‏أيحسبون‏}‏ أي بل هم أشباه البهائم لا فطنة لهم ولا شعور فيتأملوا ويتفكروا أهو استدراج أم مسارعة في الخير وفيه تهديد ووعيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 67‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏58‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ‏(‏59‏)‏ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ‏(‏60‏)‏ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ‏(‏61‏)‏ وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏62‏)‏ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ‏(‏63‏)‏ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ‏(‏64‏)‏ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏65‏)‏ قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ ‏(‏66‏)‏ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

لما فرغ من ذكر الكفرة وتوعدهم عقب ذلك بذكر المؤمنين ووعدهم وذكرهم بأبلغ صفاتهم والإشفاق أبلغ التوقع والخوف ومنهم من حمل الخشية على العذاب والمعنى والذين هم من عذاب رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ وهو قول الكلبي ومقاتل ومّنْ خَشْيَةِ متعلق بمشفقون قاله الحوفي وقال ابن عطية ومِنْ في مّنْ خَشْيَةِ هي لبيان جنس الإشفاق والإشفاق إنما هو من عذاب الله والآيات تعم القرآن والعبر والمصنوعات التي لله وغير ذلك مما فيه نظر وفي كل شيء له آية

ثم ذكر نفي الإشراك وهو عبادتهم آلهتهم التي هي الأصنام إذ لكفار قريش أن تقول نحن نؤمن بآيات ربنا ونصدق بأنه المخترع الخالق وقيل ليس المراد منه الإيمان بالتوحيد ونفي الشرك لله لأن ذلك داخل في قوله وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ المراد نفي الشرك للحق وهو أن يخلصوا في العبادة لا يقدم عليها إلا لوجه الله وطلب رضوانه وقرأ الجمهور يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ أي يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أي خائفة أن لا يقبل منهم لتقصيرهم أنهم أي وجلة لأجل رجوعهم إلى الله أي خائفة لأجل ما يتوقعون من لقاء الجزاء قال ابن عباس وابن جبير هو عام في جميع أعمال البر كأنه قال والذين يفعلون من أنفسهم في طاعة الله ما بلغه جهدهم وقرأت عائشة وابن عباس وقتادة والأعمش والحسن والنخعي يأتون ما أتوا من الإتيان أي يفعلون ما فعلوا قالت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف الله قال ‏(‏لا يا ابنة الصديق ولكنه هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله أن لا يقبل‏)‏ قيل وجل العارف من طاعته أكثر من مخالفته لأن المخالفة تمحوها التوبة والطاعة تطلب التصحيح وقال الحسن المؤمن يجمع إحساناً وشفقة والمنافق يجمع إساءة وأمناً وقرأ الأعمش أَنَّهُمْ بالكسر وقال أبو عبد الله الرازي ترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن لأن الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز والثانية على تحصيل الإيمان بالله والثالثة على ترك الرياء في الطاعة والرابعة على أن المستجمع لهذه الصفات الثلاثة يأتي بالطاعات مع خوف من التقصير وهو نهاية مقامات الصديقين انتهى

أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ جملة في موضع خبر أن قال ابن زيد الخَيْرَاتِ المخافتة والإيمان والكف عن الشرك قال الزمخشري يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ يحتمل معنيين أحدهما أن يراد يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها والثاني أنهم يتعجلون في الدنيا المنافع ووجوه الإكرام كما قال فَاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاْخِرَةِ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ لأنهم إذا سورع بها لهم فقد سارعوا في نيلها وتعجلوها وهذا الوجه أحسن طباقاً للآية المتقدمة لأن فيه إثبات ما نفي عن الكفار للمؤمنين انتهى وقرأ الحر النحوي يسرعون مضارع أسرع يقال أسرعت إلى الشيء وسرعت إليه بمعنى واحد وأما المسارعة فالمسابقة أي يسارعون غيرهم قال الزجاج يُسَارِعُونَ أبلغ من يسرعون انتهى وجهة المبالغة أن المفاعلة تكون من اثنين فتقتضي حث النفس على السبق لأن من عارضك في شيء تشتهي أن تغلبه فيه

وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ الظاهر أن الضمير في لَهَا عائد على الخَيْرَاتِ أي سابقون إليها تقول سبقت لكذا وسبقت إلى كذا ومفعول سَابِقُونَ محذوف أي سابقون الناس وتكون الجملة تأكيداً للتي قبلها مفيدة تجدد الفعل بقوله يُسَارِعُونَ وثبوته بقوله سَابِقُونَ وقيل اللام للتعليل أي لأجلها سابقون الناس إلى رضا الله وقال الزمخشري لَهَا سَابِقُونَ أي فاعلون السبق لأجلها أو سابقون الناس لأجلها انتهى وهذان القولان عندي واحد قال أيضاً أو إياها سابقون أي ينالوها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا انتهى ولا يدل لفظ لَهَا سَابِقُونَ على هذا التفسير لأن سبق الشيء الشيء يدل على تقدم السابق على المسبوق فكيف يقال لهم وهم يسبقون الخيرات هذا لا يصح وقال أيضاً ويجوز أن كون لَهَا سَابِقُونَ خبراً بعد خبر ومعنى وهم لها كمعنى قوله أنت لها انتهى وهذا مروي عن ابن عباس قال المعنى سبقت لهم السعادة في الأزل فهم لها ورجحه الطبري بأن اللام متمكنة في المعنى انتهى والظاهر القول الأول وباقيها متعسف وتحميل للفظ غير ظاهره وقيل الضمير في لَهَا عائد على لجنة وقيل على الأمم

وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا تقدم الكلام على نظير هذه الجملة في آخر البقرة وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقّ أي كتاب فيه إحصاء أعمال الخلق يشير إلى الصحف الت يقرؤون فيها ما ثبت لهم في اللوح المحفوظ وقيل القرآن

بَلْ قُلُوبُهُمْ أي قلوب الكفار في ضلال قد غمرها كما يغمر الماء مّنْ هَاذَا أي من هذا العمل الذي وصف به المؤمنون أو من الكتاب الذي لدينا أو من القرآن والمعنى من اطراح هذا وتركه أو يشير إلى الذين بجملته أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم‏)‏ أقوال خمسة وَلَهُمْ أَعْمَالٌ من دون ذلك أي من دون الغمرة والضلال المحيط بهم فالمعنى أنهم ضالون معرضون عن الحق وهم مع ذلك لهم سعايات فساد وصفهم تعالى بحالتي شر قال هذا المعنى قتادة وأبو العالية وعلى هذا التأويل الإخبار عما سلف من أعمالهم وعماهم فيه وقيل الإشارة بذلك إلى قوله مّنْ هَاذَا وكأنه قال لهم أعمال من دون الحق أو القرآن ونحوه وقال الحسن ومجاهد إنما أخبر بقوله وَلَهُمْ أَعْمَالٌ عما يستأنف من أعمالهم أي أنهم لهم أعمال من الفساد وعن ابن عباس أَعْمَالٌ سيئة دون الشرك وقال الزمخشري وَلَهُمْ أَعْمَالٌ متجاوزة متخطئة لذلك أي لما وصف به المؤمنون هم معتادون وبها ضارون ولا يفطمون عنها حتى يأخذهم الله بالعذاب وحَتَّى هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام والكلام الجملة الشرطية انتهى وقيل الضمير في قوله بَلِ يعود إلى المؤمنين المشفقين هُمْ فِى غَمْرَةٍ من هذا وصف لهم بالحيرة كأنه قيل وَهُمْ مع ذلك الخوف والوجل كالمتحيرين في أعمالهم أهي مقبولة أم مردودة ولهم أعمال من دون ذلك أي من النوافل ووجوه البر سوى ما هم عليه ويريد بالأعمال الأول الفرائض وبالثاني النوافل

حتى إذا أخذنا مترفيهم رجوع إلى وصف الكفار قاله أبو مسلم قال أبو عبد الله الرازي وهو أولى لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما اتصل به كان أولى من رده إلى ما بعده خصوصاً وقد رغب المرء في الخير بأن يذكر أن أعمالهم محفوظة كما يحذر بذلك من الشر وأن يوصف بشدة فكرة في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة ويراد أنه قد استولى عليه الفكر في قبوله أو رده وفي أنه هل أداه كما يجب أو قصر فإن قيل فما المراد بقوله مّنْ هَاذَا قلنا إشارة إلى إشفاقهم ووجلهم بين استيلاء ذلك على قلوبهم انتهى وتقدم قول الزمخشري في حَتَّى أنها التي يبتدأ بعدها الكلام وأنها غاية لما قبلها وقد ردّ ذلك أنهم معتادون لها حتى يأخذهم الله بالعذاب وقال الحوفي حَتَّى غاية وهي عاطفة إِذَا ظرف يضاف إلى ما بعده فيه معنى الشرط إِذَا الثانية في موضع جواب الأولى ومعنى الكلام عامل في إِذَا والتقدير جأروا فيكون جأد العامل في إِذَا الأولى والعامل في الثانية أَخَذْنَا انتهى وهو كلام مخبط ليس أهلاً أن يرد

وقال ابن عطية وحَتَّى حرف ابتداء لا غير وإِذَا الثانية التي هي جواب يمنعان من أن تكون حتى غاية لعاملون انتهى وقال مكي أي لكفار قريش أعمال من الشر دون أعمال أهل البر لَهَا عَامِلُونَ إلى أن يأخذ الله أهل النعمة والبطر منهم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يضجون ويستغيثون والمترفون المنعمون والرؤساء والعذاب القحط سبع سنين والجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ فقال ‏(‏اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف‏)‏ فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة والقد والأولاد وقيل العذاب قتلهم يوم بدر وقيل عذاب الآخرة والظاهر أن الضمير في إِذَا هُمْ عائد على مُتْرَفِيهِمْ إذ هم المحدث عنهم صاحوا حين نزل بهم العذاب وقيل يعود على الباقين بعد المعذبين قال ابن جريج المعذبون قتلى بدر والذين يَجْئَرُونَ أهل مكة لأنهم ناحوا واستغاثوا

لاَ تَجْئَرُواْ الْيَوْمَ أي يقال لهم إما حقيقة تقول لهم الملائكة ذلك وإما مجازاً أي لسان الحال يقول ذلك هذا إن كان الذين يجأرون هم المعذبون وعلى قول ابن جريج ليس القائل الملائكة وقال قتادة يَجْئَرُونَ يصرخون بالتوبة فلا يقبل منهم وقال الربيع بن أنس تجأرون تجزعون عبر بالصراخ بالجزع إذ الجزع سببه إِنَّكُمْ مّنَّا لاَ تُنصَرُونَ أي لا تمنعون من عذابنا أو لا يكون لكم نصر من جهتنا فالجوار غير نافع لكم ولا مجد

قَدْ كَانَتْ ءايَتِى هي آيات القرآن تَنكِصُونَ ترجعون استعارة للإعراض عن الحق وقرأ علي بن أبي طالب تَنكِصُونَ بضم الكاف والضمير في بِهِ عائد على المصدر الدال عليه تَنكِصُونَ أي بالنكوص والتباعد من سماع الآيات أو على الآيات لأنها في معنى الكتاب وضمن مُسْتَكْبِرِينَ معنى مكذبين فعُدِّي بالباء أو تكون الباء للسبب أي يحدث لكم بسبب سماعه استكبار وعتو والجمهور على أن الضمير في بِهِ عائد على الحرم والمسجد وإن لم يجر له ذكر وسوّغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت وأنه لم تكن لهم معجزة إلاّ أنهم ولاته والقائمون به وذكر منذر بن سعيد أن الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ ويحسنه أن في قوله تُتْلَى عَلَيْكُمْ دلالة على التالي وهو الرسول عليه السلام وهذه أقوال تتعلق فيها بمستكبرين وقيل تتعلق بسامراً أي تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحراً وشعراً وسب من أتى به

وقرأ الجمهور سَامِراً وابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة وابن محيصن وعكرمة والزعفراني ومحبوب عن أبي عمر وسمراً بضم السين وشد الميم مفتوحة جمع سامر وابن عباس أيضاً وزيد بن علي وأبو رجاء وأبو نهيك كذلك وبزيادة ألف بين الميم والراء جمع سامر أيضاً وهما جمعان مقيسان في مثل سامر

وقرأ الجمهور تَهْجُرُونَ بفتح التاء وضم الجيم وروى ابن أبي عاصم بالياء على سبيل الالتفات قال ابن عباس تَهْجُرُونَ الحق وذكر الله وتقطعونه من الهجر وقال ابن زيد وأبو حاتم من هجر المريض إذا هذى أي يقولون اللغو من القول وقرأ ابن عباس وابن محيصن ونافع وحميد بضم التاء وكسر الجيم مضارع اهجر أي يقولون الهجر بضم الهاء وهو الفحش قال ابن عباس إشارة إلى السب للصحابة وغيرهم وقرأ ابن مسعود وابن عباس أيضاً وزيد بن عليّ وعكرمة وأبو نهيك وابن محيصن أيضاً وأبو حيوة كذلك إلاّ أنهم فتحوا الهاء وشددوا الجيم وهو تضعيف من هجر ماضي الهجر بالفتح بمعنى مقابل الوصل أو الهذيان أو ماضي الهجر وهو الفحش وقال ابن جني لو قيل إن المعنى أنكم مبالغون في المجاهرة حتى أنكم إن كنتم سمراً بالليل فكأنكم تهجرون في الهاجرة على الاقتضاح لكان وجهاً

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 77‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏68‏)‏ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏69‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ‏(‏70‏)‏ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏71‏)‏ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏72‏)‏ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏73‏)‏ وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ‏(‏74‏)‏ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏75‏)‏ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ‏(‏76‏)‏ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

ذكر تعالى توبيخهم على إعراضهم عن اتباع الحق والقول القرآن الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، أي أفلم يتفكروا فيما جاء به عن الله فيعلموا أنه المعجز الذي لا يمكن معارضته فيصدقوا به وبمن جاء به، وبخهم ووقفهم على تدبره وأنهم بمكابرتهم ونظرهم الفاسد قال بعضهم سحر وقال بعضهم شعر، وهو أعظم الدلائل الباقية على غابر الدهر قرعهم أولاً بترك الانتفاع بالقرآن ثم ثانياً بأن ما جاءهم جاء آباءهم الأولين، أي إرسال الرسل ليس بدعاً ولا مستغرباً بل جاءت الرسل الأمم قبلهم، وعرفوا ذلك بالتواتر ونجاة من آمن واستئصال من كذب آباؤهم إسماعيل وأعقابه من عدنان وقحطان، وروي‏:‏ لا تسبوا مضر، ولا ربيعة، ولا الحارث بن كعب، ولا أسد بن خزيمة، ولا تميم بن مرة ولا قساً وذكر أنهم كانوا مسلمين وأن تبعاً كان مسلماً وكان على شرطه سليمان بن داود وبخهم ثالثاً بأنهم يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم وصحة نسبه وحلوله في سطة هاشم وأمانته وصدقه وشهامته وعقله واتسامه بأنه خير فتيان قريش، وكفى بخطبة أبي طالب حين تزوج خديجة وأنها احتوت على صفات له صلى الله عليه وسلم طرقت آذان قريش فلم تنكر منها شيئاً أي قد سبقت معرفتهم له جملة وتفصيلاً، فلا يمكن إنكار شيء من أوصافه‏.‏

ثم وبخهم رابعاً بأنهم نسبوه إلى الجن وقد علموا أنه أرجحهم عقلاً وأثقبهم ذهناً، وأن الفرق بين الحكمة وفصل الخطاب الذي جاء به وبين كلام ذي الجنة غير خاف على من له مسكة من عقل، وهذه التوبيخات الأربع كان يقتضي ما وبخوا به منها أن يكون سبباً لانقيادهم إلى الحق لأن التدبير لما جاء به والنظر في سير الماضين وإرسال الرسل إليهم ومعرفة الرسول ذاتاً وأوصافاً وبراءته من الجنون هاد لمن وفقه الله للهداية، ولكنه جاءهم بما حال بينهم وبين أهوائهم ولم يوافق ما نشؤوا عليه من اتباع الباطل، ولما لم يجدوا له مدفعاً لأنه الحق عاملوا بالبهت وعولوا على الكذب من النسبة إلى الجنون والسحر والشعر‏.‏

‏{‏بل جاءهم بالحق‏}‏ أي بالقرآن المشتمل على التوحيد وما به النجاة في الآخرة والسؤدد في الدنيا‏.‏

‏{‏وأكثرهم للحق كارهون‏}‏ يدل على أن فيهم من لا يكره الحق وذلك من يترك الإيمان أنفة واستكباراً من توبيخ قومه أن يقولوا‏:‏ صبأ وترك دين آبائه ‏{‏ولو اتبع الحق أهواءهم‏}‏ قرأ ابن وثاب ‏{‏ولو اتبع‏}‏ بضم الواو والظاهر أنه ‏{‏الحق‏}‏ الذي ذكر قبل في قولهم ‏{‏بل جاءهم بالحق‏}‏ أي لو كان ما جاء به الرسول من الإسلام والتوحيد متبعاً أهواءهم لانقلب شراً وجاء الله بالقيامة وأهلك العالم ولم يؤخر قال معناه الزمخشري وبعضه بلفظه‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ دل بهذا على عظم شأن الحق، فلو ‏{‏اتبع أهواءهم‏}‏ لانقلب باطلاً ولذهب ما يقوم به العالم فلا يبقى له بعده قوام‏.‏ وقيل‏:‏ لو كان ما جاء به الرسول بحكم هوى هؤلاء من اتخاذ شريك لله وولد وكان ذلك حقاً لم يكن لله الصفات العلية ولم تكن له القدرة كما هي، وكان في ذلك فساد السموات والأرض‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يرون الحق في اتخاذ الآلهة مع الله لكنه لم يصح ذلك لوقع الفساد في السموات والأرض على ما قرر في دليل التمانع في قوله تعالى ‏{‏لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا‏}‏ وقيل‏:‏ كانت آراؤهم متناقضة فلو اتبع الحق أهواءهم لوقع التناقض واختل نظام العالم‏.‏ وقال قتادة ‏{‏الحق‏}‏ هنا الله تعالى‏.‏

فقال الزمخشري‏:‏ معناه ولو كان الله يتبع أهواءهم ويأمر بالشرك والمعاصي لما كان إلهاً ولما قدر على أن يمسك السموات والأرض‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ومن قال إن ‏{‏الحق‏}‏ في الآية هو الله تعالى وكان قد حكاه عن ابن جريج وأبي صالح تشعب له لفظة ‏{‏اتبع‏}‏ وصعب عليه ترتيب الفساد المذكور في الآية لأن لفظة الاتباع إنما هي استعارة بمعنى أن يكون أهواؤهم يقررها الحق، فنحن نجد الله تعالى قد قرر كفر أمم وأهواءهم وليس في ذلك فساد سموات، وأما نفسه الذي هو الصواب فلو كان طبق أهوائهم لفسد كل شيء فتأمله انتهى‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ بنون العظمة وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمرو ويونس عن أبي عمرو بياء المتكلم، وابن أبي إسحاق وعيسى أيضاً وأبو البر هثيم وأبو حيوة والجحدري وابن قطيب وأبو رجاء بتاء الخطاب للرسول عليه السلام، وأبو عمرو في رواية ‏{‏آتيناهم‏}‏ بالمد أي أعطيناهم، والجمهور ‏{‏بذكرهم‏}‏ أي بوعظهم والبيان لهم قاله ابن عباس‏.‏ وقرأ عيسى بذكراهم بألف التأنيث، وقتادة نذكرهم بالنون مضارع ذكر ونسبة الإتيان الحقيقي إلى الله لا تصح، وإنما هو مجاز أي بل آتاهم كتابنا أو رسولنا‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏بذكرهم‏}‏ أي بالكتاب الذي هو ذكرهم أي وعظهم أوصيتهم، وفخرهم أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه ويقولون لو أن عندنا ذكراً من الأولين لكنا عباد الله المخلصين‏.‏

‏{‏أم تسألهم خرجاً‏}‏ هذا استفهام توبيخ أيضاً المعنى بل أتسألهم مالاً فغلبوا لذلك واستثقلوك من أجله، قاله ابن عطية وخطب الزمخشري بأحسن كلام فقال ‏{‏أم تسألهم‏}‏ على هدايتك لهم قليلاً من عطاء الخلق والكثير من عطاء الخالق خير فقد ألزمهم الحجة في هذه الآيات، وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله مخبور سره علنه، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم، وأنه لم يعرض له حتى يدعي مثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، ولم يجعل ذلك سلماً إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم، ولم يدعهم إلاّ إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل واستهتارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة وكراهتهم للحق وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر انتهى‏.‏

وتقدم الكلام في قوله ‏{‏خرجاً فخراج‏}‏ في قوله تعالى ‏{‏فهل نجعل لك خرجاً‏}‏ في الكهف قراءة ومدلولاً‏.‏ وقرأ الحسن وعيسى خراجاً فخرج فكلمت بهذه القراءة أربع قراءات، وفي الحرفين ‏{‏فخراج ربك‏}‏ أي ثوابه لأنه الباقي وما يؤخذ من غيره فان‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ فعطاؤه لأنه يعطي لا لحاجة وغيره يعطي لحاجة‏.‏ وقيل‏:‏ فرزقه ويؤيده ‏{‏خير الرازقين‏}‏ قال الجبائي‏:‏ ‏{‏خير الرازقين‏}‏ دل على أنه لا يساويه أحد في الإفضال على عباده، ودل على أن العباد قد يرزق بعضهم بعضاً انتهى‏.‏ وهذا مدلول ‏{‏خير‏}‏ الذي هو أفعل التفضيل ومدلول ‏{‏الرازقين‏}‏ الذي هو جمع أضيف إليه أفعل التفضيل‏.‏

ولما زيف طريقة الكفار أتبع ذلك ببيان صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقال ‏{‏وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم‏}‏ وهو دين الإسلام، ثم أخبر أن من أنكر المعاد ناكب عن هذا الصراط لأنه لا يسلكه إلاّ من كان راجياً للثواب خائفاً من العقاب وهؤلاء غير مصدقين بالجزاء فهم مائلون عنه، وأبعد من زعم أن الصراط الذي هم ناكبون عنه هو طريق الجنة في الآخرة، ومن زعم أن الصراط هو في الآخرة ناكبون عنه بأخذهم يمنة ويسرة إلى النار‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏لناكبون‏}‏ لعادلون‏.‏ وقال الحسن‏:‏ تاركون له‏.‏ وقال قتادة‏:‏ حائرون‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ معرضون، وهذه أقوال متقاربة المعنى‏.‏

‏{‏ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر‏}‏ قيل‏:‏ هو الجوع‏.‏ وقيل‏:‏ القتل والسبي‏.‏ وقيل‏:‏ عذاب الآخرة أي بلغوا من التمرد والعناد أنهم لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لشدة لجاجهم فيما هم عليه من البعد وهذا القول بعيد بل الظاهر أن هذا التعليق كان يكون في الدنيا ويدل على ذلك قوله ‏{‏ولقد أخذناهم بالعذاب‏}‏ إلى آخر الآية استشهد على شدة شكيمتهم في الكفر ولجاجهم على تقدير رحمته لهم بأنه أخذهم بالسيوف أولاً، وبما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم وأسرهم فما وجدت منهم بعد ذلك استكانة ولا تضرع حتى فتحنا عليهم باب الجوع الذي هو أشد من الأسر والقتل فأبلسوا وخضعت رقابهم‏.‏ والظاهر من هذا أن الضمير هو القحط والجوع الذي أصابهم بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا مروي عن ابن عباس وابن جريج‏.‏

وسبب نزول الآية دليل على ذلك روي أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة منع الميرة من أهل مكة، فأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت الرحمة للعالمين‏؟‏ فقال‏:‏ «بلى» فقال‏:‏ قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فنزلت الآية‏.‏

والمعنى لو كشف الله عنهم هذا الضر وهو الهزل والقحط الذي أصابهم ووجدوا الخصب لارتدوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار وعداوة رسول الله والمؤمنين وإفراطهم فيها‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ولو امتحناهم بكل محنة من القتل والجوع فما ريء فيهم استكانة ولا انقياد حتى إذا عذبوا بنار جهنم أبلسوا، كقوله ‏{‏ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون‏}‏ ‏{‏لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون‏}‏ فعلى هذا القول يكون الفتح لباب العذاب الشديد في الآخرة، وعلى الأول كان في الدنيا‏.‏

ووزن استكان استفعل أي انتقل من كون إلى كون كما تقول‏:‏ استحال انتقل من حال إلى حال، وقول من زعم أن استكان افتعل من السكون وأن الألف إشباع ضعيف لأن الإشباع بابه لشعر كقوله‏:‏

أعوذ بالله من العقراب *** الشائلات عقد الأذناب

ولأن الإشباع لا يكون في تصاريف الكلمة، ألا ترى أن من أشبع في قوله‏:‏

ومن ذم الزمان بمنتزاح *** لا تقول انتزاح ينتزيح فهو منتزيح، وأنت تقول‏:‏ استكان يستكين فهو مستكين ومستكان ومجيء مصدره استكانة يدل على أن الفعل وزنه استفعل كاستقام استقامة، وتخالف ‏{‏استكانوا‏}‏ و‏{‏يتضرعون‏}‏ في الصيغة فلم يكونا ماضيين ولا مضارعين‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ لأن المعنى محناهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة، وما من عادة هؤلاء أن يستكينوا ويتضرعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد‏.‏

والملبس‏:‏ الآيس من الشر الذي ناله‏.‏ وقرأ السلمي ‏{‏مبلسون‏}‏ بفتح اللام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 118‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏78‏)‏ وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏79‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏80‏)‏ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ ‏(‏81‏)‏ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ‏(‏82‏)‏ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏83‏)‏ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏84‏)‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏85‏)‏ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏86‏)‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏87‏)‏ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏88‏)‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ‏(‏89‏)‏ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏90‏)‏ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏91‏)‏ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏92‏)‏ قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ‏(‏93‏)‏ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏94‏)‏ وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ‏(‏95‏)‏ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ‏(‏96‏)‏ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ‏(‏97‏)‏ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ‏(‏98‏)‏ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ‏(‏99‏)‏ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏100‏)‏ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏101‏)‏ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏102‏)‏ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ‏(‏103‏)‏ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ‏(‏104‏)‏ أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ‏(‏105‏)‏ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ‏(‏106‏)‏ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ‏(‏107‏)‏ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ‏(‏108‏)‏ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏109‏)‏ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ‏(‏110‏)‏ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏111‏)‏ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ‏(‏112‏)‏ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ‏(‏113‏)‏ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏114‏)‏ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ‏(‏115‏)‏ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ‏(‏116‏)‏ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ‏(‏117‏)‏ وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

الهمز‏:‏ النخس والدفع بيد وغيرها، ومنه مهماز الرائض وهمز الناس باللسان‏.‏ البرزخ‏:‏ الحاجز بين المسافتين‏.‏ وقيل‏:‏ الحجاب بين الشيئين يمنع أحدهما أن يصلى إلى الآخر‏.‏ النسب‏:‏ القرابة من جهة الولادة‏.‏ اللفح‏:‏ إصابة النار الشيء بوهجها وإحراقها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ اللفح أشد من اللقيح تأثيراً‏.‏ الكلوح‏:‏ تشمر الشفتين عن الأسنان ومنه كلوح كلوح الكلب والأسد‏.‏ وقيل‏:‏ الكلوح بسور الوجه وهو تقطيبه، وكلح الرجل كلوحاً وكلاحاً ودهر كالح وبرد كالح شديد‏.‏ العبث‏:‏ اللعب الخالي عن فائدة‏.‏

‏{‏وَهُوَ الذى أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والابصار والافئدة قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ * وَهُوَ الذى * الذى ذَرَأَكُمْ فِى الارض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الذى يُحىِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اختلاف اليل والنهار أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الاولون * قَالُواْ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا هذا مِن قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين * قُل لّمَنِ الارض وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَئ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ * بَلْ أتيناهم بالحق وَإِنَّهُمْ لكاذبون * مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ * عالم الغيب والشهادة فتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

مناسبة ‏{‏وَهُوَ الذى أَنْشَأَ لَكُمُ‏}‏ لما قبله أنه لما بيَّن إعراض الكفار عن سماع الأدلة ورؤية العبر والتأمل في الحقائق خاطب قيل المؤمنين، والظاهر العالم بأسرهم تنبيهاً على أن من لم يعمل هذه الأعضاء في ما خلقه الله تعالى وتدبر ما أودعه فيها من الدلائل على وحدانيته وباهر قدرته فهو كعادم هذه الأعضاء، وممن قال تعالى فيهم ‏{‏فَمَا أَغْنِى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أبصارهم وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شَئ‏}‏ فمن أنشأ هذه الحواس وأنشئت هي له وأحيا وأمات وتصرف في اختلاف الليل والنهار هو قادر على البعث‏.‏ وخص هذه الأعضاء بالذكر لأنه يتعلق بها منافع الدين والدنيا من أعمال السمع والبصر في آيات الله والاستدلال بفكر القلب على وحدانية الله وصفاته، ولما كان خلقها من أتم النعم على العبد قال ‏{‏قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ‏}‏ أي تشكرون قليلاً و‏{‏مَا‏}‏ زائدة للتأكيد‏.‏ ومن شكر النعمة الإقرار بالمنعم بها ونفي الند والشريك‏.‏

و ‏{‏ذَرَأَكُمْ‏}‏ خلقكم وبثكم فيها‏.‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ‏}‏ أي وإلى حكمه وقضائه وجزائه ‏{‏تُحْشَرُونَ‏}‏ يريد البعث والجمع في الآخرة بعد التفرق في الدنيا والاضمحلال‏.‏

‏{‏وَلَهُ اختلاف اليل والنهار‏}‏ أي‏.‏ هو مختص به ومتوليه وله القدرة التي ذلك الاختلاف عنها‏.‏ والاختلاف هنا التعاقب أي يخلف هذا هذا‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ من هذه تصرفات قدرته وآثار قهره فتوحدونه وتنفون عنه الشركاء والأنداد، إذ هم ليسوا بقادرين على شيء من ذلك‏.‏ وقرأ أبو عمرو في رواية‏:‏ يعقلون بياء الغيبة على الالتفات‏.‏

‏{‏بَلْ قَالُواْ‏}‏ ‏{‏بَلِ‏}‏ إضراب أي ليس لهم عقل ولا نظر في هذه الآيات ‏{‏بَلْ قَالُواْ‏}‏ والضمير لأهل مكة ومن جرى مجراهم في إنكار البعث مثل ما قال آباؤهم عاد وثمود ومن يرجعون إليهم من الكفار‏.‏ ولما اتخذوا من دون الله تعالى آلهة ونسبوا إليه الولد نبههم على فرط جهلهم بكونهم يقرون بأنه تعالى له الأرض ومن فيها ملك وأنه رب العالم العلوي وأنه مالك كل شيء وهم مع ذلك ينسبون له الولد ويتخذون له شركاء‏.‏

وقرأ عبد الله والحسن والجحدري ونصر بن عاصم وابن وثاب وأبو الأشهب وأبو عمرو من السبعة ‏{‏سَيَقُولُونَ * الله‏}‏ الثاني والثالث بلفظ الجلالة مرفوعاً وكذا هو في مصاحف أهل الحرمين والكوفة والشام‏.‏ وقرأ باقي السبعة ‏{‏لِلَّهِ‏}‏ فيها بلام الجر فالقراءة الأولى فيها المطابقة لفظاً ومعنى، والثانية جاءت على المعنى لأن قولك‏:‏ من رب هذا‏؟‏ ولمن هذا‏؟‏ في معنى واحد، ولم يختلف في الأول أنه باللام‏.‏ وقرأ ابن محيصن ‏{‏العظيم‏}‏ برفع الميم نعتاً للرب، وتقول أجرت فلاناً على فلان إذا منعته منه أي وهو يمنع من يشاء ممن يشاء ولا يمنع أحد منه أحداً‏.‏ ولا تعارض بين قوله ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ لا ينفي عنهم وبين ما حكي عنهم من قولهم‏.‏ ‏{‏سَيَقُولُونَ * الله‏}‏ لأن قوله ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ لا ينفي علمهم بذلك، وقد يقال مثل ذلك في الاحتجاج على وجه التأكيد لعلمهم، وختم كل سؤال بما يناسبه فختم ملك الأرض ومن فيها حقيق أن لا يشرك به بعض خلقه ممن في الأرض ملكاً له الربوبية وختم ما بعدها بالتقوى وهي أبلغ من التذكر وفيها وعيد شديد أي أفلا تخافونه فلا تشركوا به‏.‏ وختم ما بعد هذه بقوله ‏{‏فَإِنّي * تُسْحَرُونَ‏}‏ مبالغة في التوبيخ بعد إقرارهم والتزامهم ما يقع عليهم به في الاحتجاج وأني بمعنى كيف قرر أنهم مسحورون وسألهم عن الهيئة التي سحروا بها أي كيف تخدعون عن توحيده وطاعته، والسحر هنا مستعار وهو تشبيه لما يقع منهم من التخليط ووضع الأفعال والأقوال غير مواضعها بما يقع من المسحور عبر عنهم بذلك‏.‏

وقرئ بل آتيتهم بتاء المتكلم، وابن أبي إسحاق بتاء الخطاب ‏{‏وَإِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ فيما ينسبون إلى الله تعالى من اتخاذ الولد ومن الشركاء وغير ذلك مما هم فيه كاذبون‏.‏

ثم نفى اتخاذ الولد وهو نفي استحالة ونفي الشريك بقوله ‏{‏وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ‏}‏ أي وما كان معه شريك في خلق العالم واختراعهم ولا في غير ذلك مما يليق به من الصفات العلى، فنفي الولد تنبيه على من قال‏:‏ الملائكة بنات الله، ونفي الشريك في الألوهية تنبيه على من قال‏:‏ الأصنام آلهة، ويحتمل أن يراد به إبطال قول النصارى والثنوية و‏{‏مِن وَلَدٍ‏}‏ و‏{‏مِنْ إِلَهٍ‏}‏ نفي عام يفيد استغراق الجنس، ولهذا جاء ‏{‏إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله‏}‏ ولم يأت التركيب إذاً لذهب الإله‏.‏ ومعنى ‏{‏لَذَهَبَ‏}‏ أي لا نفرد ‏{‏كُلُّ إله‏}‏ بخلقه الذي خلق واستبد به وتميز ملك كل واحد عن ملك الآخر وغلب بعضهم بعضاً كحال ملوك الدنيا، وإذا لم يقع الإنفراد والتغالب فاعلموا أنه إله واحد وإذا لم يتقدمه في اللفظ شرط ولا سؤال سائل ولا عدة قالو‏:‏ فالشرط محذوف تقديره، ولو كان معه آلهة وإنما حذف لدلالة قوله ‏{‏وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ‏}‏ عليه وهذا قول الفراء‏:‏ زعم أنه إذا جاء بعدها اللام كانت لو وما دخلت عليه محذوفة وقد قررنا تخريجاً لها على غير هذا في قوله ‏{‏وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً‏}‏ في سورة الإسراء‏:‏ والظاهر أن ما في ‏{‏بِمَا خَلَقَ‏}‏ بمعنى الذي وجوز أن تكون مصدرية‏.‏

‏{‏سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ تنزيه عن الولد والشريك‏.‏ وقرئ عما تصفون بتاء الخطاب‏.‏ وقرأ الإبنان وأبو عمرو وحفص ‏{‏عالم‏}‏ بالجر‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ صفة لله‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ اتباع للمكتوبة‏.‏ وقرأ باقي السبعة وابن أبي عبلة وأبو حيوة وأبو بحرية بالرفع‏.‏ قال الأخفش‏:‏ الجر أجود ليكون الكلام من وجه واحد‏.‏ قال أبو عليّ الرفع أن الكلام قد انقطع، يعني أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو ‏{‏عالم‏}‏‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والرفع عندي أبرع‏.‏ والفاء في قوله ‏{‏فتعالى‏}‏ عاطفة فالمعنى كأنه قال ‏{‏عالم الغيب والشهادة فتعالى‏}‏ كما تقول زيد شجاع فعظمت منزلته أي شجع فعظمت، ويحتمل أن يكون المعنى فأقول تعالى ‏{‏عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ على إخبار مؤتنف‏.‏ و‏{‏الغيب‏}‏ ما غاب عن الناس و‏{‏الشهادة‏}‏ ما شاهدوه انتهى‏.‏

‏{‏قُل رَّبّ إِمَّا تُرِيَنّى مَا يُوعَدُونَ * رَبّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِى القوم الظالمين * وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لقادرون * ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ السيئة نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين * وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ * حتى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبّ ارجعون * لَعَلّى أَعْمَلُ صالحا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ موازينه فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون * وَمَنْ خَفَّتْ موازينه فأُوْلَئِكَ الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خالدون * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ فِيهَا كالحون‏}‏‏.‏

لما ذكر ما كان عليه الكفار من ادعاء الولد والشريك له، وكان تعالى قد أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أنه ينتقم منهم ولم يبين إذ ذاك في حياته أم بعد موته، أمره بأنه يدعو بهذا الدعاء أي إن ترني ما تعدهم واقعاً بهم في الدنيا أو في الآخرة فلا تجعلني معهم، ومعلوم أنه عليه السلام معصوم مما يكون سبباً لجعله معهم، ولكنه أمره أن يدعو بذلك إظهاراً للعبودية وتواضعاً لله، واستغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه سبعين مرة من هذا القبيل‏.‏ وقال أبو بكر‏:‏ وليتكم ولست بخيركم‏.‏ قال الحسن‏:‏ كان يعلم أنه خيرهم ولكن المؤمن يهضم نفسه‏.‏

وجاء الدعاء بلفظ الرب قبل الشرط وقبل‏:‏ الجزاء مبالغة في الابتهال إلى الله تعالى والتضرع، ولأن الرب هو المالك الناظر في مصالح العبد‏.‏ وقرأ الضحاك وأبو عمر إن الجوني ترئني بالهمز بدل الياء، وهذا كما قرئ فأما ترئن ولترؤن بالهمز وهو إبدال ضعيف، ثم أخبر تعالى أنه قادر على تعجيل العذاب لهم كما كانوا يطلبون ذلك وذلك في حياته عليه الصلاة والسلام ولكن تأخيره لأجل يستوفون، والجمهور على أن هذا العذاب في الدنيا‏.‏ فقيل‏:‏ يوم بدر‏.‏ وقيل‏:‏ فتح مكة‏.‏ وقيل‏:‏ هو عذاب الآخرة‏.‏

ثم أمره تعالى بحسن الأخلاق والتي هي أحسن شهادة أن لا إله إلاّ الله و‏{‏السيئة‏}‏ الشرك‏.‏ وقال الحسن‏:‏ الصفح والإغضاء‏.‏ وقال عطاء والضحاك‏:‏ السلام إذا أفحشوا‏.‏ وحكى الماوردي‏:‏ ‏{‏ادفع‏}‏ بالموعظة المنكر والأجود العموم في الحسنى وفيما يسوء و‏{‏التى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ أبلغ من الحسنة للمبالغة الدال عليها أفعل التفضيل، وجاء في صلة التي ليدل على معرفة السامع بالحالة التي هي أحسن‏.‏ قيل‏:‏ وهذه الآية منسوخة بآية السيف‏.‏ وقيل‏:‏ هي محكمة لأن المداراة محثوث عليها ما لم يؤد إلى ثلم دين وإزراء بمروءة‏.‏ ‏{‏نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ‏}‏ يقتصي أنها آية موادعة، والمعنى بما يذكرون ويصفونك به مما أنت بخلافه‏.‏

ثم أمره تعالى أن يستعيذ من نحسات الشياطين والهمز من الشيطان عبارة عن حثه على العصيان والإغراء به كما يهمز الرائض الدابة لتسرع، ثم أمره أن يستعيذ بسورة الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ همز الشيطان الجنون، والظاهر أنه أمر بالاستعاذة من حضور الشياطين في كل وقت‏.‏ وعن ابن عباس عند تلاوة القرآن‏.‏

‏{‏حتى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الموت‏}‏ قال الزمخشري‏:‏ ‏{‏حتى‏}‏ يتعلق بيصفون أي لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت، والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد للإغضاء عنهم مستعيناً بالله على الشيطان أن يستنزله عن الحلم ويغريه على الانتصار منهم، أو على قوله وإنهم لكاذبون انتهى‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ ‏{‏حتى‏}‏ في هذا الموضع حرف ابتداء، ويحتمل أن تكون غاية مجردة بتقدير كلام محذوف والأول أبين لأن ما بعدها هو المعنى به المقصود ذكره انتهى‏.‏ فتوهم ابن عطية أن حتى إذا كانت حرف ابتداء لا تكون غاية وهي إذا كانت حرف ابتداء لا تفارقها الغاية ولم يبين الكلام المحذوف المقدر‏.‏ وقال أبو البقاء ‏{‏حتى‏}‏ غاية في معنى العطف، والذي يظهر لي أن قبلها جملة محذوفة تكون حتى غاية لها يدل عليها ما قبلها التقدير‏:‏ فلا أكون كالكفار الذين تهمزهم الشياطين ويحضرونهم ‏{‏حتى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الموت‏}‏ ونظير حذف هذه الجملة قول الشاعر‏:‏

فياً عجباً حتى كليب تسبني *** أي يسبني الناس حتى كليب، فدل ما بعد حتى على الجملة المحذوفة وفي الآية دل ما قبلها عليها‏.‏ وقال القشيري‏:‏ احتج تعالى عليهم وذكرهم قدرته ثم قال‏:‏ مصرون على الإنكار ‏{‏حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت‏}‏ تيقن ضلالته وعاين الملائكة ندم ولا ينفعه الندم انتهى‏.‏ وجمع الضمير في ‏{‏ارجعون‏}‏ إما مخاطبة له تعالى مخاطبة الجمع تعظيماً كما أخبر عن نفسه بنون الجماعة في غير موضع‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

فإن شئت حرمت النساء سواكم *** وقال آخر‏:‏

ألا فارحموني يا إله محمد *** وإما استغاث أولاً بربه وخاطب ملائكة العذاب وقاله ابن جريج‏.‏ والظاهر أن الضمير في ‏{‏أَحَدِهِمْ‏}‏ راجع إلى الكفار، ومساق الآيات إلى آخرها يدل على ذلك‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ من لم يزك ولم يحج سأل الرجعة‏.‏ فقيل له ذلك للكفار فقرأ مستدلاً لقوله ‏{‏وَأَنفِقُواْ مِمَّا * رزقناكم‏}‏ آية سورة المنافقين‏.‏ وقال الأوزاعي‏:‏ هو مانع الزكاة، وجاء الموت أي حضر وعاينه الإنسان فحينئذ يسأل الرجعة إلى الدنيا وفي الحديث‏:‏ «إذا عاين المؤمن الموت قالت له الملائكة‏:‏ نرجعك فيقول إلى دار الهموم والأحران بل قدما إلى الله، وأما الكافر فيقول‏:‏ ارجعون لعلي أعمل صالحاً»

ومعنى ‏{‏فِيمَا تَرَكْتُ‏}‏ في الإيمان الذي تركته والمعنى لعلي آتى بما تركته من الإيمان وأعمل فيه صالحاً كما تقول‏:‏ لعلي أبني على أس، يريد أؤس أساً وأبني عليه‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏فِى مَا * تَرَكْتُ‏}‏ من المال على ما فسره ابن عباس‏:‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ كلمة ردع عن طلب الرجعة وإنكار واستبعاد‏.‏ فقيل‏:‏ هي من قول الله لهم‏.‏ وقيل‏:‏ من قول من عاين الموت يقول ذلك لنفسه على سبيل التحسر والندم، ومعنى ‏{‏هُوَ قَائِلُهَا‏}‏ لا يسكت عنها ولا ينزع لاستيلاء الحسرة عليه، أو لا يجد لها جدوى ولا يجاب لما سأل ولا يغاث ‏{‏وَمِن وَرَائِهِمْ‏}‏ أي الكفار ‏{‏بَرْزَخٌ‏}‏ حاجز بينهم وبين الرجعة إلى وقت البعث‏.‏ وفي هذه الجملة اقناط كلي أن لا رجوع إلى الدنيا، وإنما الرجوع إلى الآخرة استعير البرزخ للمدة التي بين موت الإنسان وبعثه‏.‏

وقرأ ابن عباس والحسن وابن عياض ‏{‏فِى الصور‏}‏ بفتح الواو جمع صورة، وأبو رزين بكسر الصاد وفتح الواو، وكذا فأحسن صوركم وجمع فعلة بضم الفاء على فعل بكسر الفاء شاذ‏.‏ ‏{‏فَلاَ أنساب‏}‏ نفي عام، فقال ابن عباس‏:‏ عند النفخة الأولى يموت الناس فلا يكون بينهم نسب في ذلك الوقت وهم أموات، وهذا القول يزبل هول الحشر‏.‏ وقال ابن مسعود وغيره‏:‏ عند قيام الناس من القبور فلهول المطلع اشتغل كل امرئ بنفسه فانقطعت الوسائل وارتفع التفاخر والتعاون بالأنساب‏.‏ وعن قتادة‏:‏ ليس أحد أبغض إلى الإنسان في ذلك اليوم ممن يعرف لأنه يخاف أن يكون له عنده مظلمة، وفي ذلك اليوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏فَلاَ أنساب‏}‏ أي لا تواصل بينهم حين افتراقهم إلى ما أعدّ لهم من ثواب وعقاب، وإنما التواصل بالأعمال‏.‏

وقرأ عبد الله ولا يساءلون بتشديد السين أدغم التاء في السين إذ أصله ‏{‏يَتَسَاءلُونَ‏}‏ ولا تعارض بين انتفاء التساؤل هنا وبين إثباته في قوله ‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ لأن يوم القيامة مواطن ومواقف، ويمكن أن يكون انتفاء التساؤل عند النفخة الأولى، وأما في الثانية فيقع التساؤل‏.‏

وتقدم الكلام في الموازين وثقلها وخفتها في أوائل الأعراف‏.‏ وقال الزمخشري؛ ‏{‏فِى جَهَنَّمَ خالدون‏}‏ بدل من خسروا أنفسهم ولا محل للبدل والمبدل منه لأن الصلة لا محل لها أو خبر بعد خبر لأولئك أو خبر مبتدأ محذوف انتهى‏.‏ جعل ‏{‏فِى جَهَنَّمَ‏}‏ بدلاً ‏{‏مِنْ * خَسِرُواْ‏}‏ وهذا بدل غريب، وحقيقته أن يكون البدل الفعل الذي يتعلق به ‏{‏فِى جَهَنَّمَ‏}‏ أي استقروا في جهنم، وكأنه من بدل الشيء من الشيء وهما لمسمى واحد على سبيل المجاز لأن من خسر نفسه استقر في جهنم‏.‏ وأجاز أبو البقاء أن يكون ‏{‏الذين‏}‏ نعتاً لأولئك، وخبر ‏{‏أولئك‏}‏ ‏{‏فِى جَهَنَّمَ‏}‏ والظاهر أن يكون خبراً لأولئك لا نعتاً‏.‏

وخص الوجه باللفح لأنه أشرف ما في الإنسان، والإنسان أحفظ له من الآفات من غيره من الأعضاء، فإذا لفح الأشرف فما دونه ملفوح‏.‏ ولما ذكر إصابة النار للوجه ذكر الكلوح المختص ببعض أعضاء الوجه وفي الترمذي تتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته قال هذا حديث حسن صحيح‏.‏ وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة كلحون بغير ألف‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَكُنْ ءاياتى تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ * قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظالمون * قَالَ * اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الرحمين * فاتخذتموهم سِخْرِيّاً حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِى جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صَبَرُواْ أَنَّهُمْ هُمُ الفائزون * قال كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الارض عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ العادين * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فتعالى الله الملك الحق لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم * وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون * وَقُل‏}‏‏.‏

يقول الله لهم على لسان من يشاء من ملائكته ‏{‏أَلَمْ تَكُنْ ءاياتى‏}‏ وهي القرآن، ولما سمعوا هذا التقرير أذعنوا وأقروا على أنفسهم بقولهم ‏{‏غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا‏}‏ من قولهم‏:‏ غلبني فلان على كذا إذا أخذه منك وامتلكه، والشقاوة سوء العاقبة‏.‏ وقيل‏:‏ الشقوة الهوى وقضاء اللذات لأن ذلك يؤدي إلى الشقوة‏.‏ أطلق اسم المسبب على السبب قاله الجبائي‏.‏ وقيل‏:‏ ما كتب علينا في اللوح المحفوظ وسبق به علمك‏.‏ وقرأ عبد الله والحسن وقتادة وحمزة والكسائي والمفضل عن عاصم وأبان والزعفراني وابن مقسم‏:‏ شقاوتنا بوزن السعادة وهي لغة فاشية، وقتادة أيضاً والحسن في رواية خالد بن حوشب عنه كذلك إلاّ أنه بكسر الشين، وباقي السبعة والجمهور بكسر الشين وسكون القاف وهي لغة كثيرة في الحجاز‏.‏ قال الفراء‏:‏ أنشدني أبو ثروان وكان فصيحاً‏:‏

علق من عنائه وشقوته *** بنت ثماني عشرة من حجته

وقرأ شبل في اختياره بفتح الشين وسكون القاف‏.‏ ‏{‏وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ‏}‏ أي عن الهدى، ثم تدرجوا من الإقرار إلى الرغبة والتضرع وذلك أنهم أقروا والإقرار بالذنب اعتذار، فقالوا ‏{‏رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا‏}‏ أي من جهنم ‏{‏فَإِنْ عُدْنَا‏}‏ أي إلى التكذيب واتخاذ آلهة وعبادة غيرك ‏{‏فَإِنَّا ظالمون‏}‏ أي متجاوز والحد في العدوان حيث ظلمنا أنفسنا أولاً ثم سومحنا فظلمنا ثانياً‏.‏ وحكى الطبري حديثاً طويلاً في مقاولة تكوين بين الكفار وبين مالك خازن النار، ثم بينهم وبين ربهم جل وعز وآخرها ‏{‏قَالَ * اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ‏}‏ قال وتنطبق عليهم جهنم ويقع اليأس ويبقون ينبح بعضهم في وجه بعض‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ واختصرت ذلك الحديث لعدم صحته، لكن معناه صحيح ومعنى ‏{‏*اخسؤوا‏}‏ أي ذلوا فيها وانزجروا كما تنزجر الكلاب إذا ازجرت، يقال‏:‏ خسأت الكلب وخسأ هو بنفسه يكون متعدياً ولازماً‏.‏ و‏{‏لا * تُكَلّمُونِ‏}‏ أي في رفع العذاب أو تخفيفه‏.‏ قيل‏:‏ هو آخر كلام يتكلمون به ثم لا كلام بعد ذلك إلاّ الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلاب لا يفهمون‏.‏

‏{‏إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الرحمين‏}‏‏.‏

قرأ أبيّ وهارون العتكي ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ بفتح الهمزة أي لأنه، والجمهور بكسرها والهاء ضمير الشأن وهو محذوف مع أن المفتوحة الهمزة والفريق هنا هم المستضعفون من المؤمنين، وهذه الآية مما يقال للكفار على جهة التوبيخ، ونزلت في كفار قريش مع صهيب وعمار وبلال ونظرائهم، ثم هي عامة فيمن جرى مجراهم قديماً وبقية الدهر‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ونافع ‏{‏سِخْرِيّاً‏}‏ بضم السين وباقي السبعة بالكسر‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ مصدر سخر كالسخر إلاّ أن في ياء النسب زيادة قوة في الفعل، كما قيل‏:‏ الخصوصية في الخصوص وهما بمعنى الهزء في قول الخليل وأبي زيد الأنصاري وسيبويه‏.‏ وقال أبو عبيدة والكسائي والفراء‏:‏ ضم السين من السخرة والاستخدام والكسر من السخر وهو الاستهزاء‏.‏ ومنه قول الأعشى‏:‏

إني أتاني حديث لا أسرّ به *** من علو لا كذب فيه ولا سخر

وقال يونس‏:‏ إذا أريد التخديم فضم السين لا غير، وإذا أريد الهزء فالضم والكسر‏.‏ قال ابن عطية‏.‏

وقرأ أصحاب عبد الله وابن أبي إسحاق والأعرج بضم السين كل ما في القرآن‏.‏ وقرأ الحسن وأبو عمرو بالكسر إلاّ التي في الزخرف فإنهما ضما السين كما فعل الناس انتهى‏.‏ وكان قد قال عن أبي عليّ يعني الفارسي أن قراءة كسر السين أوجه لأنه بمعنى الاستهزاء، والكسر فيه أكثر وهو أليق بالآية ألا ترى قوله ‏{‏وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ‏}‏ انتهى قول أبي عليّ ثم قال ابن عطية‏:‏ ألا ترى إلى إجماع القراء على ضم السين في قوله ‏{‏لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً‏}‏ لما تخلص الأمر للتخديم انتهى‏.‏ وليس ما ذكره من إجماع القراء على ضم السين في الزخرف صحيحاً لأن ابن محيصن وابن مسلم كسرا في الزخرف، ذكر ذلك أبو القاسم بن جبارة الهذلي في كتاب الكامل‏.‏

‏{‏فاتخذتموهم سِخْرِيّاً‏}‏ أي هزأة تهزوؤن منهم ‏{‏حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى‏}‏ أي بتشاغلكم بهم فتركتم ذكري أي أن تذكروني فتخافوني في أوليائي، وأسند النسيان إلى فريق المؤمنين من حيث كان سببه‏.‏

وقرأ زيد بن عليّ وحمزة والكسائي وخارجة عن نافع ‏{‏إِنَّهُمْ هُمُ‏}‏ بكسر الهمزة وباقي السبعة بالفتح، ومفعول ‏{‏جَزَيْتُهُمُ‏}‏ الثاني محذوف تقديره الجنة أو رضواني‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ في قراءة من قرأ ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ بالفتح هو المفعول الثاني أي ‏{‏جَزَيْتُهُمُ‏}‏ فوزهم انتهى‏.‏ والظاهر أنه تعليل أي ‏{‏جَزَيْتُهُمُ‏}‏ لأنهم، والكسر هو على الاستئناف وقد يراد به التعليل فيكون الكسر مثل الفتح من حيث المعنى لا من حيث الإعراب لا ضطرار المفتوحة إلى عامل‏.‏ و‏{‏الفائزون‏}‏ الناجون من هلكة إلى نعمة‏.‏

وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير ‏{‏قال كَمْ‏}‏ والمخاطب ملك يسألهم أو بعض أهل النار، فلذا قال عبر عن القوم‏.‏ وقرأ باقي السبعة قال‏.‏

والقائل الله تعالى أو المأمور بسؤالهم من الملائكة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ قال في مصاحف أهل الكوفة و‏{‏قُلْ‏}‏ في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وفي المصاحف قال فيهما إلاّ في مصحف الكوفة فإن فيه ‏{‏قُلْ‏}‏ بغير ألف، وتقدم إدغام باب لبثت في البقرة سألهم سؤال توقيف على المدة‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏عَدَدَ سِنِينَ‏}‏ على الإضافة و‏{‏كَمْ‏}‏ في موضع نصب على ظرف الزمان وتمييزها عدد‏.‏ وقرأ الأعمش والمفضل عن عاصم عدداً بالتنوين‏.‏ فقال أبو الفضل الرازي صاحب كتاب اللوامح ‏{‏سِنِينَ‏}‏ نصب على الظرف والعدد مصدر أقيم مقام الأسم فهو نعت مقدم على المنعوت، ويجوز أن يكون معنى ‏{‏لَّبِثْتُمْ‏}‏ عددتم فيكون نصب عدداً على المصدر و‏{‏سِنِينَ‏}‏ بدل منه انتهى‏.‏ وكون ‏{‏لَّبِثْتُمْ‏}‏ بمعنى عددتم بعيد‏.‏

ولما سئلوا عن المدة التي أقاموا فيها في الأرض ويعني في الحياة الدنيا قاله الطبري وتبعه الزمخشري فنسوا الفرط هول العذاب حتى قالوا ‏{‏يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏ أجابوا بقولهم ‏{‏لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏ ترددوا فيما لبثوا قاله ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ أريد بقوله ‏{‏فِى الارض‏}‏ في جوف التراب أمواتاً وهذا قول جمهور المتأولين‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا هو الأصوب من حيث أنكروا البعث، وكانوا قولهم أنهم لا يقومون من التراب قيل لهم لما قاموا ‏{‏كَمْ لَبِثْتُمْ‏}‏ وقوله آخراً ‏{‏وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ‏}‏ يقتضي ما قلناه انتهى‏.‏

‏{‏فَاسْأَلِ العادين‏}‏ خطاب للذي سألهم‏.‏ قال مجاهد‏:‏ ‏{‏العادين‏}‏ الملائكة أي هم الذين يحفظون أعمال بني آدم ويحصون عليهم ساعاتهم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أهل الحساب، والظاهر أنهم من يتصف بهذه الصفة ملائكة أو غيرهم لأن النائم والميت لا يعد فيتقدر له الزمان‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ والمعنى لا نعرف من عدد تلك السنين إلاّ أنا نستقله ونحسبه يوماً أو بعض يوم لما نحن فيه من العذاب، وما فينا أن يعدكم بفي فسئل من فيه أن يعد ومن يقدر أن يلقي إليه فكره انتهى‏.‏ وقرأ الحسن والكسائي في رواية ‏{‏العادين‏}‏ بتخفيف الدال أي الظلمة فإنهم يقولون كما تقول‏.‏ قال ابن خالويه‏:‏ ولغة أخرى العاديين يعني بياء مشددة جمع عادي يعني للقدماء‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وقرئ العاديين أي القدماء المعمرين فإنهم يستقصرونها فيكف بمن دونهم‏.‏

وقرأ الأخوان ‏{‏قُلْ إِنْ * لَّبِثْتُمْ‏}‏ على الأمر، وباقي السبعة و‏{‏ءانٍ‏}‏ نافية أي ما ‏{‏لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ أي قريب ولكنكم كذبتم به إذ كنتم لا تعلمون أي لم ترغبوا في العلم والهدى وانتصب ‏{‏عَبَثاً‏}‏ على الحال أي عابثين أو على أنه مفعول من أجله، والمعنى في هذا ما خلقناكم للعبث، وإنما خلقناكم للتكليف والعبادة‏.‏ وقرأ الأخوان ‏{‏لاَ تُرْجَعُونَ‏}‏ مبنياً للفاعل، وباقي السبعة مبنياً للمفعول، والظاهر عطف ‏{‏وَإِنَّكُمْ‏}‏ على ‏{‏إِنَّمَا‏}‏ فهو داخل في الحسبان‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ يجوز أن يكون على ‏{‏عَبَثاً‏}‏ أي للعبث ولترككم غير مرجوعين انتهى‏.‏

‏{‏فتعالى الله‏}‏ أي تعاظم وتنزه عن الصاحبة والولد والشريك والعبث وجميع النقائص، بل هو ‏{‏الملك الحق‏}‏ الثابت هو وصفاته العلي و‏{‏الكريم‏}‏ صفة للعرش لتنزل الخيرات منه أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين‏.‏ وقرأ أبان بن تغلب وابن محيصن وأبو جعفر وإسماعيل عن ابن كثير ‏{‏الكريم‏}‏ بالرفع صفة لرب العرش أو ‏{‏العرش‏}‏، ويكون معطوفاً على معنى المدح‏.‏

و ‏{‏مِنْ‏}‏ شرطية والجواب ‏{‏فَإِنَّمَا‏}‏ و‏{‏لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ‏}‏ صفة لازمة لا للاحتراز من أن يكون ثم آخر يقوم عليه برهان فهي مؤكدة كقوله ‏{‏يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ‏}‏ ويجوز أن تكون جملة اعتراض إذ فيها تشديد وتأكيد فتكون لا موضع لها من الإعراب كقولك‏:‏ من أساء إليك لا أحق بالإساءة منه، فأسيء إليه‏.‏ ومن ذهب إلى أن جواب الشرط هو ‏{‏لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ‏}‏ هروباً من دليل الخطاب من أن يكون ثم داع له برهان فلا يصح لأنه يلزم منه حذف الفاء في جواب الشرط، ولا يجوز إلاّ في الشعر وقد خرجناه على الصفة اللازمة أو على الاعتراض وكلاهما تخريج صحيح‏.‏ وقرأ الحسن وقتادة ‏(‏انه‏)‏ لايفلح بفتح الهمزة، أي هو فوضع الكافرون موضع الضمير حملا على معنى من والجمهور بكسر الهمزة وخبر ‏(‏حسابه‏)‏ الظرف أنه استئناف وقرأ الحسن يفلح بفتح الفاء واللام وافتتح السورة بقوله ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون‏}‏ وأورد في خاتماتها إنه لا يفلح الكافرون فانظر تفاوت بين الإفتتاح والاختتام، ثم امر رسول الله صلى الله عليه وسلم بان يدعوا بالغفران والرحمة وقرأابن محيص وقرأ الحسن وقتادة ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ‏}‏ بفتح الهمزة أي هو فوضع ‏{‏الكافرون‏}‏ موضع الضمير حملاً على معنى من، والجمهور بكسر الهمزة وخبر ‏{‏حِسَابُهُ‏}‏ الظرف و‏{‏أَنَّهُ‏}‏ استئناف‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏يُفْلِحُ‏}‏ بفتح الفاء واللام، وافتتح السورة بقوله ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون‏}‏ وأورد في خاتمتها ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون‏}‏ فانظر تفاوت ما بين الافتتاح والاختتام‏.‏ ثم أمر رسوله عليه السلام بأن يدعو بالغفران والرحمة‏.‏ وقرأ ابن محيصن ‏{‏رَبّ‏}‏ بضم الباء‏.‏