فصل: تفسير الآيات (105- 106):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (105- 106):

{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولقد كتبنا في الزَّبور} كتاب داود عليه السلام، {من بعْدِ الذِّكْرِ}: التوراة، أو اللوح المحفوظ، {أنَّ الأرض} أي: جنس الأرض، يعني: مشارقها ومغاربها، {يرثُها عبادي الصالحون} وهم أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ففي الآية ثناء عليهم وبشارة لهم، وإخبار بظهور غيب تحقق ظهوره في الوجود؛ مِن فَتْح الله على هذه الأمة مشارقَ الأرض ومغاربها، كقوله: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} [النُّور: 55]. وقال القشيري: على قوله: {عبادي الصالحون}: هم أمة محمد- عليه الصلاة والسلام- وهم بجملتهم قوم صالحون لنعمته، وهم المطيعون، وآخرون صالحون لرحمته وهم العاصون. اهـ.
قال في الحاشية الفاسية: والظاهر أن حديث: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله»، مفسر للآية، وموافق لوعدها. قيل: وهذه الطائفة مُفْتَرَقَةً من أنواع المؤمنين، ممن فيه عائدة على الدين ونفع له؛ من شجعان مقاتلين، وفقهاء ومحدِّثين، وزهاد وصالحين، وناهين وآمرين بالمعروف. اهـ. قلت: وعارفين متمكنين، علماء بالله ربانيين. ثم قال: وغير ذلك من أنواع أهل الحسنى، ولا يلزم اجتماعهم، بل يكونون متفرقين في أقطار. اهـ. قلت: وفيه نظر؛ لأن مراد الآية الأمة كلها، كما قال القشيري، ومراد الحديث بعضها، فلا يليق أن يكون تفسيرًا لها، وهي أعم منه. وقيل: المراد بالأرض: أرض الشام، وقيل: أرض الجنة.
ثم قال تعالى: {إِنَّ في هذا} أي: ما ذكر في السورة الكريمة من الأخبار والمواعظ البالغة، والوعد والوعيد، والبراهين القاطعة الدالة على التوحيد وصحة النبوة، {لبلاغًا} أي: كفاية، أو سبب بلوغ إلى البغية، من رضوان الله تعالى، ومحبته، وجزيل ثوابه، فمن تبع القرآن وعمل به، وصل إلى ما يرجو من الثواب العظيم، فالقرآن زادُ الجنة كبلاغ المسافر، فهو بلاغ وزاد {لقومٍ عابدين} أي: لقومٍ همتُهُم العبادة دون العادة. وبالله التوفيق.
الإشارة: قد أورث الله أرضه وبلاده لأهل التوجه إلى الله، والإقبال عليه. فوراثة كل أحد على قدر توجهه وإقباله على مولاه. والمراد بالوراثة: التصرف بالهمة ونفوذ الكلمة في صلاحَ الدين وهداية المخلوقين، وهم على قسمين: قسم يتصرف في ظواهر الخلق بإصلاح ظواهرهم، وهم العلماء الأتقياء، فهم يُبلغون الشرائع والأحكام، لإصلاح نظام الإسلام، وقد تقدم تفصيلهم في سورة التوبة عند قوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ...} [التّوبَة: 122] إلخ، وقسم يتصرفون في بواطنهم؛ وهم أهل التصرف العارفون بالله، على اختلاف مراتبهم؛ من غوث وأقطاب وأوتاد، وأبدال، ونجباء، ونقباء، وصالحين، وشيوخ مربين، فهم يُعالجون بواطن الناس بالتربية بالهمة والحال والمقال، حتى يتطهر مَنْ يصحبهم من الرذائل، ويتحلى بأنواع الفضائل، فيتأهل لحضرة القدس ومحل الأنس. وهؤلاء حازوا الوراثة النبوية كلها، كما قال ابن البنا في مباحثه:
تَبِعَهُ العَالِم في الأقوال ** والعابد الزاهد في الأفعال

وبهما الصوفي في السباق ** لكنه قد زاد بالأخلاق

.تفسير الآيات (107- 112):

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)}
قلت: {رحمة}: مفعول لأجله، أو حال.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وما أرسلناك} يا محمد {إِلا رحمةً للعالمين} أي: ما أرسلناك بما ذكر من الشرائع والأحكام، وغير ذلك؛ مما هو مناط سعادة الدارين، لعلة من العلل، إلا لرحمتنا الواسعة للعالمين قاطبة. أو ما أرسلناك في حال من الأحوال، إلا حال كونك رحمة لهم، فإن ما بُعثتَ به سببٌ لسعادة الدارين، ومنشأ لانتظام مصالحهم في النشأتين، ومن لم يضرب له في هذه المغانم بسهم فإنما أُوتي من قِبل نفسه، حيث فرط في اتّباعه، وقيل: إنه رحمة حتى في حق الكفار في الدنيا؛ بتأخير عذاب الاستئصال، والأمن من المسخ والخسف والغرق، حسبما نطق به قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفَال: 33].
{قل إِنما يوحى إِليّ أَنما إِلهكم إِلهٌ واحد} أي: ما يوحى إليّ إلا أنه لا إله لكم إلا إله واحد؛ لأنه المقصود الأصلي من البعثة، وأما ما عداه فإنما هو من الأحكام المتفرعة عليه، لا يصح بدونه. و{إنما} الأولى: لقصر الحكم على الشيء، كقولك: إنما يقوم زيد، والثانية: لقصر الشيء على الحكم، كقولك: إنما زيد قائم، أي: إنما يُوحى إليّ وحدي أنما إلهكم واحد. {فهل أنتم مسلمون} أي: مخلصون العبادة لله {فإن تولوا} عن الإسلام، ولم يلتفتوا إلى ما يوجبه من استماع الوحي، {فقل آذنتُكم} أي: أعلمتكم ما أُمرت به، أو بمحاربتي لكم ومخالفتي لدينكم، فتكونوا {على سواءٍ}، أو كائنين على سواء في الإعلام به، لم أطوه عن أحد منكم، أو مستوين أنا وأنتم في العلم بما أعلمتكم به من الشرائع، لم أظهر بعضكم على شيء كتمته عن غيره. وفيه دليل بطلان مذهب الباطنية. قيل: وهذه من فصاحة القرآن وبلاغته.
{وإِنْ أَدْرِي} أي: ما أدري {أقريبٌ أم بعيدٌ ما تُوعدون} من البعث والحساب متى يكون؛ لأن الله تعالى لم يُطلعني عليه، ولكن أنبأني أنه آت لا محالة، وكل آت قريب. ولذلك قال: {واقترب الوعد الحق} [الأنبيَاء: 97]، أو: لا أدري متى يحل بكم العذاب، أو ما توعدون من إظهار المسلمين وظهور الدين، {إِنه يعلم الجهرَ من القول ويعلم ما تكتمون} أي: إنه عالم بكل شيء، يعلم ما تجهرون به؛ من الطعن في الإسلام وتكذيب الآيات، وما تكتمونه في صدوركم من الأحقاد للمسلمين، فيجازيكم عليه نقيرًا وقطميرًا. {وإِنْ أدري لعله فتنةٌ لكم} أي: ما أدري لعل تأخير العذاب عنكم في الدنيا امتحان لكم؛ لينظر كيف تعملون، أو استدراج لكم، وزيادة في افتتانكم، {ومتاعٌ إلى حين} أي: تمتع لكم إلى حين موتكم؛ ليكون حجة عليكم، أو إلى أجل مقدر تقتضيه المشيئة المبنية على الحِكَم البالغة.
{قل ربِّ احكُم بالحق} أي: اقض بيننا وبين كفار مكة بالعدل، المقتضي لتعجيل العذاب. فهو كقول شعيب عليه السلام: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} [الأعرَاف: 89]، أو بما يحق عليهم من العذاب، واشدد عليهم، كقوله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وطأَتَكَ عَلَى مُضَرَ»، وقد استجيب دعاؤه- عليه الصلاة والسلام-، حيث عُذبوا ببدر أيّ تعذيب. وقرأ الكسائي وحفص: {قال}؛ حكاية لدعائه صلى الله عليه وسلم. ثم استعان بالله على إبطال ما كانوا يؤملون من النصرة لهم، وتكذيبهم في ذلك، فقال: {وربنا الرحمن}؛ كثير الرحمة على عباده، {المستعان على ما تصفون} من كون الغلبة لكم. كانوا يصفون الحال على خلاف ما جرت عليه، وكانوا يطمعون أن تكون الشركة والغلبة لهم، فكذب الله ظنونهم، وخيّب آمالهم، وغيّر أحوالهم، ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم عليهم، وخذلهم؛ لكفرهم. وبالله التوفيق.
الإشارة: قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: الأنبياء- عليهم السلام- خُلقوا من الرحمة، ونبينا صلى الله عليه وسلم هو عين الرحمة، قال تعالى: {وما أرسلناك إِلا رحمة للعالمين}. اهـ. وقال أيضًا: الأنبياء- عليهم السلام- لأممهم صدقة، ونبينا صلى الله عليه وسلم لنا هدية. قال صلى الله عليه وسلم: «وأنا النعمة المهداة»، فالصدقة للفقراء، والهدية للكبراء. ثم إن غاية الرحمة: الوصول إلى التوحيد الخاص؛ لأنه سبب الزلفى من الله والاختصاص، ولذلك أمره به، بعد أن جعله رحمة، فقال: {قل إنما يُوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحد...} إلخ. فمن أعرض عنه فقد أوذن بالبُعد والطرد. ولعل تأخير العقوبة عنه، في الدنيا، استدراج ومتاع إلى حين.
ثم إن الصارف عن الدخول إلى التوحيد الخاص- وهو توحيد العيان-: القواطع الأربع: النفس، والشيطان، والدنيا، والهوى. زاد بعضهم: الناس- أي: عوام الناس، فإذا حكم الله بين العبد وبين هذه القواطع، وصل إلى صريح المعرفة. {قل ربِّ احكم بالحق}؛ أي: احكم بيني وبين عدوي بحكمك الحق، حتى تدفعه عني وتدمغَهُ، {وربنا الرحمن المستعان} به {على ما تصفون} من التعويق والتشغيب. والله المستعان، وعليه أتوكل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

.سورة الحج:

.تفسير الآيات (1- 2):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)}
قلت: {زلزلة}: مصدر مضاف إلى فاعله على المجاز، أو إلى الظرف، وهي الساعة. و{يوم}: منصوب بتذهل.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الناس اتقوا ربكم}، الخطاب عام لجميع المكلفين ممن وُجد عند النزول، وينخرط في سلكهم من سيُوجد إلى يوم القيامة. ولفظ {الناس} يشمل الذكور والإناث. والمأمور به مطلق التقوى، الذي هو امتثال الأوامر واجتناب النواهي ظاهرًا وباطنًا، والتعرض لعنوان الربوبية، مع إضافتها لضمير المخاطبين؛ لتأكيد الأمر، وتأكيد إيجاب الامتثال به؛ لأن الربوبية دائمة، والعبودية واجبة بدوامها، أي: احذروا عقوبة مالك أموركم ومربيكم.
ثم علل وجوب التقوى بذكر بعض عقوبته الهائلة عند قيام الساعة، فقال: {إِن زلزلة الساعة شيء عظيم}، فإن ملاحظة عظمها وهولها وفظاعة ما هي من مبادئه ومقدماته، مما يوجب مزيد اعتناء بملابسة التقوى والتدرع بها. والزلزلة: التحرك الشديد والإزعاج العنيف، بطريق التكرير، بحيث تزيل الأشياء من مقارها، وتخرجها عن مراكزها، وهي الزلزلة المذكورة في قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} [الزّلزَلة: 1] الآية. واخْتُلِفَ في هذه الزلزلة وما ذكر بعدها، هل هي قيام الساعة عند نفخة الصعق، أو بعدها عند الحشر؟ فقال الحسن رضي الله عنه: إنها تكون يوم القيامة. وعن ابن عباس رضي الله عنه: زلزلة الساعة: قيامها. وعن علقمة والشعبي: أنها قبل طلوع الشمس من مغربها، فإضافتها إلى الساعة؛ لكونها من أشراطها. قال الكواشي: وهذه الزلزلة تكون قبل قيام الساعة من أشراطها. قالوا: ومن أشراط الساعة، قبل قيامها، ست آيات: بينما الناس في أسواقهم، إذ ذهب ضوء الشمس، ثم تناثرت النجوم، ثم وقعت الجبال على وجه الأرض، فتحركت واضطربت الأرض، ففزع الإنسُ والجن، وماج بعض في بعض؛ خوفًا ودهشًا، فقالت الجنُ للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فذهبوا، فرأوا البحار تَأَجَّجُ نارًا، فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض إلى الأرض السابعة، ثم جاءتهم الريح فماتوا. اهـ. وانظر ابن عطية. قاله المحشي. والتحقيق: ما قدمناه عند قوله: {واقترب الوعد الحق} [الأنبيَاء: 97]، وأنَّ الريح إنما تقبض أرواح المؤمنين، وهذه الزلزلة إنما تقع عند نفخة الصعق. والله تعالى أعلم. وفي التعبير ب {شيء عظيم} إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها، والعبارة ضيقة، لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام.
ثم هوَّل شأنها، فقال: {يوم ترونها} أي: الزلزلة، وتُشاهدون هول مطلعها، {تذهل كل مرضعة} أي: مباشرة للإرضاع، {عما أرضعت} أي: تغفل وتغيب، من شدة الدهش عما هي بصدد إرضاعه من طفلها، الذي ألقمته ثديها. فالمرضعة، بالتاء، هي المباشرة الإرضاع بالفعل، والمرضع- بلا تاء- لمن شأنها ترضع، ولو لم تباشر الإرضاع. والتعبير عنه بما، دون من؛ لتأكيد الذهول، كأنها من شدة الهول لا تدري من هو بخصوصه، وقيل: ما مصدرية، أي: تذهل عن إرضاعها.
والأول أدل على شدة الهول وكمال الانزعاج.
{وتضع كل ذات حملٍ حملها} أي: تلقى جنينها من غير تمام، كما أن المرضعة تذهل عن ولدها قبل الفطام. وهذا على قول من يقول: إنها قبل نفخة الصعق ظاهر، وأما على من يقول، إنها بعد قيام الساعة، فقد قيل: إنه تمثيل؛ لتهويل الأمر وشدته. {وترى الناس سُكارى} أي: وترى أيها الناظر الناس سكارى، على التشبيه، من شدة الهول، كأنهم سكارى لمّا شاهدوا بساط العزة وسلطنة القهرية، حتى قال كلُّ نبي: نفسي نفسي. {وما هم بسُكارى} على التحقيق، {ولكنَّ عذاب الله شديد}، فخوف عذابه هو الذي أذهل عقولهم، وطيَّر تمييزهم، وردهم في حال من يَذهب السكُر بعقله وتمييزه. وعن الحسن: وترى الناس سكارى من الخوف، وما هم بسكارى من الشراب. وقرئ: {سكْرى}؛ كعطشى. والمعنى واحد، غير أن فعلى يختص بما فيه آفة، كجرحى وقتلى ومرضى. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يا أيها الناس اتقوا ربكم وتوجهوا إليه بكليتكم، حتى تُشرق على قلوبكم أنوار ربكم، فتزلزل أرض نفوسكم، وتدك جبال عقولكم، عند سطوح شمس العرفان، والاستشراف على مقام الإحسان. إن زلزلة الساعة، التي تشرف فيها على أسرار الذات، شيء عظيم. يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، لو كانت أنثى، وتضع كل ذات حمل حملها كذلك، أو تضع كل ذات حمل أثقالها؛ بالغيبة في ربها، وترى الناس سكارى من خمر المحبة، وما هم بسكارى من شراب الدَّوالي، لكن من خمر الكبير المتعالي، كما قال الششتري في الخمرة الأزلية- بعد كلام-:
لاَ شَرابَ الدَّواليِ إِنَّها أَرْضِيَّة ** خَمْرُهَا دُون خَمْرِي خَمْرَتِي أَزَلِيّة

ولكن عذاب الله- الذي قدمه قبل دخول جنته المعنوية وحفت به، وهي جنة المعارف- شديد، ولكنه يحلو في جانب ما ينال بعده، كما قال الشاعر:
والنَّفْسُ عَزَّتْ ولكنْ فيكَ أبْذُلُهَا ** والذُّلُّ مرٌّ ولكن في رضاكَ حَلاَ

يا من عذابِيَ عَذْبٌ في محبته ** لا أشتكي منك لا صَدّا ولا مَلَلا

.تفسير الآيات (3- 4):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)}
قلت: {ومن الناس}: خبر، و{مَن يجادل}: مبتدأ، و{بغير علم}: حال من ضمير {يُجادل}، و{أنه}: نائب فاعل {كُتب}، أي: كتب عليه إضلال من تولاه، و{فإنه}: مَنْ فتح: عنده خبر عن مبتدأ مضمر، أي: فشأنه أن يضله، والجملة جواب {مَن}، إن جعلتها شرطية، وخبر، إنْ جعلتها موصولة متضمنة لمعنى الشرط، ومن كسر: فخبر، أو جواب {مَنْ}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ومن الناس من يُجادل} ويخاصم {في الله} أي: في شأنه، ويقول ما لا يليق بجلال كبريائه وكمال قدرته، ملابسًا {بغير علم}، بل بجهل عظيم حمله على ما فعل. نزلت في النضر بن الحارث، وكان جَدلاً، يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، ولا بعث بعد الموت، والله غير قادر على إحياء من بَلى وصار رميمًا. وهي عامة له ولأضرابه من العتاة المتمردين، وكل من يخاصم في الدين بالهوى. {ويتَّبعُ} في ذلك {كلَّ شيطان مَرِيدٍ}؛ عاتٍ متمرد، مستمر في الشر. قال الزجاج: المَريد والمارد: المرتفع الأملس، أي: الذي لا يتعلق به شيء من الخير، والمراد: إما رؤساء الكفرة الذين يدعونهم إلى الكفر، وإما إبليس وجنوده.
ثم وصَف الشيطان المريد بقوله: {كُتِبَ عليه} أي: قضى على ذلك الشيطان {أنه} أي: الأمر والشأن {مَن تولاه} أي: اتخذه وليًا وتبعه، {فأنَّه} أي: الشيطان {يُضِلُّه} عن سواء السبيل، {ويهديه إِلى عذاب السعير} أي: النار. والعياذ بالله.
الإشارة: ومِن الناس من تنكبت عنه سابقةُ الخصوصية، فجعل يجادل في طريق الله، وينكر على المتوجهين إلى الله، إذا حرقوا عوائد أنفسهم، وسَدَّ الباب في وجوه عباد الله، فيقول: انقطعت التربية النبوية، وذلك منه بلا عِلْمِ تحقيقٍ ولا حجةٍ ولا برهان، وإنما يتبع في ذلك كُلَّ شيطان مريد، سوَّل له ذلك وتبعه فيه. كُتب عليه أنه من تولاه، وتبعه في ذلك، فإنه يُضله عن طريق الخصوص، الذين فازوا بمشاهدة المحبوب، ويهديه إلى عذاب السعير، وهو غم الحجاب والحصر في سجن الأكوان، وفي أسر نفسه وهيكل ذاته، عائذًا بالله من ذلك.