فصل: تفسير الآيات (12- 14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (7- 8):

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)}
يقول الحق جلّ جلاله: {و} اذكر {إذ أخذنا}؛ حين أخذنا {من النبيين ميثاقهم} بتبليغ الرسالة، والدعاء إلى الدين القيم، وإرشاد العباد ونصحهم. وقيل: أخذه عليهم في عالم الذر. قال أُبيّ بن كعب: لما أخرج الله الذرية، كانت الأنبياء فيهم مثل السُرُج، عليهم النور، فخُصُّوا بميثاقٍ وأخذ الرسالة والنبوة، وقال القشيري: أخذ الميثاق الأوَل وقت استخراج الذرية من صُلب آدم، عوندَ بعثة كل رسول، ونُبُوَّة كل نبيٍّ، أخذ ميثاقه، وذلك على لسان جبريل عليه السلام، ومنَ اختصه بإسماعه كَلاَمَهُ بلا واسطة ملك كنبينا ليلة المعراج، وموسى- عليهما السلام- فأخذ الميثاق منهم بلا واسطة، وكان لنبينا- عليه الصلاة والسلام- زيادة حال؛ بأن كان مع سماع الخطاب كشف الرؤية. ثم أخذ المواثيق من العباد بقلوبهم وأسرارهم. اهـ.
قال في الحاشية: والذي يظهر: أن أخذ الميثاق منهم مباشرة لا بوحي، وذلك في الغيب، ولذلك قدّم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه النور الأول قبل آدم، ثم انتقل إلى ظهره، وحينئذ، فأخذ الميثاق هنا غيبي، ولذلك قدّمه. وفي قوله: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ...} [الشورى: 13]؛ في عالم الظهور، فلذلك قدّم نوحاً، وثنَّى بنبينا؛ لأن نوحاً أول أُولي العزم، ونبينا خاتمهم. والله أعلم. اهـ. والحاصل: أن أخذ الميثاق كان مرتين؛ في عالم الغيب وفي عالم الشهادة. وهل المراد به هنا الأول أو الثاني؟ قولان.
{ومنك ومن نوحٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى ابنِ مريم}، قال النسفي: وقدَّم رسول الله صلى اله عليه وسلم على نوح ومَن بعده؛ لأن هذا العطف لبيان فضيلة هؤلاء؛ لأنهم أولو العزم، وأصحاب الشرائع، فلمَّا كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أفضل هؤلاء قُدّم عليهم، ولولا ذلك لقدّم مَن قدمه زمانه. ه {وأخذنا منهم ميثاقا غليظاً}؛ وثيقاً. وأعاد ذكر الميثاق؛ لانضمام الوصف إليه.
وإنما فعلنا ذلك {ليَسْألَ} اللهُ {الصادقين} أي: الأنبياء: {عن صِدْقِهم}؛ عما قالوه لقومهم، وهل بلغوا ما كلفهم به. وفيه تبكيت للكفار، كقوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]، أو: ليسأل المصدّقين للأنبياء عن تصديقهم: هل كان بإخلاص أم لا؟ لأن مَن قال للصادق: صدقت؛ كان صادقاً في قوله. أو: ليسأل الأنبياء: ما الذي أجابتهم أممهم؟ وهو كقوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ} [المائدة: 109]، {وأعَدَّ للكافرين} بالرسل {عذاباً أليماً}، وهو عطف على {أخذنا}، لأن المعنى: أن الله تعالى أخذ على الأنبياء العهد بالدعوة إلى دينه؛ لأجل إثابة المؤمنين، وأعَدَّ للكافرين عذاباً أليماً. أو: على ما دلّ عليه: {ليسأل الصادقين}، كأنه قال: فأثاب المؤمنين، وأعدَّ للكافرين عذاباً أليماً.
الإشارة: كما أخذ الله الميثاق على الأنبياء والرسل؛ أخذ الميثاق على العلماء والأولياء.
أمل العلماء؛ فعلى تبيين الشرائع وتغيير المناكر، وألا تأخذهم في الله لومة لأئم، وأما أخذه على الأولياء؛ فعلى تذكير العباد وإرشادهم إلى معرفة الله، وتربية مَن تعلّق بهم، وسياسة الخلق، ودلالتهم على الحق، فمَن قصَّر من الفريقين استحق العتاب. قال القشيري: فلكلِّ من الأولياء والأكابر حال، على ما يؤهلهم له؛ قال صلى الله عليه وسلم: «لقد كان في الأمم مُحَدِّثون، وإن يكُن في أمتي فَعُمر»، وغير عُمَر مشارك لعُمر في خواص كثيرة، وذلك سر بينهم وبين ربِّهم.
ثم قال: قوله تعالى: {ليَسْأل الصادقين عن صدقهم}؛ سؤال تشريف لا تعنيف، وإيجاب لا عتاب، والصدقُ: ألا يكون في أحوالك شَوْبٌ، ولا في اعتقادك ريب، ولا في عملك عَيْبٌ، ويقال: من أمارات الصدق في المعاملة. وجودُ الإخلاص من غير ملاحظة، وفي الأحوال: تصفيتُها من غير مداخلة الحجاب، وفي القول: سلامته من المعاريض، فيما بينك وبين نفسك. وفيما بينك وبين الناس: تباعدٌ في التلبيس والتدليس، وفيما بينك وبين الله: إدامة التبرَّي من الحَوْل والقوة، ومواصلة الاستقامة، وحفظ العهود معه على الدوام. في التوكل: عدَم الانزعاج عند الفَقْدِ، وزوالِ الْبِشْر بالوجد، وفي الأمر بالمعروف: التحرُّز من تخلل المداهنة، قليلها وكثيرها، وألاَّ يترك ذلك لِفَزَعٍ ولا طَمَع، ولكن تَشْرَبُ مما تَسْقي، وتتصف بما تأمر، وتنتهي عما تَزْجُر. ويقال: الصدق: أن يهتدي إليك كل أحد، ويكون عليك، فيما تقول وتضمر، اعتماد. ويقال: الصدق: ألا تجنحَ إلى التأويلات. انتهى كلام القشيري.

.تفسير الآيات (9- 11):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)}
يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمةَ الله عليكم}، أي: ما أنعم الله به عليكم يوم الأحزاب، وهو يوم الخندق، وكان بعد حرب أُحد بِسَنَةٍ. {إذ جاءتكُمْ جنودٌ} أي: الأحزاب، وهم قريش، وغطفان، ويهود قريظة والنضير، وهو السبب في إيتانهم، {فأرسلنا عليهمْ ريحاً} أي: الصَّبَا، قال عليه الصلاة والسلام: «نُصرت بالصَّبَا، وأُهْلكَتْ عاد بالدَّبُور» قيل: كانت هذه الريح معجزة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كانوا قريباً منها، ولم يكن بينهم إلا عُرض الخندق، وكانوا في عافية منها. {و} لا شعور لهم بها. وأرسلنا عليهم {جنوداً لم تروها} وهو الملائكة، وكانوا ألفاً، فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور.
وكان سبب غزوة الأحزاب: أن نفراً من اليهود، منهم ابن أَبي الحقيق، وحُيَي بن أخطب، في نفر من بني النضير، لَمَّا أجلاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم من بلدهم، قَدِموا مكة فحرّضوا قريشاً على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرجوا إلى غطفان، وأشجع، وفزارة، وقبائلَ مِنَ العرب، يُحرضونهم على ذلك، على أن يعطوهم نصف تمر خَيْبَرَ كل سنة. فخرجت قريش، وقائدها أبو سفيان، وخرجت غطفان، وقائدها عيينة بن حِصن، والحارث بن عوف في مُرة، وسعد بن رخيلة في أشجع، وعامر بن الطفيل في هوازن.
فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بهم، ضرب الخندق على المدينة، برأي سليمان. وكان أول مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يؤمئذ حُر. وقال: يا رسول الله: إنا كنّا بفارس، إذا حُوصرنا: خَنْدَقْناَ علينا، فحفر الخندق، وباشر الحفر معهم بيده صلى الله عليه وسلم. فنزلت قريش بمجتمع الأسيال من الجُرُفِ والغابة، في عشرة آلاف من أحابيشهم. ونزلت عطفان وأهل نجد بذنب نَقَمَي، إلى جانب أُحد. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سَلْع، في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هناك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام.
واشتد الخوف، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم، وأقام المشركون، بِضعاً وعشرين ليلة، ولم يكن حرب غير الرمي بالنبل والحصى. فلما اشتد البلاء بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عُيينة بن حصن، والحارث بن عوف، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة، على أن يرجعا بمَن معهما، وكتبوا الكتاب ولم يقع الإشهاد، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، فقال سعد بن معاذ: أشيء أمرك الله به، لابد من العمل به، أم شيء تُحبه فتصنعه، أم شيء تصنعه لنا؟ قال: «لا، بل شيء أصنعه لكم، أردتُ أن أكْسِر عنكم شوكتهم»
فقال سعد: يا رسول الله؛ لقد كنا مع القوم على شرك وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطعمون أن يأكلوا منها تمرة، إلا قِرىً، أو شراءً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وأعزَّنا بك، نعطيهم أموالنا! لا نعطيهم إلا السيف. فقال عليه الصلاة والسلام: «فأنت وذاك»، فمحا سعدُ ما في الكتاب، وقال: ليجهدوا علينا.
ثم إن الله تعالى بعث عليهم ريحاً باردة، في ليلة شاتية، فأحصرتهم، وأحثت الترابَ في وجوههم، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأكفأت القدور، وأطفأت النيران، وجالت الخيل بعضها في بعض. وأرسل الله تعالى عليهم الرُعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم، حتى كان سيد كل خباء يقول: يَا بَني فلان، علمُّوا، فإذا اجتمعوا إليه قال: النَّجا، النَّجا، أوتيتم. فانهزموا من غير قتال.
{وكان الله بما تعملون بصيراً}، أي: بصيراً بعملكم، من حَفر الخندق، ومعاونة النبي صلى الله عليه وسلم، والثبات معه، فيجازيكم عليه، وقرأ أبو عمرو: بالغيب، أي: بما يعمل الكفار؛ من البغي، والسعي في إطفاء نور الله، {إِذ جاؤوكم} هو بدل من: {إذ جاءتكم}، {من فوقكم}؛ من أعلى الوادي، من قِبَل المشرق. وهم بنو غطفان. {ومن أسفل منكم}؛ من أسفل الوادي من قِبَل المغرب، وهو قريش. {وإذْ زاغتِ الأبصارُ}؛ مالت عن مستوى نظرها؛ حَيْرَةً وشخوصاً. أو: مالت إلى عدوها، لشدة الخوف، {وبلغت القلوبُ الحناجرَ}؛ رُعباً. والحنجرة: رأس الغَلْصَمَة، وهي منتهى الحلقوم، الذي هو مدخل الطعام والشراب. قالوا: إذا انتفخت الرئة، من شدة الفزع والغضب، رَبَتْ، وارتفع بارتفاعها إلى رأس الحنجرة. وقيل: هو مثل في اضطراب القلوب، وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة.
رُوي أن المسلمين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل من شيء نقوله، فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال: «نعم، قولوا: اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا».
{وتظنون بالله الظنُونا}؛ الأنواع من الظن. والمؤمنون أصناف؛ منهم الأقوياء، ومنهم الضعفاء، ومنهم المنافقون. فظنّ الأقوياء، المخلصون، الثُبْتُ القلوب؛ أن ينجز الله وعده في إعلاء دينه، ويمتحنهم، فخافوا الزلل وضعْفَ الاحتمال، وأما الآخرون؛ فظنُّوا ما حكى عنهم، وهو الذين زاغت أبصارهم، وبلغت قلوبهم الحناجر، دون الأقوياء رضي الله عنهم، وقرأ أبو عمرو وحمزة: {الظنون}؛ بغير ألف، وهو القياس. وبالألف فيهما: نافع، والشامي، وشعبة؛ إجراء للوصل مجرى الوقف. والمكيّ، وعليّ، وحفص: بالألف في الوقف. ومثله: {الرَّسُولاْ} [الأحزاب: 66] و{السَّبِيلاَْ} [الأحزاب: 67]، زادوها في الفاصلة، كما زادوها في القافية، كقوله:
أقِلّي اللَّوْمَ عَاذِلَ والعِتابا

وهو في الإمام: بالألف.
{هنالك ابْتُلي المؤمنون} أي: اختبروا، فظهر المخلص من المنافق، والثابت من المزلزل، {وزُلزلوا زلزالاً شديداً}؛ وحُركوا بالخوف، تحريكاً شديداً.
الإشارة: يا أيها الذين آمنوا إيمان الخصوص؛ اذكروا نعمة الله عليكم بالتأييد والنصر، فحين تَوَجَّهْتُمْ إليّ، ودخلتم في طريق ولايتي، رفضتكم الناس، ونكرتكم، ورمتكم عن قوس واحدة، فجاءتكم جنود الخواطر والوساوس من كل جانب، حتى هممتم بالرجوع أو الوقوف.
وإذ زاغت الأبصار: مالت عن قصدها؛ بالاهتمام بالرجوع، وبلغت القلوبُ الحناجرَ، ممن كان ضعيف الإرادة واليقين، وتظنون بالله الظنونا، فمنهم مَن يظن الامتكان بعد الامتحان، فيفرحون بالبلاء، ومنهم مَن يظن أنه عقوبة... إلى غير ذلك، هنالك ابتلي المؤمنون المتوجهون؛ ليظهر الصادق، في الطلب، من الكاذب فيه، فعند الامتحان يعز المرء أو يُهان، ويظهر الخَوّافون من الشجعان، وزُلزلوا زلزالاً شديداً؛ ليتخلصوا ويتمحصوا، كما يتخلص الذهب والفضة من الناس، ومَن عرف ما قصد؛ هان عليه ما ترك.
قال القشيري: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم..} يعني: بمقابلتها بالشكر، وتَذَكُّرِ ما سَلَفَ من الذي دفع عنك، يهون عليك مقاساة البلاءِ في الحال. وبذكرك لما أولاك في الماضي؛ يقرب من الثقة بوصول ما تؤمِّلهُ في الاستقبال. فمن جملة ما ذكّرهم قوله: {إذ جاءتكم جنود..} الآية: كم بلاء صَرَفَه عن العبد وهو لا يشعر، وكم شغل كنت بصدده، فصدّه عنك ولم تعلم، وكم أمر صرفه، والعبد يضج، وهو- سبحانه- يعلم أن في تيسيره هلاكَه، فيمنعه منه؛ رحمة عليه، والعبد يتهمه ويضيق به صَدْرُه. اهـ.

.تفسير الآيات (12- 14):

{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)}
يقول الحق جلّ جلاله: {و} اذكر {إذ يقولُ المنافقون والذين في قلوبهم مرض} عطف تفسير؛ إذ هو وصف المنافقين، كقول الشاعر:
إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمَامِ ** ولَيْثَ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ

فابن الهمام هو القَرْمُ، والقرم- بالراء-: السيد. وقيل: {الذين في قلوبهم مرض}، هم الذين لا بصيرة بهم في الدين من المسلمين، كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشُّبه عليهم، قالوا، عند شدة الخوف: {ما وَعَدَنَا اللهُ ورسولهُ إلا غُروراً}.
رُوي أن مُعَتِّبَ بن قُشَيْرٍ، المنافق حين رأى الأحزاب قال: إن محمداً يَعِدُنا فتح فارس والروم، وأحدُنا لا يقدر أن يتبرّز، خوفاً، ما هذا إلا وعد غرور. اهـ.
{وإذ قالت طائفةٌ منهم}؛ من المنافقين، وهم عبد الله بن أُبيّ وأصحابه: {يا أهلَ يثربَ}، وهم أهل المدينة، {لا مقَام لكم} أي: لا قرار لكم هنا، ولا مكان تقيمون فيه- وقرأ حفص: بضم الميم- اسم مكان، أو مصدر، {فارجعوا} من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ هاربين، أو: إلى الكفر، فيمكنكم المقام بها، أو: لا مقام لكم على دين محمد، فارجعوا إلى الشرك وأظهروا الإسلام لتسلموا، {ويستأذن فريقٌ منهم النبيَّ} أي: بنو حارثة، {يقولون إن بيوتنا عورةٌ}: ذات عورة، أي: خالية غير حصينة، وهي مما يلي العدو. وأصلها: الخلل. وقرأ ابن عباس؛ بكسر الواو: {عَوِرَة}، يعني: قصيرة الجدران، فيها خلل. تقول العرب: دار فلان عورة؛ إذا لم تكن حصينة، وعَوِرَ المكان: إذا بَدا فيه خلل يُخاف منه العدو والسارق، ويجوز أن يكون عَوْرَة: تخفيفَ عَوِرة.
اعتذروا أن بيوتهم عُرضة للعدو والسارق؛ لأنها غير محصنة، فاستأذنوا ليحصنوها ثم يرجعوا إليه، فأكذبهم الله تعالى بقوله: {وما هي بعوْرةٍ}، بل هي حصينة، {إن يريدون إلا فراراً} من القتل.
{ولو دُخِلَت عليهم} مدينتهم، أو: بيوتهم. من قولك: دخلت على فلان داره. {من أَقْطارها}، من جوانبها، أي: ولو دَخلت هذه العساكر المتحزبة- التي يفرَّون؛ خوفاً منها- مدينتَهم، أو بيوتهم، من نواحيها كلها؛ ناهبين سارقين، {ثم سُئِلوا}؛ عند ذلك الفزع، {الفتنةَ} أي: الردة والرجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين، أو: القتال في العصبية، وهو أحسن؛ لأنهم مسلمون، {لأتوها}؛ لجاؤوها وفعلوا. ومَن قرأ بالمد فمعناه: لأعطوها من أنفسهم، {وما تلبثوا بها}؛ بإجابتها وإعطائها، أي: ما احتبسوا عنها {إلا يسيراً}، أو: ما لبثوا بالمدينة، بعد ارتدادهم، إلا زماناً يسيراً، ثم يهلكهم الله؛ لأن المدينة كالكير؛ تنفي خبثها، وينصع طيبها، والمعنى أنهم يتعلّلون بإعوار بيوتهم؛ ليفرُّوا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وعن مصافة الأحزاب الذين ملأوهم رُعباً، وهؤلاء الأحزاب كما هم؛ لو سألوهم أن يقاتلوا؛ فتنة وعصيبة؛ لأجابوهم، وما تعلّلوا بشيء، وما ذلك إلا لضعف إيمانهم، والعياذ بالله.
الإشارة: وإذ قالت طائفة من شيوخ التربية لأهل الفناء: لا مقام تقفون معه؛ إذ قد قطعتم المقامات، حين تحققتم بمقام الفناء، فارجعوا إلى البقاء؛ لتقوموا بآداب العبودية، وتنزلون في المقامات ثم ترحلون عنها، كما تنزل الشمس في بروجها، فكل وقت يبرز فيه ما يقتضي النزول إلى مقامه. فتارة يبرز ما يقتضي التوبة، وتارة ما يقتضي الخوف والهيبة، أي: خوف القطيعة، وتارة ما يقتضي الرجاء والبسط، وتارة ما يقتضي الشكر، وتارة الصبر، وتارة ما يقتضي الرضا والتسليم، وتارة ما يهيج المحبة أو المراقبة أو المشاهدة. وهكذا ينزل في المقامات ويرحل عنها، ولا يقيم في شيء منها. ويستأذن بعض المريدين في الرجوع إلى مقامات الإيمان أو الإسلام، أو شيء من أمور البدايات، يقولون: إن بيوت تلك المقامات لم نُتقنها، بل فيها عورة وخلل، وما هي بعورة، ما يريدون إلا فراراً من ثِقَل أعباء الحضرة. ولو دُخلت بيوت قلوبهم من أقطارها، ثم سئلوا الرجوع إلى الدنيا لأتوها؛ لأنها قريبةُ عَهْدٍ بتركها، وما تلبّثوا بها إلا زماناً يسيراً، بل يبغتهم الموت، ويندمون، قل متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمَن اتقى.