فصل: سورة الأنبياء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


سورة الأنبياء

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

‏{‏اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ‏(‏1‏)‏ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏2‏)‏ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ‏(‏3‏)‏ قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏4‏)‏ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ‏(‏5‏)‏ مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏7‏)‏ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ‏(‏8‏)‏ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ‏(‏9‏)‏ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

هذه السورة مكية بلا خلاف، وعن عبد الله‏:‏ الكهف، ومريم، وطه، والأنبياء من العتاق الأول، وهن من تلادي أي من قديم ما حفظت وكسبت من القرآن كالمال التلاد‏.‏ ومناسبة هذه السورة لما قبلها أنه لما ذكر ‏{‏قل كل متربص فتربصوا‏}‏ قال مشركو قريش‏:‏ محمد يهددنا بالمعاد والجزاء على الأعمال وليس بصحيح، وإن صح ففيه بعد فأنزل الله تعالى ‏{‏اقترب للناس حسابهم‏}‏، و‏{‏اقترب‏}‏ افتعل بمعنى الفعل المجرد وهو قرب كما تقول‏:‏ ارتقب ورقب‏.‏ وقيل‏:‏ هو أبلغ من قرب للزيادة التي في البناء‏.‏ والناس مشركو مكة‏.‏ وقيل‏:‏ عام في منكري البعث، واقتراب الحساب اقتراب وقته والحساب في اللغة إخراج الكمية من مبلغ العدد، وقد يطلق على المحسوب وجعل ذلك اقتراباً لأن كل ما هو آت وإن طال وقت انتظاره قريب، وإنما البعيد هو الذي انقرض أو هو مقترب عند الله كقوله ‏{‏وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون‏}‏ أو باعتبار ما بقي من الدنيا فإنه أقصر وأقل مما مضى‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «بعثت أنا والساعة كهاتين» قال الشاعر‏:‏

فما زال من يهواه أقرب من غد *** وما زال من يخشاه أبعد من أمس

و ‏{‏للناس‏}‏ متعلق باقترب‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ هذه اللام لا تخلو من أن تكون صلة لاقترب، أو تأكيداً لإضافة الحساب إليهم كما تقول أزف للحي رحيلهم، الأصل أزف رحيل الحي ثم أزف للحي رحيلهم ونحوه ما أورده سيبويه في باب ما يثنى فيه المستقر توكيداً عليك زيد حريص عليك، وفيك زيد راغب فيك ومنه قولهم‏:‏ لا أبا لك لأن اللام مؤكدة لمعنى الإضافة، وهذا الوجه أغرب من الأول انتهى يعني بقوله صلة أنها تتعلق باقترب، وأما جعله اللام تأكيداً لإضافة الحساب إليهم مع تقدم اللام ودخولها على الاسم الظاهر فلا نعلم أحداً يقول ذلك، وأيضاً فيحتاج إلى ما يتعلق به ولا يمكن تعلقها بحسابهم لأنه مصدر موصول ولا يتقدم معموله عليه، وأيضاً فالتوكيد يكون متأخراً عن المؤكد وأيضاً فلو أخر في هذا التركيب لم يصح‏.‏ وأما تشبيهه بما أورد سيبويه فالفرق واضح لأن عليك معمول لحريص، وعليك الثانية متأخرة توكيداً وكذلك فيك زيد راغب فيك يتعلق فيك براغب، وفيك الثانية توكيد، وإنما غره في ذلك صحة تركيب حساب الناس‏.‏ وكذلك أزف رحيل الحي فاعتقد إذا تقدّم الظاهر مجروراً باللام وأضيف المصدر لضميره أنه من باب فيك زيد راغب فيك وليس مثله، وأمّا لا أبا لك فهي مسألة مشكلة وفيها خلاف، ويمكن أن يقال فيها ذلك لأن اللام جاورت الإضافة ولا يقاس على مثلها غيرها لشذوذها وخروجها عن الأقيسة، وقد أمعنّا الكلام عليها في شرح التسهيل والواو في ‏{‏وهم‏}‏ واو الحال‏.‏

وأخبر عنهم بخبرين ظاهرهما التنافي لأن الغفلة عن الشيء والإعراض عنه متنافيان، لكن يجمع بينهما باختلاف حالين أخبر عنهم أولاً أنهم لا يتفكرون في عاقبة بل هم غافلون عما يؤول إليه أمرهم‏.‏ ثم أخبر عنهم ثانياً أنهم إذا نبهوا من سنة الغفلة وذكروا بما يؤول إليه أمر المحسن والمسيء أعرضوا عنه ولم يبالوا بذلك، والذكر هنا ما ينزل من القرآن شيئاً بعد شيء‏.‏ وقيل المراد بالذكر أقوال النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الشريعة ووعظه وتذكيره ووصفه بالحدوث إذا كان القرآن لنزوله وقتاً بعد وقت‏.‏ وسئل بعض الصحابة عن هذه الآية فقال محدث النزول محدث المقول‏.‏ وقال الحسن بن الفضل‏:‏ المراد بالذكر هنا النبيّ صلى الله عليه وسلم بدليل ‏{‏هل هذا إلا بشر مثلكم‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏قد أنزل الله إليكم ذكراً رسولاً‏}‏ وقد احتجت المعتزلة على حدوث القرآن بقوله ‏{‏محدث‏}‏ وهي مسألة يبحث فيها في علم الكلام‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏محدث‏}‏ بالجر صفة لذكر على اللفظ، وابن أبي عبلة بالرفع صفة لذكر على الموضع، وزيد بن عليّ بالنصب على الحال ‏{‏من ذكر‏}‏ إذ قد وصف بقوله ‏{‏من ربهم‏}‏ ويجوز أن يتعلق ‏{‏من ربهم‏}‏ بيأتيهم‏.‏ و‏{‏استمعوه‏}‏ جملة حالية وذو الحال المفعول في ‏{‏ما يأتيهم‏}‏ ‏{‏وهم يلعبون‏}‏ جملة حالية من ضمير ‏{‏استمعوه‏}‏ و‏{‏لاهية‏}‏ حال من ضمير ‏{‏يلعبون‏}‏ أو من ضمير ‏{‏استمعوه‏}‏ فيكون حالاً بعد حال، واللاهية من قول العرب لهى عنه إذا ذهل وغفل يلهى لهياً ولهياناً، أي وإن فطنوا لا يجدي ذلك لاستيلاء الغفلة والذهول وعدم التبصر بقلوبهم‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى ‏{‏لاهية‏}‏ بالرفع على أنه خبر بعد خبر لقوله ‏{‏وهم‏}‏‏.‏

و ‏{‏النجوى‏}‏ من التناجي ولا يكون إلا خفية فمعنى ‏{‏وأسرّوا‏}‏ بالغوا في إخفائها أو جعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم ولا يعلم أنهم متناجون‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ ‏{‏أسروا‏}‏ هنا من الأضداد يحتمل أن يكون أخفوا كلامهم، ويحتمل أن يكون أظهروه ومنه قول الفرزدق‏:‏

فلما رأى الحجاج جرد سيفه *** أسر الحروري الذي كان أضمرا

وقال التبريزي‏:‏ لا يستعمل في الغالب إلاّ في الإخفاء، وإنما ‏{‏أسروا‏}‏ الحديث لأنه كان ذلك على طريق التشاور، وعادة المتشاورين كتمان سرهم عن أعدائهم، وأسروها ليقولوا للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين إن ما تدعونه حقاً فأخبرونا بما أسررناه وجوزوا في إعراب ‏{‏الذين ظلموا‏}‏ وجوهاً الرفع والنصب والجر، فالرفع على البدل من ضمير ‏{‏وأسروا‏}‏ إشعاراً أنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به قاله المبرد، وعزاه ابن عطية إلى سيبويه أو على أنه فاعل، والواو في ‏{‏أسروا‏}‏ علامة للجمع على لغة أكلوني البراغيث قاله أبو عبيدة والأخفش وغيرهما‏.‏ قيل وهي لغة شاذة‏.‏ قيل‏:‏ والصحيح أنها لغة حسنة، وهي من لغة أزدشنوءة وخرج عليه قوله ‏{‏ثم عموا وصموا كثير منهم‏}‏

وقال شاعرهم‏:‏

يلومونني في اشتراء *** النخيل أهلي وكلهم ألوم

أو على أن ‏{‏الذين‏}‏ مبتدأ ‏{‏وأسروا النجوى‏}‏ خبره قاله الكسائي فقدّم عليه، والمعنى‏:‏ وهؤلاء ‏{‏أسروا النجوى‏}‏ فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم أنه ظلم، أو على أنه فاعل بفعل القول وحذف أي يقول ‏{‏الذين ظلموا‏}‏ والقول كثيراً يضمر واختاره النحاس قال ويدل على صحة هذا أن بعده هل هذا إلا بشر مثلكم‏.‏ وقيل التقدير أسرها الذين ظلموا‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏الذين‏}‏ خبر مبتدأ محذوف، أي هم ‏{‏الذين‏}‏ والنصب على الذم قاله الزجاج، أو على إضمار أعني قاله بعضهم‏.‏ والجر على أن يكون نعتاً للناس أو بدلاً في قوله ‏{‏اقترب للناس‏}‏ قاله الفراء وهو أبعد الأقوال‏.‏

‏{‏هل هذا إلاّ بشر مثلكم‏}‏ استفهام معناه التعجب أي كيف خص بالنبوة دونكم مع مماثلته لكم في البشرية، وإنكارهم وتعجبهم من حيث كانوا يرون أن الله لا يرسل إلاّ ملكاً‏.‏ و‏{‏أفتأتون السحر‏}‏ استفهام معناه التوبيخ و‏{‏السحر‏}‏ عنوا به ما ظهر على يديه من المعجزات التي أعظمها القرآن والذكر المتلو عليهم، أي أفتحضرون ‏{‏السحر وأنتم تبصرون‏}‏ أنه سحر وأن من أتى به هو ‏{‏بشر مثلكم‏}‏ فكيف تقبلون ما أتى به وهو سحر، وكانوا يعتقدون أن الرسول من عند الله لا يكون إلا ملكاً وأن كل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بمعجزة فهو ساحر ومعجزته سحر، وهاتان الجملتان الاستفهاميتان الظاهر أنهما متعلقتان بقوله‏:‏ ‏{‏وأسروا النجوى‏}‏ وأنهما محكيتان بقوله للنجوى لأنه بمعنى القول الخفي، فهما في موضع نصب على المفعول بالنجوى‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ في محل النصب بدلاً من ‏{‏النجوى‏}‏ أي ‏{‏وأسروا‏}‏ هذا الحديث ويجوز أن يتعلق بقالوا مضمراً انتهى‏.‏

وقرأ حمزة والكسائي وحفص والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وأيوب وخلف وابن سعدان وابن جبير الأنطاكي وابن جرير ‏{‏قال ربي‏}‏ على معنى الخبر عن نبيه عليه الصلاة والسلام‏.‏ وقرأ باقي السبعة قل على الأمر لنبيه صلى الله عليه وسلم ‏{‏يعلم‏}‏ أقوالكم هذه، وهو يجازيكم عليها و‏{‏القول‏}‏ عام يشمل السر والجهر، فكان في الإخبار بعلمه القول علم السر وزيادة، وكان آكد في الاطلاع على نجواهم من أن يقول يعلم سرهم‏.‏ ثم بين ذلك بقوله ‏{‏وهو السميع العليم‏}‏ ‏{‏السميع‏}‏ لأقوالكم ‏{‏العليم‏}‏ بما انطوت عليه ضمائركم‏.‏

ولما ذكر تعالى عنهم أنهم قالوا إن ما أتى به سحر ذكر اضطرابهم في مقالاتهم فذكر أنهم أضربوا عن نسبة السحر إليه و‏{‏قالوا‏}‏ ما يأتي به إنما هو ‏{‏أضغاث أحلام‏}‏ وتقدم تفسيرها في سورة يوسف عليه السلام، ثم أضربوا عن هذا فقالوا ‏{‏بل افتراه‏}‏ أي اختلقه وليس من عند الله، ثم أضربوا عن هذا فقالوا ‏{‏بل هو شاعر‏}‏ وهكذا المبطل لا يثبت على قول بل يبقى متحيراً، وهذه الأقوال الظاهر أنها صدرت من قائلين متفقين انتقلوا من قول إلى قول أو مختلفين قال كل منهم مقالة‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يكون تنزيلاً من الله لأقوالهم في درج الفساد، وأن قولهم الثاني أفسد من الأول، والثالث أفسد من الثاني وكذلك الرابع من الثالث انتهى‏.‏ وقال ابن عطية ثم حكى قول من قال إنه شاعر وهي مقالة فرقة عامّية لأن بنات الشعر من العرب لم يخف عليهم بالبديهة، وإن مباني القرآن ليست مباني شعر‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ حكى الله عنهم هذه الأقوال الخمسة وترتيب كلامهم أن كونه بشراً مانع من كونه رسولاً لله سلمنا أنه غير مانع، ولكن لا نسلم أن هذا القرآن ثم إما أن يساعد على أن فصاحة القرآن خارجة عن مقدار البشر قلنا لم لا يجوز أن يكون ذلك سحراً وإن لم يساعد عليه فإن ادعينا كونه في نهاية الركاكة قلنا إنه أضغاث أحلام، وإن ادعينا أنه متوسط بين الركاكة والفصاحة قلنا إنه افتراء، وإن ادعينا أنه كلام فصيح قلنا إنه من جنس فصاحة سائر الشعر، وعلى جميع هذه التقديرات لا يثبت كونه معجزاً‏.‏

ولما فرغوا من تقدير هذه الاحتمالات قالوا ‏{‏فليأتنا بآية كما أرسل الأولون‏}‏ اقترحوا من الآيات ما لا إمهال بعدها كالآيات في قوله ‏{‏لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً‏}‏ قال الزمخشري‏:‏ صحة التشبيه في قوله ‏{‏كما أرسل الأولون‏}‏ من حيث إنه في معنى كما أتى الأولون بالآيات، لأن إرسال الرسل متضمن للإتيان بالآيات، ألا ترى أنه لا فرق بين أن تقول أتى محمد بالمعجزة، وأن تقول‏:‏ أرسل محمد بالمعجزة انتهى‏.‏ والكاف في ‏{‏كما أرسل‏}‏ يجوز أن يكون في موضع النعت لآية، وما أرسل في تقدير المصدر والمعنى بآية مثل آية إرسال ‏{‏الأولين‏}‏، ويجوز أن يكون في النعت لمصدر محذوف أي إتياناً مثل إرسال ‏{‏الأولين‏}‏ أي مثل إتيانهم بالآيات، وهذه الآية التي طلبوها هي على سبيل اقتراحهم، ولم يأت الله بآية مقترحة إلا أتى بالعذاب بعدها‏.‏ وأراد تعالى تأخير هؤلاء وفي قولهم ‏{‏كما أرسل الأولون‏}‏ دلالة على معرفتهم بإتيان الرسل‏.‏

ثم أجاب تعالى عن قولهم ‏{‏فليأتنا بآية‏}‏ بقوله ‏{‏ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون‏}‏ والمراد بهم قوم صالح وقوم فرعون وغيرهما، ومعنى ‏{‏أهلكناها‏}‏ حكمنا بإهلاكها بما اقترحوا من الآيات ‏{‏أفهم يؤمنون‏}‏ استبعاد وإنكار أي هؤلاء أعني من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعهدوا أنهم يؤمنون عندها، فلما جاءتهم نكثوا فأهلكهم الله، فلو أعطينا هؤلاء ما اقترحوا لكانوا أنكث من أولئك، وكان يقع استئصالهم ولكن حكم الله تعالى بإبقائهم ليؤمن من آمن ويخرج منهم مؤمنين‏.‏

ولما تقدم من قولهم ‏{‏هل هذا إلا بشر مثلكم‏}‏ وأن الرسول لا يكون إلاّ من عند الله من جنس البشر قال تعالى راداً عليهم ‏{‏وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً‏}‏ أي بشراً ولم يكونوا ملائكة كما اعتقدوا، ثم أحالهم على ‏{‏أهل الذكر‏}‏ فإنهم وإن كانوا مشايعين للكفار ساعين في إخماد نور الله لا يقدرون على إنكار إرسال البشر‏.‏

وقوله ‏{‏إن كنتم لا تعلمون‏}‏ من حيث إنّ قريشاً لم يكن لها كتاب سابق ولا إثارة من علم‏.‏ والظاهر أن ‏{‏أهل الذكر‏}‏ هم أحبار أهل الكتابين وشهادتهم تقوم بها الحجة في إرسال الله البشر هذا مع موافقة قريش في ترك الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، فشهادتهم لا مطعن فيها‏.‏ وقال عبد الله بن سلام‏:‏ أنا من أهل الذكر‏.‏ وقيل‏:‏ هم أهل القرآن‏.‏ وقال علي‏:‏ أنا من أهل الذكر‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ لا يصلح أن يكون المسؤول أهل القرآن في ذلك الوقت لأنهم كانوا خصومهم انتهى‏.‏ وقيل ‏{‏أهل الذكر‏}‏ هم أهل التوراة‏.‏ وقيل‏:‏ أهل العلم بالسير وقصص الأمم البائدة والقرون السالفة، فإنهم كانوا يفحصون عن هذه الأشياء وإذا كان ‏{‏أهل الذكر‏}‏ أريد بهم اليهود والنصارى فإنهم لما بلغ خبرهم حد التواتر جاز أن يسألوا ولا يقدح في ذلك كونهم كفاراً‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ يوحي مبنياً للمفعول‏.‏ وقرأ طلحة وحفص ‏{‏نوحي‏}‏ بالنون وكسر الحاء و‏{‏الجسد‏}‏ يقع على ما لا يتغذى من الجماد‏.‏ وقيل‏:‏ يقع على المتعذي وغيره، فعلى القول الأول يكون النفي قد وقع على ‏{‏الجسد‏}‏ وعلى الثاني يكون مثبتاً، والنفي إنما وقع على صفته ووحد الجسد لإرادة الجنس كأنه قال‏:‏ ذوي ضرب من الأجساد، وهذا رد لقولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام، وهذه الجملة من تمام الجواب للمشركين الذين قالوا ‏{‏هل هذا إلاّ بشر مثلكم‏}‏ لأن البشرية تقتضي الجسمية الحيوانية، وهذه لا بد لها من مادة تقوم بها، وقد خرجوا بذلك في قولهم ‏{‏هل هذا إلاّ بشر مثلكم‏}‏ يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون، ولما أثبت أنهم كانوا أجساداً يأكلون الطعام بين أنهم مآلهم إلى الفناء والنفاد، ونفى عنهم الخلود وهو البقاء السرمدي أو البقاء المدة المتطاولة أي هؤلاء الرسل بشر أجساد يطعمون ويموتون كغيرهم من البشر، والذي صاروا به رسلاً هو ظهور المعجزة على أيديهم وعصمتهم من الصفات القادحة في التبليغ وغيره‏.‏

‏{‏ثم صدقناهم الوعد‏}‏ ذكر تعالى سيرته مع أنبيائه فكذلك يصدق نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما وعدهم به من النصر وظهور الكلمة، فهذه عدة للمؤمنين ووعيد للكافرين و‏{‏صدقناهم الوعد‏}‏ من باب اختار وهو ما يتعدى الفعل فيه إلى واحد وإلى الآخر بحرف جر، ويجوز حذف ذلك الحرف أي في ‏{‏الوعد‏}‏ وهو باب لا ينقاس عند الجمهور، وإنما يحفظ من ذلك أفعال قليلة ذكرت في النحو ونظير ‏{‏صدقناهم الوعد‏}‏ قولهم‏:‏ صدقوهم القتال وصدقني سن بكره وصدقت زيداً الحديث و‏{‏من نشاء‏}‏ هم المؤمنون، والمسرفون هم الكفار المفرطون في غيهم وكفرهم، وكل من ترك الإيمان فهو مفرط مسرف وإنجاؤهم من شر أعدائهم ومن العذاب الذي نزل بأعدائهم‏.‏

ولما توعدهم في هذه الآية أعقب ذلك بوعده بنعمته عليهم فقال ‏{‏لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم‏}‏ والكتاب هو القرآن‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ ‏{‏ذكركم‏}‏ شرفكم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وعن الحسن ذكر دينكم، وعن مجاهد فيه حديثكم، وعن سفيان مكارم أخلاقكم ومحاسن أعمالكم‏.‏ وقيل‏:‏ تذكرة لتحذروا ما لا يحل وترغبوا فيما يجب‏.‏ وقال صاحب التحرير‏:‏ الذي يقتضيه سياق الآيات أن المعنى فيه ذكر مشانئكم ومثالبكم وما عاملتهم به أنبياء الله من التكذيب والعناد، فعلى هذا تكون الآية ذماً لهم وليست من تعداد النعم عليهم، ويكون الكلام على سياقه ويكون معنى قوله ‏{‏هل هذا إلاّ بشر مثلكم‏}‏ ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ إنكاراً عليهم على إهمالهم المتدبر والتفكر المؤديين إلى اقتضاء الغفلة‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ يحتمل أن يريد فيه شرفكم وذكركم آخر الدهر كما نذكر عظام الأمور، وفي هذا تحريض ثم أكد التحريض بقوله ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ وحركهم بذلك إلى النظر‏.‏ وقال الزمخشري نحوه قال‏:‏ ‏{‏ذكركم‏}‏ شرفكم وصيتكم كما قال ‏{‏وإنه لذكر لك ولقومك‏}‏ أو موعظتكم أو فيه مكارم الأخلاق التي كنتم تطلبون بها الثناء، وحسن الذكر كحسن الجوار والوفاء بالعهد وصدق الحديث وأداء الأمانة والسخاء وما أشبه ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 20‏]‏

‏{‏وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ ‏(‏11‏)‏ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ‏(‏12‏)‏ لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ‏(‏13‏)‏ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏14‏)‏ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ‏(‏15‏)‏ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ‏(‏16‏)‏ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ‏(‏17‏)‏ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ‏(‏18‏)‏ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ ‏(‏19‏)‏ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

لما رد الله تعالى عليهم ما قالوه بالغ تعالى في زجرهم بذكر ما أهلك من القرى، فقال‏:‏ ‏{‏وكم قصمنا‏}‏ والمراد أهلها إذ لا توصف القرية بالظلم كقوله ‏{‏من هذه القرية الظالم أهلها‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ الإنشاء إيجاد الشيء من غير سبب أنشأه فنشأ وهو ناشئ والجمع نشاء كخدم، والقصم أفظع الكسر عبر به عن الإهلاك الشديد ‏{‏وكم‏}‏ تقتضي التكثير، فالمعنى كثيراً من أهل القرى أهلكنا إهلاكاً شديداً مبالغاً فيه‏.‏ وما روي عن ابن عباس أنها حضوراء قرية باليمن، وعن ابن وهب عن بعض رجاله أنهما قريتان باليمن بطر أهلهما فيحمل على سبيل التمثيل لا على التعيين في القرية، لأن ‏{‏كم‏}‏ تقتضي التكثير‏.‏ ومن حديث أهل حضوراء أن الله بعث إليهم نبياً فقتلوه، فسلط الله عليهم بخت نصر كما سلطه على أهل بيت المقدس بعث إليهم جيشاً فهزموه، ثم بعث آخر فهزموه، ثم خرج إليهم بنفسه فهزمهم في الثالثة، فلما أخذ القتل فيهم ركضوا هاربين‏.‏

‏{‏فلما أحسوا بأسنا‏}‏ أي باشروه بالإحساس والضمير في ‏{‏أحسوا‏}‏ عائد على أهل المحذوف من قوله ‏{‏وكم قصمنا من قرية‏}‏ ولا يعود على قوله ‏{‏قوماً آخرين‏}‏ لأنه لم يذكر لهم ذنب يركضون من أجله، والضمير في ‏{‏منها‏}‏ عائد على القرية، ويحتمل أن يعود على ‏{‏بأسنا‏}‏ لأنه في معنى الشدة، فأنث على المعنى ومن على هذا السبب، والظاهر أنهم لما أدركتهم مقدمة العذاب ركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين‏.‏ قيل‏:‏ ويجوز أن شبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين لدوابهم فهم ‏{‏يركضون‏}‏ الأرض بأرجلهم، كما قال ‏{‏اركض برجلك‏}‏ وجواب لما ‏{‏إذا‏}‏ الفجائية وما بعدها، وهذا أحد الدلائل على أن لما في هذا التركيب حرف لا ظرف، وقد تقدم لنا القول في ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لا تركضوا‏}‏ قال ابن عطية‏:‏ يحتمل أن يكون من قول رجال بخت نصر على الرواية المتقدمة، فالمعنى على هذا أنهم خدعوهم واستهزؤا بهم بأن قالوا للهاربين منهم‏:‏ لا تفروا وارجعوا إلى منازلكم ‏{‏لعلكم تسألون‏}‏ صلحاً أو جزية أو أمراً يتفق عليه، فلما انصرفوا أمر بخت نصر أن ينادي فيهم يا لثارات النبيّ المقتول فقتلوا بالسيف عن آخرهم، هذا كله مروي ويحتمل أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏لا تركضوا‏}‏ إلى آخر الآية من كلام ملائكة العذاب، وصف قصة كل قرية وأنه لم يرد تعيين حضوراء ولا غيرها، فالمعنى على هذا أن أهل هذه القرى كانوا باغترارهم يرون أنهم من الله بمكان وأنه لو جاءهم عذاب أو أمر لم ينزل بهم حتى يتخاصموا ويسألوا عن وجه تكذيبهم لنبيهم فيحتجون هم عند ذلك بحجج تنفعهم في ظنهم، فلما نزل العذاب دون هذا الذي أملوه وركضوا فارين نادتهم الملائكة على وجه الهزء بهم‏.‏

‏{‏لا تركضوا وارجعوا‏}‏ ‏{‏لعلكم تسألون‏}‏ كما كنتم تطمعون لسفه آرائكم‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ يحتمل أن يكون يعني القائل بعض الملائكة، أو من ثم من المؤمنين، أو يجعلون خلقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل، أو يقوله رب العزة ويسمعه ملائكته لينفعهم في دينهم أو يلهمهم ذلك فيحدثوا به نفوسهم‏.‏

‏{‏وارجعوا إلى ما أترفتم فيه‏}‏ من العيش الرافه والحال الناعمة، والإتراف إبطار النعمة وهي الترفة ‏{‏لعلكم تسألون‏}‏ غداً عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة، أو ‏{‏ارجعوا‏}‏ واجلسوا كما كنتم في مجالسكم وترتبوا في مراتبكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم ومن تملكون أمره وينفذ فيه أمركم ونهيكم، ويقولوا لكم‏:‏ بم تأمرون وماذا ترسمون، وكيف نأتي ونذر كعادة المنعمين المخدمين، أو يسألكم الناس في أنديتكم المعاون في نوازل الخطوب ويستشيرونكم في المهمات والعوارض ويستشفون بتدابيركم ويستضيئون بآرائكم أو يسألكم الوافدون عليكم والطماع، ويستمطرون سحائب أكفكم ويميرون إخلاف معروفكم وأياديكم إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رياء الناس وطلب الثناء، أو كانوا بخلاء فقيل لهم ذلك تهكماً إلى تهكم وتوبيخاً إلى توبيخ انتهى‏.‏

ونداء الويل هو على سبيل المجاز كأنهم قالوا‏:‏ يا ويل هذا زمانك، وتقدم تفسير الويل في البقرة‏.‏ والظلم هنا الإشراك وتكذيب الرسل وإيقاع أنفسهم في الهلاك، واسم ‏{‏زالت‏}‏ هو اسم الإشارة وهو ‏{‏تلك‏}‏ وهو إشارة إلى الجملة المقولة أي فما زالت تلك الدعوى ‏{‏دعواهم‏}‏‏.‏ قال المفسرون‏:‏ فما زالوا يكررون تلك الكلمة فلم تنفعهم كقوله ‏{‏فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا‏}‏ والدعوى مصدر دعا يقال‏:‏ دعا دعوى ودعوة كقوله ‏{‏وآخر دعواهم‏}‏ لأن المويل كأنه يدعو الويل‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ وتبعه الزمخشري وأبو البقاء‏:‏ ‏{‏تلك‏}‏ اسم ‏{‏زالت‏}‏ و‏{‏دعواهم‏}‏ الخبر، ويجوز أن يكون ‏{‏دعواهم‏}‏ اسم ‏{‏زالت‏}‏ و‏{‏تلك‏}‏ في موضع الخبر انتهى‏.‏ وهذا الذي ذهب إليه هؤلاء قاله الزجاج قبلهم، وأما أصحابنا المتأخرون فاسم كان وخبرها مشبه بالفاعل والمفعول، فكما لا يجوز في باب الفاعل والمفعول إذا ألبس أن يكون المتقدم الخبر والمتأخر الاسم لا يجوز ذلك في باب كان، فإذا قلت‏:‏ كان موسى صديقي لم يجز في موسى إلى أن يكون اسم كان وصديقي الخبر، كقولك‏:‏ ضرب موسى عيسى، فموسى الفاعل وعيسى المفعول، ولم ينازع في هذا من متأخري أصحابنا إلاّ أبو العباس أحمد بن عليّ عُرِّف بابن الحاج وهو من تلاميذ الأستاذ أبو عليّ الشلوبين ونبهائهم، فأجاز أن يكون المتقدم هو المفعول والمتأخر هو الفاعل وأن ألبس فعلى ما قرره جمهور الأصحاب يتعين أن يكون ‏{‏تلك‏}‏ اسم ‏{‏زالت‏}‏ و‏{‏دعواهم‏}‏ الخبر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حصيداً‏}‏ أي بالعذاب تركوا كالصحيد ‏{‏خامدين‏}‏ أي موتى دون أرواح مشبهين بالنار إذا طفئت و‏{‏حصيداً‏}‏ مفعول ثان‏.‏ قال الحوفي‏:‏ و‏{‏خامدين‏}‏ نعت لحصيداً على أن يكون ‏{‏حصيداً‏}‏ بمعنى محصودين يعني وضع المفرد ويراد به الجمع، قال‏:‏ ويجوز أن يجعل ‏{‏خامدين‏}‏ حالاً من الهاء والميم‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏جعلناهم‏}‏ مثل الحصيد شبههم في استئصالهم واصطلامهم كما تقول‏:‏ جعلناهم رماداً أي مثل الرماد، والضمير المنصوب هو الذي كان مبتدأ والمنصوبان بعده كانا خبرين له، فلما دخل عليهما جعل نصبهما جميعاً على المفعولية‏.‏ فإن قلت‏:‏ كيف ينصب جعل ثلاثة مفاعيل‏؟‏ قلت‏:‏ حكم الاثنين الآخرين حكم الواحد لأن معنى قولك‏:‏ جعلته حلواً حامضاً جعلته للطعمين، وكذلك معنى ذلك ‏{‏جعلناهم‏}‏ جامعين لمماثلة الحصيد والخمود، والخمود عطف على المماثلة لا على الحصيد انتهى‏.‏

ولما ذكر تعالى قصم تلك القرى الظالمة أتبع ذلك بما يدل على أنه فعل ذلك عدلاً منه ومجازاة على ما فعلوا وأنه إنما أنشأ هذا العالم العلوي المحتوي على عجائب من صنعه وغرائب من فعله، وهذا العالم السفلي وما أودع فيه من عجائب الحيوان والنبات والمعادن وما بينهما من الهواء والسحاب والرياح على سبيل اللعب بل لفوائد دينية تقضي بسعادة الأبد أو بشقاوته، ودنياوية لا تعد ولا تحصى كقوله ‏{‏وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً‏}‏ وقوله ‏{‏ما خلقناهما إلاّ بالحق‏}‏ قال الكرماني‏:‏ اللعب فعل يدعو إليه الجهل يروق أوله ولا ثبات له، وإنما خلقناهما لنجازي المحسن والمسيء، وليستدل بهما على الوحدانية والقدرة انتهى‏.‏ و‏{‏لو أردنا أن نتخذ لهواً‏}‏ أصل اللهو ما تسرع إليه الشهوة ويدعو إليه الهوى، وقد يكنى به عن الجماع، وأما هنا فعن ابن عباس والسدّي هو الولد‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هو الولد بلغة حضرموت‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ إن هذا رد على من قال ‏{‏اتخذ الله ولداً‏}‏ وعنه أن اللهو هنا اللعب‏.‏ وقيل‏:‏ اللهو هنا المرأة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هذا في لغة أهل اليمن، وتكون رداً على من ادعى أن لله زوجة ومعنى ‏{‏من لدنا‏}‏ من عندنا بحيث لا يطلع عليه أحد لأنه نقص فستره أولى‏.‏ وقال السدّي‏:‏ من السماء لا من الأرض‏.‏ وقيل‏:‏ من الحور العين‏.‏ وقيل‏:‏ من جهة قدرتنا‏.‏ وقيل‏:‏ من الملائكة لا من الإنس رداً لولادة المسيح وعزير‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ بين أن السبب في ترك اتخاذ اللهو واللعب وانتفائه عن أفعالي أن الحكمة صارفة عنه، وإلاّ فأنا قادر على اتخاذه إن كنت فاعلاً لأني على كل شيء قدير انتهى‏.‏ ولا يجيء هذا إلاّ على قول من قال‏:‏ اللهو هو اللعب، وأما من فسره بالولد والمرأة فذلك مستحيل لا تتعلق به القدرة‏.‏ والظاهر أن ‏{‏أن‏}‏ هنا شرطية وجواب الشرط محذوف، يدل عليه جواب ‏{‏لو‏}‏ أي إن كنا فاعلين اتخذناه إن كنا ممن يفعل ذلك ولسنا ممن يفعله‏.‏ وقال الحسن‏:‏ وقتادة وجريج ‏{‏أن‏}‏ نافية أي ما كنا فاعلين‏.‏

‏{‏بل نقذف‏}‏ أي نرمي بسرعة ‏{‏بالحق‏}‏ وهو القرآن ‏{‏على الباطل‏}‏ وهو الشيطان قاله مجاهد، وقال كل ما في القرآن من الباطل فهو الشيطان‏.‏

وقيل‏:‏ بالحق بالحجة على الباطل وهو شبههم ووصفهم الله بغير صفاته من الولد وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ الحق عام في القرآن والرسالة والشرع، والباطل أيضاً عام كذلك و‏{‏بل‏}‏ إضراب عن اتخاذ اللعب واللهو، والمعنى أنه يدحض الباطل بالحق واستعار لذلك القذف والدمغ تصويراً لإبطاله وإهداره ومحقه، فجعله كأنه جرم صلب كالصخرة مثلاً قذف به على جرم رخو أجوف فدمغه أي أصاب دماغه، وذلك مهلك في البشر فكذلك الحق يهلك الباطل‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر ‏{‏فيدمغه‏}‏ بنصب الغين، قال الزمخشري‏:‏ وهو في ضعف قوله‏:‏

سأترك منزلي لبني تميم *** وألحق بالحجاز فأستريحا

وقرئ ‏{‏فيدمُغه‏}‏ بضم الميم انتهى‏.‏ و‏{‏لكم الويل‏}‏ خطاب للكفار أي الخزي والهم مما تصفون أي تصفونه مما لا يليق به تعالى من اتخاذ الصاحبة والولد ونسبة المستحيلات إليه‏.‏ وقيل ‏{‏لكم‏}‏ خطاب لمن تمسك بتكذيب الرسل ونسب القرآن إلى أنه سحر وأضغاث أحلام، وهو المعنى بقوله ‏{‏مما تصفون‏}‏ وأبعد من ذهب إلى أنه التفات من ضمير الغيبة في ‏{‏فما زالت تلك دعواهم‏}‏ إلى ضمير الخطاب، ثم أخبر تعالى أن من في السموات والأرض ملك له فاندرج فيه من سموه بالصاحبة والولد ومن عنده هم الملائكة، واحتمل أن يكون معطوفاً على ‏{‏من‏}‏ فيكونون قدر اندرجوا في الملائكة بطريق العموم لدخولهم في ‏{‏من‏}‏ وبطريق الخصوص بالنص على أنهم من عنده، ويكون ‏{‏لا يستكبرون‏}‏ جملة حالية منهم أو استئناف إخبار، واحتمل أن يكون ومن عنده مبتدأ وخبره ‏{‏لا يستكبرون‏}‏ وعند هنا لا يراد بها ظرف المكان لأنه تعالى منزه عن المكان، بل المعنى شرف المكانة وعلو المنزلة، والظاهر أن قوله ‏{‏وله من في السموات والأرض‏}‏ استئناف إخبار بأن جميع العالم ملكه‏.‏ وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون معادلاً لقوله ‏{‏ولكم الويل مما تصفون‏}‏ كأنه يقسم الأمر في نفسه أي للمتخلفين هذه المقالة الويل، ولله تعالى من في السموات والأرض انتهى‏.‏

والمراد أن الملائكة مكرمون منزلون لكرامتهم على الله منزلة المقرّبين عند الملوك على طريق التمثيل والبيان لشرفهم وفضلهم، ويقال‏:‏ حسر البعير واستحسر كَلَّ وتعب وحسرته أنا فهو متعد ولازم، وأحسرته أيضاً، وقال الشاعر‏:‏

بها جيف الحسرى فإما عظامها *** فبيض وأما جلدها فصليب

قال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ الاستحسار مبالغة في الحسور، وكان الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور قلت‏:‏ في الاستحسار بيان أن ما هم فيه يوجب غاية الحسور وأقصاه، وأنهم أخفاء لتلك العبادات الباهظة بأن يستحسروا فيما يفعلون انتهى‏.‏

‏{‏يسبحون‏}‏ هم الملائكة بإجماع الأمة وصفهم بتسبيح دائم‏.‏ وعن كعب‏:‏ جعل الله لهم التسبيح كالنفس وطرف العين للبشر يقع منهم دائماً دون أن يلحقهم فيه سآمة، وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ «إني لأسمع أطيط السماء وحق لها أن تئط ليس فيها موضع راحة إلا وفيه ملك ساجد أو قائم ‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 29‏]‏

‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ‏(‏21‏)‏ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏22‏)‏ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ‏(‏23‏)‏ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏24‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ‏(‏25‏)‏ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ‏(‏26‏)‏ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ‏(‏27‏)‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ‏(‏28‏)‏ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

لما ذكر تعالى الدلائل على وحدانيته وأن من في السموات والأرض كلهم ملك له، وأن الملائكة المكرمين هم في خدمته لا يفترون عن تسبيحه وعبادته، عاد إلى ما كان عليه من توبيخ المشركين وذمهم وتسفيه أحلامهم و‏{‏أم‏}‏ هنا منقطعة تتقدر ببل والهمزة ففيها إضراب وانتقال من خبر إلى خبر، واستفهام معناه التعجب والإنكار أي ‏{‏اتخذوا آلهة من الأرض‏}‏ يتصفون بالإحياء ويقدرون عليها وعلى الإماتة، أي لم يتخذوا آلهة بهذا الوصف بل اتخذوا آلهة جماداً لا يتصف بالقدرة على شيء فهي غير آلهة لأن من صفة الإله القدرة على الإحياء والإماتة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة تنشر وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم، وهم أبعد شيء عن هذه الدعوى لأنهم مع إقرارهم بأن الله خالق السموات والأرض وبأنه قادر على المقدورات كلها وعلى النشأة الأولى منكرين للبعث، وكان عندهم من قبيل المحال الخارج عن قدرة القادر فكيف يدعونه للجماد الذي لا يوصف بالقدرة‏؟‏ قلت‏:‏ الأمر كما ذكرت ولكنهم بادعائهم الإلهية يلزمهم أن يدعوا لها الإنشاء لأنه لا يستحق هذا الاسم إلاّ القادر على كل مقدور، والإنشاء من جملة المقدورات وفيه باب من التهكم بهم والتوبيخ والتجهيل، وإشعار بأن ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده لأن الإلهية لما صحت صح معها الاقتدار على الإبداء والإعادة ونحو قوله ‏{‏من الأرض‏}‏ قولك‏:‏ فلان من مكة أو من المدينة، تريد مكي أو مدني، ومعنى نسبتها إلى الأرض الإيذان بأنها الأصنام التي تعبد في الأرض لا أن الآلهة أرضية وسماوية، من ذلك حديث الأمة التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ «أين ربك‏؟‏» فأشارت إلى السماء فقال‏:‏ «إنها مؤمنة» ‏"‏ لأنه فهم منها أن مرادها نفي الآلهة الأرضية التي هي الأصنام لا إثبات السماء مكاناً لله تعالى‏.‏ ويجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض لأنها إما أن تنحت من بعض الحجارة أو تعمل من بعض جواهر الأرض‏.‏

فإن قلت‏:‏ لا بد من نكتة في قوله ‏{‏هم‏}‏ قلت‏:‏ النكتة فيه إفادة معنى الخصوصية كأنه قيل ‏{‏أم اتخذوا آلهة‏}‏ لا تقدر على الإنشاء إلا هم وحدهم انتهى‏.‏

و ‏{‏اتخذوا‏}‏ هنا يحتمل أن يكون المعنى فيها صنعوا وصوروا، و‏{‏من الأرض‏}‏ متعلق باتخذوا، ويحتمل أن يكون المعنى جعلوا الآلهة أصناماً من الأرض كقوله ‏{‏أتتخذ أصناماً آلهة‏}‏ وقوله ‏{‏واتخذ الله إبراهيم خليلاً‏}‏ وفيه معنى الإصطفاء والاختيار‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ينشرون‏}‏ مضارع أنشر ومعناه يحيون‏.‏ وقال قطرب‏:‏ معناه يخلقون كقوله ‏{‏أفمن يخلق كمن لا يخلق‏}‏ وقرأ الحسن ومجاهد ‏{‏ينشرون‏}‏ مضارع نشر، وهما لغتان نشر وانشر متعديان، ونشر يأتي لازماً تقول‏:‏ أنشر الله الموتى فنشروا أي فحيوا، والضمير في ‏{‏فيهما‏}‏ عائد على السماء والأرض وهما كناية عن العالم‏.‏

و ‏{‏إلا‏}‏ صفة لآلهة أي آلهة غير ‏{‏الله‏}‏ وكون ‏{‏إلا‏}‏ يوصف بها معهود في لسان العرب ومن ذلك ما أنشد سيبويه رحمه الله‏:‏

وكل أخ مفارقه أخوه *** لعمر أبيك إلا الفرقدان

قال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ ما منعك من الرفع على البدل‏؟‏ قلت‏:‏ لأن لو بمنزلة إن في أن الكلام معه موجب والبدل لا يسوغ إلا في الكلام غير الموجب، كقوله ‏{‏ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك‏}‏ وذلك لأن أعم العام يصح نفيه ولا يصح إيجابه، والمعنى لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة شتى غير الواحد الذي هو فاطرهما ‏{‏لفسدتا‏}‏ وفيه دلالة على أمرين أحدهما‏:‏ وجوب أن لا يكون مدبرهما إلاّ واحداً، والثاني أن لا يكون ذلك الواحد إلاّ إياه وحده كقوله ‏{‏إلا الله‏}‏‏.‏

فإن قلت‏:‏ لم وجب الأمران قلت‏:‏ لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف‏.‏

وعن عبد الملك بن مروان حين قتل عمرو بن سعيد الأشدق كان والله أعز عليّ من دم ناظري ولكن لا يجتمع فحلان في شول وهذا ظاهر‏.‏ وأما طريقة التمانع فللمتكلمين فيها تجادل وطراد ولأن هذه الأفعال محتاجة إلى تلك الذات المتميزة بتلك الصفات حتى تثبت وتستقر‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وذلك بأنه كان يبغي بعضهم على بعض ويذهب بما خلق، واقتضاب القول في هذا أن الهين لو فرضنا بينهما الاختلاف في تحريك جسم ولا تحريكه فمحال أن تتم الإرادتان، ومحال أن لا تتم جميعاً، وإذا تمت الواحدة كان صاحب الأخرى عاجزاً وهذا ليس بإله، وجواز الاختلاف عليهما بمنزلة وقوعه منهما، ونظر آخر وذلك أن كل جزء يخرج من العدم إلى الوجود فمحال أن تتعلق به قدرتان، فإذا كانت قدرة أحدهما توجده ففي الآخر فضلاً لا معنى له في ذلك الجزء ثم يتمادى النظر هكذا جزأ جزأ‏.‏

وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ لو فرضنا موجودين واجبيَ الوجود لذاتهما فلا بد أن يشتركا في الوجود ولا بد أن يمتاز كل واحد منهما عن الآخر بمعيته وما به المشاركة غير ما به الممايزة، فيكون كل واحد مشاركاً للآخر وكل مركب فهو مفتقر إلى آخر ممكن لذاته، فإذا واجب الوجود ليس إلاّ واحداً فكل ما عدا هذا فهو محدث، ويمكن جعل هذا تفسيراً لهذه الآية لأنا لما دللنا على أنه يلزم من فرض موجودين واجبين أن لا يكون شيء منهما واجباً، وإذا لم يوجد الواجب لم يوجد شيء من هذه الممكنات، فحينئذ يلزم الفساد في كل العالم‏.‏

وقال أبو البقاء‏:‏ لا يجوز أن يكون بدلاً لأن المعنى يصير إلى قولك ‏{‏لو كان فيهما‏}‏ ‏{‏إلا الله لفسدتا‏}‏ ألا ترى أنك لو قلت‏:‏ ما جاءني قومك إلاّ زيد على البدل لكان المعنى جاءني زيد وحده‏.‏

وقيل‏:‏ يمتنع البدل لأن ما قبله إيجاب ولا يجوز النصب على الاسثناء لوجهين، أحدهما أنه فاسد في المعنى وذلك أنك إذا قلت‏:‏ لو جاءني القوم إلاّ زيداً لقتلتهم كان معناه أن القتل امتنع لكون زيد مع القوم، فلو نصب في الآية لكان المعنى فساد السموات والأرض امتنع لوجود الله مع الآلهة، وفي ذلك إثبات الإله مع الله، وإذا رفعت على الوصف لا يلزم مثل ذلك لأن المعنى ‏{‏لو كان فيهما‏}‏ غير ‏{‏الله لفسدتا‏}‏‏.‏ والوجه الثاني أن ‏{‏آلهة‏}‏ هنا نكرة، والجمع إذا كان نكرة لم يستثن منه عند جماعة من المحققين لأنه لا عموم له بحيث يدخل فيه المستثنى لولا الاستثناء انتهى‏.‏ وأجاز أبو العباس المبرد في ‏{‏إلاّ الله‏}‏ أن يكون بدلاً لأن ما بعد لو غير موجب في المعنى، والبدل في غير الواجب أحسن من الوصف‏.‏ وقد أمعنّا الكلام على هذه المسألة في شرح التسهيل‏.‏ وقال الأستاذ أبو عليّ الشلوبين في مسألة سيبويه‏:‏ لو كان معنا رجل إلاّ زيد لغلبنا أن المعنى لو كان معنا رجل مكان زيد لغلبنا فإلاّ بمعنى غير التي بمعنى مكان‏.‏ وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الصائغ‏:‏ لا يصح المعنى عندي إلاّ أن تكون ‏{‏إلاّ‏}‏ في معنى غير الذي يراد بها البدل أي ‏{‏لو كان فيهما آلهة‏}‏ عوض واحد أي بدل الواحد الذي هو ‏{‏الله لفسدتا‏}‏ وهذا المعنى أراد سيبويه في المسألة التي جاء بها توطئة انتهى‏.‏

ولما أقام البرهان على وحدانيته وانفراده بالألوهية نزه نفسه عما وصفه به أهل الجهل بقوله ‏{‏فسبحان الله‏}‏ ثم وصف نفسه بأنه مالك هذا المخلوق العظيم الذي جميع العالم هو متضمنهم ثم وصف نفسه بكمال القدرة ونهاية الحكم فقال ‏{‏لا يسأل عما يفعل‏}‏ إذ له أن يفعل في ملكه ما يشاء، وفعله على أقصى درجات الحكمة فلا اعتراض ولا تعقب عليه، ولما كانت عادة الملوك أنهم لا يسألون عما يصدر من أفعالهم مع إمكان الخطأ فيها، كان ملك الملوك أحق بأن لا يسأل هذا مع علمنا أنه لا يصدر عنه إلاّ ما اقتضته الحكمة العارية عن الخلل والتعقب، وجاء ‏{‏عما يفعل‏}‏ إذ الفعل جامع لصفات الأفعال مندرج تحته كل ما يصدر عنه من خلق ورزق ونفع وضر وغير ذلك، والظاهر في قوله ‏{‏لا يسأل‏}‏ العموم في الأزمان‏.‏ وقال الزجّاج‏:‏ أي في القيامة ‏{‏لا يُسْأَل‏}‏ عن حكمه في عباده ‏{‏وهم يُسْأَلُون‏}‏ عن أعمالهم‏.‏ وقال ابن بحر‏:‏ لا يحاسب وهم يحاسبون‏.‏ وقيل‏:‏ لا يؤاخذ وهم يؤاخذون انتهى‏.‏ ‏{‏وهم يسألون‏}‏ لأنهم مملوكون مستعبدون واقع منهم الخطأ كثيراً فهم جديرون أن يقال لهم لم فعلتم كذا‏.‏

وقرأ الحسن‏:‏ لا يُسَل ويُسَلُون بفتح السين نقل حركة الهمزة إلى السين وحذف الهمزة‏.‏

ثم كرر تعالى عليهم الإنكار والتوبيخ فقال‏:‏ ‏{‏أم اتخذوا من دونه آلهة‏}‏ استفظاعاً لشأنهم واستعظاماً لكفرهم، وزاد في هذا التوبيخ قوله ‏{‏من دونه‏}‏ فكأنه وبخهم على قصد الكفر بالله عز وجل، ثم دعاهم إلى الإتيان بالحجة على ما اتخذوا ولا حجة تقوم على أن الله تعالى شريكاً لا من جهة العقل ولا من جهة النقل، بل كتب الله السابقة شاهدة بتنزيهه تعالى عن الشركاء والأنداد كما في الوحي الذي جئتكم به ‏{‏هذا ذكر من معي‏}‏ أي عظة للذين معي وهم أمته ‏{‏وذكر‏}‏ للذين ‏{‏من قبلي‏}‏ وهم أمم الأنبياء، فالذكر هنا مراد به الكتب الإلهية ويجوز أن يكون ‏{‏هذا‏}‏ إشارة إلى القرآن‏.‏ والمعنى فيه ذكر الأولين والآخرين فذكر الآخرين بالدعوة وبيان الشرع لهم، وذكر الأولين بقص أخبارهم وذكر الغيوب في أمورهم‏.‏ والمعنى على هذا عرض القرآن في معرض البرهان أي ‏{‏هاتوا برهانكم‏}‏ فهذا برهاني في ذلك ظاهر‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ بإضافة ‏{‏ذكر‏}‏ إلى ‏{‏من‏}‏ فيهما على إضافة المصدر إلى المفعول كقوله ‏{‏بسؤال نعجتك‏}‏ وقرئ بتنوين ‏{‏ذكر‏}‏ فيهما و‏{‏من‏}‏ مفعول منصوب بالذكر كقوله ‏{‏أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً‏}‏ وقرأ يحيى بن يعمر وطلحة بتنوين ‏{‏ذكر‏}‏ فيهما وكسر ميم ‏{‏من‏}‏ فيهما، ومعنى ‏{‏معي‏}‏ هنا عندي، والمعنى ‏{‏هذا ذكر من‏}‏ عندي و‏{‏من قبلي‏}‏ أي أذكركم بهذا القرآن الذي عندي كما ذكر الأنبياء من قبلي أممهم، ودخول ‏{‏من‏}‏ على مع نادر، ولكنه اسم يدل على الصحبة والاجتماع أُجري مجرى الظرف فدخلت عليه ‏{‏من‏}‏ كما دخلت على قبل وبعد وعند، وضعَّف أبو حاتم هذه القراءة لدخول ‏{‏من‏}‏ على مع ولم ير لها وجهاً‏.‏ وعن طلحة ‏{‏ذكر‏}‏ منوناً ‏{‏معي‏}‏ دون ‏{‏مِن‏}‏ ‏{‏وذكر‏}‏ منوناً ‏{‏قبلي‏}‏ دون ‏{‏من‏}‏‏.‏ وقرأت فرقة ‏{‏وذكر من‏}‏ بالإضافة ‏{‏وذكر‏}‏ منوناً ‏{‏من قبلي‏}‏ بكسر ميم من‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏الحق‏}‏ بالنصب والظاهر نصبه على المفعول به فلا يعلمون أي أصل شرهم وفسادهم هو الجهل وعدم التمييز بين الحق والباطل، ومن ثم جاء الإعراض عنه‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يكون المنصوب أيضاً على معنى التوكيد لمضمون الجملة السابقة كما تقول‏:‏ هذا عبد الله الحق لا الباطل، فأكد نسبة انتفاء العلم عنهم، والظاهر أن الإعراض متسبب عن انتفاء العلم لما فقدوا التمييز بين الحق والباطل أعرضوا عن الحق‏.‏ وقال ابن عطية ثم حكم عليهم تعالى بأن ‏{‏أكثرهم لا يعلمون الحق‏}‏ لإعراضهم عنه وليس المعنى ‏{‏فهم معرضون‏}‏ لأنهم لا يعلمون بل المعنى ‏{‏فهم معرضون‏}‏ ولذلك ‏{‏لا يعلمون الحق‏}‏ وقرأ الحسن وحميد وابن محيصن ‏{‏الحق‏}‏ بالرفع‏.‏ قال صاحب اللوامح‏:‏ ابتداءً والخبر مضمر، أو خبر والمبتدأ قبله مضمر‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ هذا القول هو ‏{‏الحق‏}‏ والوقف على هذه القراءة على ‏{‏لا يعلمون‏}‏‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ وقرئ ‏{‏الحق‏}‏ بالرفع على توسيط التوكيد بين السبب والمسبب، والمعنى أن إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل انتهى‏.‏

ولما ذكر انتفاء علمهم الحق وإعراضهم أخبر أنه ما أرسل ‏{‏من رسول‏}‏ إلاّ جاء مقرراً لتوحيد الله وإفراده بالإلهية والأمر بالعبادة‏.‏ ولما كان ‏{‏من رسول‏}‏ عاماً لفظاً ومعنى، أفرد على اللفظ في قوله إلاّ يوحى إليه ثم جمع على المعنى في قوله ‏{‏فاعبدون‏}‏ ولم يأت التركيب فاعبدني، ويحتمل أن يكون الأمر له ولأمته، وهذه العقيدة من توحيد الله لم تختلف فيها النبوّات وإنما وقع الاختلاف في أشياء من الأحكام‏.‏ وقرأ الأخوان والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى والقطعي وابن غزوان عن أيوب وخلف وابن سعدان وابن عيسى وابن جرير ‏{‏نوحي‏}‏ بالنون وباقي السبعة بالياء وفتح الحاء، واختلف عن عاصم‏.‏

ثم نزه تعالى نفسه عما نسبوا إليه من الولد‏.‏ قيل‏:‏ ونزلت في خزاعة حيث قالوا‏:‏ الملائكة بنات الله، وقالت النصارى نحو هذا في عيسى واليهود في عزير ثم أضرب تعالى عن نسبة الولد إليه فقال ‏{‏بل عباد مكرمون‏}‏ ويشمل هذا اللفظ الملائكة وعزيراً والمسيح، ويظهر من كلام الزمخشري أنه مخصوص بالملائكة قال‏:‏ نزلت في خزاعة حيث قالوا‏:‏ الملائكة بنات الله نزه ذاته عن ذلك، ثم أخبر عنهم بأنهم ‏{‏عباد‏}‏ والعبودية تنافي الولادة إلا أنهم ‏{‏مكرمون‏}‏ مقربون عندي مفضلون على سائر العباد لما هم عليه من أحوال وصفات ليست لغيرهم، فذلك هو الذي غرَّ منهم من زعم أنهم أولادي تعاليت عن ذلك علواً كبيراً انتهى‏.‏ وقرأ عكرمة ‏{‏مكرمون‏}‏ بالتشديد والجمهور بالتخفيف، وقرأ ‏{‏لا يسبِقونه‏}‏ بكسر الباء‏.‏ وقرئ بضمها من سابقني فسبقته أسبقه، والمعنى أنهم يتبعون قوله ولا يقولون شيئاً حتى يقوله‏:‏ فلا يسبق قولهم قوله‏.‏ وأل في بالقول نابت مناب الضمير على مذهب الكوفيين أي بقولهم وكذا قال الزمخشري‏:‏ والمراد بقولهم فأنيبت اللام مناب الإضافة أو الضمير محذوف أي بالقول منهم، وذلك على مذهب البصريين‏.‏

‏{‏وهم بأمره يعملون‏}‏ فكما أن قولهم تابع لقوله كذلك فعلهم مبني على أمره لا يعملون عملاً ما لم يؤمروا به، وهذه عبارة عن توغلهم في طاعته والامتثال لأمره‏.‏

ثم أخبر تعالى أنه ‏{‏يعلم ما بين أيديهم‏}‏ أي ما تقدم من أفعالهم وأقوالهم، والحوادث التي لها إليهم تسبب وما تأخر وعلمه بذلك يجري مجرى السبب لطاعتهم لما علموه عالماً بجميع المعلومات وظواهرهم وبواطنهم كان ذلك داعياً لهم إلى نهاية الخضوع والدؤوب على العبادة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏يعلم‏}‏ ما قدموا وما أخروا من أعمالهم‏.‏ وقال نحوه عمار بن ياسر، قال‏:‏ ما عملوا وما لم يعملوا بعد، وقيل ‏{‏ما بين أيديهم‏}‏ الآخرة ‏{‏وما خلفهم‏}‏ الدنيا‏.‏ وقيل عكس ذلك‏.‏ وقيل ‏{‏يعلم‏}‏ ما كان قبل أن خلقهم وما كان بعد خلقهم‏.‏

ولما كانوا مقهورين تحت أمره وملكوته وهو محيط بهم لم يجسروا على أن يشفعوا إلاّ لمن ارتضاه الله وأهله للشفاعة في زيادة الثواب والتعظيم، ثم ‏{‏هم‏}‏ مع ذلك ‏{‏من خشيته مشفقون‏}‏ متوقعون حذرون لا يأمنون مكر الله‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏لمن ارتضى‏}‏ هو من قال‏:‏ لا إله إلا الله وشفاعتهم‏:‏ الاستغفار‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لمن ارتضاه الله أن يشفع‏.‏ وقيل‏:‏ شفاعتهم في القيامة وفي الصحيح أنهم يشفعون في الدنيا والآخرة‏.‏

وبعد أن وصف كرامتهم عليه وأثنى عليهم وأضاف إليهم تلك الأفعال السنية فاجأ بالوعيد الشديد وأنذر بعذاب جهنم من ادعى منهم أنه إله وذلك على سبيل العرض والتمثيل مع علمه بأنه لا يكون كقوله ‏{‏ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون‏}‏ قصد بذلك تفظيع أمر الشرك وتعظيم شأن التوحيد‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏نجزيه‏}‏ بفتح النون‏.‏ وقرأ أبو عبد الرحمن المقري بضمها أراد نجزئه بالهمز من أجزائي كذا كفاني، ثم خفف الهمزة فانقلبت ياء كذلك أي مثل هذا الجزاء ‏{‏نجزي الظالمين‏}‏ وهم الكافرون والواضعون الشيء في غير موضعه، وأداة الشرط تدخل على الممكن والممتنع نحو قوله ‏{‏لئن أشركت‏.‏‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 35‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏30‏)‏ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏31‏)‏ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ‏(‏32‏)‏ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ‏(‏33‏)‏ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ‏(‏34‏)‏ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

هذا استفهام توبيخ لمن ادعى مع الله آلهة، ودلالة على تنزيهه عن الشريك، وتوكيد لما تقدم من أدلة التوحيد، ورد على عبدة الأوثان من حيث إنّ الإله القادر على هذه المخلوقات المتصرف فيها التصرف العجيب، كيف يجوز في العقل أن يعدل عن عبادته إلى عبادة حجر لا يضر ولا ينفع والرؤية هنا من رؤية القلب‏.‏ وقيل‏:‏ من رؤية البصر وذلك على الاختلاف في الرتق والفتق‏.‏ وقرأ ابن كثير وحميد وابن محيصن ألم يَرَ بغير واو العطف والجمهور ‏{‏أو لم‏}‏ بالواو‏.‏ ‏{‏كانتا‏}‏ قال الزجاج‏:‏ السموات جمع أريد به الواحد، ولهذا قال ‏{‏كانتا رتقاً‏}‏ لأنه أراد السماء والأرض، ومنه أن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا جعل السموات نوعاً والأرضين نوعاً، فأخبر عن النوعين كما أخبر عن اثنين كما تقول‏:‏ أصلحت بين القوم ومر بنا غنمان أسودان لقطيعي غنم‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ قال ‏{‏كانتا رتقاً‏}‏ والسموات جمع لأنه أراد الصنفين، ومنه قول الأسود بن يعفر‏:‏

إن المنية والحتوف كلاهما *** يوفي المحارم يرقبان سوادي

لأنه أراد النوعين‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ الضمير يعود على الجنسين‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وإنما قال ‏{‏كانتا‏}‏ دون كنّ لأن المراد جماعة ‏{‏السموات‏}‏ وجماعة ‏{‏الأرض‏}‏ ونحوه قولهم‏:‏ لقاحان سوداوان إن أراد جماعتان فعل في المضمر ما فعل في المظهر‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وقال ‏{‏كانتا‏}‏ من حيث هما نوعان ونحوه قول عمرو بن شييم‏:‏

ألم يحزنك أن جبال قيس *** وتغلب قد تباينت انقطاعا

قال ابن عباس والحسن وعطاء والضحاك وقتادة‏:‏ كانتا شيئاً واحداً ففصل الله بينهما بالهواء‏.‏ وقال كعب‏:‏ خلق الله السموات والأرض بعضها على بعض ثم خلق ريحاً بوسطها ففتحها بها وجعل السموات سبعاً والأرضين سبعاً‏.‏ وقال مجاهد والسدّي وأبو صالح‏:‏ كانت السموات والأرض مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سموات، وكذلك الأرضون كانت مرتتقة طبقة واحدة ففتقها وجعلها سبعاً‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ السموات والأرض رتق بالظلمة وفتقها الله بالضوء‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ السماء قبل المطر رتق، والأرض قبل النبات رتق ‏{‏ففتقناهما‏}‏ بالمطر والنبات كما قال ‏{‏والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع‏}‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا قول حسن يجمع العبرة وتعديد النعمة والحجة للمحسوس بين، ويناسب قوله ‏{‏وجعلنا من الماء كل شيء حيّ‏}‏ أي من الماء الذي أوجده الفتق انتهى‏.‏

وعلى هذين القولين تكون الرؤية من البصر وعلى ما قبلهما من رؤية القلب، وجاء تقريرهم بذلك لأنه وارد في القرآن الذي هو معجزة في نفسه فقام مقام المرئي المشاهد، ولأن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل فلا بد للتباين دون التلاصق من مخصص، وهو الله سبحانه وقرأ الجمهور ‏{‏رتْقاً‏}‏ بسكون التاء وهو مصدر يوصف به كزور وعدل فوقع خبراً للمثنى‏.‏

وقرأ الحسن وزيد بن عليّ وأبو حيوة وعيسى ‏{‏رتقاً‏}‏ بفتح التاء وهو اسم المرتوق كالقبض والنفض، فكان قياسه أن يبني ليطابق الخبر الاسم‏.‏ فقال الزمخشري‏:‏ هو على تقدير موصوف أي ‏{‏كانتا‏}‏ شيئاً ‏{‏رتقاً‏}‏‏.‏ وقال أبو الفضل الرازي‏:‏ الأكثر في هذا الباب أن يكون المتحرك منه اسماً بمعنى المفعول والساكن مصدر، أو قد يكونان مصدرين لكن المتحرك أولى بأن يكون في معنى المفعول لكن هنا الأولى أن يكونا مصدرين فأقيم كل واحد منهما مقام المفعولين، ألا ترى أنه قال ‏{‏كانتا رتقاً‏}‏ فلو جعلت أحدهما اسماً لوجب أن تثنيه فلما قال ‏{‏رتقاً‏}‏ كان في الوجهين كرجل عدل ورجلين عدل وقوم عدل انتهى‏.‏

‏{‏وجعلنا‏}‏ إن تعدت لواحد كانت بمعنى وخلقنا من الماء كل حيوان أي مادته النطفة قاله قطرب وجماعة أو لما كان قوامه الماء المشروب وكان محتاجاً إليه لا يصبر عنه جعل مخلوقاً منه كقوله ‏{‏خلق الإنسان من عجل‏}‏ قاله الكلبي وغيره، وتكون الحياة على هذا حقيقة ويكون كل شيء عاماً مخصوصاً إذ خرج منه الملائكة والجن وليسوا مخلوقين من نطفة ولا محتاجين للماء‏.‏

وقال قتادة‏:‏ أي خلقنا كل نام من الماء فيدخل فيه النبات والمعدن، وتكون الحياة فيهما مجازاً أو عبر بالحياة عن القدر المشترك بينهما وبين الحيوان وهو النموّ ويكون أيضاً على هذا عاماً مخصوصاً، وإن تعدّت ‏{‏جعلنا‏}‏ لاثنين فالمعنى صيرنا ‏{‏كل شيء حي‏}‏ بسبب من الماء لا بد له منه‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏حي‏}‏ بالخفض صفة لشيء‏.‏ وقرأ حميد حياً بالنصب مفعولاً ثانياً لجعلنا، والجار والمجرور لغو أي ليس مفعولاً ثانياً ل ‏{‏جعلنا‏}‏ ‏{‏أفلا يؤمنون‏}‏ استفهام إنكار وفيه معنى التعجب من ضعف عقولهم، والمعنى أفلا يتدبرون هذه الأدلة ويعملوا بمقتضاها ويتركوا طريقة الشرك، وأطلق الإيمان على سببه وقد انتظمت هذه الآية دليلين من دلائل التوحيد وهي من الأدلة السماوية والأرضية‏.‏

ثم ذكر دليلاً آخر من الدلائل الأرضية فقال‏:‏ ‏{‏وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم‏}‏ وتقدم شرح نظير هذه الجملة في سورة النحل ‏{‏وجعلنا فيها فجاجاً سبلاً‏}‏ وهذا دليل رابع من الدلائل الأرضية، والظاهر أن الضمير في ‏{‏فيها‏}‏ عائد على الأرض‏.‏ وقيل يعود على الرواسي، وجاء هنا تقديم ‏{‏فجاجاً‏}‏ على قوله ‏{‏سبلاً‏}‏ وفي سورة نوح ‏{‏لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً‏}‏ فقال الزمخشري‏:‏ وهي يعني ‏{‏فجاجاً‏}‏ صفة ولكن جعلت حالاً كقوله‏:‏

لمية موحشاً طلل *** يعني أنها حال من سبل وهي نكرة، فلو تأخر ‏{‏فجاجاً‏}‏ لكان صفة كما في تلك الآية ولكن تقدم فانتصب على الحال قال‏:‏ فإن قلت‏:‏ ما الفرق بينهما من جهة المعنى‏؟‏ قلت‏:‏ وجهان أحدهما إعلام بأنه جعل فيها طرقاً واسعة، والثاني بأنه حين خلقها خلقها على تلك الصفة فهو بيان لما أبهم ثمة انتهى‏.‏ يعني بالإبهام أن الوصف لا يلزم أن يكون الموصوف متصفاً به حالة الإخبار عنه، وإن كان الأكثر قيامه به حالة الإخبار عنه، ألا ترى أنه يقال‏:‏ مررت بوحشي القاتل حمزة، فحالة المرور لم يكن قائماً به قتل حمزة، وأما الحال فهي هيئة ما تخبر عنه حالة لإخبار ‏{‏لعلهم يهتدون‏}‏ في مسالكهم وتصرّفهم‏.‏

وما رفع وسمك على شيء فهو سقف‏.‏ قال قتادة‏:‏ حفظ من البلى والتغير على طول الدهر‏.‏ وقيل‏:‏ حفظ من السقوط لإمساكه من غير علاقة ولا عماد‏.‏ وقيل‏:‏ حفظ من الشرك والمعاصي‏.‏ وقال الفراء‏:‏ حفظ من الشياطين بالرجوم‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى السماء فقال‏:‏ «إن السماء سقف مرفوع وموج مكفوف يجري كما يجري السهم محفوظاً من الشياطين» وإذا صح هذا الحديث كان نصاً في معنى الآية‏.‏

‏{‏وهم عن آياتها‏}‏ أي عن ما وضع الله فيها من الأدلة والعبر بالشمس والقمر وسائر النيرات ومسايرها وطلوعها وغروبها على الحساب القويم والترتيب العجيب الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏عن آياتها‏}‏ بالجمع‏.‏ وقرأ مجاهد وحميد عن آيتها بالإفراد، فيجوز أنه جعل الجعل أو السقف أو الخلق أي خلق السماء آية واحدة تحوي الآيات كلها، ويجوز أنه أراد بها الجمع فجعلها اسم الجنس، ودل على ذلك كثرة ما في السماء من الآيات‏.‏ والمعنى ‏{‏وهم عن‏}‏ الاعتبار بآياتها ‏{‏معرضون‏}‏ وقال الزمخشري‏:‏ هم يتفطنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع الدنياوية كالاستضاءة بقمريها والاهتداء بكواكبها وحياة الأرض والحيوان بأمطارها ‏{‏وهم عن‏}‏ كونها آية بينة على الخالق ‏{‏معرضون‏}‏‏.‏

والتنوين في ‏{‏كلٌّ‏}‏ عوض من المضاف إليه، والفلك الجسم الدائر دورة اليوم والليلة‏.‏ وعن ابن عباس والسدّي‏:‏ الفلك السماء‏.‏ وقال أكثر المفسرين‏:‏ الفلك موج مكفوف تحت السماء تجري فيه الشمس والقمر‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الفلك استدارة بين السماء والأرض يدور بالنجوم مع ثبوت السماء‏.‏ وقيل‏:‏ الفلك القطب الذي تدور عليه النجوم وهو قطب الشمال‏.‏ وقيل‏:‏ لكل واحد من السيارات فلك، وفلك الأفلاك يحركها حركة واحدة من المشرق إلى المغرب‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الفلك ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم، والظاهر أنه جسم وفيه الاختلاف المذكور والظاهر أن كلاًّ يسبح في فلك واحد‏.‏ قيل‏:‏ ولكل واحد فلك يخصه فهو كقولهم‏:‏ كساهم الأمير حلة أي كسى كل واحد، وجاء ‏{‏يسبحون‏}‏ بواو الجمع العاقل، فأما الجمع فقيل ثم معطوف محذوف وهو والنجوم، ولذلك عاد الضمير مجموعاً ولو لم يكن ثم معطوف محذوف لكان يسبحان مثنى‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ الضمير للشمس والقمر، والمراد بهما جنس الطوالع كل يوم وليلة جعلوها متكاثرة لتكاثر مطالعها وهو السبب في جمعها بالشموس والأقمار، وإلاّ فالشمس واحدة والقمر واحد انتهى‏.‏ وحسن ذلك كونه جاء فاصلة رأس آية، وأما كونه ضمير من يعقل ولم يكن التركيب يسبحن‏.‏

فقال الفراء‏:‏ لما كانت السباحة من أفعال الآدميين جاء ما أسند إليهما مجموعاً من يعقل كقوله ‏{‏رأيتهم لي ساجدين‏}‏ قال أبو عبد الله الرازي‏:‏ وعلى قول أبي عليّ بن سينا سبب ذلك أنها عنده تعقل انتهى‏.‏ وهذه الجملة يحتمل أن تكون استئناف إخبار فلا محل لها، أو محلها النصب على الحال من ‏{‏الشمس والقمر‏}‏ لأن ‏{‏الليل والنهار‏}‏ لا يتصفان بأنهما يجريان ‏{‏في فلك‏}‏ فهو كقولك‏:‏ رأيت زيداً وهنداً متبرجة والسباحة‏:‏ العوم والذي يدل عليه الظاهر أن الشمس والقمر هما اللذان يجريان في الفلك، وأن الفلك لا يجري‏.‏

‏{‏وما جعلنا‏}‏ الآية‏.‏ قيل‏:‏ إن بعض المسلمين قال‏:‏ إن محمداً لن يموت وإنما هو مخلد، فأنكر ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت‏.‏ وقيل‏:‏ طعن كفار مكة عليه بأنه بشر يأكل الطعام ويموت فكيف يصح إرساله‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ كانوا يقدرون أنه سيموت فيشمتون بموته فنفى الله عنه الشماتة بهذا أي قضى الله أن لا يخلد في الدنيا بشراً فلا أنت ولا هم إلاّ عرضة للموت فإن مت أيبقى هؤلاء‏؟‏ وفي معناه قول الإمام الشافعي رضي الله عنه‏:‏

تمنى رجال أن أموت وإن أمت *** فتلك سبيل لست فيها بأوحد

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى *** تزود لأخرى مثلها فكأن قد

وقول الآخر‏:‏

فقل للشامتين بنا أفيقوا *** سيلقى الشامتون كما لقينا

والفاء في ‏{‏أفإن متّ‏}‏ للعطف قدّمت عليها همزة الاستفهام لأن الاستفهام له صدر الكلام، دخلت على إن الشرطية والجملة بعدها جواب للشرط، وليست مصب الاستفهام فتكون الهمزة داخلة عليها، واعترض الشرط بينهما فحذف جوابه هذا مذهب سيبويه‏.‏ وزعم يونس أن تلك الجملة هي مصب الاستفهام والشرط معترض بينهما وجوابه محذوف‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وألف الاستفهام داخلة في المعنى على جواب الشرط انتهى‏.‏ وفي هذه الآية دليل لمذهب سيبويه إذ لو كان على ما زعم يونس لكان التركيب ‏{‏أفإن مت‏}‏ هم ‏{‏الخالدون‏}‏ بغير فاء، وللمذهبين تقرير في علم النحو‏.‏

‏{‏كل نفس ذائقة الموت‏}‏ تقدم تفسير هذه الجملة ‏{‏ونبلوكم‏}‏ نختبركم وقدم الشر لأن الابتلاء به أكثر، ولأن العرب تقدم الأقل والأردأ، ومنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ الخير والشر هنا عام في الغنى والفقر، والصحة والمرض، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ هذان الأخيران ليسا داخلين في هذا لأن من هدى فليس هذه اختياراً ولا من أطاع‏.‏ بل قد تبين خيره‏.‏ والظاهر أن المراد من الخير والشر هنا كل ما صح أن يكون فتنة وابتلاء انتهى‏.‏ وعن ابن عباس أيضاً‏:‏ بالشدة والرخاء أتصبرون على الشدة وتشكرون على الرخاء أم لا‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الفقر والمرض والغنى والصحة‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ المحبوب والمكروه، وانتصب ‏{‏فتنة‏}‏ على أنه مفعول له أو مصدر في موضع الحال، أو مصدر من معنى ‏{‏نبلوكم‏}‏ ‏{‏وإلينا ترجعون‏}‏ فنجازيكم على ما صدر منكم في حالة الابتلاء من الصبر والشكر، وفي غير الابتلاء‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏تُرجعون‏}‏ بتاء الخطاب مبنياً للمفعول‏.‏ وقرأت فرقة بالتاء مفتوحة مبنياً للفاعل‏.‏ وقرأت فرقة بضم الياء للغيبة مبنياً للمفعول على سبيل الالتفات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 43‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏36‏)‏ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ‏(‏37‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏38‏)‏ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏39‏)‏ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏40‏)‏ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏41‏)‏ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏42‏)‏ أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

قال السدّي ومقاتل‏:‏ ‏"‏ مرّ الرسول عليه الصلاة والسلام بأبي جهل وأبي سفيان، فقال أبو جهل‏:‏ هذا نبي عبد مناف، فقال أبو سفيان‏:‏ وما تنكرون أن يكون نبياً في بني عبد مناف، فسمعهما الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لأبي جهل‏:‏ «ما تنتهي حتى ينزل بك ما نزل بعمك الوليد بن المغيرة، وأما أنت يا أبا سفيان فإنما قلت ما قلت حمية» ‏"‏ فنزلت‏.‏

ولما كان الكفار يغمهم ذكر آلهتهم بسوء شرعوا في الاستهزاء وتنقيص من يذكرهم على سبيل المقابلة و‏{‏إن‏}‏ نافية بمعنى ما، والظاهر أن جواب ‏{‏إذا‏}‏ هو ‏{‏إن يتخذونك‏}‏ وجواب إذا بإن النافية لم يرد منه في القرآن إلا هذا وقوله في القرآن ‏{‏وإذا رأوك إن يتخذونك إلاّ هزواً‏}‏ ولم يحتج إلى الفاء في الجواب كما لم تحتج إليه ما إذا وقعت جواباً كقوله ‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات‏}‏ ما كان حجتهم بخلاف أدوات الشرط، فإنها إذا كان الجواب مصدراً بما النافية فلا بد من الفاء، نحو إن تزورنا فما نسيء إليك‏.‏ وفي الجواب لاذا بأن وما النافيتين دليل واضح على أن ‏{‏إذا‏}‏ ليست معمولة للجواب، بل العامل فيها الفعل الذي يليها وليست مضافة للجملة خلافاً لأكثر النحاة‏.‏ وقد استدللنا على ذلك بغير هذا من الأدلة في شرح التسهيل‏.‏

وقيل‏:‏ جواب ‏{‏إذا‏}‏ محذوف وهو يقولون المحكي به قولهم ‏{‏أهذا الذي يذكر آلهتكم‏}‏ وقوله ‏{‏إن يتخذونك إلاّ هزواً‏}‏ كلام معترض بين ‏{‏إذا‏}‏ وجوابه و‏{‏يتخذونك‏}‏ يتعدى إلى اثنين، والثاني ‏{‏هزواً‏}‏ أي مهزوأ به، وهذا استفهام فيه إنكار وتعجيب‏.‏ والذكر يكون بالخير وبالشر، فإذا لم يذكر متعلقه فالقرينة تدل عليه، فإن كان من صديق فالذكر ثناء أو من غيره فذم، ومنه ‏{‏سمعنا فتى يذكرهم‏}‏ أي بسوء، وكذلك هنا ‏{‏أهذا الذي يذكر آلهتكم‏}‏‏.‏

ثم نعى عليه إنكارهم عليه ذكر آلهتهم بهذه الجملة الحالية وهي ‏{‏وهم بذكر الرحمن هم كافرون‏}‏ أي ينكرون وهذه حالهم يكفرون بذكر الرحمن، وهو ما أنزل من القرآن فمن هذه حاله لا ينبغي أن ينكر على من يغيب آلهتهم، والظاهر أن هذه الجملة حال من الضمير في يقولون المحذوف‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ والجملة في موضع الحال أي ‏{‏يتخذونك هزواً‏}‏ وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية وهي الكفر بالله انتهى‏.‏ فجعل الجملة الحالية العامل فيها ‏{‏يتخذونك هزواً‏}‏ المحذوفة وكررهم على سبيل التوكيد‏.‏ وروي أنها نزلت حين أنكروا لفظة ‏{‏الرحمن‏}‏ وقالوا‏:‏ ما نعرف الرحمن إلاّ في اليمامة، والمراد بالرحمن هنا الله، كأنه قيل ‏{‏وهم بذكر‏}‏ الله ولما كانوا يستعجلون عذاب الله وآياته الملجئة إلى الإقرار والعلم نهاهم تعالى عن الاستعجال وقدم أولاً ذم ‏{‏الإنسان‏}‏ على إفراط العجلة وأنه مطبوع عليها، والظاهر أنه يراد بالإنسان هنا اسم الجنس وكونه ‏{‏خلق‏}‏ ‏{‏من عجل‏}‏ وهو على سبيل المبالغة لما كان يصدر منه كثيراً‏.‏

كما يقول لمكثر اللعب أنت من لعب، وفي الحديث «لست من دد ولا دد مني» وقال الشاعر‏:‏

وإنّا لمما يضرب الكبش ضربة *** على رأسه تلقى اللسان من الفم

لما كانوا أهل ضرب الهام وملازمة الحرب قال‏:‏ إنهم من الضرب، وبهذا التأويل يتم معنى الآية ويترتب عليه قوله ‏{‏سأريكم آياتي‏}‏ أي آيات الوعيد ‏{‏فلا تستعجلون‏}‏ في رؤيتكم العذاب الذي تستعجلون به، ومن يدعي القلب فيه وهو أبو عمرو وإن التقدير خلق العجل من الإنسان وكذا قراءة عبد الله على معنى أنه جعل طبيعة من طبائعه وجزأ من أخلاقه، فليس قوله بجيد لأن القلب الصحيح فيه أن لا يكون في كلام فصيح وإن بابه الشعر‏.‏ قيل‏:‏ فمما جاء في الكلام من ذلك قول العرب‏:‏ إذا طلعت الشعرى استوى العود على الحر باء‏.‏ وقالوا‏:‏ عرضت الناقة على الحوض وفي الشعر قوله‏:‏

حسرت كفي عن السربال آخذه *** وقال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدّي والضحاك ومقاتل والكلبي ‏{‏الإنسان‏}‏ هنا آدم‏.‏ قال مجاهد‏:‏ لما دخل الروح رأسه وعينيه رأى الشمس قاربت الغروب فقال‏:‏ يا رب عجل تمام خلقي قبل أن تغيب الشمس‏.‏ وقال سعيد‏:‏ لما بلغت الروح ركبتيه كاد يقوم فقال الله ‏{‏خلق الإنسان من عجل‏}‏‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ خلقه الله يوم الجمعة على عجلة في خلقه‏.‏ وقال الأخفش ‏{‏من عجل‏}‏ لأن الله قال له كن فكان‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ‏{‏من عجل‏}‏ أي ضعيف يعني النطفة‏.‏ وقيل‏:‏ خلق بسرعة وتعجيل على غير تريب الآدميين من النطفة والعلقة والمضغة، وهذا يرجع لقول الأخفش‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏من عجل‏}‏ من طين والعجل بلغة حمير الطين‏.‏ وأنشد أبو عبيدة لبعض الحميريين‏:‏

النبع في الصخرة الصماء منبته *** والنخل منبته في الماء والعجل

وقيل‏:‏ ‏{‏الإنسان‏}‏ هنا النضر بن الحارث والذي ينبغي أن تحمل الآية عليه هو القول الأول وهو الذي يناسب آخرها‏.‏ والآيات هنا قيل‏:‏ الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة، أي يأتيكم في وقته‏.‏ وقيل‏:‏ أدلة التوحيد وصدق الرسول‏.‏ وقيل‏:‏ آثار القرون الماضية بالشام واليمن، والقول الأول أليق أي سيأتي ما يسوؤكم إذا دمتم على كفركم، كأنه يريد يوم بدر وغيره في الدنيا وفي الآخرة‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ لم نهاهم عن الاستعجال مع قوله ‏{‏خلق الإنسان من عجل‏}‏ وقوله ‏{‏وكان الإنسان عجولاً‏}‏ أليس هذا من تكليف ما لا يطاق‏؟‏ قلت‏:‏ هذا كما ركب فيه من الشهوة وأمره أن يغلبها لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة انتهى‏.‏ وهو على طريق الاعتزال‏.‏

وقرأ مجاهد وحميد وابن مقسم ‏{‏خَلَقَ‏}‏ مبنياً للفاعل ‏{‏الإنسان‏}‏ بالنصب أي ‏{‏خلق‏}‏ الله ‏{‏الإنسان‏}‏ وقوله ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ استفهام على جهة الهزء، وكان المسلمون يتوعدونهم على لسان الشرع و‏{‏متى‏}‏ في موضع الجر لهذا فموضعه دفع، ونقل عن بعض الكوفيين أن موضع ‏{‏متى‏}‏ نصب على الظرف والعامل فيه فعل مقدر تقديره يكون أو يجيء، وجواب ‏{‏لو‏}‏ محذوف لدلالة الكلام عليه، وحذفه أبلغ وأهيب من النص عليه فقدره ابن عطية لما استعجلوا ونحوه، وقدره الزمخشري لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال‏.‏

وقيل‏:‏ لعلموا صحة البعث‏.‏ وقيل‏:‏ لعلموا صحة الموعود‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ لسارعوا إلى الإيمان‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ هو تنبيه على تحقيق وقوع الساعة وحين يراد به وقت الساعة يدل على ذلك، بل تأتيهم بغتة انتهى‏.‏

و ‏{‏حين‏}‏ قال الزمخشري‏:‏ مفعول به ليعلم أي لو يعلمون الوقت الذي يستعجلون عنه بقولهم ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ وهو وقت صعب شديد تحيط بهم النار من وراء وقدام، ولكن جهلهم به هو الذي هونه عندهم‏.‏ قال‏:‏ ويجوز أن يكون ‏{‏يعلم‏}‏ متروكاً فلا تعدية بمعنى ‏{‏لو‏}‏ كان معهم علم ولم يكونوا جاهلين لما كانوا مستعجلين، و‏{‏حين‏}‏ منصوب بمضمر أي ‏{‏حين لا يكفون عن وجوههم النار‏}‏ يعلمون أنهم كانوا على الباطل، وينتفي عنهم هذا الجهل العظيم أي لا يكفونها انتهى‏.‏ والذي يظهر أن مفعول ‏{‏يعلم‏}‏ محذوف لدلالة ما قبله أي لو يعلم الذين كفروا مجيء الموعود الذي سألوا عنه واستنبطوه‏.‏ و‏{‏حين‏}‏ منصوب بالمفعول الذي هو مجيء ويجوز أن يكون من باب الإعمال على حذف مضاف، وأعمل الثاني والمعنى لو يعلمون مباشرة النار حين لا يكفونها عن وجوههم، وذكر الوجوه لأنها أشرف ما في الإنسان وعجل حواسه، والإنسان أحرص على الدفاع عنه من غيره من أعضائه، ثم عطف عليها الظهور والمراد عموم النار لجميع أبدانهم ولا أحد يمنعهم من العذاب ‏{‏بل تأتيهم بغتة‏}‏ أي تفجؤهم‏.‏ قال ابن عطية ‏{‏بل تأتيهم‏}‏ استدراك مقدر قبله نفي تقديره إن الآيات لا تأتي بحسب اقتراحهم انتهى‏.‏ والظاهر أن الضمير في ‏{‏تأتيهم‏}‏ عائد على النار‏:‏ وقيل‏:‏ على الساعة التي تصبرهم إلى العذاب‏.‏ وقيل‏:‏ على العقوبة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ في عود الضمير إلى النار أو إلى الوعد لأنه في معنى النار وهي التي وعدوها، أو على تأويل العدة والموعدة أو إلى الحين لأنه في معنى الساعة أو إلى البعثة انتهى‏.‏

وقرأ الأعمش بل يأتيهم بالياء بغتة بفتح الغين فيبهتهم بالياء والضمير عائد إلى الوعد أو الحين قاله الزمخشري‏.‏ وقال أبو الفضل الرازي‏:‏ لعله جعل النار بمعنى العذاب فذكر ثم رد ردّها إلى ظاهر اللفظ ‏{‏ولا هم ينظرون‏}‏ أي يؤخرون عما حل بهم، ولما تقدم قوله ‏{‏إن يتخذونك إلاّ هزواً‏}‏ سلاه تعالى بأن من تقدمه من الرسل وقع من أممهم الاستهزاء بهم، وأن ثمرة استهزائهم جنوها هلاكاً وعقاباً في الدنيا والآخرة، فكذلك حال هؤلاء المستهزئين‏.‏

وتقدم تفسير مثل هذه الآية في الأنعام‏.‏

ثم أمره تعالى أن يسألهم من الذي يحفظكم في أوقاتكم من بأس الله أي لا أحد يحفظكم منه، وهو استفهام تقريع وتوبيخ‏.‏ وفي آخر الكلام تقدير محذوف كأنه ليس لهم مانع ولا كالئ، وعلى هذا النفي تركيب بل في قوله ‏{‏بل هم عن ذكر ربهم معرضون‏}‏ قاله ابن عطية‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ بل هم معرضون عن ذكره لا يخطرونه ببالهم فضلاً أن يخافوا بأسه حتى إذا رزقوا الكلاءة منه عرفوا من الكالئ وصلحوا للسؤال عنه، والمراد أنه أمر رسوله بسؤالهم عن الكالئ ثم بيّن أنهم لا يصلحون لذلك لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم انتهى‏.‏ وقرأ أبو جعفر والزهري وشيبة‏:‏ يكلُوكم بضمة خفيفة من غير همز‏.‏ وحكى الكسائي والفراء يكلَوكم بفتح اللام وإسكان الواو‏.‏

‏{‏أم لهم آلهة‏}‏ بمعنى بل، والهمزة كأنه قيل بل ألهم آلهة فأضرب ثم استفهم ‏{‏تمنعهم‏}‏ من العذاب‏.‏ وقال الحوفي ‏{‏من دوننا‏}‏ متعلق بتمنعهم انتهى‏.‏ قيل‏:‏ والمعنى ألهم آلهة تجعلهم في منعة وعز من أن ينالهم مكروه من جهتنا‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، تقديره أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم تقول‏:‏ منعت دونه كففت أذاه فمن دوننا هو من صلة ‏{‏آلهة‏}‏ أي أم لهم آلهة دوننا أو من صلة ‏{‏تمنعهم‏}‏ أي ‏{‏أم لهم‏}‏ مانع من سوانا‏.‏ ثم استأنف الإخبار عن آلهتهم فبيَّن أن ما ليس بقادر على نصر نفسه ومنعها ولا بمصحوب من الله بالنصر والتأييد كيف يمنع غيره وينصره‏؟‏ وقال ابن عباس ‏{‏يصحبون‏}‏ يمنعون‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ينصرون‏.‏ وقال قتادة‏:‏ لا يصحبون من الله بخير‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

ينادي بأعلى صوته متعوذاً *** ليصحب منا والرماح دوان

وقال مجاهد‏:‏ يحفظون‏.‏ وقال السدّي‏:‏ لا يصحبهم من الملائكة من يدفع عنهم، والظاهر عود الضمير في ‏{‏ولا هم‏}‏ على الأصنام وهو قول قتادة‏.‏ وقيل‏:‏ على الكفار وهو قول ابن عباس، وفي التحرير مدار هذه الكلمة يعني ‏{‏يصحبون‏}‏ على معنيين أحدهما أنه من صحب يصحب، والثاني من الإصحاب أصحب الرجل منعه من الآفات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 50‏]‏

‏{‏بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏44‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ ‏(‏45‏)‏ وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏46‏)‏ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ‏(‏47‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏48‏)‏ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ‏(‏49‏)‏ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏هؤلاء‏}‏ إشارة إلى المخاطبين قبل وهم كفار قريش، ومن اتخذ آلهة من دون الله أخبر تعالى أنه متع ‏{‏هؤلاء‏}‏ الكفار ‏{‏وآباءهم‏}‏ من قبلهم بما رزقهم من حطام الدنيا حتى طالت أعمارهم في رخاء ونعمة، وتدعسوا في الضلالة بإمهاله تعالى إياهم وتأخيرهم إلى الوقت الذي يأخذهم فيه ‏{‏أفلا يرون أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون‏}‏ تقدم تفسير هذه الجملة في آخر الرعد‏.‏ واقتصر الزمخشري من تلك الأقوال على معنى أنّا ننقص أرض الكفر ودار الحرب ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها وردها دار إسلام قال‏:‏ فإن قلت‏:‏ أي فائدة في قوله ‏{‏نأتي الأرض‏}‏‏؟‏ قلت‏:‏ الفائدة فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدي المسلمين، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها ناقصة من أطرافها انتهى‏.‏ وفي ذلك تبشير للمؤمنين بما يفتح الله عليهم، وأكثر المفسرين على أنها نزلت في كفار مكة وفي قولهم‏:‏ ‏{‏أفهم الغالبون‏}‏ دليل على ذلك إذ المعنى أنهم هم الغالبون، فهو استفهام فيه تقريع وتوبيخ حيث لم يعتبروا بما يجري عليهم‏.‏

ثم أمره تعالى أن يقول ‏{‏إنما أنذركم بالوحي‏}‏ أي أعلمكم بما تخافون منه بوحي من الله لا من تلقاء نفسي، وما كان من جهة الله فهو الصدق الواقع لا محالة كما رأيتم بالعيان من نقصان الأرض من أطرافها، ثم أخبر أنهم مع إنذارهم معرضون عما أنذروا به فالإنذار لا يجدي فيهم إذ هم صم عن سماعه‏.‏ ولما كان الوحي من المسموعات كان ذكر الصمم مناسباً و‏{‏الصم‏}‏ هم المنذرون، فأل فيه للعهد وناب الظاهر مناب المضمر لأن فيه التصريح بتصامهم وسد أسماعهم إذا أنذروا، ولم يكن الضمير ليفيد هذا المعنى ونفي السماع هنا نفي جدواه‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يَسمع‏}‏ بفتح الياء والميم ‏{‏الصم‏}‏ رفع به و‏{‏الدعاء‏}‏ نصب‏.‏ وقرأ ابن عامر وابن جبير عن أبي عمرو وابن الصلت عن حفص بالتاء من فوق مضمومة وكسر الميم ‏{‏الصم الدعاء‏}‏ بنصبهما والفاعل ضمير المخاطب وهو الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقرأ كذلك إلا أنه بالياء من نحت أي ‏{‏ولا يسمع‏}‏ الرسول وعنه أيضاً ‏{‏ولا يسمع‏}‏ مبنياً للمفعول ‏{‏الصم‏}‏ رفع به ذكره ابن خالويه‏.‏ وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي عن اليزيدي عن أبي عمرو ‏{‏يُسمِع‏}‏ بضم الياء وكسر الميم ‏{‏الصم‏}‏ نصباً ‏{‏الدعاء‏}‏ رفعاً بيسمع، أسند الفعل إلى الدعاء اتساعاً والمفعول الثاني محذوف، كأنه قيل‏:‏ ولا يسمع النداء الصم شيئاً‏.‏

ثم أخبر تعالى أن هؤلاء الذين صموا عن سماع ما أنذروا به إذا نالهم شيء مما أنذروا به، ولو كان يسيراً نادوا بالهلاك وأقروا بأنهم كانوا ظالمين، نبهوا على العلة التي أوجبت لهم العذاب وهو ظلم الكفر وذلوا وأذعنوا‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏نفحة‏}‏ طرف وعنه هو الجوع الذي نزل بمكة‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ نصيب من قولهم نفح له من العطاء نفحة إذا أعطاه نصيباً وفي قوله ‏{‏ولئن مستهم نفحة‏}‏ ثلاث مبالغات لفظ المس، وما في مدلول النفح من القلة إذ هو الربح اليسير أو ما يرضخ من العطية، وبناء المرة منه ولم يأت نفح فالمعنى أنه بأدنى إصابة من أقل العذاب أذعنوا وخضعوا وأقروا بأن سبب ذلك ظلمهم السابق‏.‏

ولما ذكر حالهم في الدنيا إذا أصيبوا بشيء استطرد لما يكون في الآخرة التي هي مقر الثواب والعقاب، فأخبر تعالى عن عدله وأسند ذلك إلى نفسه بنون العظمة فقال ‏{‏ونضع الموازين‏}‏ وتقدم الكلام في الموازين في أول الأعراف، واختلاف الناس في ذلك هل ثم ميزان حقيقة وهو قول الجمهور أو ذلك على سبيل التمثيل عن المبالغة في العدل التام وهو قول الضحاك وقتادة‏؟‏ قالا‏:‏ ليس ثم ميزان ولكنه العدل والقسط مصدر وصفت به الموازين مبالغة كأنها جعلت في أنفسها القسط، أو على حذف مضاف أي ذوات ‏{‏القسط‏}‏ ويجوز أن يكون مفعولاً لأجله أي لأجل ‏{‏القسط‏}‏‏.‏ وقرئ القصط بالصاد‏.‏ واللام في ‏{‏ليوم القيامة‏}‏ قال الزمخشري‏:‏ مثلها في قولك‏:‏ جئت لخمس ليال خلون من الشهر‏.‏ ومنه بيت النابغة‏:‏

ترسمت آيات لها فعرفتها *** لستة أعوام وذا العام سابع

انتهى‏.‏ وذهب الكوفيون إلى أن اللام تكون بمعنى في ووافقهم ابن قتيبة من المتقدمين، وابن مالك من أصحابنا المتأخرين، وجعل من ذلك قوله ‏{‏القسط ليوم القيامة‏}‏ أي في يوم، وكذلك لا يجليها لوقتها إلاّ هو أي في وقتها وأنشد شاهداً على ذلك لمسكين الدارمي‏:‏

أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم *** كما قد مضى من قبل عاد وتبع

وقول الآخر‏:‏

وكل أب وابن وإن عمرا معاً *** مقيمين مفقود لوقت وفاقد

وقيل اللام هنا للتعليل على حذف مضاف، أي لحساب يوم القيامة و‏{‏شيئاً‏}‏ مفعول ثان أو مصدر‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏مثقال‏}‏ بالنصب خبر ‏{‏كان‏}‏ أي وإن كان الشيء أو وإن كان العمل وكذا في لقمان، وقرأ زيد بن عليّ وأبو جعفر وشيبة ونافع ‏{‏مثقال‏}‏ بالرفع على الفاعلية و‏{‏كان‏}‏ تامة‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏أتينا‏}‏ من الإتيان أي جئنا بها، وكذا قرأ أُبي أعني جئنا وكأنه تفسير لأتينا‏.‏ وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن جبير وابن أبي إسحاق والعلاء بن سيابة وجعفر بن محمد وابن شريح الأصبهاني آتينا بمده على وزن فاعلنا من المواتاة وهي المجازاة والمكافأة، فمعناه جازينا بها ولذلك تعدى بحرف جر، ولو كان على أفعلنا من الإيتاء بالمد على ما توهمه بعضهم لتعدى مطلقاً دون جاز قاله أبو الفضل الرّازي‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء انتهى‏.‏

وقال ابن عطية على معنى‏:‏ و‏{‏أتينا‏}‏ من المواتاة، ولو كان آتينا أعطينا لما تعدت بحرف جرّ، ويوهن هذه القراءة أن بدل الواو المفتوحة همزة ليس بمعروف، وإنما يعرف ذلك في المضمومة والمكسورة انتهى‏.‏ وقرأ حميد‏:‏ أثبنا بها من الثواب وأنث الضمير في ‏{‏بها‏}‏ وهو عائد على مذكر وهو ‏{‏مثقال‏}‏ لإضافته إلى مؤنث ‏{‏كفى بنا حاسبين‏}‏ فيه توعد وهو إشارة إلى ضبط أعمالهم من الحساب وهو العدّ والإحصاء، والمعنى أنه لا يغيب عنا شيء من أعمالهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو كناية عن المجازاة، والظاهر أن ‏{‏حاسبين‏}‏ تمييز لقبوله من، ويجوز أن يكون حالاً‏.‏

ولما ذكر ما أتى به رسوله صلى الله عليه وسلم من الذكر وحال مشركي العرب معه، وقال‏:‏ ‏{‏قل إنما أنذركم بالوحي‏}‏ أتبعه بأنه عادة الله في أنبيائه فذكر ما آتى ‏{‏موسى وهارون‏}‏ إشارة إلى قصتهما مع قومهما مع ما أوتوا من الفرقان والضياء والذكر، ثم نبه على ما آتى رسوله من الذكر المبارك ثم استفهم على سبيل الذكر على إنكارهم ثم نبه على ما آتى رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏ و‏{‏الفرقان‏}‏ التوراة وهو الضياء، والذكر أي كتاباً هو فرقان وضياء، وذكر ويدل على هذا المعنى قراءة ابن عباس وعكرمة والضحاك ضياء وذكراً بغير واو في ضياء‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ القرآن ما رزقه الله من نصره وظهور حجته وغير ذلك، مما فرق بين أمره وأمر فرعون والضياء التوراة، والذكر التذكرة والموعظة أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم أو الشرف والعطف بالواو يؤذن بالتغاير‏.‏ وعن ابن عباس ‏{‏الفرقان‏}‏ الفتح لقوله ‏{‏يوم الفرقان‏}‏ وعن الضحاك‏:‏ فلق البحر‏.‏ وعن محمد بن كعب‏:‏ المخرج من الشبهات و‏{‏الذين‏}‏ صفة تابعة أو مقطوعة برفع أو نصب أو بدل‏.‏

ولما ذكر التقوى ذكر ما أنتجته وهو خشية الله والإشفاق من عذاب يوم القيامة والساعة القيامة وبالغيب‏.‏ قال الجمهور‏:‏ يخافونه ولم يروه‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ يخافون عذابه ولم يروه‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يخافونه من حيث لا يراهم أحد ورجحه ابن عطية‏.‏ وقال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ يخافونه إذا غابوا عن أعين الناس، والإشفاق شدة الخوف، واحتمل أن يكون قوله ‏{‏وهم من الساعة مشفقون‏}‏ استئناف إخبار عنهم، وأن يكون معطوفاً على صلة ‏{‏الذين‏}‏، وتكون الصلة الأولى مشعرة بالتجدّد دائماً كأنها حالتهم فيما يتعلق بالدنيا، والصلة الثانية من مبتدأ وخبر عنه بالاسم المشعر بثبوت الوصف كأنها حالتهم فيما يتعلق بالآخرة‏.‏

ولما ذكر ما آتى موسى وهارون عليهما السلام أشار إلى ما آتى محمداً صلى الله عليه وسلم فقال ‏{‏وهذا‏}‏ أي القرآن ‏{‏ذكر مبارك‏}‏ أي كثير منافعه غزير خبره، وجاء هنا الوصف بالاسم ثم بالجملة جرياً على الأشهر وتقدم الكلام على قوله في الأنعام ‏{‏وهذا كتاب أنزلناه مبارك‏}‏ وبينا هناك حكمة تقديم الجملة على الاسم ‏{‏أفأنتم له منكرون‏}‏ استفهام إنكار وتوبيخ وهو خطاب للمشركين، والضمير في ‏{‏له‏}‏ عائد على ذكر وهو القرآن، وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم إذا أنكر ذلك المشركون كما أنكر أسلاف اليهود ما أنزل الله على موسى عليه السلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 58‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ‏(‏51‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ‏(‏52‏)‏ قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ‏(‏53‏)‏ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏54‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ‏(‏55‏)‏ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏56‏)‏ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ‏(‏57‏)‏ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

التمثال‏:‏ الصورة المصنوعة مشبهة بمخلوق من مخلوقات الله تعالى، مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به‏.‏ قال الشاعر‏:‏

ويا رب يوم قد لهوت وليلة *** بآنسة كأنها خط تمثال

الجذ‏:‏ القطع‏.‏ قال الشاعر‏:‏

بنو المهلب جذ الله دابرهم *** أمسوا رماداً فلا أصل ولا طرف

‏{‏ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهنّ وأنا على ذلكم من الشاهدين وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذاً إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون‏}‏‏.‏

لما تقدم الكلام في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أتبع ذلك بثلاثة عشر نبياً غير مراعي في ذكرهم الترتيب الزماني، وذكر بعض ما نال كثيراً منهم من الابتلاء كل ذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وليتأسى بهم فيما جرى عليه من قومه‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏رُشْده‏}‏ بضم الراء وسكون الشين‏.‏ وقرأ عيسى الثقفى ‏{‏رَشَدة‏}‏ بفتح الراء والشين وأضاف الرشد إلى ‏{‏إبراهيم‏}‏ بمعنى أنه رشد مثله وهو رشد الأنبياء وله شأن أيّ شأن، والرشد النبوة والاهتداء إلى وجوه الصلاح في الدين والدنيا، أو هما داخلان تحت الرشد أو الصحف والحكمة أو التوفيق للخير صغيراً أقوال خمسة، والمضاف إليه من قبل محذوف وهو معرفة ولذلك بنى ‏{‏قبل‏}‏ أي ‏{‏من قبل‏}‏ موسى وهارون قاله الضحاك كقوله في الأنعام ‏{‏ونوحاً هدينا من قبل‏}‏ أي من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وأبعد من ذهب إلى أن التقدير ‏{‏من قبل‏}‏ بلوغه أو ‏{‏من قبل‏}‏ نبوته يعني حين كان في صلب آدم‏.‏ وأخذ ميثاق الأنبياء، أو من قبل محمد صلى الله عليه وسلم لأنها محذوفات لا يدل على حذفها دليل بخلاف ‏{‏من قبل‏}‏ موسى وهارون لتقدم ذكرهما‏.‏ وقربه، والضمير في ‏{‏به‏}‏ الظاهر أنه عائد على إبراهيم‏.‏ وقيل‏:‏ على الرشد وعلمه تعالى أنه علم منه أحوالاً عجيبة وأسراراً بديعة فأهله لخلته كقوله‏:‏ الله أعلم حيث يجعل رسالاته، وهذا من أعظم المدح وأبلغه إذ أخبر تعالى أنه آتاه الرشد وأنه عالم بما آتاه به عليه السلام‏.‏

ثم استطرد من ذلك إلى تفسير الرشد وهو الدعاء إلى توحيد الله ورفض ما عبد من دونه‏.‏ و‏{‏إذ‏}‏ معمولة لآتينا أو ‏{‏رشدة‏}‏ و‏{‏عالمين‏}‏ وبمحذوف أي اذكر من أوقات رشده هذا الوقت، وبدأ أولاً بذكر أبيه لأنه الأهم عنده في النصيحة وإنقاذه من الضلال ثم عطف عليه ‏{‏قومه‏}‏ كقوله ‏{‏وأنذر عشيرتك الأقربين‏}‏ وفي قوله ‏{‏ما هذه التماثيل‏}‏ تحقير لها وتصغير لشأنها وتجاهل بها مع علمه بها وبتعظيمهم لها‏.‏

وفي خطابه لهم بقوله ‏{‏أنتم‏}‏ استهانة بهم وتوقيف على سوء صنيعهم، وعكف يتعدى بعلى كقوله ‏{‏يعكفون على أصنام لهم‏}‏ فقيل ‏{‏لها‏}‏ هنا بمعنى عليها كما قيل في قوله ‏{‏وإن أسأتم فلها‏}‏ والظاهر أن اللام في ‏{‏لها‏}‏ لام التعليل أي لتعظيمها، وصلة ‏{‏عاكفون‏}‏ محذوفة أي على عبادتها‏.‏ وقيل‏:‏ ضمن ‏{‏عاكفون‏}‏ معنى عابدين فعداه باللام‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ لم ينو للعاكفين محذوفاً وأجراه مجرى ما لا يتعدى كقوله فاعلون العكوف لها أو واقفون لها انتهى‏.‏

ولما سألهم أجابوه بالتقليد البحت، وأنه فعل آبائهم اقتدوا به من غير ذكر برهان، وما أقبح هذا التقليد الذي أدى بهم إلى عبادة خشب وحجر ومعدن ولجاجهم في ذلك ونصرة تقليدهم وكان سؤاله إياهم عن عبادة التماثيل وغايته أن يذكروا شبهة في ذلك فيبطلها، فلما أجابوه بما لا شبهة لهم فيه وبدا ضلالهم ‏{‏قال‏:‏ لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين‏}‏ أي في حيرة واضحة لا التباس فيها، وحكم بالضلال على المقلدين والمقلدين وجعل الضلال مستقراً لهم و‏{‏أنتم‏}‏ توكيد للضمير الذي هو اسم ‏{‏كان‏}‏ قال الزمخشري‏:‏ و‏{‏أنتم‏}‏ من التأكيد الذي لا يصح الكلام مع الإخلال به لأن العطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع ونحوه ‏{‏اسكن أنت وزوجك الجنة‏}‏ انتهى، وليس هذا حكماً مجمعاً عليه فلا يصح الكلام مع الإخلال به لأن الكوفيين يجيزون العطف على الضمير المتصل المرفوع من غير تأكيد بالضمير المنفصل المرفوع، ولا فصل وتنظيره ذلك‏:‏ باسكن أنت وزوجك الجنة مخالف لمذهبه في ‏{‏اسكن أنت وزوجك‏}‏ لأنه يزعم أن وزوجك ليس معطوفاً على الضمير المستكن في ‏{‏اسكن‏}‏ بل قوله‏:‏ ‏{‏وزوجك‏}‏ مرتفع على إضمار، وليسكن فهو عنده من عطف الجمل وقوله هذا مخالف لمذهب سيبويه‏.‏

ولما جرى هذا السؤال وهذا الجواب تعجبوا من تضليله إياهم إذ كان قد نشأ بينهم وجوزوا أن ما قاله هو على سبيل المزاح لا الجد، فاستفهموه أهذا جد منه أم لعب والضمير في ‏{‏قالوا‏}‏ عائد عى أبيه وقومه و‏{‏بالحق‏}‏ متعلق بقولهم ‏{‏أجئتنا‏}‏ ولم يريدوا حقيقة المجيء لأنه لم يكن عنهم غائباً فجاءهم وهو نظير ‏{‏قال أو لو جئتك بشيء مبين‏}‏ والحق هنا ضد الباطل وهو الجد، ولذلك قابلوه باللعب، وجاءت الجملة اسمية لكونها أثبت كأنهم حكموا عليه بأنه لاعب هازل في مقالته لهم ولكونها فاصلة‏.‏

ثم أضرب عن قولهم وأخبر عن الجد وأن المالك لهم والمستحق العبادة هو ربهم ورب هذا العالم العلوي والعالم السفلي المندرج فيه أنتم ومعبوداتكم نبه على الموجب للعبادة وهو منشئ هذا العالم ومخترعه من العدم الصرف‏.‏ والظاهر أن الضمير في ‏{‏فطرهن‏}‏ عائد على السموات والأرض، ولما لم تكن السموات والأرض تبلغ في العدد الكثير منه جاء الضمير ضمير القلة‏.‏ وقيل في ‏{‏فطرهن‏}‏ عائد على التماثيل‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم انتهى‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ‏{‏فطرهن‏}‏ عبارة عنها كأنها تعقل، هذه من حيث لها طاعة وانقياد وقد وصفت في مواضع بما يوصف به من يعقل‏.‏ وقال غير ‏{‏فطرهن‏}‏ أعاد ضمير من يعقل لما صدر منهن من الأحوال التي تدل على أنها من قبيل من يعقل، فإن الله أخبر بقوله ‏{‏قالتا أتينا طائعين‏}‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أطلت السماء وحق لها أن تئط» انتهى‏.‏ وكأن ابن عطية وهذا القائل تخيلاً أن هن من الضمائر التي تخص من يعقل من المؤنثات وليس كذلك بل هو لفظ مشترك بين من يعقل وما لا يعقل من المؤنث المجموع ومن ذلك قوله ‏{‏فلا تظلموا فيهن أنفسكم‏}‏ والضمير عائد على الأربعة الحرم، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ إلى ربوبيته تعالى ووصفه بالاختراع لهذا العالم و‏{‏من‏}‏ للتبعيض أي الذين يشهدون بالربوبية كثيرون، وأنا بعض منهم أي ما قلته أمر مفروغ منه عليه شهود كثيرون فهو مقال مصحح بالشهود‏.‏ و‏{‏على ذلكم‏}‏ متعلق بمحذوف تقديره ‏{‏وأنا‏}‏ شاهد ‏{‏على ذلكم من الشاهدين‏}‏ أو على جهة البيان أي أعني ‏{‏على ذلكم‏}‏ أو باسم الفاعل وإن كان في صلة أل لاتساعهم في الظرف والمجرور أقوال تقدمت في ‏{‏إني لكما لمن الناصحين‏}‏ وبادرهم أولاً بالقول المنبه على دلالة العقل فلم ينتفعوا بالقول، فانتقل إلى القول الدال على الفعل الذي مآله إلى الدلالة التامّة على عدم الفائدة في عبارة ما يتسلط عليه بالكسر والتقطيع وهو لا يدفع ولا يضر ولا ينفع ولا يشعر بما ورد عليه من فك أجزائه فقال‏:‏ ‏{‏وتالله لأكيدن أصنامكم‏}‏ وقرأ الجمهور ‏{‏وتالله‏}‏ بالتاء‏.‏ وقرأ معاذ بن جبل وأحمد بن حنبل بالله بالباء بواحدة من أسفل‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ ما الفرق بين التاء والباء‏؟‏ قلت‏:‏ إن الباء هي الأصل والتاء بدل من الواو المبدل منها، وإن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب، كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده وتأتيه لأن ذلك كان أمراً مقنوطاً منه لصعوبته وتعذره، ولعمري إن مثله صعب متعذر في كل زمان خصوصاً في زمن نمرود مع عتوّه واستكباره وقوّة سلطانه وتهالكه على نصر دينه ولكن‏:‏

إذا الله سنى عقد شيء تيسرا *** انتهى‏.‏ أما قوله الباء هي الأصل إنما كانت أصلاً لأنها أوسع حروف القسم إذ تدخل على الظاهر، والمضمر ويصرح بفعل القسم معها وتحذف وأما أن التاء بدل من واو القسم الذي أبدل من باء القسم فشيء قاله كثير من النحاة، ولا يقوم على ذلك دليل وقد رد هذا القول السهيلي والذي يقتضيه النظر أنه ليس شيء منها أصلاً لآخر‏.‏ وأما قوله‏:‏ إن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب فنصوص النحاة أن التاء يجوز أن يكون معها تعجب، ويجوز أن لا يكون واللام هي التي يلزمها التعجب في القسم‏.‏

والكيد الاحتيال في وصول الضرر إلى المكيد، والظاهر أن هذه الجملة خاطب بها أباه وقومه وأنها مندرجة تحت القول من قوله ‏{‏قال بل ربكم‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ قال ذلك سرًّا من قومه وسمعه رجل واحد‏.‏ وقيل‏:‏ سمعه قوم من ضعفتهم ممن كان يسير في آخر الناس يوم خرجوا إلى العيد وكانت الأصنام سبعين‏.‏ وقيل‏:‏ اثنين وسبعين‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏تولوا مدبرين‏}‏ مضارع ولّى‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر ‏{‏تولوا‏}‏ فحذف إحدى التاءين وهي الثانية على مذهب البصريين‏.‏ والأولى على مذهب هشام وهو مضارع تولى وهو موافق لقوله ‏{‏فتولوا عنه مدبرين‏}‏ ومتعلق ‏{‏تولوا‏}‏ محذوف أي إلى عيدكم‏.‏ وروي أن آزر خرج به في يوم عيد لهم فبدؤوا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعاماً خرجوا به معهم، وقالوا‏:‏ لن ترجع بركة الآلهة على طعامنا فذهبوا، فلما كان في الطريق ثنى عزمه عن المسير معهم فقعد وقال‏:‏ إني سقيم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ كان إبراهيم من أهل بيت ينظرون في النجوم، وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلا مريضاً فأتاهم إبراهيم بالذي هم فيه فنظر قبل يوم العيد إلى السماء وقال لأصحابه‏:‏ إني أشتكي غداً وأصبح معصوب الرأس فخرجوا ولم يتخلف أحد غيره، وقال ‏{‏وتالله لأكيدن‏}‏ إلى آخره وسمعه رجل فحفظه ثم أخبر به فانتشر انتهى‏.‏

وفي الكلام حذف تقديره فتولوا إلى عيدهم فأتى إبراهيم الأصنام ‏{‏فجعلهم جذاذاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ حطاماً‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ أخذ من كل عضوين عضواً‏.‏ وقيل‏:‏ وكانت الأصنام مصطفة وصنم منها عظيم مستقبل الباب من ذهب وفي عينيه درتان مضيئتان، فكسرها بفأس إلا ذلك الصنم وعلق الفأس في عنقه‏.‏ وقيل‏:‏ علقه في يده‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏جُذاذاً‏}‏ بضم الجيم والكسائي وابن محيصن وابن مقسم وأبو حيوة وحميد والأعمش في رواية بكسرها، وابن عباس وأبو نهيك وأبو السماك بفتحها وهي لغات أجودها الضم كالحطام والرفات قاله أبو حاتم‏.‏ وقال اليزيدي ‏{‏جذاذاً‏}‏ بالضم جمع جذاذة كزجاج وزجاجة‏.‏ وقيل‏:‏ بالكسر جمع جذيذ ككريم وكرام‏.‏ وقيل‏:‏ الفتح مصدر كالحصاد بمعنى المحصود فالمعنى مجذوذين‏.‏ وقال قطرب في لغاته الثلاث هو مصدر لا يثنى ولا يجمع‏.‏ وقرأ يحيى بن وثاب‏:‏ جذاذاً بضمتين جمع جذيذ كجديد وجدد‏.‏ وقرئ جُذَذاً بضم الجيم وفتح الذال مخففاً من فعل كسر وفي سرر جمع سرير وهي لغة لكلب، أو جمع جذة كقبة وقبب‏.‏

وأتى بضمير من يعقل في قوله ‏{‏فجعلهم‏}‏ إذ كانت تعبد وقوله ‏{‏إلا كبيراً لهم‏}‏ استثناء من الضمير في ‏{‏فجعلهم‏}‏ أي فلم يكسره، والضمير في ‏{‏لهم‏}‏ يحتمل أن يعود على الأصنام وأن يعود على عباده، والكبر هنا عظم الجثة أو كبيراً في المنزلة عندهم لكونهم صاغوه من ذهب وجعلوا في عينيه جوهرتين تضيئان بالليل، والضمير في ‏{‏إليه‏}‏ عائد على إبراهيم أي فعل ذلك ترجياً منه أن يعقب ذلك رجعه إليه وإلى شرعه‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ وإنما استبقى الكبير لأنه غلب في ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه لما تسامعوه من إنكار لدينهم وسبه لآلهتهم فيبكتهم بما أجاب به من قوله ‏{‏بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم‏}‏ وقال ابن عطية‏:‏ يحتمل أن يعود إلى الكبير المتروك ولكن يضعف ذلك دخول الترجي في الكلام انتهى وهو قول الكلبي‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ومعنى هذا لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات، فيقولون ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحاً والفأس على عاتقك قال‏:‏ هذا بناء على ظنه بهم لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم واعتقادهم في آلهتهم وتعظيمهم لها أو قاله مع علمه أنهم لا يرجعون إليه استهزاء بهم واستجهالاً، وإن قياس حال من يسجد له ويؤهل للعبادة أن يرجع إليه في حل المشكل فإن قلت‏:‏ فإذا رجعوا إلى الصنم بمكابرتهم لعقولهم ورسوخ الإشراك في أعراقهم فأي فائدة دينية في رجوعهم إليه حتى يجعله إبراهيم صلوات الله عليه غرضاً‏؟‏ قلت‏:‏ إذا رجعوا إليه تبين أنه عاجز لا ينفع ولا يضر وظهر أنهم في عبادته على أمرعظيم‏.‏