فصل: تفسير الآيات رقم (78- 82)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 77‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ‏(‏73‏)‏ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ‏(‏74‏)‏ إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ‏(‏75‏)‏ وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏76‏)‏ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ‏(‏77‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏وإن كادوا‏}‏ قيل لقريش‏.‏ وقيل لثقيف، وذكروا أسباب نزول مختلفة وفي بعضها ما لا يصح نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ويوقف على ذلك في تفسير ابن عطية والزمخشري والتحرير وغير ذلك، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما عدد نعمه على بني آدم ثم ذكر حالهم في الآخرة من إيتاء الكتاب باليمين لأهل السعادة، ومن عمى أهل الشقاوة أتبع ذلك بما يهم به الأشقياء في الدنيا من المكر والخداع والتلبيس على سيد أهل السعادة المقطوع له بالعصمة، ومعنى ‏{‏ليفتنونك‏}‏ ليخدعونك وذلك في ظنهم لا أنهم قاربوا ذلك إذ هو معصوم عليه السلام أن يقاربوا فتنته عما أوحى الله إليه، وتلك المقاربة في زعمهم سببها رجاؤهم أن يفتري على الله غير ما أوحى الله إليه من تبديل الوعد وعيداً أو الوعيد وعداً، وما اقترحته ثقيف من أن يضيف إلى الله ما لم ينزل عليه و‏{‏إن‏}‏ هذه هي المخففة من الثقيلة، وليتها الجملة الفعلية وهي ‏{‏كادوا‏}‏ لأنها من أفعال المقاربة وإنما تدخل على مذهب البصريين من الأفعال على النواسخ التي للإثبات على ما تقرر في علم النحو، واللام في ‏{‏ليفتنونك‏}‏ هي الفارقة بين أن هذه وأن النافية ‏{‏وإذاً‏}‏ حرف جواب وجزاء، ويقدر قسم هنا تكون ‏{‏لاتخذوك‏}‏ جواباً له، والتقدير والله ‏{‏إذاً‏}‏ أي إن افتتنت وافتريت ‏{‏لاتخذوك‏}‏ جواباً له، والتقدير والله ‏{‏إذاً‏}‏ أي إن افتتنت وافتريت ‏{‏لاتخذوك‏}‏ ولا اتخذوك فى معنى ليتخذونك كقوله ‏{‏ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا‏}‏ أي ليظلنّ لأن ‏{‏إذاً‏}‏ تقتضي الاستقبال لأنها من حيث المعنى جزءاً فيقدر موضعها بأداة الشرط‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏وإذاً لاتخذوك‏}‏ أي ولو اتبعت مرادهم ‏{‏لاتخذوك خليلاً‏}‏ ولكنت لهم ولياً، ولخرجت من ولايتي انتهى‏.‏ وهو تفسير معنى لا إن ‏{‏لاتخذوك‏}‏ جواب لو محذوفة‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ‏{‏ولولا أن ثبتناك‏}‏ ولولا تثبيتنا لك وعصمتنا لقد كدت تركن إليهم لقاربت أن تميل إلى خدعهم ومكرهم، وهذا تهييج من الله له وفضل تثبيت، وفي ذلك لطف للمؤمنين إذن لو قاربت تركن إليهم أدنى ركنة ‏{‏لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات‏}‏ أي ‏{‏لأذقناك‏}‏ عذاب الآخرة وعذاب القبر مضاعفين‏.‏ فإن قلت‏:‏ كيف حقيقة هذا الكلام‏؟‏ قلت‏:‏ أصله ‏{‏لأذقناك‏}‏ عذاب الحياة وعذاب الممات لأن العذاب عذابان، عذاب في الممات وهو عذاب القبر، وعذاب في حياة الآخرة وهو عذاب النار، والضعف يوصف به نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فآتهم عذاباً ضعفاً من النار‏}‏ يعني مضاعفاً، فكان أصل الكلام ‏{‏لأذقناك‏}‏ عذاباً ضعفاً في الحياة، وعذاباً ضعفاً في الممات، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وهو الضعف، ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف، فقيل ‏{‏ضعف الحياة وضعف الممات‏}‏ كما لو قيل ‏{‏لأذقناك‏}‏ أليم الحياة وأليم الممات، ويجوز أن يراد بضعف الحياة عذاب الحياة الدنيا، وبضعف الممات ما يعقب الموت من عذاب القبر وعذاب النار والمعنى لضاعفنا لك العذاب المعجل للعصاة في الحياة الدنيا‏.‏

وما نؤخره لما بعد الموت انتهى‏.‏

وجواب ‏{‏لولا‏}‏ يقتضي إذا كان مثبتاً امتناعه لوجود ما قبله، فمقاربة الركون لم تقع منه فضلاً عن الركون والمانع من ذلك هو وجود تثبيت الله‏.‏ وقرأ قتادة وابن أبي إسحاق وابن مصرف‏:‏ ‏{‏تركن‏}‏ بضم الكاف مضارع ركن بفتحها وانتصب ‏{‏شيئاً‏}‏ على المصدر‏.‏ وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك‏:‏ يريد ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات على معنى أن ما يستحقه من أذنب من عقوبتنا في الدنيا والآخرة كنا نضعفه‏.‏ وذهب ابن الأنباري إلى أن المعنى لقد كاد أن يخبروا عنك أنك ركنت إلى قولهم بسبب فعلهم إليه مجازاً واتساعاً كما تقول للرّجل‏:‏ كدت تقتل نفسك أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ كان الرسول صلى الله عليه وسلم معصوماً، ولكن هذا تعريف للأمة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شيء من أحكام الله تعالى وشرائعه انتهى‏.‏ واللام في ‏{‏لأذقناك‏}‏ جواب قسم محذوف قبل ‏{‏إذاً‏}‏ أي والله إن حصل ركون ليكونن كذا، والقول في ‏{‏لأذقناك‏}‏ كالقول في ‏{‏لاتخذوك‏}‏ من وقوع الماضي موضع المضارع الداخل عليه اللام والنون، وممن نص على أن اللام في ‏{‏لاتخذوك‏}‏ و‏{‏لأذقناك‏}‏ هي لام القسم الحوفي‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وفي ذكر الكيدودة وتعليلها مع اتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين دليل بيِّن على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته انتهى‏.‏ ومن ذلك ‏{‏يا نساء النبيّ من يأت منكن بفاحشة مبينة‏}‏ الآية‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وفيه أدنى مداهنة للغواة مضادة لله وخروج عن ولايته، وسبب موجب لغضبه ونكاله انتهى‏.‏

وروي أنه لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» قال حضرمي‏:‏ الضمير في ‏{‏وإن كادوا‏}‏ ليهود المدينة وناحيتها كحيي بن أخطب وغيره، وذلك أنهم ذهبوا إلى المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء، وإنما أرض الأنبياء الشام، ولكنك تخاف الروم فإن كنت نبياً فاخرج إليها فإن الله سيحميك كما حمى غيرك من الأنبياء فنزلت، وأخبر تعالى أنه لو خرج لم يلبثهم بعد ‏{‏إلاّ قليلاً‏}‏‏.‏ وحكى النقاش أنه خرج بسبب قولهم وعسكر بذي الحليفة وأقام ينتظر أصحابه فنزلت ورجع‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا ضعيف لم يقع في سيرة ولا في كتاب يعتمد عليه، وذو الحليفة ليس في طريق الشام من المدينة انتهى‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ الضمير لقريش قاله ابن عباس وقتادة، واستفزازهم هو ما ذهبوا إليه من إخراجه من مكة كما ذهبوا إلى حصره في الشعب، ووقع استفزازهم هذا بعد نزول الآية وضيقوا عليه حتى خرج واتبعوه إلى الغار ونفذ عليهم الوعيد في أن لم يلبثوا خلفه ‏{‏إلاّ قليلاً‏}‏ يوم بدر‏.‏

وقال الزجّاج حاكياً أن استفزازهم ما أجمعوا عليه في دار الندوة من قتله والأرض على هذا الدنيا‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ذهبت قريش إلى هذا ولكنه لم يقع منها لأنه لما أراد تعالى استبقاء قريش وأن لا يستأصلهما أذن لرسوله في الهجرة فخرج بإذنه لا بقهر قريش، واستبقيت قريش ليسلم منها ومن أعقابها من أسلم قال‏:‏ ولو أخرجته قريش لعذبوا‏.‏ ذهب مجاهد إلى أن الضمير في ‏{‏يلبثون‏}‏ لجميعهم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ‏{‏ليستفزونك‏}‏ ليفتنونك عن رأيك‏.‏ وقال ابن عيسى‏:‏ ليزعجونك ويستخفونك‏.‏ وأنشد‏:‏

يطيع سفيه القوم إذ يستفزه *** ويعصي حليماً شيبته الهزاهز

والظاهر أن الآية تدل على مقاربة استفزازه لأن يخرجوه، فما وقع الاستفزاز ولا إخراجهم إياه المعلل به الاستفزاز، ثم جاء في القرآن ‏{‏وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك‏}‏ أي أخرجك أهلها‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «يا ليتني كنت فيها جذعاً إذ يخرجك قومك قال‏:‏ أو مخرجي هم» الحديث فدل ذلك على أنهم أخرجوه‏.‏ لكن الإخراج الذي هو علة للاستفزاز لم يقع فلا تعارض بين الآيتين والحديث‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ ما خرج بسبب إخراجهم وإنما خرج بأمر الله فزال التناقض انتهى‏.‏

‏{‏ولا يلبثون‏}‏ جواب قسم محذوف أي والله إن استفزوك فخرجت ‏{‏لا يلبثون‏}‏ ولذلك لم تعمل ‏{‏إذاً‏}‏ لأنها توسطت بين قسم مقدر، والفعل فلا يلبثون ليست منصبة عليه من جهة الإعراب، ويحتمل أن تكون ‏{‏لا يلبثون‏}‏ خبراً لمبتدأ محذوف يدل عليه المعنى تقديره، وهم ‏{‏إذاً لا يلبثون‏}‏ فوقعت إذاً بين المبتدأ وخبره فألغيت‏.‏ وقرأ أُبيّ وإذا لا يلبثوا بحذف النون أعمل إذاً فنصب بها على قول الجمهور، وبأن مضمرة بعدها على قول بعضهم وكذا هي في مصحف عبد الله محذوفة النون‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ ما وجه القراءتين‏؟‏ قلت‏:‏ أما الشائعة فقد عطف فيها الفعل على الفعل وهو مرفوع لوقوعه خبر كاد، والفعل في خبر كاد واقع موقع الاسم‏.‏ وأما قراءة أُبيّ ففيها الجملة برأسها التي هي وإذاً لا يلبثوا عطف على جملة قوله ‏{‏وإن كادوا ليستفزونك‏}‏ انتهى‏.‏ وقرأ عطاء ‏{‏لا يلبثون‏}‏ بضم الياء وفتح اللام والباء مشددة‏.‏ وقرأ يعقوب كذلك إلاّ أنه كسر الباء‏.‏ وقرأ الأخوان وابن عامر وحفص ‏{‏خلافك‏}‏ وباقي السبعة خلفك والمعنى واحد‏.‏ قال الشاعر‏:‏

عفت الديار خلافهم فكأنما *** بسط الشواطب بينهن حصيرا

وهذا كقوله ‏{‏فرح المخلفون بمقعدهم‏}‏ خلاف رسول الله أي خلف رسول الله في أحد التأويلات‏.‏ وقرأ عطاء بن أبي رباح‏:‏ بعدك مكان خلفك، والأحسن أن يجعل تفسيراً لخلفك لا قراءة لأنها لا تخالف سواد المصحف، فأراد أن يبين أن خلفك هنا ليست ظرف مكان وإنما تجوز فيها فاستعملت ظرف زمان بمعنى بعدك‏.‏

وهذه الظروف التي هي قبل وبعد ونحوهما اطّرد إضافتها إلى أسماء الأعيان على حذف مضاف يدل عليه ما قبله، في نحو خلفك أي خلف إخراجك، أو جاء زيد قبل عمرو أي قبل مجيء عمرو، وضحك بكر بعد خالد أي بعد ضحك خالد‏.‏ وانتصب ‏{‏سنة‏}‏ على المصدر المؤكد أي سنّ الله سنة، والمعنى أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم فسنة الله أن يهلكهم بعد إخراجه ويستأصلهم ولا يقيمون بعده إلاّ قليلاً‏.‏ وقال الفراء‏:‏ انتصب ‏{‏سنة‏}‏ على إسقاط الخافض لأن المعنى كسنة فنصب بعد حذف الكاف، وعلى هذا لا يقف على قوله‏:‏ ‏{‏إلاّ قليلاً‏}‏‏.‏

وقال أبو البقاء‏:‏ ‏{‏سنة‏}‏ منصوب على المصدر أي سننا بك سنة من تقدم من الأنبياء، ويجوز أن يكون مفعولاً به أي اتبع ‏{‏سنة من قد أرسلنا‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فبهداهم اقتده‏}‏ انتهى‏.‏ وهذا معنى غير الأول والمفسرون على الأول وهو المناسب لمعنى الآية قبلها ‏{‏ولن تجد‏}‏ لما أجرينا به العادة ‏{‏تحويلاً‏}‏ منه إلى غيره إذ كل حادث له وقت معين وصفة معينة ونفي الوجدان هنا وفيما أشبهه معناه نفي الوجود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 82‏]‏

‏{‏أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ‏(‏78‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ‏(‏79‏)‏ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ‏(‏80‏)‏ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ‏(‏81‏)‏ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏82‏)‏‏}‏

الدلوك الغروب قاله الفراء وابن قتيبة، واستدل الفراء بقول الشاعر‏:‏

هذا مقام قدمي رباح *** غدوة حتى دلكت براح

أي حتى غابت الشمس، وبراح اسم الشمس وأنشد ابن قتيبة لذي الرمة‏:‏

مصابيح ليست باللواتي يقودها *** نجوم ولا بالآفلات الدوالك

وقيل‏:‏ الدلوك زوال الشمس نصف النهار‏.‏ قيل واشتقاقه من الدلك لأن الإنسان تدلك عينه عند النظر إليها‏.‏ وقيل الدلوك من وقت الزوال إلى الغروب‏.‏ الغسق سواد الليل وظلمته‏.‏ قال الكسائي غسق الليل غسوقاً والغسق الاسم بفتح السين‏.‏ وقال النضر بن شميل‏:‏ غسق الليل دخول أوله‏.‏ قال الشاعر‏:‏

إن هذا الليل قد غسقا *** واشتكيت الهم والأرقا

وأصله من السيلان غسقت العين تغسق هملت بالماء والغاسق السائل، وذلك أن الظلمة تنصب على العالم‏.‏ قال الشاعر‏:‏

ظلت تجود يداها وهي لاهية *** حتى إذا جنح الإظلام والغسق

وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس ما الغسق‏؟‏ قال‏:‏ الليل بظلمته، ويقال غسقت العين امتلأت دماً‏.‏ وحكى الفراء غسق الليل واغتسق وظلم وأظلم ودجى وأدجى وغبش وأغبش، أبو عبيدة الهاجد النائم والمصلي‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ هجد الرجل صلى من الليل، وهجد نام بالليل‏.‏ وقال الليث تهجد استيقظ للصلاة‏.‏ وقال ابن برزح هجدته أيقظته، فعلى ما ذكروا يكون من الأضداد، والمعروف في كلام العرب أن الهاجد النائم وقد هجد هجوداً نام‏.‏ قال الشاعر‏:‏

ألا زارت وأهل منى هجود *** وليت خيالنا منا يعود

وقال آخر‏:‏

ألا طرقتنا والرفاق هجود *** وقال آخر‏:‏

وبرك هجود قد أثارت مخافتي *** زهقت نفسه تزهق زهوقاً ذهبت، وزهق الباطل زال واضمحل، ولم يثبت‏.‏ قال الشاعر‏:‏

ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها *** إقدامه مزالة لم تزهق

ناء ينوء‏:‏ نهض‏.‏ الشاكلة الطريقة والمذهب الذي جبل عليه قاله الفراء، وهو مأخوذ من الشكل يقال لست على شكلي ولا شاكلتي، والشكل المثل والنضير، والشِكل بكسر الشين الهيئة يقال جارية حسنة الشكل‏.‏ الينبوع مفعول من النبع وهو عين تفور بالماء‏.‏ الكسف القطع واحدها كسفة، تقول العرب‏:‏ كسفت الثوب ونحوه قطعته، وما زعم الزجاج من أن كسف بمعنى غطى ليس بمعروف في دواوين اللغة‏.‏ الرُقِّي والرقى الصعود يقال‏:‏ رقيت في السلم أرقى قال الشاعر‏:‏

أنت الذي كلفتني رقي الدرج *** على الكلال والمشيب والعرج

خبت النار تخبو‏:‏ سكن لهبها وخمدت سكن جمرها وضعف وهمدت طفئت جملة‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أمن زينب ذي النار قبيل الصبح *** ما تخبو إذا ما أخمدت ألقى عليها المندل الرطب

وقال آخر‏:‏

وسطه كاليراع أو سرج المجدل *** طوراً يخبو وطوراً ينير

الثبور‏:‏ الهلاك يقال‏:‏ ثبر الله العدوّ ثبوراً أهلكه‏.‏ وقال ابن الزبعرى‏:‏

إذا جارى الشيطان في سنن الغي *** ومن مال مثله مثبور

اللفيف الجماعات من قبائل شتى مختلطة قد لف بعضها ببعض‏.‏

وقال بعض اللغويين‏:‏ هو من أسماء الجموع لا واحد له من لفظه‏.‏ وقال الطبري‏:‏ هو بمعنى المصدر كقول القائل لففته لفاً ولفيفاً‏.‏ المكث‏:‏ التطاول في المدّة، يقال‏:‏ مكث ومكث أطال الإقامة‏.‏ الذقن مجتمع اللحيين‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فخرّوا لأذقان الوجوه تنوشهم *** سباع من الطير العوادي وتنتف

خافت بالكلام أسره بحيث لا يكاد يسمعه المتكلم وضربه حتى خفت أي لا يسمع له حس‏.‏

‏{‏أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً‏.‏ وقل جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً‏}‏‏.‏

ومناسبة ‏{‏أقم الصلاة‏}‏ لما قبلها أنه تعالى لما ذكر كيدهم للرسول وما كانوا يرومون به، أمره تعالى أن يقبل على شأنه من عبادة ربه وأن لا يشغل قلبه بهم، وكان قد تقدّم القول في الإلهيات والمعاد والنبوات، فأردف ذلك بالأمر بأشرف العبادات والطاعات بعد الإيمان وهي الصلاة وتقدّم الكلام في إقامة الصلاة والمواجه بالأمر الرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏ واللام في ‏{‏لدلوك‏}‏ قالوا‏:‏ بمعنى بعد أي بعد دلوك ‏{‏الشمس‏}‏ كما قالوا ذلك في قوم متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكاً‏:‏

فلما تفرّقنا كأني ومالكاً *** لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

أي بعد طول اجتماع ومنه كتبته لثلاث خلون من شهر كذا‏.‏ وقال الواحدي‏:‏ اللام للسبب لأنها إنما تجب بزوال الشمس، فيجب على المصلي إقامتها لأجل دلوك الشمس‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ‏{‏أقم الصلاة‏}‏ الآية هذه بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة‏.‏ فقال ابن عمر وابن عباس وأبو بردة والحسن والجمهور‏:‏ دلوك الشمس زوالها، والإشارة إلى الظهر والعصر وغسق الليل إشارة إلى المغرب والعشاء ‏{‏وقرآن الفجر‏}‏ أريد به صلاة الصبح، فالآية على هذا تعم جميع الصلوات‏.‏ وروى ابن مسعود أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر ‏"‏‏.‏ ‏"‏ وروى جابر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج من عنده وقد طعم وزالت الشمس، فقال‏:‏ «أخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس» ‏"‏ وقال ابن مسعود وابن عباس وزيد بن أسلم‏:‏ دلوك الشمس غروبها والإشارة بذلك إلى المغرب و‏{‏غسق الليل‏}‏ ظلمته فالإشارة إلى العتمة ‏{‏وقرآن الفجر‏}‏ صلاة الصبح، ولم تقع إشارة على هذا التأويل إلى الظهر والعصر انتهى‏.‏ وعن عليّ أنه الغروب، وتتعلق اللام وإلى بأقم، فتكون إلى غاية للإقامة‏.‏ وأجاز أبو البقاء أن تكون حالاً من الصلاة قال‏:‏ أي ممدودة ويعني بقرآن الفجر صلاة الصبح، وخصت بالقرآن وهو القراءة لأنه عظمها إذ قراءتها طويلة مجهور بها، وانتصب ‏{‏وقرآن الفجر‏}‏ عطفاً على ‏{‏الصلاة‏}‏‏.‏

وقال الأخفش‏:‏ انتصب بإضمار فعل تقديره وآثر ‏{‏قرآن الفجر‏}‏ أو عليك ‏{‏قرآن الفجر‏}‏ انتهى‏.‏ وسميت صلاة الصبح ببعض ما يقع فيها‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ سميت صلاة الفجر قرآناً وهي القراءة لأنها ركن كما سميت ركوعاً وسجوداً وقنوتاً وهي حجة عليّ بن أبي علية‏.‏ والأصم في زعمهما أن القراءة ليست بركن انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ إذا فسرنا الدلوك بزوال الشمس كان الوقت مشتركاً بين الظهر والعصر إذا غييت الإقامة بغسق الليل، ويكون الغسق وقتاً مشتركاً بين المغرب والعشاء، ويكون المذكور ثلاثة أوقات‏:‏ أول وقت الزوال، وأول وقت المغرب، وأول وقت الفجر انتهى، والذي يدل عليه ظاهر اللفظ أنه أمر بإقامة الصلاة إما من أول الزوال إلى الغسق، وبقرآن الفجر، وإما من الغروب إلى الغسق وبقرآن الفجر، فيكون المأمور به الصلاة في وقتين ولا تؤخذ أوقات الصلوات الخمس من هذا اللفظ بوجه‏.‏

وقال أبو عبد الله الرازي في قوله ‏{‏وقرآن الفجر‏}‏ دلالة على أن الصلاة لا تتم إلاّ بالقراءة لأن الأمر على الوجوب، ولا قراءة في ذلك الوقت واجبة إلا في الصلاة ومن قال معنى ‏{‏وقرآن الفجر‏}‏ صلاة الفجر غلط لأنه صرف الكلام عن حقيقته إلى المجاز بغير دليل، ولأن في نسق التلاوة ‏{‏ومن الليل فتهجد به نافلة لك‏}‏ ويستحيل التهجد بصلاة الفجر ليلاً‏.‏ والهاء في ‏{‏به‏}‏ كناية عن ‏{‏قرآن الفجر‏}‏ المذكور قبله، فثبت أن المراد حقيقة القرآن لا مكان التهجد بالقرآن المقروء في صلاة الفجر واستحالة التهجد في الليل بصلاة الفجر، وعلى أنه لو صح أن يكون المراد ما ذكروا لكانت دلالته قائمة على وجوب القراءة في الصلاة لأنه لم تجعل القراءة عبارة عن الصلاة إلا وهي من أركانها انتهى‏.‏ وفيه بعض تلخيص والظاهر ندبية إيقاع صلاة الصبح في أول الوقت لأنه مأمور بإيقاع قرآن الفجر، فكان يقتضي الوجوب أول طلوع الفجر، لكن الإجماع منع من ذلك فبقي الندب لوجود المطلوبية، فإذا انتفى وجوبها بقي ندبها وأعاد ‏{‏قرآن الفجر‏}‏ في قوله ‏{‏إن قرآن الفجر‏}‏ ولم يأت مضمراً فيكون أنه على سبيل التعظيم والتنويه بقرآن الفجر ومعنى ‏{‏مشهوداً‏}‏ تشهده الملائكة حفظة الليل وحفظة النهار كما جاء في الحديث‏:‏ «إنهم يتعاقبون ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر» وهذا قول الجمهور‏.‏ وقيل يشهده الكثير من المصلين في العادة‏.‏ وقيل‏:‏ من حقه أن تشهده الجماعة الكثيرة‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يكون ‏{‏وقرآن الفجر‏}‏ حثاً على طول القراءة في صلاة الفجر لكونها مكثوراً عليها ليسمع الناس القرآن فيكثر الثواب، ولذلك كانت الفجر أطول الصلوات قراءة انتهى‏.‏ ويعني بقوله حثاً أن يكون التقدير وعليك ‏{‏قرآن الفجر‏}‏ أو والزم‏.‏

وقال محمد بن سهل بن عسكر‏:‏ ‏{‏مشهوداً‏}‏ يشهده الله وملائكته، وذكر حديث أبي الدرداء أنه تعالى ينزل في آخر الليل ولأبي عبد الله الرازي كلام في قوله ‏{‏مشهوداً‏}‏ على عادته في تفسير كتاب الله على ما لا تفهمه العرب، والذي ينبغي بل لا يعدل عنه ما فسره به الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله فيه‏:‏ «يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار» وقال فيه الترمذي حديث حسن صحيح‏.‏

ولما أمره تعالى بإقامة الصلاة للوقت المذكور ولم يدل أمره تعالى إياه على اختصاصه بذلك دون أمته ذكر ما اختصه به تعالى وأوجبه عليه من قيام الليل وهو في أمته تطوع‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏ومن الليل فتهجد به‏}‏ أي بالقرآن في الصلاة ‏{‏نافلة‏}‏ زيادة مخصوصاً بها أنت وتهجد هنا تفعل بمعنى الإزالة والترك، كقولهم‏:‏ تأثم وتحنث ترك التأثم والتحنث، ومنه تحنثت بغار حراء أي بترك التحنث، وشرح بلازمه وهو التعبد ‏{‏ومن‏}‏ للتبعيض‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ ‏{‏من‏}‏ متعلقة بفعل دل عليه معنى الكلام تقديره واسهر من الليل بالقرآن، قال‏:‏ ويجوز أن يكون التقدير وقم بعد نومة من الليل‏.‏ وقال ابن عطية ‏{‏ومن‏}‏ للتبعيض التقدير وقتاً من الليل أي وقم وقتاً من الليل‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏ومن الليل‏}‏ وعليك بعض الليل ‏{‏فتهجد به‏}‏ والتهجد ترك الهجود للصلاة انتهى‏.‏ فإن كان تفسيره وعليك بعض الليل تفسير معنى فيقرب، وإن كان أراد صناعة النحو والإعراب فلا يصح لأن المغري به لا يكون حرفاً، وتقدير من ببعض فيه مسامحة لأنه ليس بمرادفه البتة، إذ لو كان مرادفه للزم أن يكون اسماً ولا قائل بذلك، ألا ترى إجماع النحويين على أن واو مع حرف وإن قدّرت بمع، والظاهر أن الضمير في ‏{‏به‏}‏ يعود على القرآن لتقدّمه في الذكر، ولا تلحظ الإضافة فيه والتقدير ‏{‏فتهجد‏}‏ بالقرآن في الصلاة‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والضمير في ‏{‏به‏}‏ عائد على وقت المقدر في وقم وقتاً من الليل انتهى‏.‏ فتكون الباء ظرفية أي ‏{‏فتهجد‏}‏ فيه وانتصب ‏{‏نافلة‏}‏‏.‏ قال الحوفي‏:‏ على المصدر أي نفلناك نافلة قال‏:‏ ويجوز أن ينتصب ‏{‏نافلة‏}‏ بتهجد إذا ذهبت بذلك إلى معنى صل به نافلة أي صل نافلة لك‏.‏

وقال أبو البقاء‏:‏ فيه وجهان أحدهما‏:‏ هو مصدر بمعنى تهجد أي تنفل نفلاً و‏{‏نافلة‏}‏ هنا مصدر كالعاقبة والثاني هو حال أي صلاة نافلة انتهى‏.‏ وهو حال من الضمير في ‏{‏به‏}‏ ويكون عائداً على القرآن لا على وقت الذي قدره ابن عطية‏.‏ وقال الأسود وعلقمة وعبد الرحمن بن الأسود والحجاج بن عمرو‏:‏ التهجد بعد نومة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ما كان بعد العشاء الآخرة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏نافلة‏}‏ زيادة لك في الفرض وكان قيام الليل فرضاً عليه‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يكون على جهة الندب في التنفل والخطاب له والمراد هو وأمته كخطابه في ‏{‏أقم الصلاة‏}‏‏.‏

وقال مجاهد والسدّي‏:‏ إنما هي نافلة له قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر عام الحديبية، فإنما كانت نوافله واستغفاره فضائل من العمل وقرباً أشرف من نوافل أمته لأن هذه أعني نوافل أمته إما أن يجبر بها فرائضهم، وإما أن يحط بها خطيئاتهم‏.‏ وضعف الطبري قول مجاهد واستحسنه أبو عبد الله الرازي‏.‏ وقال مقاتل فله كرامة وعطاء لك‏.‏ وقيل‏:‏ كانت فرضاً ثم رخص في تركها‏.‏ ومن حديث زيد بن خالد الجهني‏:‏ رمق صلاته عليه الصلاة والسلام ليلة فصلى بالوتر ثلاث عشرة ركعة‏.‏ وعن عائشة‏:‏ أنه ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة‏.‏

و ‏{‏عسى‏}‏ مدلولها في المحبوبات الترجي‏.‏ فقيل‏:‏ هي على بابها في الترجي تقديره لتكن على رجاء من ‏{‏أن يبعثك‏}‏‏.‏ وقيل هي بمعنى كي، وينبغي أن يكون هذا تفسير معنى، والأجود أن أن هذه الترجية والإطماع بمعنى الوجوب من الله تعالى وهو متعلق من حيث المعنى بقوله‏:‏ ‏{‏فتهجد‏}‏ ‏{‏وعسى‏}‏ هنا تامة وفاعلها ‏{‏أن يبعثك‏}‏، و‏{‏ربك‏}‏ فاعل بيبعثك و‏{‏مقاماً‏}‏ الظاهر أنه معمول ليبعثك هو مصدر من غير لفظ الفعل لأن يبعثك بمعنى يقيمك تقول أقيم من قبره وبعث من قبره‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ منصوب على الظرف أي في مقام محمود‏.‏ وقيل‏:‏ منصوب على الحال أي ذا مقام‏.‏ وقيل‏:‏ هو مصدر لفعل محذوف التقدير فتقوم ‏{‏مقاماً‏}‏ ولا يجوز أن تكون ‏{‏عسى‏}‏ هنا ناقصة، وتقدّم الخبر على الاسم فيكون ‏{‏ربك‏}‏ مرفوعاً اسم ‏{‏عسى‏}‏ و‏{‏أن يبعثك‏}‏ الخبر في موضع نصب بها إلا في هذا الإعراب الأخير‏.‏ وأما في قبله فلا يجوز لأن ‏{‏مقاماً‏}‏ منصوب بيبعثك و‏{‏ربك‏}‏ مرفوع بعسى فيلزم الفصل بأجنبي بين ما هو موصول وبين معموله‏.‏ وهو لا يجوز‏.‏

وفي تفسير المقام المحمود أقوال‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه في أمر الشفاعة التي يتدافعها الأنبياء حتى تنتهي إليه صلى الله عليه وسلم، والحديث في الصحيح وهي عدة من الله تعالى له عليه الصلاة والسلام، وفي هذه الشفاعة يحمده أهل الجمع كلهم وفي دعائه المشهور‏:‏ «وابعثه المقام المحمود الذي وعدته» واتفقوا على أن المراد منه الشفاعة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه في أمر شفاعته لأمته في إخراجه لمذنبهم من النار، وهذه الشفاعة لا تكون إلاّ بعد الحساب ودخول الجنة ودخول النار، وهذه لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء‏.‏ وقد روي حديث هذه الشفاعة وفي آخره‏:‏ «حتى لا يبقى في النار إلاّ من حبسه القرآن» أي وجب عليه الخلود‏.‏ قال‏:‏ ثم تلا هذه الآية ‏{‏عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً‏}‏‏.‏ وعن أبي هريرة أنه عليه السلام قال‏:‏ «المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي»

فظاهر هذا الكلام تخصيص شفاعته لأمته، وقد تأوله من حمل ذلك على الشفاعة العظمى التي يحمده بسببها الخلق كلهم على أن المراد لأمته وغيرهم أو يقال إن كل مقام منهما محمود‏.‏

الثالث‏:‏ عن حذيفة‏:‏ يجمع الله الناس في صعيد فلا تتكلم نفس فأوّل مدعوّ محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول‏:‏ «لبيك وسعديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا منجأ ولا ملجأ إلا إليك، تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت» قال‏:‏ فهذا قوله ‏{‏عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً‏}‏‏.‏

الرابع قال الزمخشري‏:‏ معنى المقام المحمود المقام الذي يحمده القائم فيه، وكل من رآه وعرفه وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات انتهى‏.‏ وهذا قول حسن ولذلك نكر ‏{‏مقاماً محموداً‏}‏ فلم يتناول مقاماً مخصوصاً بل كل مقام محمود صدق عليه إطلاق اللفظ‏.‏

الخامس‏:‏ ما قالت فرقة منها مجاهد وقد روي أيضاً عن ابن عباس أن المقام المحمود هو أن يجلسه الله معه على العرش‏.‏ وذكر الطبري في ذلك حديثاً وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال‏:‏ من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متّهم ما زال أهل العلم يحدّثون بهذا‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ يعني من أنكر جوازه على تأويله‏.‏ وقال أبو عمرو ومجاهد‏:‏ إن كان أحد الأئمة يتأول القرآن فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم أحدهما هذا والثاني في تأويل ‏{‏إلى ربها ناظرة‏}‏ قال‏:‏ تنتظر الثواب ليس من النظر، وقد يؤوّل قوله معه على رفع محله وتشريفه على خلقه كقوله ‏{‏إن الذين عند ربك‏}‏ وقوله ‏{‏ابنِ لي عندك بيتاً‏}‏ و‏{‏إن الله لمع المحسنين‏}‏ كل ذلك كناية عن المكانة لا عن المكان‏.‏

وقال الواحدي‏:‏ هذا القول مروي عن ابن عباس وهو قول رذل موحش فظيع لا يصح مثله عن ابن عباس، ونص الكتاب ينادي بفساده من وجوه‏.‏

الأول‏:‏ أن البعث ضد الإجلاس بعثت التارك وبعث الله الميت أقامه من قبره، فتفسيره البعث بالإجلاس تفسير الضد بالضد‏.‏

الثاني‏:‏ لو كان جالساً تعالى على العرش لكان محدوداً متناهياً فكان يكون محدثاً‏.‏

الثالث‏:‏ أنه قال ‏{‏مقاماً‏}‏ ولم يقل مقعداً ‏{‏محموداً‏}‏، والمقام موضع القيام لا موضع القعود‏.‏

الرابع‏:‏ أن الحمقى والجهّال يقولون إن أهل الجنة يجلسون كلهم معه تعالى ويسألهم عن أحوالهم الدنيوية فلا مزية له بإجلاسه معه‏.‏

الخامس‏:‏ أنه إذا قيل بعث السلطان فلاناً لا يفهم منه أجلسه مع نفسه انتهى‏.‏ وفيه بعض تلخيص‏.‏

ولما أمره تعالى بإقامة الصلاة والتهجد ووعده بعثه ‏{‏مقاماً محموداً‏}‏ وذلك في الآخرة أمره بأن يدعوه بما يشمل أموره الدنيوية والأخروية، فقال ‏{‏وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق‏}‏ والظاهر أنه عام في جميع موارده ومصادره دنيوية وأخروية، والصدق هنا لفظ يقتضي رفع المذام واستيعاب المدح كما تقول‏:‏ رجل صدق إذ هو مقابل رجل سوء‏.‏

وقال ابن عباس والحسن وقتادة‏:‏ هو إدخال خاص وهو في المدينة، وإخراج خاص وهو من مكة‏.‏ فيكون المقدم في الذكر هو المؤخر في الوقوع، ومكان الواو هو الأهم فبدئ به‏.‏ وقال مجاهد وأبو صالح‏:‏ ما معناه إدخاله فيما حمله من أعباء النبوة وأداء الشرع وإخراجه منه مؤدّياً لما كلفه من غير تفريط‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أدخلني القبر ‏{‏مدخل صدق‏}‏ إدخالاً مرضياً على طهارة وطيب من السيئات، وأخرجني منه عند البعث إخراجاً مرضياً ملقى بالكرامة آمناً من السخط، يدل عليه ذكره على ذكر البعث‏.‏ وقيل‏:‏ إدخاله مكة ظاهراً عليها بالفتح، وإخراجه منها آمناً من المشركين‏.‏ وقال محمد بن المنكدر‏:‏ إدخاله الغار وإخراجه منه سالماً‏.‏ وقيل‏:‏ الإخراج من المدينة والإدخال مكة بالفتح‏.‏ وقيل‏:‏ الإدخال في الصلاة والإخراج منها‏.‏ وقيل‏:‏ الإدخال في الجنة والإخراج من مكة‏.‏ وقيل‏:‏ الإدخال فيما أمر به والإخراج مما نهاه عنه‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏أدخلني‏}‏ في بحار دلائل التوحيد والتنزيه، ‏{‏وأخرجني‏}‏ من الاشتغال بالدليل إلى معرفة المدلول والتأمل في آثار محدثاته إلى الاستغراق في معرفة الأحد الفرد‏.‏ وقال أبو سهل‏:‏ حين رجع من تبوك وقد قال المنافقون‏:‏ ‏{‏ليخرجنّ الأعز منها الأذل‏}‏ يعني إدخال عز وإخراج نصر إلى مكة، والأحسن في هذه الأقوال أن تكون على سبيل التمثيل لا التعيين، ويكون اللفظ كما ذكرناه يتناول جميع الموارد والمصادر‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏مدخل‏}‏ و‏{‏مخرج‏}‏ بضم ميمهما وهو جار قياساً على أفعل مصدر، نحو أكرمته مكرماً أي إكراماً‏.‏ وقرأ قتادة وأبو حيوة وحميد وإبراهيم بن أبي عبلة بفتحهما‏.‏ وقال صاحب اللوامح‏:‏ وهما مصدران من دخل وخرج لكنه جاء من معنى ‏{‏أدخلني‏}‏ ‏{‏وأخرجني‏}‏ المتقدمين دون لفظهما ومثلهما ‏{‏أنبتكم من الأرض نباتاً‏}‏ ويجوز أن يكونا اسم المكان وانتصابهما على الظرف، وقال غيره‏:‏ منصوبان مصدرين على تقدير فعل أي ‏{‏أدخلني‏}‏ فأدخل ‏{‏مدخل صدق‏}‏ ‏{‏وأخرجني‏}‏ فأخرج ‏{‏مخرج صدق‏}‏‏.‏

والسلطان هنا قال الحسن‏:‏ التسليط على الكافرين بالسيف، وعلى المنافقين بإقامة الحدود‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ملكاً عزيزاً تنصرني به على كل من ناواني‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ حجة بينة‏.‏ وقيل‏:‏ كتاباً يحوي الحدود والأحكام‏.‏ وقيل‏:‏ فتح مكة‏.‏ وقيل‏:‏ في كل عصر ‏{‏سلطاناً‏}‏ ينصرك دينك و‏{‏نصيراً‏}‏ مبالغة في ناصر‏.‏ وقيل‏:‏ فعيل بمعنى مفعول، أي منصوراً، وهذه الأقوال كلها محتملة لقوله ‏{‏سلطاناً نصيراً‏}‏ وروي أنه تعالى وعده ذلك وأنجزه له في حياته وتممه بعد وفاته‏.‏ قال قتادة‏:‏ و‏{‏الحق‏}‏ القرآن و‏{‏الباطل‏}‏ الشيطان‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ الجهاد و‏{‏الباطل‏}‏ الشرك‏.‏ وقيل‏:‏ الإيمان والكفر‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ جاءت عبادة الله وذهبت عبادة الشيطان، وهذه الآية نزلت بمكة ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستشهد بها يوم فتح مكة وقت طعنه الأصنام وسقوطها لطعنه إياها بمخصرة حسبما ذكر في السير‏.‏ و‏{‏زهوقاً‏}‏ صفة مبالغة في اضمحلاله وعلم ثبوته في وقت مّا‏.‏

و ‏{‏من‏}‏ في ‏{‏من القرآن‏}‏ لابتداء الغاية‏.‏ وقيل للتبعيض قاله الحوفي‏:‏ وأنكر ذلك لاستلزامه أن بعضه لا شفاء فيه ورد هذا الإنكار لأن إنزاله إنما هو مبعض‏.‏ وقيل‏:‏ لبيان الجنس قاله الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء، وقد ذكرنا أن من التي لبيان الجنس لا تتقدم على المبهم الذي تبينه وإنما تكون متأخرة عنه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ و‏{‏ننزل‏}‏ بالنون ومجاهد بالياء خفيفة ورواها المروزي عن حفص‏.‏ وقرأ زيد بن عليّ‏:‏ ‏{‏شفاءً ورحمةً‏}‏ بنصبهما ويتخرج النصب على الحال وخبر هو قوله ‏{‏للمؤمنين‏}‏ والعامل فيه ما في الجار والمجرور من الفعل، ونظيره قراءة من قرأ ‏{‏والسموات مطويات بيمينه‏}‏ بنصب مطويات‏.‏ وقول الشاعر‏:‏

رهط ابن كوز محقي أدراعهم *** فيهم ورهط ربيعة بن حذار

وتقديم الحال على العامل فيه من الظرف أو المجرور لا يجوز إلاّ عند الأخفش، ومن منع جعله منصوباً على إضمار أعني وشفاؤه كونه مزيلاً للريب كاشفاً عن غطاء القلب بفهم المعجزات والأمور الدالة على الله المقررة لدينه، فصار لعلات القلوب كالشفاء لعلات الأجسام‏.‏ وقيل‏:‏ شفاء بالرقى والعَوذ كما جاء في حديث الذي رقي بالفاتحة من لسعة العقرب‏.‏ واختلفوا في النشرة وهو أن يكتب شيء من أسماء الله تعالى أو من القرآن ثم يغسل بالماء ثم يمسح به المريض أو يسقاه، فأجاز ذلك ابن المسيب ولم يره مجاهد‏.‏ وعن عائشة‏:‏ كانت تقرأ بالمعوذتين في إناء ثم تأمر أن يصب على المريض‏.‏ وقال أبو عبد الله المازني‏:‏ النشرة أمر معروف عند أهل التعزيم، سميت بذلك لأنها تنشر عن صاحبها أي تحل، ومنعها الحسن والنخعي‏.‏ ‏"‏ وروى أبو داود من حديث جابر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال وقد سئل عن النشرة‏:‏ «هي من عمل الشيطان» ‏"‏ ويحمل ذلك على ما إذا كانت خارجة عما في كتاب الله وسنة الرسول، والنشرة من جنس الطب في غسالة شيء له فضل‏.‏

وقال مالك‏:‏ لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى على أعناق المرضى على وجه التبرك بها إذا لم يرد معلقها بذلك مدافعة العين، وهذا معناه قبل أن ينزل به شيء من العين أما بعد نزول البلاء فيجوز رجاء الفرج والبرء والمرض كالرقى المباحة التي وردت السنة بها من العين وغيرها‏.‏ وقال ابن المسيب‏:‏ يجوز تعليق العوذة في قصبة أو رقعة من كتاب الله ويضعه عند الجماع وعند الغائط، ورخص الباقر في العوذة تعلق على الصبيان وكان ابن سيرين لا يرى بأساً بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان‏.‏

وخسار الظالمين وهم الذين يضعون الشيء في غير موضعه هو بإعراضهم عنه وعدم تدبره بخلاف المؤمن فإنه يزداد بالنظر فيه وتدبر معانيه إيماناً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 87‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ‏(‏83‏)‏ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا ‏(‏84‏)‏ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏85‏)‏ وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا ‏(‏86‏)‏ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ‏(‏87‏)‏‏}‏

لما ذكر تعالى تنويع ما أنزل من القرآن شفاء ورحمة للمؤمن وبزيادة خسار للظالم، عرّض بما أنعم به وما حواه من لطائف الشرائع على الإنسان، ومع ذلك ‏{‏أعرض‏}‏ عنه وبعد بجانبه اشمئزازاً له وتكبراً عن قرب سماعه وتبديلاً مكان شكر الإنعام كفره‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ونأى‏}‏ من النأي وهو البعد، وقرأ ابن عامر وناء‏.‏ وقيل هو مقلوب نأى فمعناه بعد‏.‏ وقيل‏:‏ معناه نهض بجانبه‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

حتى إذا ما التأمت مفاصله *** وناء في شق الشمال كاهله

أي نهض متوكئاً على شماله‏.‏ ومعنى ‏{‏يؤوساً‏}‏ قنوطاً من أن ينعم الله عليه‏.‏ والظاهر أن المراد بالإنسان هنا ليس واحداً بعينه بل المراد به الجنس كقوله ‏{‏إن الإنسان لربه لكنود‏}‏ ‏{‏إن الإنسان خلق هلوعاً‏}‏ الآية وهو راجع لمعنى الكافر، والإعراض يكون بالوجه والنأي بالجانب يكون بتولية العطف أو يراد بنأي الجانب الاستكبار لأن ذلك من عادة المستكبرين‏.‏ والشاكلة قال ابن عباس‏:‏ ناحيته‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ طبيعته‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ حدّته‏.‏ وقال قتادة والحسن‏:‏ نيته‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ دينه‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ خلقه وهذه أقوال متقاربة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ على مذهب الذي يشاكل حاله في الهدى والضلالة من قولهم طريق ذو شواكل وهي الطرق التي تشعبت منه، والدليل عليه قوله ‏{‏فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً‏}‏ أي أشد مذهباً وطريقة‏.‏

وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه‏:‏ لم أر في القرآن آية أرجى من التي فيها ‏{‏غافر الذنب وقابل التوب‏}‏ قدم الغفران قبل قبول التوبة‏.‏ وعن عثمان رضي الله عنه لم أر آية أرجى من ‏{‏نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم‏}‏ وعن عليّ كرّم الله وجهه ورضي عنه لم أر آية أرجى من ‏{‏يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله‏}‏ الآية‏.‏ قالوا ذلك حين تذاكروا القرآن‏.‏ وعن القرطبي‏:‏ لم أر آية أرجى من ‏{‏الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم‏}‏ الآية‏.‏

وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ الأرواح والنفوس مختلفة بماهيتها فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نور على نور، وبعضها كدِرة ظلمانية يظهر فيها من القرآن ضلال ونكال انتهى‏.‏ وثبت في الصحيح من حديث ابن مسعود أنه قال‏:‏ إني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة وهو متكئ على عسيب، فمر بنا ناس من اليهود فقال‏:‏ سلوه عن الروح فقال بعضهم‏:‏ لا تسألوه فسيفتيكم بما تكرهون فأتاه نفر منهم فقالوا‏:‏ يا أبا القاسم ما تقول في الروح‏؟‏ فسكت ثم ماج فأمسكت بيدي على جبهته، فعرفت أنه ينزل عليه فأنزل عليه ‏{‏ويسألونك عن الروح‏}‏ الآية‏.‏ وروي أن يهود قالوا لقريش‏:‏ سلوه عن الروح وعن فتية فقدوا في أول الزمان، وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها فإن أجاب في ذلك كله أو لم يجب في شيء فهو كذاب، وإن أجاب في بعض ذلك وسكت عن بعض فهو نبي‏.‏

وفي بعض طرق هذا‏:‏ إن فسر الثلاثة فهو كذاب وإن سكت عن الروح فهو نبي فنزل في شأن الفتية ‏{‏أم حسبت أن أصحاب الكهف‏}‏ ونزل في شأن الذي بلغ الشرق والغرب ‏{‏ويسألونك عن ذي القرنين‏}‏ ونزل في الروح ‏{‏ويسألونك عن الروح‏}‏ والظاهر من حديث ابن مسعود أن الآية مدنية ومن سؤال قريش أنها مكية، والروح على قول الجمهور هنا الروح التي في الحيوان وهو اسم جنس وهو الظاهر‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو جبريل عليه السلام قال وكان ابن عباس يكتمه‏.‏ وقيل‏:‏ عيسى ابن مريم عليه السلام وعن عليّ أنه ملك، وذكر من وصفه ما الله أعلم به ولا يصح عن عليّ‏.‏

وقيل‏:‏ الروح القرآن ويدل عليه الآية قبله والآية بعده‏.‏ وقيل‏:‏ خلق عظيم روحاني أعظم من الملك‏.‏ وقيل‏:‏ الروح جند من جنود الله لهم أيد وأرجل يأكلون الطعام ذكره العزيزي‏.‏ وقال أبو صالح خلق كخلق آدم وليسوا بني آدم لهم أيد وأرجل، ولا ينزل ملك من السماء إلاّ ومعه واحد منهم، والصحيح من هذه الأقوال القول الأول، والظاهر أنهم سألوا عن ماهيتها وحقيقتها وقيل عن كيفية مداخلتها الجسد الحيواني وانبعاثها فيه وصورة ملابستها له، وكلاهما مشكل لا يعلمه قبل إلاّ الله‏.‏ وقد رأيت كتاباً يترجم بكتاب النفخة والتسوية لبعض الفقهاء المتصوفة يذكر فيها أن الجواب في قوله ‏{‏قل الروح من أمر ربي‏}‏ إنما هو للعوام، وأما الخواص فهم عنده يعرفون الروح، وأجمع علماء الإسلام على أن الروح مخلوقة، وذهب كفرة الفلاسفة وكثير ممن ينتمي إلى الإسلام إلى أنها قديمة واختلاف الناس في الروح بلغ إلى سبعين قولاً، وكذلك اختلفوا هل الروح النفس أم شيء غيرها، ومعنى ‏{‏من أمر ربي‏}‏ أي فعل ربي كونها بأمره، وفي ذلك دلالة على حدوثها والأمر بمعنى الفعل وارد قال تعالى ‏{‏وما أمر فرعون برشيد‏}‏ أي فعله، ويحتمل أن يكون أمراً واحداً الأمور وهو اسم جنس لها أي من جملة أمور الله التي استأثر بعلمها‏.‏ وقيل‏:‏ من وحي ربي، وكلامه ليس من كلام البشر ويتخرج على قول من قال إن الروح هنا القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ من علم ربي والظاهر أن الخطاب في ‏{‏وما أوتيتم‏}‏ هم الذين سألوا عن الروح وهم طائفة من اليهود‏.‏ وقيل اليهود بجملتهم‏.‏ وقيل الناس كلهم‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ وهذا هو الصحيح لأن قوله ‏{‏قل الروح‏}‏ إنما هو أمر بالقول لجميع العالم إذ جميع علومهم محصورة وعلمه تعالى لا يتناهى‏.‏ وقرأ عبد الله بن مسعود والأعمش‏:‏ وما أوتوا بضمير الغيبة عائداً على السائلين، ولما ذكر تعالى ما أنعم به من تنزيل القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم شفاء ورحمة وقدرته على ذلك، ذكر قدرته على أنه لو شاء لذهب بما أوحى ولكنه تعالى لم يشأ ذلك والمعنى أنّا كما نحن قادرون على إنزاله نحن قادرون على إذهابه‏.‏

وقال أبو سهل‏:‏ هذا تهديد لغير الرسول صلى الله عليه وسلم بإذهاب ما أوتوا ليصدهم عن سؤال ما لم يؤتوا كعلم الروح وعلم الساعة‏.‏ وروي لا تقوم الساعة حتى يرتفع القرآن والحديث وفي حديث ابن مسعود يسري به في ليلة فيذهب بما في المصاحف وبما في القلوب، ثم قرأ عبد الله ‏{‏ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك‏}‏‏.‏ وقال صاحب التحرير‏:‏ ويحتمل عندي في تأويل الآية وجه غير ما ذكر وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما أبطأ عليه الوحي لما سُئل عن الروح شق ذلك عليه وبلغ منه الغاية، فأنزل الله تعالى تهذيباً له هذه الآية‏.‏ ويكون التقدير أيعز عليك تأخر الوحي فإنّا لو شئنا ذهبنا بما ‏{‏أوحينا إليك‏}‏ جميعه فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وطاب قلبه ولزم الأدب انتهى‏.‏ والباء في ‏{‏لنذهبن بالذي‏}‏ للتعدية كالهمزة وتقدم الكلام على ذلك في قوله ‏{‏لذهب بسمعهم‏}‏ في أوائل سورة البقرة‏.‏ والكفيل هنا قيل من يحفظ ما أوحينا إليك‏.‏ وقيل كفيلاً بإعادته إلى الصدور‏.‏ وقيل كفيلاً يضمن لك أن يؤتيك ما أخذ منك‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ والمعنى إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه عن الصدور والمصاحف ولم نترك له أثراً وبقيت كما كنت لا تدري ما الكتاب ثم لا تجد لك بهذا الذهاب من يتوكل علينا باسترداده وإعادته محفوظاً مسطوراً ‏{‏إلاّ رحمة من ربك‏}‏ إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك كان رحمته يتوكل عليه بالرد أو يكون على الاستثناء المنقطع بمعنى ولكن رحمة من ربك نتركه غير مذهوب به، وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظاً بعد المنة في تنزيله وتحفيظه انتهى‏.‏ وعلى الاستثناء المنقطع خرجه ابن الأنباري وابن عطية‏.‏

قال ابن الأنباري‏:‏ لكن رحمة من ربك تمنع من أن تسلب القرآن، وقال في زاد المسير المعنى لكن الله يرحمك فأثبت ذلك في قلبك‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ لكن ‏{‏رحمة من ربك‏}‏ تمسك ذلك عليك وتخريج الزمخشري الأول جعله استثناء متصلاً جعل رحمته تعالى مندرجة تحت قوله تعالى ‏{‏وكيلاً‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 93‏]‏

‏{‏قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ‏(‏88‏)‏ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ‏(‏89‏)‏ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا ‏(‏90‏)‏ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا ‏(‏91‏)‏ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا ‏(‏92‏)‏ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ‏(‏93‏)‏‏}‏

لما ذكر تعالى إنعامه على نبيه صلى الله عليه وسلم بالنبوّة بإنزال وحيه عليه وباهر قدرته بأنه تعالى لو شاء لذهب بالقرآن، ذكر ما منحه تعالى من الدليل على نبوته الباقي بقاء الدهر، وهو القرآن الذي عجز العالم عن الإتيان بمثله، وأنه من أكبر النعم والفضل الذي أبقى له ذكراً إلى آخر الدهر ورفع له قدراً به في الدنيا والآخرة، وإذا كان فصحاء اللسان الذي نزل به وبلغاؤهم عجزوا عن الإتيان بسورة واحدة مثله فلأن يكونوا أعجز عن ‏{‏أن يأتوا بمثل‏}‏ جميعه، ولو تعاون الثقلان عليه ‏{‏لا يأتون بمثله ولو كان‏}‏ الجنّ تفعل أفعالاً مستغربة كما حكى الله عنهم في قصة سليمان عليه السلام أدرجوا مع الإنس في التعجيز ليكون ذلك أبلغ في العجز، ويحتمل أن تكون الملائكة مندرجين تحت لفظ الجن لأنه قد يطلق عليهم هذا الاسم كقوله ‏{‏وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً‏}‏ وإن كان الأكثر استعماله في غير الملائكة من الأشكال الجنية المستترين عن أبصار الإنس، ويحتمل أن يكون ذكر الجن هنا لأنه عليه السلام بعث إلى الإنس والجن فوقع التعجيز للثقلين معاً لذلك‏.‏

وروي أن جماعة من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ جئنا بآية غريبة غير هذا القرآن فإنّا نحن نقدر على المجيء بمثل هذا، فنزلت ‏{‏ولا يأتون‏}‏ جواب القسم المحذوف قبل اللام الموطئة في ‏{‏لئن‏}‏ وهي الداخلة على الشرط كقوله ‏{‏لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم‏}‏ فالجواب في نحو هذا للقسم المحذوف لا للشرط، ولذلك جاء مرفوعاً‏.‏ فأما قول الأعشى‏:‏

لئن منيت بنا عن غب معركة *** لأتلفنا عن دماء القوم ننتفل

فاللام في ‏{‏لئن‏}‏ زائدة وليست موطئة لقسم قبلها‏.‏ فلذلك جزم في قوله لأتلفنا وقد احتج بهذا ونحوه الفراء في زعمه أنه إذا اجتمع القسم والشرط وتقدم القسم ولم يسبقهما ذو خبر أنه يجوز أن يكون الجواب للقسم وهو الأكثر وللشرط، ومذهب البصريين يحتم الجواب للقسم خاصة‏.‏ وذكر ابن عطية هنا فصلاً حسناً في ذكر الإعجاز نقلناه بقصته‏.‏ قال‏:‏ وفهمت العرب بخلوص فهمها في ميز الكلام ودريتها به ما لا نفهمه نحن ولا كل من خالطته حضارة، ففهموا العجز عنه ضرورة وشاهده وعلمه الناس بعدهم استدلالاً ونظراً ولكل حصل علم قطعي لكن ليس في مرتبة واحدة، وهذا كما علمت الصحابة شرع النبيّ صلى الله عليه وسلم وأعماله ومشاهده علم ضرورة، وعلمنا نحن المتواتر من ذلك بنقل التواتر فحصل للجميع القطع لكن في مرتبتين، وفهم إعجاز القرآن أرباب الفصاحة الذين لهم غرائب في ميز الكلام، ألا ترى إلى فهم الفرزدق شعر جرير وذي الرمّة في قول الفرزدق‏:‏

علام تلفتين وأنت تحتي *** وفي قول جرير‏:‏

تلفت إنها تحت ابن قين *** وألا ترى قول الأعرابي‏:‏ عز فحكم فقطع، وألا ترى إلى الاستدلال الآخر على البعث بقوله ‏{‏حتى زرتم المقابر‏}‏ فقال‏:‏ إن الزيارة تقتضي الانصراف، ومنه علم بشار بقول أبي عمرو بن العلاء في شعر الأعشى‏:‏

وأنكرتني وما كان الذي نكرت *** ومنه قول الأعرابي للأصمعي‏:‏

من أحوج الكريم أن يقسم *** فهم مع هذه الأفهام أقروا بالعجز، ولجأ النجاد منهم إلى السيف ورضي بالقتل والسباء وكشف الحرم‏.‏ وهو كان يجد المندوحة عن ذلك بالمعارضة انتهى‏.‏ ما اقتصرنا عليه من كلامه وكان قد قدم قبل ذلك قوله والعجز في معارضة القرآن إنما وقع في النظم، وعلة ذلك الإحاطة التي لا يتصف بها إلاّ الله عز وجل والبشر مقصر ضرورة بالجهل والنسيان والغفلة وأنواع النقص، فإذا نظم كلمة خفي عنه العلل التي ذكرنا‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏ولا يأتون‏}‏ جواب قسم محذوف، ولولا اللام الموطئة لجاز أن تكون جواباً للشرط‏.‏ كقوله‏:‏

يقول لا غائب مالي ولا حرم *** لأن الشرط وقع ماضياً انتهى‏.‏ يعني بالشرط قوله وهو صدر البيت‏:‏

وإن أتاه خليل يوم مسأله *** فأتاه فعل ماض دخلت عليه أداة الشرط فخلصته للاستقبال، وأفهم كلام الزمخشري أن يقول‏:‏ وإن كان مرفوعاً هو جواب الشرط الذي هو وإن أتاه، وهذا الذي ذهب إليه هو مخالف لمذهب سيبويه ولمذهب الكوفيين والمبرد، لأن مذهب سيبويه في مثل هذا التركيب وهو أن يكون فعل الشرط ماضياً وبعده مضارع مرفوع أن ذلك المضارع هو على نية التقديم وجواب الشرط محذوف، ومذهب الكوفيين والمبرد أنه الجواب لكنه على حذف الفاء، ومذهب ثالث وهو أنه هو جواب الشرط وهو الذي قال به الزمخشري والكلام على هذه المذاهب مذكور في علم النحو‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ والعجب من المذاهب ومن زعمهم أن القرآن قديم مع اعترافهم بأنه معجز، وإنما يكون المعجز حيث تكون القدرة فيقال‏:‏ الله قادر على خلق الأجسام والعباد عاجزون عنه، والمحال الذي لا مجال للقدرة فيه ولا مدخل لها فيه كثاني القديم فلا يقال للفاعل قد عجز عنه ولا هو معجز، ولو قيل ذلك لجاز وصف الله بالعجز لأنه لا يوصف بالقدرة على المحال إلاّ أن يكابروا فيقولوا‏:‏ هو قادر على المحال فإن رأس مالهم المكابرة وقلب الحقائق انتهى‏.‏ وتكرر لفظ مثل في قوله‏:‏ ‏{‏لا يأتون بمثله‏}‏ على سبيل التأكيد والتوضيح، وأن المراد منهم ‏{‏أن يأتوا‏}‏ بمثله إذ قد يراد بمثل الشيء في موضع الشيء نفسه، فبين بتكرار ‏{‏بمثله‏}‏ ولم يكن التركيب ‏{‏لا يأتون‏}‏ به رفعاً لهذا الاحتمال، وأن المطلوب منهم أن يأتوا بالمثل لا أن يأتوا بالقرآن‏.‏

ولما ذكر تعالى عجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن نبه على فضله تعالى بما ردّد فيه وضرب من الأمثال والعبر التي تدل على توحيده تعالى، ومع كثرة ما ردد من الأمثلة وأسبغ من النعم لم يكونوا إلاّ كافرين به وبنعمه‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏صرّفنا‏}‏ بتشديد الراء والحسن بتخفيفها، والظاهر أن مفعول ‏{‏صرّفنا‏}‏ محذوف تقديره البينات والعبر و‏{‏من‏}‏ لابتداء الغاية‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويجوز أن تكون مؤكدة زائدة التقدير ولقد ‏{‏صرّفنا‏}‏ ‏{‏كل مثل‏}‏ انتهى‏.‏ يعني فيكون مفعول ‏{‏صرّفنا‏}‏ ‏{‏كل مثل‏}‏ وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين والأخفش لا على مذهب جمهور البصريين، والظاهر أن المراد بالمثل هو القول الغريب السائر في الآفاق، والقرآن ملآن من الأمثال التي ضربها الله تعالى‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏من كل مثل‏}‏ من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ ‏{‏من كل مثل‏}‏ إشارة إلى التحدّي به بالجهات المختلفة كالتحدي بكل القرآن كالذي هنا، وبسورة مثله وبكلام من سورة كقوله ‏{‏فليأتوا بحديث مثله‏}‏ ومع ظهور عجزهم أبوا ‏{‏إلاّ كفوراً‏}‏ انتهى ملخصاً‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏من كل مثل‏}‏ من الترغيب والترهيب وأنباء الأولين والآخرين وذكر الجنة والنار وأكثر الناس‏.‏ قيل‏:‏ من كان في عهد الرسول من المشركين وأهل الكتاب‏.‏ وقيل‏:‏ أهل مكة وهو الظاهر بدليل ما أتى بعده من قوله ‏{‏وقالوا لن نؤمن لك‏}‏ وتقدم القول في دخول ‏{‏إلاّ‏}‏ بعد ‏{‏أبى‏}‏ في سورة براءة‏.‏ وروي في مقالتهم هذه أخبار مطولة هي في كتب الحديث والسير ملخصها أن صناديد قريش اجتمعوا وسيروا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما جاء إليهم جرت بينهم محاورات في ترك دينهم وطلبه منهم أن يوحدوا ويعبدوا الله فأرغبوه بالمال والرئاسة والملك فأبى، فقال‏:‏ «لست أطلب ذلك»‏.‏ فاقترحوا عليه الست الآيات التي ذكرها الله هنا، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما تحداهم بأن ‏{‏يأتوا بمثل هذا القرآن‏}‏ فتبين عجزهم عن ذلك وإعجازه، وانضمت إليه معجزات أخر وبينات واضحة فلزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتعللون باقتراح آيات فعل الحائر المبهوت المحجوج، فقالوا ما حكاه الله عنهم‏.‏

وقرأ الكوفيون‏:‏ ‏{‏تفجره‏}‏ من فجر مخففاً وباقي السبعة من فجر مشدداً، والتضعيف للمبالغة لا للتعدية، والأعمش وعبد الله بن مسلم بن يسار من أفجر رباعياً وهي لغة في فجر الأرض هنا أرض مكة وهي الأرض التي فيها تصرف العالمين ومعاشهم، روي عنهم أنهم قالوا له‏:‏ أزل جبال مكة وفجر لنا ‏{‏ينبوعاً‏}‏ حتى يسهل علينا الحرث والزرع وأحي لنا قصياً فإنه كان صدوقاً يخبرنا عن صدقك اقترحوا لهم أولاً هذه الآية ثم اقترحوا أخرى له عليه السلام أن ‏{‏تكون‏}‏ له ‏{‏جنة من نخيل وعنب‏}‏ وهما كانا الغالب على بلادهم، ومن أعظم ما يقتنون، ومعنى ‏{‏خلالها‏}‏ أي وسط تلك الجنة وأثناءها‏.‏ فتسقي ذلك النخل وتلك الكروم وانتصب ‏{‏خلالها‏}‏ على الظرف‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تسقط‏}‏ بتاء الخطاب مضارع أسقط السماء نصباً، ومجاهد بياء الغيبة مضارع سقط السماء رفعاً، وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي ‏{‏كسْفاً‏}‏ بسكون السين وباقي السبعة بفتحها‏.‏

وقولهم ‏{‏كما زعمت‏}‏ إشارة إلى قوله تعالى ‏{‏إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء‏}‏ وقيل‏:‏ ‏{‏كما زعمت‏}‏ إن ربك إن شاء فعل‏.‏ وقيل‏:‏ هو ما في هذه السورة من قوله ‏{‏أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو نرسل عليكم حاصباً‏}‏ قال أبو عليّ ‏{‏قبيلاً‏}‏ معاينة كقوله ‏{‏لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا‏}‏ وقال غيره‏:‏ ‏{‏قبيلاً‏}‏ كفيلاً من تقبله بكذا إذا كفله، والقبيل والزعيم والكفيل بمعنى واحد‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏قبيلاً‏}‏ كفيلاً بما تقول شاهداً لصحته، والمعنى أو تأتي بالله ‏{‏قبيلاً‏}‏ والملائكة ‏{‏قبيلاً‏}‏ كقوله‏:‏

كنت منه ووالدي بريا *** وإني وقيار بها لغريب

أي مقابلاً كالعشير بمعنى المعاشر ونحوه ‏{‏لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا‏}‏ أو جماعة حالاً من الملائكة‏.‏ وقرأ الأعرج قبلاً م المقابلة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏من زخرف‏}‏ وعبد الله من ذهب، ولا تحمل على أنها قراءة لمخالفة السواد وإنما هي تفسير‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيت في قراءة عبد الله من ذهب‏.‏ وقال الزجّاج‏:‏ الزخرف الزينة وتقدم شرح الزخرف‏.‏ ‏{‏وفي السماء‏}‏ على حذف مضاف، أي في معارج السماء‏.‏ والظاهر أن ‏{‏السماء‏}‏ هنا هي المظلة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد إلى مكان عال وكل ما علا وارتفع يسمى سماء‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

وقد يسمى سماء كل مرتفع *** وإنما الفضل حيث الشمس والقمر

قيل‏:‏ وقائل هذه هو ابن أبي أمية قال‏:‏ لن نؤمن حتى تضع على السماء سلماً ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك منشور معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أن الأمر كما تقول، ويحتمل أن يكون مجموع أولئك الصناديد قالوا ذلك وغيوا إيمانهم بحصول واحد من هذه المقترحات، ويحتمل أن يكون كل واحد اقترح واحداً منها ونسب ذلك للجميع لرضاهم به أو تكون ‏{‏أو‏}‏ فيها للتفضيل أي قال كل واحد منهم مقالة مخصوصة منها، وما اكتفوا بالتغيية بالرقي ‏{‏في السماء‏}‏ حتى غيوا ذلك بأن ينزل عليهم ‏{‏كتاباً‏}‏ يقرؤونه، ولما تضمن اقتراحهم ما هو مستحيل في حق الله تعالى وهو أن يأتي ‏{‏بالله والملائكة قبيلاً‏}‏ أمره تعالى بالتسبيح والتنزيه عما لا يليق به، ومن أن يقترح عليه ما ذكرتم فقال ‏{‏سبحان ربي هل كنت إلاّ بشراً رسولاً‏}‏ أي ما كنت إلاّ بشراً رسولاً أي من الله إليكم لا مقترحاً عليه ما ذكرتم من الآيات‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ وما كانوا يقصدون بهذه الاقتراحات إلاّ العناد واللجاج، ولو جاءتهم كل آية لقالوا هذا سحر كما قال عز وعلا ‏{‏ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس‏}‏ ‏{‏ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون‏}‏ وحين أنكروا‏.‏ الآية الباقية التي هي القرآن وسائر الآيات، وليست بدون ما اقترحوه بل هي أعظم لم يكن انتهى وشق القمر أعظم من شق الأرض ونبع الماء من بين أصابعه أعظم من نبع الماء من الحجر‏.‏ وقرأ ابن كثير وابن عامر قال ‏{‏سبحان ربي‏}‏ على الخبر تعجب عليه الصلاة والسلام من اقتراحاتهم عليه، ونزه ربه عما جوزوا عليه من الإتيان والانتقال وذلك في حق الله مستحيل ‏{‏هل كنت إلاّ بشراً‏}‏ مثلهم ‏{‏رسولاً‏}‏، والرسل لا تأتي إلاّ بما يظهره الله عليهم من الآيات وليس أمرها إليهم إنما ذلك إلى الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 99‏]‏

‏{‏وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ‏(‏94‏)‏ قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ‏(‏95‏)‏ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏96‏)‏ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ‏(‏97‏)‏ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ‏(‏98‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا ‏(‏99‏)‏‏}‏

الظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏وما منع الناس‏}‏ إخبار من الله تعالى عن السبب الضعيف الذي منعهم من الإيمان، إذ ظهر لهم المعجز وهو استبعاد أن يبعث الله رسولاً إلى الخلق واحداً منهم ولم يكن ملكاً، وبعد أن ظهر المعجز فيجب الإقرار والاعتراف برسالته فقولهم‏:‏ لا بد أن يكون من الملائكة تحكم فاسد، ويظهر من كلام ابن عطية أن قوله ‏{‏وما منع الناس‏}‏ هو من قول الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذه الآية على معنى التوبيخ والتلهف من النبيّ عليه الصلاة والسلام كأنه يقول متعجباً منهم ما شاء الله كان ‏{‏وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلاّ‏}‏ هذه العلة النزرة والاستبعاد الذي لا يسند إلى حجة، وبعثة البشر رسلاً غير بدع ولا غريب فيها يقع الإفهام والتمكن من النظر كما لو كان في الأرض ملائكة يسكنونها مطمئنين لكان الرسول إليهم من الملائكة ليقع الإفهام، وأما البشر فلو بعث إليهم ملك لنفرت طبائعهم من رؤيته ولم تحتمله أبصارهم ولا تجلدت له قلوبهم، وإنما الله أجرى أحوالهم على معتادها انتهى‏.‏

و ‏{‏أن يؤمنوا‏}‏ في موضع نصب و‏{‏أن قالوا‏}‏‏:‏ في موضع رفع، و‏{‏إذ‏}‏ ظرف العامل فيه منع والناس كفار قريش القائلون تلك المقالات السابقة و‏{‏الهدى‏}‏ هو القرآن ومن جاء به، وليس المراد مجرد القول بل قولهم الناشئ عن اعتقاد والهمزة في ‏{‏أبعث‏}‏ للإنكار و‏{‏رسولاً‏}‏ ظاهره أنه نعت، ويجوز أن يكون ‏{‏رسولاً‏}‏ مفعول بعث، و‏{‏بشراً‏}‏ حال متقدمة عليه أي ‏{‏أبعث الله رسولاً‏}‏ في حال كونه ‏{‏بشراً‏}‏، وكذلك يجوز في قوله ‏{‏ملكاً رسولاً‏}‏ أي ‏{‏لنزلنا عليهم من السماء‏}‏ ‏{‏رسولاً‏}‏ في حال كونه ‏{‏ملكاً‏}‏‏.‏ وقوله ‏{‏يمشون‏}‏ يتصرفون فيها بالمشي وليس لهم صعود إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويعلمون ما يجب علمه، بل هم مقيمون في الأرض يلزمهم ما يلزم المكلفين من عبادات مخصوصة وأحكام لا يدرك تفصيلها بالعقل، ‏{‏لنزلنا عليهم‏}‏ من جنسهم من يعلمهم ذلك ويلقيه إليهم‏.‏

ولما دعاهم صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان وتحدى على صدق نبوته بالمعجز الموافق لداعوه، أمره تعالى أن يعلمهم بأنه تعالى هو الشهيد بينه وبينهم على تبليغه وما قام به من أعباء الرسالة وعدم قبولهم وكفرهم، وما اقترحوا عليه من الآيات على سبيل العناد، وأردف ذلك بما فيه تهديد وهو قوله ‏{‏إنه كان بعباده خبيراً‏}‏ بخفيات أسرارهم ‏{‏بصيراً‏}‏ مطلقاً على ما يظهر من أفعالهم وأقوالهم‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏ومن يهد الله‏}‏ إخبار من الله تعالى وليس مندرجاً تحت ‏{‏قل‏}‏ لقوله ‏{‏ونحشرهم‏}‏ ويحتمل أن يكون مندرجاً لمجيء ‏{‏ومن‏}‏ بالواو، ويكون ‏{‏ونحشرهم‏}‏ إخباراً من الله تعالى‏.‏ وعلى القول الأول يكون التفاتاً إذ خرج من الغيبة للتكلم، ولما تقدم دعوة الرسول إلى الإيمان وتحدى بالمعجز الذي آتاه الله، ولجوّا في كفرهم وعنادهم ولم يجد فيهم ما جاء به من الهدى أخبر بأن ذلك كله راجع إلى مشيئته تعالى وأنه هو الهادي وهو المفضل، فسلاه تعالى بذلك وأخبر تعالى على سبيل التهديد لهم والوعيد الصدق لحالهم وقت حشرهم يوم القيامة‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏ومن يهد الله‏}‏ ومن يوفقه ويلطف به ‏{‏فهو المهتدي‏}‏ لأنه لا يلطف إلاّ بمن عرف أن اللطف ينفع فيه ‏{‏ومن يضلل‏}‏ ومن يخذل ‏{‏فلن تجد لهم أولياء‏}‏ أنصاراً انتهى‏.‏ وهو على طريقة الأعتزال ومن مفعول بيهد وبيضلل، وحمل على اللفظ في قوله ‏{‏فهو المهتدي‏}‏ فأفرد ملاحظة لسبيل الهدى وهي واحدة فناسب التوحيد التوحيد، وحمل على المعنى في قوله ‏{‏فلن تجد لهم أولياء‏}‏ لا على اللفظ ملاحظة لسبيل الضلال فإنها متشعبة متعددة فناسب التشعيب والتعديد الجمع، وهذا من المواضع التي جاء فيها الحمل على المعنى ابتداءً من غير أن يتقدّم الحمل على اللفظ وهي قليلة في القرآن، والظاهر أن قوله ‏{‏على وجوههم‏}‏ حقيقة كما قال تعالى ‏{‏يوم يسحبون في النار على وجوههم‏}‏ الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم‏.‏ وفي هذا حديث قيل‏:‏ ‏"‏ يا رسول الله كيف يمشي الكافر على وجهه‏؟‏ قال‏:‏ «أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجلين قادراً أن يمشيه في الآخرة على وجهه» ‏"‏ قال قتادة‏:‏ بلى وعزة ربنا‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏على وجوههم‏}‏ مجاز يقال للمنصرف عن أمر خائباً مهموماً انصرف على وجهه، ويقال للبعير كأنما يمشي على وجهه‏.‏ وقيل‏:‏ هو مجاز عن سحبهم على وجوههم على سرعة من قول العرب قدم القوم على وجوههم إذا أسرعوا‏.‏

والظاهر أن قوله ‏{‏عمياً وبكماً وصماً‏}‏ هو حقيقة وذلك عند قيامهم من قبورهم، ثم يرد الله إليهم أبصارهم وسمعهم ونطقهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله عنهم‏.‏ وقيل‏:‏ هي استعارات إما لأنهم من الحيرة والذهول يشبهون أصحاب هذه الصفات، وإما من حيث لا يرون ما يسرهم ولا يسمعونه ولا ينطقون بحجة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ كما كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ويتصامّون عن سماعه فهم في الآخرة كذلك لا يبصرون ما يقرّ أعينهم ولا يسمعون ما يلذ أسماعهم ولا ينطقون بما يقبل منهم، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى انتهى‏.‏ وهذا قول ابن عباس والحسن قالا المعنى ‏{‏عمياً‏}‏ عما يسرهم، ‏{‏بكماً‏}‏ عن التكلم بحجة ‏{‏صماً‏}‏ عما ينفعهم‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏عمياً‏}‏ عن النظر إلى ما جعل الله لأوليائه، ‏{‏بكماً‏}‏ عن مخاطبة الله، ‏{‏صماً‏}‏ عما مدح الله به أولياءه، وانتصب ‏{‏عمياً‏}‏ وما بعده على الحال والعامل فيها ‏{‏نحشرهم‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ يحصل لهم ذلك حقيقة عند قوله ‏{‏قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون‏}‏ فعلى هذا تكون حالاً مقدرة لأن ذلك لم يكن مقارناً لهم وقت الحشر‏.‏

‏{‏كلما خبت‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كلما فرغت من إحراقهم فيسكن اللهيب القائم عليهم قدر ما يعادون ثم يثور فتلك زيادة السعير، فالزيادة في حيزهم، وأما جهنم فعلى حالها من الشدّة لا يصيبها فتور، فعلى هذا يكون ‏{‏خبت‏}‏ مجازاً عن سكون لهبها مقدار ما تكون إعادتهم كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها ثم يعيدها، لا يزالون على الإفناء والإعادة ليزيد ذلك في تحسيرهم على تكذيبهم ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد، وقد دل على ذلك بقوله ‏{‏ذلك جزاؤهم‏}‏ والإشارة بذلك إلى ما تقدم من حشرهم على تلك الحال وصيرورتهم إلى جهنم والعذاب فيها، والآيات تعم القرآن والحجج التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم ونص على إنكار البعث إذ هو طعن في القدرة الإلهية وهذا مع اعترافهم بأنه تعالى منشئ العالم ومخترعه، ثم إنهم ينكرون الإعادة فصار ذلك تعجيزاً لقدرته‏.‏

وتقدم الكلام على قوله ‏{‏وقالوا أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً‏}‏ في هذه السورة فأغنى عن إعادته، ولما أنكروا البعث نبههم تعالى على عظيم قدرته وباهر حكمته فقال‏:‏ ‏{‏أو لم يروا‏}‏ وهو استفهام إنكار وتوبيخ لهم على ما كانوا يستبعدونه من الإعادة، واحتجاج عليهم بأنهم قد رأوا قدرة الله على خلق هذه الأجرام العظيمة التي بعض ما تحويه البشر، فكيف يقرون بخلق هذا المخلوق العظيم ثم ينكرون إعادة بعض مما حله وذلك مما لا يحيله العقل بل هو مما يجوزه، ثم أخبر الصادق بوقوعه فوجب قبوله والرؤية هنا رؤية القلب وهي العلم، ومعنى ‏{‏مثلهم‏}‏ من الإنس لأنهم ليسوا أشد خلقاً منهن كما قال ‏{‏أأنتم أشد خلقاً أم السماء‏}‏ وإذا كان قادراً على إنشاء أمثالهم من الإنس من العدم الصرف فهو قادر على أن يعيدهم كما قال ‏{‏وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده‏}‏ وهو أهون عليه‏.‏ وعطف قوله ‏{‏وجعل لهم‏}‏ على قوله ‏{‏أو لم يروا‏}‏ لأنه استفهام تضمن التقرير والمعنى قد علموا بدليل العقل كيت وكيت ‏{‏وجعل لهم‏}‏ أي للعالمين ذلك ‏{‏أجلاً لا ريب فيه‏}‏ وهو الموت أو القيامة، وليس هذا الجعل واحداً في الاستفهام المتضمن التقرير، أو إن كان الأجل القيامة لأنهم منكروها وإذا كان الأجل الموت فهو اسم جنس واقع موقع آجال‏:‏ ‏{‏فأبى الظالمون‏}‏ وهم الواضعون الشيء غير موضعه على سبيل الاعتداء ‏{‏إلاّ كفوراً‏}‏ جحوداً لما أتى به الصادق من توحيد الله وإفراده بالعبادة، وبعثهم يوم القيامة للجزاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 104‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا ‏(‏100‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ‏(‏101‏)‏ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ‏(‏102‏)‏ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا ‏(‏103‏)‏ وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ‏(‏104‏)‏‏}‏

مناسبة قوله ‏{‏قل لو أنتم تملكون خزائن‏}‏ الآية أن المشركين قالوا‏:‏ لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً‏.‏ فطلبوا إجراء الأنهار والعيون في بلدهم لتكثر أقواتهم وتتسع عليهم، فبين تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله لبقوا على بخلهم وشحهم، ولما قدموا على إيصال النفع لأحد، وعلى هذا فلا فائدة في إسعافهم بما طلبوا هذا ما قيل في ارتباط هذه الآية‏.‏ وقاله العسكري‏:‏ والذي يظهر لي أن المناسب هو أنه عليه السلام قد منحه الله ما لم يمنحه لأحد من النبوة والرسالة إلى الإنس والجن، فهو أحرص الناس على إيصال الخير وإنقاذهم من الضلال يثابر على ذلك ويخاطر بنفسه في دعائهم إلى الله، ويعرض ذلك على القبائل وأحياء العرب سمحاً بذلك لا يطلب منهم أجراً، وهؤلاء أقرباؤه لا يكاد يجيب منهم أحد إلاّ الواحد بعد الواحد قد لجوا في عناده وبغضائه، فلا يصل منهم إليه إلاّ الأذى، فنبه تعالى بهذه الآية على سماحته عليه السلام وبذله ما آتاه الله، وعلى امتناع هؤلاء أن يصل منهم شيء من الخير إليه فقال‏:‏ لو ملكوا التصرف في ‏{‏خزائن رحمة‏}‏ الله التي هي وسعت كل شيء كانوا أبخل من كل أحد بما أوتوه من ذلك بحيث لا يصل منهم لأحد شيء من النفع إذ طبيعتهم الإقتار وهو الإمساك عن التوسع في النفقة، هذا مع ما أوتوه من الخزائن، فهذه الآية جاءت مبينة تبين ما بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام من حرصه على نفعهم وعدم إيصال شيء من الخير منهم إليه، والمستقرأ في ‏{‏لو‏}‏ التي هي حرف لما كان سيقع لوقوع غيره أن يليها الفعل إما ماضياً وإما مضارعاً‏.‏ كقوله ‏{‏لو نشاء لجعلناه حطاماً‏}‏ أو منفياً بلم أو أن وهنا في قوله ‏{‏قل لو أنتم تملكون‏}‏ وليها الاسم فاختلفوا في تخريجه، فذهب الحوفي والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء وغيرهم إلى أنه مرفوع بفعل محذوف يفسره الفعل بعده، ولما حذف ذلك الفعل وهو تملك انفصل الضمير وهو الفاعل بتملك كقوله‏:‏‏.‏

وإن هو لم يحمل على النفس ضميها *** التقدير وإن لم يحمل فحذف لم يحمل وانفصل الضمير المستكن في يحمل فصار هو، وهنا انفصل الضمير المتصل البارز وهو الواو فصار ‏{‏أنتم‏}‏، وهذا التخريج بناء على أن ‏{‏لو‏}‏ يليها الفعل ظاهراً ومضمراً في فصيح الكلام، وهذا ليس بمذهب البصريين‏.‏

قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور‏:‏ لا تلي لو إلاّ الفعل ظاهر أو لا يليها مضمراً إلاّ في ضرورة أو نادر كلام مثل‏:‏ ما جاء في المثل من قولهم‏:‏

لو ذات سوار لطمتني *** وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الصائغ‏:‏ البصريون يصرحون بامتناع لو زيد قام لأكرمته على الفصيح، ويجيزونه شاذاً كقولهم‏:‏

لو ذات سوار لطمتني *** وهو عندهم على فعل مضمر كقوله تعالى ‏{‏وإن أحد من المشركين استجارك فأجره‏}‏ فهو من باب الاشتغال انتهى‏.‏ وخرّج ذلك أبو الحسن عليّ بن فضال المجاشعي على إضمار كان، والتقدير ‏{‏قل لو‏}‏ كنتم ‏{‏أنتم‏}‏ تملكون فظاهر هذا التخريج أنه حذف كنتم برمته وبقي ‏{‏أنتم‏}‏ توكيداً لذلك الضمير المحذوف مع الفعل، وذهب شيخنا الأستاذ أبو الحسن الصائغ إلى حذف كان فانفصل اسمها الذي كان متصلاً بها، والتقدير ‏{‏قل لو‏}‏ كنتم ‏{‏تملكون‏}‏ فلما حذف الفعل انفصل المرفوع، وهذا التخريج أحسن لأن حذف كان بعد ‏{‏لو‏}‏ معهود في لسان العرب، والرحمة هنا الرزق وسائر نعمه على خلقه‏.‏

والكلام على ‏{‏إذاً لأمسكتم‏}‏ تقدم نظيره في قوله ‏{‏إذاً لأذقناك‏}‏ و‏{‏خشية‏}‏ مفعول من أجله، والظاهر أن ‏{‏الإنفاق‏}‏ على مشهور مدلوله فيكون على حذف مضاف، أي ‏{‏خشية‏}‏ عاقبة ‏{‏الإنفاق‏}‏ وهو النفاد‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ أنفق وأملق وأعدم وأصرم بمعنى واحد، فيكون المعنى خشية الافتقار‏.‏ والقتور الممسك البخيل ‏{‏والإنسان‏}‏ هنا للجنس‏.‏

ولما حكى الله تعالى عن قريش ما حكى من تعنتهم في اقتراحهم وعنادهم للرسول صلى الله عليه وسلم سلاه تعالى بما جرى لموسى مع فرعون ومع قومه من قولهم ‏{‏أرنا الله جهرة‏}‏ إذ قالت قريش ‏{‏أو تأتي بالله‏}‏ وقالت ‏{‏أو نرى ربنا‏}‏ وسكن قلبه ونبه على أن عاقبتهم للدمار والهلاك كما جرى لفرعون إذ أهلكه الله ومن معه‏.‏ و‏{‏تسع آيات‏}‏ قال ابن عباس وجماعة من الصحابة‏:‏ هي اليد البيضاء، والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم هذه سبع باتفاق، وأما الثنتان فعن ابن عباس لسانه كان به عقد فحلها الله، والبحر الذي فلق له‏.‏ وعنه أيضاً البحر والجبل الذي نتق عليهم‏.‏ وعنه أيضاً السنون ونقص من الثمرات وقاله مجاهد والشعبي وعكرمة وقتادة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ السنون ونقص الثمرات آية واحدة، وعن الحسن ووهب البحر والموت أرسل عليهم‏.‏ وعن ابن جبير الحجر والبحر‏.‏ وعن محمد بن كعب‏:‏ البحر والسنون‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏تسع آيات‏}‏ هي من الكتاب، وذلك أن يهودياً قال لصاحبه‏:‏ تعالى حتى نسأل هذا النبيّ فقال الآخر لا تقل إنه نبيّ فإنه لو سمع كلامك صارت له أربعة أعين، فأتياه وسألاه عن ‏{‏تسع آيات بينات‏}‏ فقال‏:‏ لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله، ولا تسخروا، ولا تقذفوا المحصنات، ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة يهود أن لا تعتدوا في السبت، قال‏:‏ فقبلا يده وقالا‏:‏ نشهد أنك نبيّ فقال‏:‏ ما منعكما أن تسلما‏؟‏ قالا‏:‏ إن داود دعا الله أن لا يزال في ذريته نبيّ وإنّا نخاف إن أسلمنا تقتلنا اليهود‏.‏ قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ فسل ‏{‏بني إسرائيل‏}‏ وبنو إسرائيل معاصروه، وفسل معمول لقول محذوف أي فقلنا سل، والظاهر أنه خطاب للرسول محمد صلى الله عليه وسلم أمره أن يسألهم عما أعلمه به من غيب القصة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إذ جاءهم‏}‏ يريد آباءهم وأدخلهم في الضمير إذ هم منهم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم، أو سلهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك‏.‏ ويدل عليه قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فسأل ‏{‏بني إسرائيل‏}‏ على لفظ الماضي بغير همز وهي لغة قريش‏.‏ وقيل‏:‏ فسل يا رسول الله المؤمنين من بني إسرائيل وهم عبد الله بن سلام وأصحابه عن الآيات لتزداد يقيناً وطمأنينة قلب، لأن الدلالة إذا تظافرت كان ذلك أقوى وأثبت كقول إبراهيم عليه السلام ‏{‏ولكن ليطمئن قلبي‏}‏ انتهى‏.‏ وهذا القول هو الأول وهو ما أعلمه به من غيب القصة‏.‏ ولما كان متعلق السؤال محذوفاً احتمل هذه التقديرات، والظاهر أن الأمر بالسؤال لبني إسرائيل هو حقيقة‏.‏ وقال ابن عطية ما معناه‏:‏ يحتمل أن يكون السؤال عبارة عن تطلب أخبارهم والنظر في أحوالهم وما في كتبهم‏.‏ نحو قوله ‏{‏واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا‏}‏ جعل النظر والتطلب معبراً عنه بالسؤال، ولذلك قال الحسن‏:‏ سؤالك إياهم نظرك في القرآن، والظاهر أن ‏{‏إذ‏}‏ معمولة لآتينا أي ‏{‏آتينا‏}‏ حين جاء أتاهم‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ بم نعلق ‏{‏إذ جاءهم‏}‏‏؟‏ قلت‏:‏ أما على الوجه الأول فبالقول المحذوف أي فقلنا له سلهم حين جاءهم، وأما على الآخر فبآتينا أو بإضمار اذكر أو يخبرونك انتهى‏.‏ ولا يتأتى تعلقه باذكر ولا بيخبرونك لأنه ظرف ماض‏.‏ وقراءة فسأل مروية عن ابن عباس‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كلام محذوف وتقديره فسأل موسى فرعون بني إسرائيل أي طلبهم لينجيهم من العذاب انتهى‏.‏ وعلى قراءة فسل يكون التقدير فقلنا له سل ‏{‏بني إسرائيل‏}‏ أي سل فرعون إطلاق بني إسرائيل‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ فسل ‏{‏بني إسرائيل‏}‏ اعتراض في الكلام والتقدير، ‏{‏ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات‏}‏ إذ جاء ‏{‏بني إسرائيل‏}‏ فسلهم وليس المطلوب من سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم، بل المقصود أن يظهر لعامة اليهود صدق ما ذكره الرسول عليه السلام، فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد انتهى‏.‏ وعلى قراءة فسأل ماضياً وقدره فسأل فرعون ‏{‏بني إسرائيل‏}‏ يكون المفعول الأول لسأل محذوفاً، والثاني هو ‏{‏بني إسرائيل‏}‏ وجاز أن يكون من الأعمال لأنه توارد على فرعون سأل وفقال فأعمل، الثاني على ما هو أرجح‏.‏

والظاهر أن قوله ‏{‏مسحوراً‏}‏ اسم مفعول أي قد سحرت بكلامك هذا مختل وما يأتي به غير مستقيم وهذا خطاب بنقيض‏.‏ وقال الفراء والطبري‏:‏ مفعول بمعنى فاعل أي ساحراً، فهذه العجائب التي يأتي بها من أمر السحر، وقالوا‏:‏ مفعول بمعنى فاعل مشؤوم وميمون وإنما هو شائم ويامن‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لقد علمت‏}‏ بفتح التاء على خطاب موسى لفرعون وتبكيته في قوله عنه أنه مسحور أي لقد علمت أن ما جئت به ليس من باب السحر، ولا أني خدعت في عقلي، بل علمت أنه ما أنزلها إلاّ الله، وما أحسن ما جاء به من إسناد إنزالها إلى لفظ ‏{‏رب السموات والأرض‏}‏ إذ هو لما سأله فرعون في أول محاورته فقال له‏:‏ وما رب العالمين قال‏:‏ ‏{‏رب السموات والأرض‏}‏ ينبهه على نقصه وأنه لا تصرّف له في الوجود فدعواه الربوبية دعوى استحالة، فبكتَّه وأعلمه أنه يعلم آيات الله ومن أنزلها ولكنه مكابر معاند كقوله

‏{‏وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً‏}‏ وخاطبه بذلك على سبيل التوبيخ أي أنت بحال من يعلم هذا وهي من الوضوح بحيث تعلمها وليس خطابه على جهة إخباره عن علمه‏.‏ وقرأ عليّ بن أبي طالب وزيد بن عليّ والكسائي ‏{‏علمت‏}‏ بضم التاء أخبر موسى عن نفسه أنه ليس بمسحور كما وصفه فرعون، بل هو يعلم أن ‏{‏ما أنزل هؤلاء‏}‏ الآيات إلاّ الله‏.‏

وروي عن عليّ أنه قال‏:‏ ما علم عدوّ الله قط وإنما علم موسى، وهذا القول عن عليّ لا يصح لأنه رواه كلثوم المرادي وهو مجهول، وكيف يصح هذا القول وقراءة الجماعة بالفتح على خطاب فرعون‏.‏

و ‏{‏ما أنزل‏}‏ جملة في موضع نصب علق عنها ‏{‏علمت‏}‏‏.‏ ومعنى ‏{‏بصائر‏}‏ دلالات على وحدانية الله وصدق رسوله والإشارة بهؤلاء إلى الآيات التسع‏.‏ وانتصب ‏{‏بصائر‏}‏ على الحال في قول ابن عطية والحوفي وأبي البقاء، وقالا‏:‏ حال من ‏{‏هؤلاء‏}‏ وهذا لا يصح إلاّ على مذهب الكسائي والأخفش لأنهما يجيزان ما ضرب هنداً هذا إلاّ زيد ضاحكة‏.‏ ومذهب الجمهور أنه لا يجوز فإن ورد ما ظاهره ذلك أول على إضمار فعل يدل عليه ما قبله التقدير ضربها ضاحكة، وكذلك يقدرون هنا أنزلها ‏{‏بصائر‏}‏ وعند هؤلاء لا يعمل ما قبل إلاّ فيما بعدها إلاّ أن يكون مستثنى منه أو تابعاً له‏.‏

وقابل موسى ظنه بظن فرعون فقال‏:‏ ‏{‏وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً‏}‏ وشتان ما بين الظنين ظن فرعون ظن باطل، وظن موسى ظن صدق، ولذلك آلَ أمر فرعون إلى الهلاك كان أولاً موسى عليه السلام يتوقع من فرعون أذى كما قال ‏{‏إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى‏}‏ فأمر أن يقول له قولاً ليناً فلما قال له الله‏:‏ لا تخف وثق بحماية الله، فصال على فرعون صولة المحمي‏.‏ وقابله من الكلام بما لم يكن ليقابله به قبل ذلك‏.‏ ومثبور مهلك في قول الحسن ومجاهد، وملعون في قول ابن عباس، وناقص العقل فيما روى ميمون بن مهران، ومسحور في قول الضحاك قال‏:‏ رد عليه مثل ما قال له فرعون مع اختلاف اللفظ، وعن الفراء مثبور مصروف عن الخير مطبوع على قلبك من قولهم‏:‏ ما ثبرك عن هذا‏؟‏ أي ما منعك وصرفك‏.‏ وقرأ أبيّ وإن أخالك يا فرعون لمثبوراً وهي أن الخفيفة، واللام الفارقة واستفزازه إياهم هو استخفافه لموسى ولقومه بأن يقلعهم من أرض مصر بقتل أو جلاء، فحاق به مكره وأغرقه الله وقبطه أراد أن تخلو أرض مصر منهم فأخلاها الله منه‏.‏ ومن قومه والضمير في ‏{‏من بعده‏}‏ عائد على فرعون أي من بعد إغراقه، و‏{‏الأرض‏}‏ المأمور بسكناها أرض الشام، والظاهر أن يكون الأمر بذلك حقيقة على لسان موسى عليه السلام ووعد الآخرة قيام الساعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 109‏]‏

‏{‏وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏105‏)‏ وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ‏(‏106‏)‏ قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ‏(‏107‏)‏ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ‏(‏108‏)‏ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ‏(‏109‏)‏‏}‏

‏{‏وبالحق أنزلناه‏}‏ هو مردود على قوله ‏{‏لئن اجتمعت الإنس والجن‏}‏ الآية وهكذا طريقة كلام العرب وأسلوبها تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى شيء آخر ثم إلى آخر ثم تعود إلى ما ذكرته أولاً، وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في ‏{‏أنزلناه‏}‏ عائد على موسى عليه السلام وجعل منزلاً كما قال ‏{‏وأنزلنا الحديد‏}‏ أو عائد على الآيات التسع، وذكر على المعنى أو عائد على الوعد المذكور قبله‏.‏ وقال أبو سليمان الدمشقي ‏{‏وبالحق أنزلناه‏}‏ أي بالتوحيد، ‏{‏وبالحق نزل‏}‏ أي بالوعد والوعيد والأمر والنهي‏.‏ وقال الزهراوي‏:‏ بالواجب الذي هو المصلحة والسداد للناس، ‏{‏وبالحق نزل‏}‏ أي بالحق في أوامره ونواهيه وأخباره‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وما أنزلنا القرآن إلاّ بالحكمة المقتضية لإنزاله وما نزل إلاّ ملتبساً بالحق والحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير، وما أنزلناه من السماء إلاّ بالحق محفوظاً بالرصد من الملائكة، وما نزل على الرسول إلاّ محفوظاً بهم من تخليط الشياطين انتهى‏.‏ وقد يكون ‏{‏وبالحق نزل‏}‏ توكيداً من حيث المعنى لما كان يقال أنزلته فنزل، وأنزلته فلم ينزل إذا عرض له مانع من نزوله جاء، ‏{‏وبالحق نزل‏}‏ مزيلاً لهذا الاحتمال ومؤكداً حقيقة، ‏{‏وبالحق نزل‏}‏ وإلى معنى التأكيد نحا الطبري‏.‏ وانتصب ‏{‏مبشراً ونذيراً‏}‏ على الحال أي ‏{‏مبشراً‏}‏ لهم بالجنة ومنذراً من النار ليس لك شيء من إكراههم على الدين‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فرقناه‏}‏ بتخفيف الراء أي بيَّنا حلاله وحرامه قاله ابن عباس، وعن الحسن فرقنا فيه بين الحق والباطل‏.‏ وقال الفراء‏:‏ أحكمناه وفصلناه كقوله ‏{‏فيها يفرق كل أمر حكيم‏}‏ وقرأ أبيّ وعبد الله وعليّ وابن عباس وأبو رجاء وقتادة والشعبي وحميد وعمرو بن قائد وزيد بن عليّ وعمرو بن ذر وعكرمة والحسن بخلاف عنه بشد الراء أي ‏{‏أنزلناه‏}‏ نجماً بعد نجم‏.‏ وفصلناه في النجوم‏.‏ وقال بعض من اختار ذلك‏:‏ لم ينزل في يوم ولا يومين ولا شهر ولا شهرين ولا سنة ولا سنتين‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان بين أوله وآخره عشرون سنة، هكذا قال الزمخشري عن ابن عباس‏.‏ وحكي عن ابن عباس في ثلاث وعشرين سنة‏.‏ وقيل‏:‏ في خمس وعشرين، وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف في سنه عليه السلام، وعن الحسن نزل في ثمانية عشر سنة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا قول مختل لا يصح عن الحسن‏.‏

وقيل معنى‏:‏ ‏{‏فرّقناه‏}‏ بالتشديد فرقنا آياته بين أمر ونهي، وحكم وأحكام، ومواعظ وأمثال، وقصص وأخبار مغيبات أتت وتأتي‏.‏ وانتصب ‏{‏قرآناً‏}‏ على إضمار فعل يفسره ‏{‏فرقناه‏}‏ أي وفرقنا ‏{‏قرآناً فرقناه‏}‏ فهو من باب الاشتغال وحسن النصب، ورجحه على الرفع كونه عطفاً على جملة فعلية وهي قوله ‏{‏وما أرسلناك‏}‏‏.‏ ولا بد من تقدير صفة لقوله ‏{‏وقرآناً‏}‏ حتى يصح كونه كان يجوز فيه الابتداء لأنه نكرة لا مسوغ لها في الظاهر للابتداء بها، والتقدير ‏{‏وقرآناً‏}‏ أي قرآن أي عظيماً جليلاً، وعلى أنه منصوب بإضمار فعل يفسره الظاهر بعده خرّجه الحوفي والزمخشري‏.‏

وقال ابن عطية وهو مذهب سيبويه‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هو منصوب بأرسلناك أي ‏{‏ما أرسلناك إلاّ مبشراً ونذيراً وقرآناً‏}‏ كما تقول رحمة لأن القرآن رحمة وهذا إعراب متكلف وأكثر تكلفاً منه قول ابن عطية، ويصح أن يكون معطوفاً على الكاف في ‏{‏أرسلناك‏}‏ من حيث كان إرسال هذا وإنزال هذا المعنى واحد‏.‏

وقرأ أُبيّ وعبد الله ‏{‏فرّقناه‏}‏ عليك بزيادة عليك و‏{‏لتقرأه‏}‏ متعلق بفرقناه، والظاهر تعلق على مكث بقوله ‏{‏لتقرأه‏}‏ ولا يبالي بكون الفعل يتعلق به حرفاً جر من جنس واحد لأنه اختلف معنى الحرفين الأول في موضع المفعول به، والثاني في موضع الحال أي متمهلاً مترسلاً‏.‏

قال ابن عباس ومجاهد وابن جريج‏:‏ ‏{‏على مكث‏}‏ على ترسل في التلاوة‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏على مكث‏}‏ أي تطاول في المدة شيئاً بعد شيء‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ ‏{‏على مكث‏}‏ بدل من ‏{‏على الناس‏}‏ وهذا لا يصح لأن قوله ‏{‏على مكث‏}‏ هو من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القارئ، أو صفات المقروء في المعنى وليس من صفات الناس فيكون بدلاً منهم‏.‏ وقيل يتعلق ‏{‏على مكث‏}‏ بقوله ‏{‏فرقناه‏}‏ ويقال مكث بضم الميم وفتحها وكسرها‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وأجمع القراء على ضم الميم من ‏{‏مكث‏}‏‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ والمكث بالضم والفتح لغتان، وقد قرئ بهما وفيه لغة أخرى كسر الميم‏.‏

‏{‏ونزلناه تنزيلاً‏}‏ على حسب الحوادث من الأقوال والأفعال‏.‏ ‏{‏قل آمنوا به أو لا تؤمنوا‏}‏ يتضمن الإعراض عنهم والاحتقار لهم والازدراء بهم وعدم الاكثرات بهم وبإيمانهم وبامتناعهم منه، وأنهم لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك، فإن خيراً منهم وأفضل هم العلماء الذي قرؤوا الكتاب وعلموا ما الوحي وما الشرائع، قد آمنوا به وصدقوه وثبت عندهم أنه النبيّ العربي الموعود في كتبهم، فإذا تُلي عليهم خروا ‏{‏سُجَّدًا‏}‏ وسبحواً الله تعظيماً لوعده ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة وبشر به من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن عليه، وهو المراد بالوعد في قوله ‏{‏إن كان وعد ربنا لمفعولاً‏}‏‏.‏

و ‏{‏إن الذين أوتوا العلم من قبله‏}‏ يجوز أن يكون تعليلاً لقوله ‏{‏آمنوا به أو لا تؤمنوا‏}‏ أي إن لم تؤمنوا به فقد آمن به من هو خير منكم، وأن يكون تعليلاً لقل على سبيل التسلية كأنه قيل ‏{‏قل‏}‏ عن إيمان الجاهلية بإيمان العلماء انتهى من كلام الزمخشري، وفيه بعض تلخيص‏.‏ وقال غيره‏:‏ ‏{‏قل آمنوا‏}‏ الآية تحقير للكفار، وفي ضمنه ضرب من التوعد والمعنى أنكم لستم بحجة فسواء علينا أأمنتم أم كفرتم وإنما ضرر ذلك على أنفسكم، وإنما الحجة أهل العلم انتهى‏.‏

والظاهر أن الضمير في ‏{‏قل آمنوا به‏}‏ عائد على القرآن، و‏{‏الذين أوتوا العلم‏}‏ هم مؤمنو أهل الكتاب‏.‏ وقيل‏:‏ ورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل ومَن جري مجراهما، فإنهما كانا ممن أوتي العلم واطّلعاً على التوراة والإنجيل ووجدا فيهما صفته عليه الصلاة والسلام‏.‏ وقيل‏:‏ هم جماعة من أهل الكتاب جلسوا وهم على دينهم، فتذكروا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه‏.‏ وقرئ عليهم منه شيء فخشعوا وسجدوا لله وقالوا‏:‏ هذا وقت نبوّة المذكور في التوراة وهذه صفته، ووعد الله به واقع لا محالة، وجنحوا إلى الإسلام هذا الجنوح فنزلت هذه الآية فيهم‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بالذين ‏{‏أوتوا العلم من قبله‏}‏ هو محمد صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن الضمير في ‏{‏من قبله‏}‏ عائد على القرآن كما عاد عليه في قوله‏:‏ ‏{‏به‏}‏ ويدل عليه ما قبله وما بعده‏.‏ وقيل الضمير إن في ‏{‏به‏}‏ وفي ‏{‏من قبله‏}‏ عائدان على الرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏

واستأنف ذكر القرآن في قوله ‏{‏إذا يتلى عليهم‏}‏ والظاهر في قوله ‏{‏إذا يتلى عليهم‏}‏ أن الضمير في ‏{‏يتلى‏}‏ عائد على القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ هو عائد على التوراة وما فيها من تصديق القرآن ومعرفة النبيّ عليه الصلاة والسلام، والخرور هو السقوط بسرعة، ومنه ‏{‏فخر عليهم السقف‏}‏ وانتصب ‏{‏سجداً‏}‏ على الحال، والسجود وهو وضع الجبهة على الأرض هو غاية الخرور ونهاية الخضوع، وأول ما يلقي الأرض حالة السجود الذقن، أو عبر عن الوجوه بالأذقان كما يعبر عن كل شيء ببعض ما يلاقيه‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

فخروا الأذقان الوجوه تنوشهم *** سباع من الطير العوادي وتنتف

وقيل‏:‏ أريد حقيقة الأذقان لأن ذلك غاية التواضع وكان سجودهم كذلك‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ المعنى للوجوه‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ حرف الاستعلاء ظاهر المعنى إذا قلت خر على وجهه وعلى ذقنه فما معنى اللام في خر لذقنه‏؟‏ قال‏:‏

فخر صريعاً لليدين وللفم *** قلت‏:‏ معناه جعل ذقنه ووجهه للخرور، واختصه به لأن اللام للاختصاص انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ اللام بمعنى على و‏{‏سبحان ربنا‏}‏ نزهوا الله عما نسبته إليه كفار قريش وغيرهم من أنه لا يرسل البشر رسلاً وأنه لا يعيدهم للجزاء، وأن هنا المخففة من الثقيلة المعنى أن ما وعد به من إرسال محمد عليه الصلاة والسلام وإنزال القرآن عليه قد فعله وأنجزه، ونكر الخرور لاختلاف حالي السجود والبكاء، وجاء التعبير عن الحالة الأولى بالاسم وعن الحالة الثانية بالفعل لأن الفعل مشعر بالتجدد، وذلك أن البكاء ناشئ عن التفكر فهم دائماً في فكرة وتذكر، فناسب ذكر الفعل إذ هو مشعر بالتجدد، ولما كانت حالة السجود ليست تتجدد في كل وقت عبر فيها بالاسم‏.‏

‏{‏ويزيدهم‏}‏ أي ما تُلي عليهم ‏{‏خشوعاً‏}‏ أي تواضعاً‏.‏ وقال عبد الأعلى التيمي‏:‏ من أوتي من العلم ما لا يبكيه خليق أن لا يكون أوتي علماً ينفعه لأن تعالى نعت العلماء فقال‏:‏ ‏{‏إن الذين أوتوا العلم‏}‏ الآية‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويتوجه في هذه الآية معنى آخر، وهو أن يكون قوله ‏{‏قل آمنوا به أو لا تؤمنوا‏}‏ مخلصاً للوعيد دون التحقير، المعنى فسترون ما تجازون به، ثم ضرب لهم المثل على جهة التقريع بمن تقدم من أهل الكتاب أي إن الناس لم يكونوا كما أنتم في الكفر بل كان الذين أوتوا التوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزلة في الجملة إذا يتُلى عليهم ما نزل عليهم خشعوا وآمنوا انتهى‏.‏ وقد تقدمت الإشارة إلى طرف من هذا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏110- 111‏]‏

‏{‏قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ‏(‏110‏)‏ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ‏(‏111‏)‏‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ تهجد الرسول صلى الله عليه وسلم ذات ليلة بمكة فجعل يقول في سجوده‏:‏ «يا رحمن يا رحيم»‏.‏ فقال المشركون‏:‏ كان محمد يدعو إلهاً واحداً فهو الآن يدعو إلهين اثنين الله والرحمن، ما الرحمن إلاّ رحمن اليمامة يعنون مسيلمة فنزلت قاله في التحرير‏.‏ ونقل ابن عطية نحواً منه عن مكحول‏.‏ وقال عن ابن عباس‏:‏ سمعه المشركون يدعو يا الله يا رحمن، فقالوا‏:‏ كان يدعو إلهاً واحداً وهو يدعو إلهين فنزلت‏.‏ وقال ميمون بن مهران‏:‏ كان عليه السلام يكتب‏:‏ باسمك اللهم حتى نزلت إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم فكتبها فقال مشركوا العرب‏:‏ هذا الرحيم نعرفه، فما الرحمن‏؟‏ فنزلت‏:‏ وقال الضحاك‏:‏ قال أهل الكتاب للرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم، فنزلت لما لجوّا في إنكار القرآن أن يكون الله نزله على رسوله عليه السلام وعجزوا عن معارضته، وكان عليه الصلاة والسلام قد جاءهم بتوحيد الله والرفض لآلهتهم عدلوا إلى رميه عليه الصلاة والسلام بأن ما نهاهم عنه رجع هو إليه، فردّ الله تعالى عليهم بقوله ‏{‏قل ادعوا الله‏}‏ الآية‏.‏ والظاهر من أسباب النزول أن الدعاء هنا قوله يا رحمن يا رحيم أو يا الله يا رحمن من الدعاء بمعنى النداء، والمعنى‏:‏ إن دعوتم الله فهو اسمه وإن دعوتم الرحمن فهو صفته‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ والدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء وهو يتعدّى إلى مفعولين، تقول‏:‏ دعوته زيداً ثم تترك أحدهما استغناءً عنه، فتقول‏:‏ دعوت زيداً انتهى‏.‏ ودعوت هذه من الأفعال التي تتعدّى إلى اثنين ثانيهما بحرف جر، تقول‏:‏ دعوت والدي بزيد ثم تتسع فتحذف الباء‏.‏ وقال الشاعر في دعا هذه‏:‏

دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن *** أخاها ولم أرضع لها بلبان

وهي أفعال تتعدى إلى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر، يحفظ ويقتصر فيها على السماع وعلى ما قال الزمخشري يكون الثاني لقوله ‏{‏ادعوا‏}‏ لفظ الجلالة، ولفظ ‏{‏الرحمن‏}‏ وهو الذي دخل عليه الباء ثم حذف وكأن التقدير ‏{‏ادعوا‏}‏ معبودكم بالله أو ادعوه بالرحمن ولهذا قال الزمخشري‏:‏ المراد بهما اسم المسمى وأو للتخيير، فمعنى ‏{‏ادعوا الله أو ادعوا الرحمن‏}‏ سموا بهذا الاسم أو بهذا، واذكروا إما هذا وإما هذا انتهى‏.‏ وكذا قال ابن عطية هما اسمان لمسمى واحد، فإن دعوتموه بالله فهو ذاك، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذاك وأي هنا شرطية‏.‏ والتنوين قيل عوض من المضاف و‏{‏ما‏}‏ زائدة مؤكدة‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏ما‏}‏ شرط ودخل شرط على شرط‏.‏ وقرأ طلحة بن مصروف‏.‏ ‏{‏أياً‏}‏ من ‏{‏تدعوا‏}‏ فاحتمل أن تكون من زائدة على مذهب الكسائي إذ قد ادّعى زيادتها في قوله‏:‏

يا شاة من قنص لمن حلت له *** واحتمل أن يكون جمع بين أداتي شرط على وجه الشذوذ كما جمع بين حرفي جر نحو قول الشاعر‏:‏

فأصبحن لا يسألنني عن بما به *** وذلك لاختلاف اللفظ‏.‏ والضمير في ‏{‏فله‏}‏ عائد على مسمى الاسمين وهو واحد، أي فلمسماهما ‏{‏الأسماء الحسنى‏}‏، وتقدم الكلام على قوله ‏{‏الأسماء الحسنى‏}‏ في الأعراف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فله‏}‏ هو جواب الشرط‏.‏ قيل‏:‏ ومن وقف على ‏{‏أياً‏}‏ جعل معناه أي اللفظين دعوتموه به جاز، ثم استأنف فقال ما تدعوه ‏{‏فله الأسماء الحسنى‏}‏ وهذا لا يصح لأن ما لا تطلق على آحاد أولي العلم، ولأن الشرط يقتضي عموماً ولا يصح هنا، والصلاة هنا الدعاء قاله ابن عباس وعائشة وجماعة‏.‏ وعن ابن عباس أيضاً‏:‏ هي قراءة القرآن في الصلاة فهو على حذف مضاف أي بقراءة الصلاة، ولا يلبس تقدير هذا المضاف لأنه معلوم أن الجهر والمخافتة معتقبان على الصوت لا غير، والصلاة أفعال وأذكار وكان عليه الصلاة والسلام يرفع صوته بقراءته فيسب المشركون ويلغون فأمر بأن يخفض من صوته حتى لا يسمع المشركين، وأن لا يخافت حتى يسمعه من وراءه من المؤمنين‏.‏

‏{‏وابتغ بين ذلك‏}‏ أي بين الجهر والمخافتة ‏{‏سبيلاً‏}‏ وسطاً وتقدم الكلام على ‏{‏بين ذلك‏}‏ في قوله ‏{‏عوان بين ذلك‏}‏ وقال ابن عباس أيضاً والحسن‏:‏ لا تحسن علانيتها وتسيء سرّيتها‏.‏ وعن عائشة‏:‏ الصلاة يراد بها هنا التشهد‏.‏ وقال ابن سيرين‏:‏ كان الأعراب يجهرون بتشهدهم فنزلت الآية في ذلك، وكان أبو بكر يسرّ قراءته وعمر يجهر بها‏.‏ فقيل لهما في ذلك فقال أبو بكر‏:‏ إنما أناجي ربي وهو يعلم حاجتي‏.‏ وقال عمر‏:‏ أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان، فلما نزلت قيل لأبي بكر ارفع أنت قليلاً‏.‏ وقيل لعمر‏:‏ اخفض أنت قليلاً‏.‏ وعن ابن عباس أيضاً‏:‏ المعنى ‏{‏ولا تجهر‏}‏ بصلاة النهار ‏{‏ولا تخافت‏}‏ بصلاة الليل‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ معنى الآية على ما يفعله أهل الإنجيل والتوراة من رفع الصوت أحياناً فيرفع الناس معه، ويخفض أحياناً فيسكت الناس خلفه انتهى‏.‏ كما يفعل أهل زماننا من رفع الصوت بالتلحين وطرائق النغم المتخذة للغناء‏.‏

ولما ذكر تعالى أنه واحد وإن تعددت أسماؤه أمر تعالى أن يحمده على ما أنعم به عليه مما آتاه من شرف الرسالة والاصطفاء، ووصف نفسه بأنه ‏{‏لم يتخذ ولداً‏}‏ فيعتقد فيه تكثر بالنوع، وكان ذلك ردّاً على اليهود والنصاري والعرب الذين عبدوا الأصنام وجعلوها شركاء لله، والعرب الذين عبدوا الملائكة واعتقدوا أنهم بنات الله‏.‏ ونفى أولاً الولد خصوصاً ثم نفى الشريك في ملكه وهو أعم من أن ينسب إليه ولد فيشركه أو غيره، ولما نفى الولد ونفى الشريك نفى الولي وهو الناصر، وهو أعم من أن يكون ولداً أو شريكاً أو غير شريك‏.‏ ولما كان اتخاذ الولي قد يكون للانتصار والاعتزاز به والاحتماء من الذلَّ وقد يكون للتفضل والرحمة لمن والى من صالحيّ عباده كان النفي لمن ينتصر به من أجل المذلة، إذ كان مورد الولاية يحتمل هذين الوجهين فنفى الجهة التي لأجل النقص بخلاف الولد والشريك فإنهما نفياً على الإطلاق‏.‏

وجاء الوصف الأول بقوله ‏{‏الذي لم يتخذ ولداً‏}‏ والمعنى أنه تعالى لم يسم ولم يعدّ أحداً ولداً ولم ينفه بجهة التوالد لاستحالة ذلك في بدائه العقول، فلا يتعرض لنفيه بالمنقول ولذلك جاء ما اتخذ الله من ولد لم يتخذ صاحبة ولا ولداً‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ في قوله ‏{‏ولم يكن له وليّ من الذلّ‏}‏ المعنى لم يخالف أحداً ولا ابتغى نصر أحد‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏وليّ من الذلّ‏}‏ ناصر من الذلّ ومانع له منه لاعتزازه به، أو لم يوال أحداً من أجل المذلة به ليدفعها بموالاته انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ ولم يكن له ‏{‏ولي‏}‏ من اليهود والنصاري لأنهم أذل الناس فيكون ‏{‏من الذل‏}‏ صفة لولي انتهى‏.‏ أي ‏{‏ولي من‏}‏ أهل ‏{‏الذل‏}‏، فعلى هذا وما تقدّم يكون ‏{‏من‏}‏ في معنى المفعول به أو للسبب أو للتبعيض‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك والذل بكلمة التحميد‏؟‏ قلت‏:‏ لأن من هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمة فهو الذي يستحق جنس الحمد، والذي تقرر أن النفي تسلط من حيث المعنى على القيد أي لا ذل يوجد في حقه فيكون له ولي ينتصر به منه، فالذل والولي الذي يكون اتخاذه بسببه منتفيان‏.‏

‏{‏وكبره تكبيراً‏}‏ التكبير أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال، وأكد بالمصدر تحقيقاً له وإبلاغاً في معناه، وابتدئت هذه السورة بتنزيه الله تعالى واختتمت به، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية ‏{‏وقل الحمد لله‏}‏ إلى آخرها والله أعلم‏.‏