فصل: تفسير الآيات (107- 110):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (100):

{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)}
قلت: {السابقون}: مبتدأ، {والذين اتبعوهم}: عطف عليه، وجملة {رضي الله عنهم}: خبر.
يقول الحق جل جلاله: {والسابقُون الأولون} إلى الإسلام {من المهاجرين}؛ وهم الذين صلوا إلى القبلتين، أو الذين شهدوا بدراً، أو الذين أسلموا قبل الهجرة، {و} من {الأنصار}؛ وهم أهل بيعة العقبة الأولى، وكانوا سبعة، أو أهل العقبة الثانية، وكانوا سبعين، أو الذين أسلموا حين قدم عليهم مُصعب بن عُمير.
{والذين اتبعوهم بإحسان}؛ اللاحقين بالسابقين من الفريقين، أو من الذين اتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة، {رَضِيَ اللهُ عنهم} بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم، {ورَضُوا عنه} بما نالوا من نِعَمه الدينية والدنيوية، {وأعَدَّ لهم جنات تجري من تَحْتَها الأنهار} وقرأ ابن كثير: {من تحتها}، كما هي في مصحف أهل مكة. {خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم} أي: الفلاح الدائم الكبير.
الإشارة: لكل زمان سابقون، قد شمروا عن ساق الجد والاجتهاد، ورفضوا كل ما يقطعهم عن محبوبهم من العشائر والأولاد، قد خرقوا عوائد أنفسهم، فأبدلوا العز بالذل، والجاة بالخمول، والغنى بالفقر، والرفعة بالتواضع، والرغبة بالزهد، وشغل الظاهر بالتفرغ؛ ليتفرغ بذلك الباطن. وسافروا في طلب محبوبهم، وصحبوا المشايخ، وخدموا الإخوان، حتى ارتفعت عنهم الحجب والأستار، وتمتعوا بمشاهدة الكريم الغفار؛ فتهيؤوا لتذكير العباد، وحيث بهم الأقطار والبلاد. وفي مثلهم يقول الشاعر:
تَحيا بِكم كُل أَرضٍ تَنْزِلُون بها ** كَأَنَّكُم في بِقاع الأرض أَمطَار

وتَشتَهِي العينُ فيكم مَنْظَراً حسناً ** كأَنَّكُم في عُيون الناس أَقْمَارُ

{فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعلمون}.

.تفسير الآية رقم (101):

{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)}
يقول الحق جل جلاله: {وممن حولكم}، يا أهل المدينة، {من الأعراب منافقون} ساكنون حولكم، وهم: جُهينة، ومُزينة، وأسلم، وغفار، وأشجع، كانوا نازلين حول المدينة، أما أسلم وغفار فتابوا، ودعا لهم عليه الصلاة والسلام فقال: «أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها» وأما الباقي فأسلم بعضهم.
قال تعالى: {ومن أهل المدينة} قوم {مَرَدُوا} أي: استمروا {على النفاق}، واجترؤوا عليه، وتمرنوا وتمهروا فيه، {لا تعلمُهم} أي: لا تعرفهم يا محمد بأعيانهم، وهو بيان لمهارتهم وتنوقهم في تحري مواقع التهم إلى حد قد خفي عليك حالهم، مع كمال فطنتك وحِذقِ فراستك، {نحنُ نعلمهم}، ونَطّلِع على أسرارهم إن قدروا أن يُلبسوا عليك فلا يقدرون أن يلبسوا علينا، {سنعذّبهم مرتين} بالفضيحة والقتل، أو بأحدهما وعذاب القبر، أو بأخذ الزكاة ونهك الأبدان في الحرب، أو بإقامة الحدود وعذاب القبر، أو بتسليط الحُمى عليهم مرتين في السنة، {ثم يُرَدُّون إلى عذاب عظيم} بعد الموت، وهو عذاب النار.
الإشارة: قد جعل الله سبحانه بحكمته وقدرته، في كُلَّ عصر وأوان بحرين: بحراً من النور وبحراً من الظلمة، من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، فلابد في كل عصر من نور وظلمة، وإيمان وكفران، ونفاق وإخلاص، وصفاء وخوض، فأهل النور نورهم في الزيادة إلى قرب قيام الساعة، وأهل الظلمة كذلك إذ لا تعرف الأشياء إلا بأضدادها، ولا يظهر شرف النور إلا بوجود الظلمة، ولا شرف الصفاء إلا بوجود الخوض، ولا فضل العلم إلا بوجود الجهل، وهكذا جعل الله من كل زوجين اثنين، ليقع الفرار إلى الواحد الحق، فمن رام انفراد احدهما في الوجود فهو جاهل بحكمة الملك الودود. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (102):

{وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)}
يقول الحق جل جلاله: {و} قوم {آخرون اعترفوا بذُنوبهم}؛ وهو التخلف عن الجهاد، ولم يعتذروا عن تخلفهم بالأعذار الكاذبة، وهم طائفة من المتخلفين لما بلغهم ما نزل في المتخلفين أوثقوا أنفسَهم على سواري المسجد، وقالوا: لا نحل أنفسنا حتى يحلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فصلى فيه ركعتين، على عادته، فرآهم وسأل عنهم، فذُكر له سببهم، فنزلت الآية فأطلقهم.
{خلطوا عملاً صالحاً} بعمل سيء {وآخر سيئاً} بعمل صالح، خلطوا العمل الصالح الذي هو إظهار الندم والاعتراف بالذنب، بآخر سيئ وهو التخلف وموافقة أهل النفاق، أو خلطوا عملاً صالحاً، وهو ما سبق لهم من الجهاد مع الرسول، وغيره من الأعمال، بآخر سيئ، وهو تخلفهم عن تبوك. {عَسَى اللهُ أن يتوبَ عليهم} أي: يقبل توبتهم المدلول عليها بقوله: {اعترفوا بذنوبهم}، والرجاء في حقه تعالى واجب. {إن الله غفور رحيمٌ} يتجاوز عن التائب ويتفضل عليهم.
قال بعضهم: ما في القرآن آية أرجى لهذة الأمة من هذه الآية. وقال القشيري: قوله: {وآخر سيئاً} بعد قوله: {عملاً صالحاً} دليل على أن الزَّلَّةَ لا تحبط ثوابَ الطاعة؛ إذ لو أحبطته لم يكن العملُ صالحاً، وهو كذلك. انتهى. قُلْتُ: وما ذكره من عدم الإحباط هو مذهب أهل السنة، خلافاً للمعتزلة، ولا يعارضه حديث مسلم: «أًنَّ رَجُلاً قال: واللَّهِ لا يَغفِرُ الله لفُلانِ، وإنَّ اللَّهَ قالَ: مَن الذي يَتَأَلّى عَلَيَّ أَلاَّ أَغفِرَ لفُلانِ، وإنّي غَفَرتُ لَه، وأحبطَتُ عَمَلك» أو كما قال؛ لأن هذا الرجل كان من بني إسرائيل، ولعل شرعهم مخالف لشرعنا؛ لأن هذه الأمة المحمدية قد وضع الله عنها أثقال بني إسرائيل، فهي ملة سمحة، ولعل هذا الرجل أيضاً كان قانطاً من رحمة الله ومكذباً بها، فهو كافر. انظر الحاشية الفاسية.
الإشارة: الناس ثلاثة: سابقون ومخلطون ومنهمكون. فالسابقون فائزون، والمخلطون راجون، والمنهمكون هالكون، إلا من تاب وعمل صالحاً، فالسابقون هم الذين غلب إحسانهم على إساءتهم، وصفاؤهم على كدرهم، إن هفوا رجعوا قريباً، فقد تمر عليهم السنين الطويلة، ولا يكتب عليهم ملك الشمال شيئاً؛ وذلك ليقظتهم، لا لعصمتهم، والمخلطون هم الذين يكثر سقوطهم ورجوعهم، عسى الله أن يتوب عليهم. والمنهمكون هم المصرون على الفواحش، فإن سبقت لهم عناية رجعوا، وإن لم تسبق لهم عناية فهم مُعرِّضون لنقمة الله وحلمه، والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (103- 104):

{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)}
يقول الحق جل جلاله: لنبيه عليه الصلاة والسلام: {خُذْ من أموالهم} التي عرضوها عليك {صدقة}، وهو الثلث، فأخذ عليه الصلاة والسلام من أموالهم الثلث، وترك لهم الثلثين، أو: خذ من أموالهم صدقة، وهي الزكاة المفروضة، والضمير لجميع المسلمين. من صفة تلك الصدقة: {تُطهّرهُم} أنت يا محمد بها من الذنوب، أو حب المال المؤدي بهم إلى البخل، الذي هو أقبح الذنوب. وقرئ بالجزم؛ جواب الأمر.
{وتُزكِّيهم} أي: تنمي بها حسناتهم، أو ترفعهم {بها} إلى درجات المخلصين، {وَصَلِّ عليهم} أي: ترحم عليهم، وادع لهم بالرحمة، فكان عليه الصلاة والسلام يقول لمن أتاه بصدقته: «اللهُم صَل عَلى آلِ فُلان». فأتى أبو أوفى بصدقته فقال: «اللهم صلِّ على آل أَبي أَوفَى».
{إِن صلاتك سَكَنٌ لهم}؛ تسكن إليها نفوسهم، وتطمئن بها قلوبهم، لتحققهم بقبول دعائه عليه الصلاة والسلام. قال القشيري: انتعاشهم بهمَّتِكَ معهم أتم من استقلالهم بأموالهم. اهـ. وجمع الصلوات؛ لتعدد الموعد لهم، وقرأ الأخَوانِ وحفص بالتوحيد. {والله سميعٌ عليم}؛ أي: سميع باعترافهم عليم بندامتهم.
{إلمْ يعلموا أن الله هو يقبلُ التوبةَ عن عباده} إذا صحت، والضمير إما للتوب عليهم، والمراد أن يُمكن في قلوبهم قبول توبتهم والاعتذار بصدقتهم، أو لغيرهم، والمراد به التحضيض على التوبه، {و} أنه هو الذي {يأخذُ الصدقات}؛ يقبلها قبول من يأخذ شيئاً ليؤدي بدله، {وأن الله هو التوابُ الرحيم} أي: من شأنه قبول توبة التائبين، والمتفضل عليهم بجوده وإحسانه.
الإشارة: أخذ المشايخ من أموال الفقراء سبب في غناهم، واتساع حالهم حساً ومعنى، وقد قالوا: إذا أراد اللهُ أن يغني فقيراً سلط عليه ولياً يأخذ ماله، أو أمره شيخه بإعطاء ماله، فإن ذلك عنوان على غناه. وقد ذكر ذلك شيخ أشياخنا سيدي علي الجمل العراني في كتابه. وقد رأيت في مناقب شرفاء وزان: أن الشيخ مولاي التهامي أرسل إلى أخيه مولاي الطيب، وكان من خواص تلامذته، أن يدفع إليه جميع ماله ليصنع به كسرة للمرابطين، فأرسل له جميع ما يملك، حتى كسوة الدار وأثاث البيت، فكان ذلك سبباً في فيضان ماله، فلا تجد مدينة ولا قبيلة إلا وفيها مِلكٌ من أملاك مولاي الطيب، حتى إلى بلاد الجزائر وما والاها، وذلك بسبب شيخه له. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (105):

{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}
يقول الحق جل جلاله: {وقل اعملوا} ما شئتم من خير أو شر، {فسيرى اللهُ عملَكُم}؛ فإنه لا يخفى عليه؛ خيراً كان أو شراً، {و} سيرى ذلك أيضاً {رسولُهُ والمؤمنون}، فيظهر لهم ما يبدو منكم، فإن الطول يفضح صاحبه. {وستُرَدُون إلى عالم الغيب والشهادة}، بالموت، {فينبئكم بما كنتم تعملون}؛ فيخبركم بما عملتم؛ بالمجاوزة عليه.
الإشارة: كل من ظهر بدعوى أو تعرض لمقام من المقامات يقال له: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}؛ فإن كان إمره مبنياً على أساس الإخلاص والتقوى ثبت وانتهض، وشعشع نوره، وإن كان مبنياً على أساس، افتضح وكََسَف نوره، وسيرد الجميع إلى عالم الغيب والشهادة، فيجازي كلاً بعلمه.

.تفسير الآية رقم (106):

{وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)}
قلت: الإرجاء هو التأخر، يقال: أرجاه بالهمز وتركه: أَخره.
يقول الحق جل جلاله: {وآخرون} من المتخلفين، تخلفوا من غير عُذر، ولم يعتذروا بشيء، {مُرْجَوْنَ} أي: مؤخرون {لأمرِ الله} في شأنهم؛ {إما} أن {يُعَذِّبهم} على تخلفهم عن الجهاد مع رسوله، {وإما} أن {يتوب عليهم} حيث تابوا وندموا، والترديد باعتبار العباد، وفيه دليل على أن كلا الأمرين بإرادته تعالى، {والله عليم} بأحوالهم، {حكيم} فيما فعل بهم.
والمراد بهؤلاء الثلاثة: كَعْب بن مالك، وهِلال بن أمية، ومُرَارَة بن الربيع، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ألا يُسلموا عليهم ولا يكلموهم، فلما رأوا ذلك أخلصوا نياتهم، وفوضوا أمرهم إلى الله، فرحمهم، وسيأتي تمام قصتهم وتوبة الله عليهم بعدُ، إو شاء الله.
الإشارة: وآخرون مؤخرون عن صحبة المشايخ العارفين، حتى ماتوا مفروقين، إما أن يعذبهم على ما أصروا من المساوئ والذنوب، وإما أن يتوب عليهم بفضله وكرمه، إنه عليم لا يخفى عليه ما أسروا، حكيم فيما قضى عليهم من أمر الحجاب بعدله وقضائه.

.تفسير الآيات (107- 110):

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)}
قلت: قرأ نافع وابن عامر: بغير واو؛ مبتدأ حذف خبره، أي: معذبون، أو في: {لا تقم فيه أبداً}، أو في قوله: {لا يزال}، أو صفة لقوله: {وآخرون}، على من يقول: إن المُرْجَوْن غير الثلاثة المخلفين، بل في المنافقين الذين كانوا معرضين للتوبة مع بنيانهم مسجد الضرار. وهو قرأ بالواو فعطف على قوله: {آخرون}، أو مبتدأ حُذف خبره، أي: وممن وصفنا: الذين، أو منصوب على الذم، و{ضراراً} وما بعده: علة، وأصل {هارٍ}: هائر، فأخرت الهمزة، ثم قلبت ياء، ثم حذفت؛ لالتقاء الساكنين.
يقول الحق جل جلاله: {و} منهم {الذين اتخذوا مسجداً ضِراراً وكُفراً} أي: لأجل المضارة بالمؤمنين والكفر الذي أسروه، وهو تعظيم أبي عامر الكافر، {وتفريقاً بين} جماعة {المؤمنين} الذين كانوا يُصلون في مسجد قباء.
رُوي أن بَني عَمْرو بن عوف لَمَّا بَنَوا مسجد قُباء سألوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يأتيهمْ فيصلي فيه، فأتاهُمْ فصلَّى فيه، فَحَسدتهم إخوانُهم؛ بَنو غُنم بن عوفٍ، فبنوا مسجداً على قصد أن يؤمهم فيه أبو عامر الراهب، إذا قدم من الشام، فلما أتموه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا قد بنينا مسجداً لذي الحاجة والعلة والليلة المطيرة، فصل لنا فيه حتى نتخذهُ مصلى، وكان ذلك قبل خروجه لتبوك، فقال لهم: «إني عَلى جَنَاح سَفَرٍ، وإذا قَدِمنا، إِن شاء الله، صلَّينا فيه». فلما قدم أتوه، فأخذ ثوبه ليقوم معهم، فنزلت الآية، فدعا مالك بن الدُّخشم، ومَعن بن عدي، وعامر بن السَّكن، فقال: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه؛ ففعلوا، واتخذوا مكانه كناسة.
ثم أشار إلى قصدهم الفاسد، فقال: {وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله}؛ أي: واتخذوه انتظاراً ليؤمهم فيه من حارب الله ورسوله، يعني: أبا عامر الراهب، فإنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: لا أجد قوماً يقاتلونك إلاَّ قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فانهزم مع هوازن، ثم هرب إلى الشام؛ ليأتي من قيصر بجنود يحارب بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات بِقنَّسرَينَ طريداً وحيداً. وكان أهل المدينة يسمونه قبل الهجرة: الراهب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق.
وقوله: {من قبلُ}: متعلق بحارب، أي: حارب من قبل هذا الوقت، أو باتخذوا، أي: اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف؛ لأنه قبيل غزوة تبوك. {وليَحلِفُن إن أردنا إلا الحسنى} أي: ما أردنا ببنيانه إلا الخصلة الحسنى، وهي الصلاة والذكر والتوسعة على المسلمين. {والله يشهد إنهم لكاذبون} في حلفهم.
ثم نهاه عن الصلاة فيه فقال: {لا تَقُم فيه أبداً} للصلاة؛ إسعافاً لهم، {لمسجدٌ أُسسَ على التقوى من أول يوم} من أيام وجوده، {أحقٌ أن تقوم فيه} أي: أولى بأن تصلى فيه، وهو مسجد قباء، أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام مُقامه بقباء، حين هاجر من مكة، من الاثنين إلى الجمعة، وهذا أوفق للقصة.
وقيل: مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقول أبي سعيد: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه؟ فقال: «مسْجدُكم هذا، مَسجِدُ المَدِينَةِ» {فيه رجال يُحبون أن يتطهروا}، كانوا يستنجون بالماء، ويجمعون بين الماء والحجر، أو يتطهرون من المعاصي والخصال المذمومة، طلباً لمرضات الله تعالى، أو من الجنابة، فلا ينامون عليها، {والله يُحبُ المُطَّهرِين}؛ يرضى عنهم، ويُدنيهم من جنابه إدْناء المحب لحبيبه.
وقيل: لما نَزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه المُهاجرون، حتى وقف على باب مسجد قُباء، فإذا الأنصار جُلوس، فقال: «أَمؤمِنونَ أَنتُم» فَسَكَتُوا، فأعادَها، فقال عمر: إنهم مؤمنون وَأَنا مَعَهم، فقال عليه الصلاة والسلام: «أَتَرضَونَ بالقَضاء» فقالوا: نعم، قال: «أَتَصبِرون على البلاء» قالوا: نعم، قال: «أَتشْكرونَ في الرَّخاء» قالوا: نعم، فقال عليه الصلاة والسلام: «مؤمِنُونَ وَرَبِّ الكَعبَةِ» فَجَلَسَ، ثم قال: «يا مَعشَرَ الأنْصَار، إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد أَثنى عَلَيكم، فما الذي تَصنَعُون عند الوضوء وعِندَ الغائط» فقالوا: يا رسول الله، نُتبع الغائط الأحجارَ الثلاثةَ، ثم نُتبعُ الأحجار المَاء. فقال: {رِجَالٌ يُحِبُون أن يتَطَّهَروا}.
{أفمن أَسسَ بُنيانه على تقوى مِنَ الله ورضوان}؛ بإنه قصد به وجه الله، وابتغاء مرضاته، فَحسُنت النية في أوله، {خيرٌ أم من أسس بنيانه على} قصد الرياء والمنافسة، فكأنه بنى على {شفَا} أي: طرف {جُرُفٍ}: حفرة {هَارٍ} أي: واهٍ ضعيف، أشرف على السقوط، أو ساقط، {فانهار به في نار جهنم} أي: طاح في جهنم، وهذا ترشيح للمجاوز، فإنه لما شبهه بالجرف وصفه بالانهيار، الذي هو من شأن الجرف، وقيل: إن ذلك حقيقة، وإنه سقط في جهنم، وإنه لم يزل يظهر الدخان في موضعه إلى قيام الساعة.
والاستفهام للتقرير، والذي أُسس على التقوى والرضوان: هو مسجد قباء، أو المدينة، على ما تقدم، والذي أسس على شفا جرف هار هو مسجد الضرار، وتأسيس البناء على التقوى هو تحسين النية فيه، وقصد وجه الله، وإظهار شرعه، والتأسيس على سفا جرف هار هو فساد النية وقصد الرياء، والتفريق بين المؤمنين، وذلك على وجه الاستعارة والتشبيه البالغ. قاله ابن جزي: {والله لا يهدي القوم الظالمين} إلى ما فيه صلاح ونجاه.
{لا يزالُ بُنيانُهم} أي: مبنيهم، مصدر بمعنى المفعول، {الذي بَنوا ريبةً} أي: شكاً ونفاقاً {في قلوبهم}، والمعنى: أن بناءهم هذا لا يزال سبب شكهم وتزايد نفاقهم، فإنه حملهم على ذلك، ثم لما هدمه الرسول صلى الله عليه وسلم رسخ ذلك في قلوبهم وازداد، بحيث لا يزول رسمه من قلوبهم، {إلا أن تقطع} بالموت، بحيث لا يبقى لها قابلية الإدراك، أو لا يزال بنيانهم ريبة، أي: شكاً في الإسلام بسبب بنيانه، لاعتقادهم صواب فعلهم، أو غيظاً بسبب هدمه، {والله عليمٌ} بنياتهم، {حكيم} فيما أمر من هدم بنيانهم.
الإشارة: من أراد أن يؤسس بنيان أعماله وأحواله على التقوى والرضوان، فليؤسسه على الإخلاص والنية الحسنة، ومتابعة السنة المحمدية، فإنها لا تنهدم أبداً، ومن أراد أن يؤسسها على شفا جرف هارٍ فليؤسسها على الرياء والسمعة، وقصد الكرامات وطلب الأعواض، فإنها تنهدم سريعاً ولا تدوم، فما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل. وبالله التوفيق.