فصل: تفسير الآيات (1- 9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.سورة التكاثر:

.تفسير الآيات (1- 8):

{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ألهاكم التكاثُر} أي: شغلكم التغالب في الكثرة والتفاخر بها. رُوي أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا، وتعادُّوا بالسادة والأشراف، فقال كُلُّ فريق منهم: نحن أكثر منكم سيداً، وأعز عزيزاً، وأعظم نفراً، فكثرهم بنو عبد مناف، فقالت بنو سهم: إنَّ البغي في الجاهلية أهلكنا، فعادّونا بالأحياء والأموات، ففعلوا، وقالوا: قبر فلان، وهذا قبر فلان، فكثرهم بنو سهم. والمعنى: أنكم تكاثرتم بالأحياء {حتى زُرتم المقابر} أي: إذا استوعبتم عددكم صرتم إلى الأموات، فعبّر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة القبور تهكُّماً بهم. وقيل: كانوا يزورون القبور، ويقولون هذا قبر فلان، يفتخرون بذلك، وقيل: المعنى: ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد، حتى متُّم وقُبرتم مضيعين أعماركم في طلب الدنيا، معرضين عما يمهمكم من السعي للآخرة، فيكون زيارة القبور عبارة عن الموت.
قال عبد الله بن الشخِّير: قرأ النبيًّ صلى الله عليه وسلم {ألهاكم التكاثر} فقال: «يقول ابن آدم: ما لي، وليس له من ماله إلا ثلاث، ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تَصَدَّق فأبقى» وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس. واللام في {التكاثر} للعهد الذهني، وهو التكاثر بما يشغل عن الله، فلا يشمل التكاثر في العلوم والمعارف والطاعات والأخلاق، فإنَّ ذلك مطلوب؛ لأنَّ بذلك تُنال السعادة في الدارين، وقرينة ذلك قوله تعالى: {ألهاكم} فإنه خاص بما يُلهي عن ذكر الله والاستعداد للآخرة، حتى أنه لو تناول الدنيا على ذكر الله لم تُذمّ وليست بلهو حينئذ، ولذلك جاء: «الدنيا ملعونةٌ ملعون ما فيها إلاّ ذكر الله وما والاه» قال الإمامُ: ولم يقل: ألهاكم التكاثر عن كذا، بل تركه مطلقاً؛ ليدخل تحته جميع ما يحتمله اللفظ، فهو أبلغ؛ لأنه يذهب فيه الوهم كُلَّ مذهب، أي: ألهاكُم عن ذكر الله، وعن التفكًّر في أمور القارعة، وعن الاستعداد لها، وغير ذلك. اهـ.
وقال بان عطية في قوله: {حتى زُرتم المقابرَ}: عن عمر بن عبد العزيز، قال: الآية: تأنيب عن الإكثار من زيارة القبور تكثُّراً بمَن سلف وإشادة عن ذكره، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتُكم عن زيارة القبور فزوروها، ولا تقولوا هُجْراً» فكان نهيه صلى الله عليه وسلم في معنى الآية، ثم أباح بَعْدُ للاتعاظ، لا لمعنى المباهاة والافتخار، كما يصنع الناس في ملازمتها وتعليتها بالحجارة والرخام، وتلوينها شرفاً وبنيان النواويس عليها. اهـ.
وقال ابن عرفة: زيارة المقابر محدودة، أي: كيوم في شهر، مثلاً، وكان بعضهم يقول: إذا رأيتم الطالب في ابتداء أمره يستكثر من زيارة المقابر، ومن مطالعة رسالة القشيري، فاعلم أنه لا يفلح؛ لاشتغاله عن طلب العلم بما لا يُجدي شيئاً. اهـ. أي: لا يفوز بعلم الظاهر؛ لأنَّ علم الباطن يُفتِّر عن الظاهر، فينبغي لمَن كان فيه أهلية للعلم أن يفرده، حتى يحرز منه ما قسم له، ثم يشتغل بعلم الباطن، بصُحبة أهله، وإلاَّ فمطالعة الكتب بلا شيخ لا توصل إليه، وإنما ينال بمحبة القوم فقط، وفيها مقنع لمَن ضعفت همته.
ثم زجر عن التكاثر فقال: {كَلاَّ} أي: ليس الأمر على ما أنتم عليه، أو كما يتوهمه هؤلاء، فهو رَدْع وتنيبه على أنَّ العاقل ينبغي ألاَّ يكون معظم همه مقصوراً على الدنيا، فإنَّ عاقبة ذلك وخيمة، {سوف تعلمون} سوء عاقبة ما أنتم عليه إذا عاينتم عاقبته، {ثم كّلاَّ سوف تعلمون}، تكرير للتأكيد، و{ثم} دلالة على أنَّ الثاني أبلغ من الأول، والأول عند الموت أو في القبر، والثاني عند النشور.
{كَلاَّ لو تعلمون عِلمَ اليقين} أي: لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين، كعلمكم ما تستيقنونه لفعلتم من الطاعات ما لا يوصف، ولا يكتنه كنهة، فحذف الجواب للتهويل. قال الفخر: الآية تهديد عظيم للعلماء، فإنها دلّت على أنه لو حصل اليقين بما في التكاثر من الآفة لتركوا التكاثر والتفاخر، وهذا يقتضي أنَّ مَن لا يترك التكاثر والتفاخر لا يكون اليقين حاصلاً له، فالويل للعالم الذي لا يكون عاملاً، ثم الويل له. اهـ. {لَتَرَوُنَّ الجحيمَ}: جواب قسم محذوف، أكّد به الوعيد وشدّد به التهديد، {ثم لَتَرَوُنَّها}: تكرير للتأكيد، أو: الأولى إذا رأتهم من مكان بعيد، والثانية إذا وردوها، أو الأولى بالقلب، والثانية بالعين، ولذلك قال: {عَينَ اليقين} أي: الرؤية التي هي نفس اليقين وحاصلته، فإنَّ علم المشاهدة أقْصَى مراتب اليقين. {ثم لتُسألُن يومئذٍ عن النعيم} أي: عن النعيم الذي ألهاكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه، فإنَّ الخطاب مخصوص بمَن عكفت همته على استيفاء اللذات، ولم يعش إلاَّ ليأكل الطَيّب، ويلبس الطَيّب، وقطع أوقاته في اللهو والطرب، لا يعبأ بالعلم والعمل، ولا يحمل نفسه على مشاق الطاعة، فأمّا مَن تمتّع بنعمة الله تعالى، وتقوّى بها على طاعته، قائماً بالشكر، فهو من ذلك بمعزلٍ بعيد. وفي الحديث: «يقول الله تبارك وتعالى: ثلاث من النعم لا اسأل عبدي عن شكرهن، وأسأله عما سواه: بيت يكنُّه وما يُقيم به صلبه من الطعام، وما يُواري به عورَته من اللباس» فالخلائق مسؤولون يوم القيامة عما أنعم عليهم به في الدنيا. والله تعالى أعلم بحالهم، فالكافر يُسأل تبكيتاً وتوبيخاً على شِركه بمَن أنعم عليه، والمؤمن يُسأل عن شكر ما أنعم عليه. اهـ.
قلت: فكل مَن استعمل الأدب في تناول النعمة، بأن شَهِدَها من المنعِم بها، وذكر الله عند أخذها أو أَكْلِها وشكر عند تمامها، فلا يتوجه إليه سؤال أو يتوجه إظهاراً لمزيته وشرفه، وعليه يتنزّل قوله صلى الله عليه وسلم: «هذا من النعيم الذي تُسألون عنه» في حديث أبي الهيثم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد، أو بالعلوم الرسمية، عن التوجُّه إلى الله، لتحصيل معرفة العيان، حتى متُّم غافلين، كلاَّ سوف تعلمون عاقبةَ أمركم، حين يرتفع أهل العيان مع المقربين، وتبقوا معاشر أهل الدليل مع عامة أهل اليمين، كلاَّ لو تعلمون علم اليقين؛ لتوجهتم إليه بكل حال لَترون الجحيم، أي: نار القطيعة ثم لَترونها عين اليقين، ثم لتُسألن يومئذ عن النعيم، هل قمتم بشكره أو لا، وشكره: شهود المنعِم في النعمة، فقد رأيتُ في عالم النوم شيخين كبيرين، فقلت لهما: ما حقيقة الشكر؟ فقال أحدهما: ألاَّ يُعصى بنعمه، فقلت: هذا شكر العوام، فما شكر الخواص؟ فسكتا، فقلت لهما: شكر الخواص: الاستغراق في شهود المنعِم. اهـ. وهو كذلك؛ لأنَّ عدم العصيان بالنِعم يحصل من بعض الأبرار كالعُبَّاد والزُهَّاد، بخلاف الاستغراق في الشهود، فإنه خاص بأهل العرفان، أهل الرسوخ والتمكين وقد تقدّم في سورة المعارج التفريق بين علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.

.سورة العصر:

.تفسير الآيات (1- 3):

{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}
يقول الحق جلّ جلاله: {والعَصْرِ} أقسم تعالى بصلاة العصر لفضلها الباهر، إذ قيل: هِي الصلاة الوسطى، أو: بالعشيِّ الذي هو مابين الزوال والغروب، كما أقسم بالضُحى، أو بعصر النبوة، لظهور فضله على سائر الأعصار، أو بالدهر مطلقاً؛ لانطوائه على تعاجيب الأمور النافعة والضارة، وجوابه: {إِنَّ الإِنسانَ لفي خُسْرٍ}؛ لفي خسران في متاجرهم ومساعيهم، وصرف أعمارهم في حظوظهم وأمانيهم. {إلاَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات} فإنهم اشتروا الآخرة بالدنيا، فربحوا وسعدوا، أو: فإنهم في تجارةٍ لن تبور، حيث باعوا الفاني الخسيس، وآثروا الباقي النفيس، واستبدلوا الباقيات الصالحات بالعاديات الرائحات فيا لها من صفقة ما أربحها!.
وهذا بيان لتكميلهم لأنفسهم، وقوله تعالى: {وتواصَوْا بالحق} بيان لتكميلهم لغيرهم، أي: وصَّى بعضُهم بعضاً بالأمر الثابت، الذي لا سبيل إلى إنكاره ولا زوال في الدارين لمحاسن آثاره، وهو الخير كله، من الإيمان بالله عزّ وجل، واتباع كتبه ورسله في كل عقد وعمل، {وتواصَوْا بالصبرِ} عن المعاصي التي تُساق إليها النفس الأمّارة، وعلى الطاعة التي يشق عليها أداؤها، وعلى البلية التي تتوجه إليه من جهة قهريته تعالى، وعلى النعمة بالقيام بتمام شكرها، وتخصيص هذا التواصي بالذكر، مع اندراجه تحت التواصي بالحق؛ لإبراز كمال الاعتناء به، أو: لأن الأول عبارة عن رتبة العبادة، التي هي فعل ما يُرضي الله عزّ وجل، والثاني عن العبودية التي هي الرضا بما فعل اللهُ تعالى، فإنَّ المراد ليس مجرد حبس النفس عمّا تتوق إليه من فعلٍ وترك، بل هو تلقي ما يَرِد منه تعالى بالجميل والرضا ظاهراً وباطناً. قاله أبو السعود.
الإشارة: والعصر، أي: عصر الذاكرين، إنَّ الإنسان لفي خُسر، حيث احتجب عن ربه بنفسه وبرؤيته وجوده، إلاّ الذين آمنوا إيمان الخصوص، وعملوا عمل الخصوص، وهو خرق العوائد واكتساب الفوائد، حتى وصلوا إلى كشف الحجاب، فلم يروا مع الله غيره، غابوا عن أنفسهم، وعن وجودهم ووجود غيرهم في شهود محبوبهم فلمّا تكملوا اشتغلوا بتكميل غيرهم، كما قال تعالى: {وتواصَوْا بالحق} أي: بفعل الحق، وهو ما يثقل على النفس حتى لا يثقل عليها شيء، أو بالإقبال على الحق، وتواصَوْا على مشاق السير، ثم على عكوف الهم في حضرة الحق. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلّم.

.سورة الهمزة:

.تفسير الآيات (1- 9):

{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ويلٌ لكل هُمَزَةٍ لُمزةٍ}، {ويل}: مبتدأ، و{لكل}: خبره، والمُسوِّغ: الدعاء عليهم بالهلاك، أو بشدة الشر، والهَمْز: الكسر، واللمز: الطعن، أي: ويل للذي يحط الناس ويُصغِّرهم، ويشتغل بالطعن فيهم. قال ابن جزي: هو على الجملة: الذي يعيب الناسَ ويأكل أعراضَهم، واشتقاقه من الهمز واللمز، وصيغة فعْلَة للمبالغة، واختلف في الفرق بين الكلمتين، فقيل: الهمز في الحضور، واللمز في الغيبة، وقيل العكس، وقيل: الهمز باليد، واللمز باللسان. وقيل: هما سواء. ونزلت السورة في الأخنس بن شريق، لأنه كان كثير الوقيعة في الناس، وقيل: في آميّة بن خلف، وقيل: في الوليد بن المغيرة. ولفظها مع ذلك يعم كل مَن اتصف بهذه الصفة. اهـ. وبناء فُعَلة يدل أن ذلك عادة منه مستمرة.
وقوله: {الذي جَمَعَ مالاً}: بدل من كل، أو: نصب على الذم، وقرأ حمزة والشامي والكسائي {جَمَّعَ} بالتشديد للتكثير، وهو الموافق لقوله: {عدَّده} أي: جعله عُدَّةً لحوادث الدهر، {يَحْسَبُ أنَّ مالَه أخلده} أي: يتركه خالداً في الدنيا لا يموت، وهو تعريض بالعمل الصالح فإنه أخلد صاحبه في النعيم المقيم، فأمَّا المال فما أخلد أحداً، إنما يخلد العلم والعمل، ومنه قول علِيّ كرّم الله وجه: (مات خُزّان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر) فالحسبان إمّا حسبان الخلود في الدنيا أو في الآخرة، كما قال القائل: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي...} [الكهف: 36] الآية.
{كلاَّ} ردع له عن حسبانه. {لَيُنْبَذَنَّ} ليطرحن {في الحُطَمَة} في النار التي من شأنها أن تحطم كلَّ ما يُلقى فيها، {وما أدراك ما الحُطَمَة} تهويل لشأنها، {نارٌ الله الموقدة} أي: هي نار الله التي تتقد بأمر الله وسلطانه، {التي تَطَّلِعُ على الأفئدة} يعني أنها تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم، وتطلع على أفئدتهم، وهي أوساط القلوب، ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من فؤاده ولا أشد تألُّماً منه بأدنى أذى يمسّه، فكيف إذا طلعت عليه نار جهنم، واستولت عليه؟ وقيل: خصّ الأفئدة لأنها مواطن الكفر والعقائد الزائغة، ومعنى اطلاع النار عليها: أنها تشتمل عليها وتعمها.
{إِنها عليهم} أي: النار، أو الحُطَمَة، {مُّؤْصَدَةٌ} مُطبقة {في عَمَدٍ} جمع عماد. وفيه لغتان {عُمُد} بضمتين، و{عَمَد} بفتحتين، {مُمَدَّدة} أي: تؤصد عليهم الأبواب وتُمدّد على الأبواب العمد، استيثاقاً في استيثاق، والجار صفة لمؤصدة. وفي الحديث: «المؤمن كَيِّسٌ فَطنٌ، وقّاف متثبّت، لا يعجل، عالم، ورع، والمنافق هُمزة، لُمزة، حُطَمَة كحاطب الليل، لا يُبالي من أين اكتسب وفيم أنفق».
الإشارة: ويل لمَن اشتغل بعيب الناس عن عيوب نفسه، قال الورتجبي: ويل الحجاب لمَن لا يرى الأشياء بعين المقادير السابقة، حتى يشتغل بالوقيعة في الخلق بالحسد، وهو مقبل على الدنيا بالجمع والمنع. اهـ.
وقوله تعالى: {الذي جَمَعَ مالاً وعدَّدَه} ذّمٌّ لمَن يجمع المال ويُعدده، كائناً مَن كان، والعجب من صُلحاء زماننا، يجمعون القناطير المقنطرة، ويترامون على المقام الكبير من الخصوصية، وما هذا إلاَّ غلط فاحش فأين يوجد القلب مع نجاسة الدنيا؟! وكيف يطهُر وتُشرق فيه الأنوار، وصور الأكوان منطبعة في مرآته؟! وقد قال بعض العارفين: عبادة الأغنياء كالصلاة على المزابل وعبادة الفقراء في مساجد الحضرة. اهـ. {يحسب أنَّ ماله أخلدهُ}، أي: يبقيه بالله، كلا. قال الورتجبي: وَصَفَ الحقُّ تعالى الجاهلَ بالله بأنَّ ماله يُصله إلى الحق، لا والله، لا يصل إلى الحق إلاّ بالحق. وقال أبو بكر بن طاهر: يظن أنَّ مالَه يُوصله إلى مقام الخلد. اهـ. كلاَّ، ليُنبذن في الحُطمة التي تحطم كل ما تُصادمه، وهي حب الدنيا، تحطم كل ما يُلقى في القلب من حلاوة المعاملة أو المعرفة، فلا يبقى معها نور قط، وهي نار الله الموقدة، التي تَطَّلع على الأفئدة، فتُفسد ما فيها من الإيمان والعرفان، إنها عليه مؤصدة، يعني أنَّ الدنيا مُطْبقة عليهم، حتى صارت أكبر همومهم، ومبلغ علمهم. قال الورتجبي: لله نيران، نار القهر ونار اللطف، نار قهره: إبعاد قلوب المنكرين عن ساحة جلاله، ونار لطفه نيران محبته في قلوب أوليائه من المحبين والعارفين. ثم قال: عن جعفر: ونيران المحبة إذا اتقدت في قلب المؤمن تحرق كل همّة غير الله، وكل ذِكْرٍ سوى ذكره. اهـ. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.

.سورة الفيل:

.تفسير الآيات (1- 5):

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ألم تَرَ كيف فَعَلَ ربُّكَ بأصحابِ الفيل} الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، أو لكل سامع، والهَمزة للتقرير، و{كيف} معلقة لفعل الرؤية، منصوبة بما بعدها. والرؤية: علمية، أي: ألم تعلم علماً ضرورياً مزاحماً للمشاهدة والعيان باستماع الأخبار المتواترة، ومعاينة الآثار الظاهرة. وتعليق الرؤية بكيفية فعله عزّ وجل لا بنفسه، بأن يُقال: ألم ترَ ما فعل ربُّك لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئة عجيبة، دالة على عِظم قدرة الله عزّ وجل، وكمال عِلمه وحكمته، وعزة بيته، وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم فإنَّ ذلك مِن الإرهاصات له، لِما رُوي أنَّ الوقعة وقعت في السنة التي وُلد فيها صلى الله عليه وسلم.
وتفصيلها: إنَّ أُبرهة بن الصَبَّاح الأشرم، مالك اليمن من قِبل النجاشي، بنى بصنعاء كنيسة، سماها القُلَّيس، وأراد أن يصرف إليها الحاج، فخرج رجل من كنانة، فأحدث فيها ليلاً، وذكر الواقدي: أنَّ الرجل لطّخ قبلتها بالعذرة، ورمى فيها الجيف، قال: واسمه نفيل الحضرمي فغضب أبرهة، وحلف ليهدمنّ الكعبة، فخرج من الحبشة، ومعه فيل، اسمه محمود وكان قويًّا عظيماً، بعثه النجاشي إليه، ومعه اثنا عشر فيلاً غيره، وقيل: ثمانية، فلما بلغ المُغَمسَ خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع، فأبى وعبّأ جيشه، وقدّم الفيل، فأخذ نفيل بن حبيب بأُذنه، وقال: أبرك محمود، فإنك في حرم الله، وارجع من حيث جئت راشداً، فبرك فكان كُلما وجَّهوه إلى الحرم برك ولم يبرح، وإذا وجَّهوه إلى اليمن أو إلى غيره من الجهات هرول، فأرسل اللهُ عليهم سحابة من الطير خرجت من البحر، مع كل طائر حجر في منقاره، وحجر في رجليه، أكبر من العدسة، وأصغر من الحمّصَةِ، فكان الحجرُ يقع على رأس الرجل، ويخرج من دُبره، وعلى كل حجر اسم مَن يقع عليه، ففرُّوا وهلكوا في كل طريق ومنهل، ورُمي أبرهة فتساقطت أنامله وآرابه، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، وانفلت وزيره أبو يسكوم، وطائر يُحلّق فوقه، حتى بلغ النجاشي، فقصّ عليه القصة، فلما أتمها وقع عليه الحجر، فخرّ ميّتاً بين يديه.
ورُوي: أن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير، فخرج إليه في شأنها، فلما رآه أبرهة عَظُمَ في عينه، وكان وسيماً جسيماً فقيل له: هذا سيّد قريش، وصاحب عير مكّة، الذي يُطعم الناس في السهل، والوحوش في رؤوس الجبال، فنزل أبرهة عن سريره، وجلس معه على بساطه، وقيل: أَجلسه معه، وقال لترجمانه: قل له: ما حاجتك؟ فلما ذكر له حاجته، وهو: أن يرد إليه إبله، قال: سَقَطت من عيني، جئتُ لأهدم البيت، الذي هو دينك ودين آبائك، وعِصمتكم، وشرفكم في قديم الدهر، لا تكلمني فيه، ألهاك عه ذود أُخذت لك؟ فقال عبد المطلب: أنا ربّ الإبل، وإنَّ للبيت ربًّا يحيمه، قال أبرهة: ما كان ليحميه مني، فقال: ها أنت وذلك.
ثم رجع وأتى باب الكعبة وأخذ بحلقته، ومعه نفر من قريش، فدعوا الله عزّ وجل، فالتفت وهو يدعو، فإذا هو بطير من نحو اليمن، فقال: والله إنها لطير غريبة، ما هي نجدية ولا تهامية، فأرسل حلقة الباب، ثم انطلق مع أصحابه ينظرون ماذا يفعل أبرهة، فأرسل الله تعالى عليهم الطير، فكان ما كان.
وقيل: كان أبرهة جد النجاشي، الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وعن عائشة رضي الله عنها: رأيت قائد الفيل وسائقه أعميَيْن مُقعدين يستطعمان.
وقوله تعالى: {ألم يجعل كَيْدَهُمْ في تضليلٍ} بيان إجمالي لما فعل اللهُ بهم والهمزة للتقرير كما سبق ولذلك عطف على الجملة الاستفهامية ما بعدها، كأنه قيل: جعل كيدهم للكعبة وتخريبها في تضييع وإبطال بأن دَمَّرهم أشد تدمير. يقال: ضلّ كيده، أي: جعله ضالاًّ ضائعاً، وقيل لامرئ القيس: الملِك الضلّيلِ؛ لأنه ضيّع ملك أبيه باشتغاله بالهوى.
{وأَرْسَل عليهم طيراً أبابيلَ} أي: جماعات تجيء شيئاً بعد شيء. والجمهور: أنه لا واحد له من لفظه كشماطيط وعبابيد، وقيل: واحدها: إبّالة. قالت عائشة رضي الله عنها: أشبهُ شيء بالخطاطيف. قال أبو الجوز: أنشأها الله في الهواء في ذلك الوقت، وقال محمد بن كعب: طيرد سود بَحرية، وقيل: إنها شبيهة بالوطواط حُمْر وسُود. {ترميهم بحجارةٍ} صفة لطير، {من سِجّيلٍ} من طين متحجر مطبوخ مثل الآجر، قال ابن عباس: «أدركت عند أم هاني نحو قفيز من هذه الحجارة». {فجعلهم كعَصْفٍ مأكولٍ} كورَق زرع وقع فيه الأكل، أي: أكلته الدود، أو: كَتِبن أكلته الدواب فراثته، فجمع لهم الخسة والمهانة والتلف، أو: كتبن علفته الدواب وشتته.
فائدة: قال الغزالي عن غير واحد من الصالحين وأرباب القلوب: إنه مَن قرأ في ركعتي الفجر في الأولى بالفاتحة و{ألم نشرح}، والثانية بالفاتحة و{ألم تر} قََصرت يد كُل عدو عنه، ولو يُجعل لهم إليه سبيلاً قال: وهذا صحيح لا شك فيه. ذكره في الجواهر.
الإشارة: قلب العارف هو كعبة الوجود، وهو بيت الرب، وجيوش الخواطر والوساوس تطلب تخريبه، فيحميه اللهُ منهم، كما حمى بيتَه من أبرهة، فيقال: ألم ترَ أيها السامع كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، وهم الأخلاق البهيمية والسبعية، والخواطر الردية، ألم يجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طير الواردات الإلهية، فرمتهم بحجارة الأذكار وأنوار الأفكار، فأسْحقتهم فجعلتهم كعصفٍ مأكول. والله تعالى أعلم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.