فصل: تفسير الآيات (18- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (15- 17):

{وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ولقد كانوا عاهدوا اللهَ من قَبلُ} أي: قبل غزوة الخندق، وهو يوم أحد. والضمير في {كانوا} لبني حارثة، عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، حين فشلوا، ثم تابوا ألا يعودوا لمثله، وقالوا: {لا يُوَلُّونَ الأدبارَ}؛ منهزمين أبداً، {وكان عهدُ الله مسؤولاً} عن الوفاء له، مُجازىً عليه، أو: مطلوباً مقتضى حتى يوفى به. {قل لن ينفعَكُم الفرارُ إن فَررتُم من الموت أو القتل}، فإنه لابد لكل شخص من حتفِ أنفه، أو: قتل في وقت معين سبق القضاء وجرى به القلم، {وإذاً لا تُمتَّعُون إلا قليلاً} أي: إن حضر أجلكم لم ينفعكم الفرار، وإن لم يحضر، وفررتم، لن تُمتعوا في الدنيا إلا زماناً قليلاً، وهو مدة أعماركم، وهو قليل بالنسبة إلى ما بعد الموت الذي لا انقضاء له.
{قل مَن ذَا الذي يَعصِمُكُم من الله} أي: يمنعكم مما أراد الله إنزاله بكم؛ {إن أراد بكم سوءاً} في أنفسكم، من قتل أو غيره، {أو أراد بكم رحمةً} أي: أراد بكم إطالة عمر في عافية وسلامة. أو: مَن يمنع الله من أن يرحمكم، إن أراد بكم رحمة، فَحُذِفَ؛ سوءاً، أو يصيبكم بسُوء، إن أراد بكم رحمة، فاختصر الكلام. {ولا يجدون لهم من دون الله ولياً} ينفعهم، {ولا نصيراً} يدفع العذاب عنهم.
الإشارة: ولقد كان عاهدَ الله؛ مَنْ دخل في طريق القوم، ألاَّ يولي الأدبارَ، ويرجع إلى الدنيا والاشتغال بها حتى يتفتّر عن السير، وكان عهد الله مسؤولاً، فيسأله الحق تعالى عن سبب رجوعه عن الإرداة، ولماذا حَرَمَ نَفْسَهُ من لذيذ المشاهدة؟ قل- لمَن رجع، ولم يقدر على مجاهدة نفسه: لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت لنفوسكم، أو القتل؛ بمجاهدتها وتجميلها بعكس مرادها، وتحميلها ما يثقل عليها، وإذا لا تُمتعون إلا قليلاً، ثم ترحلون إلى الله، في غم الحجاب وسوء الحساب. قل: مَن ذا الذي يعصمكم من الله، إن أراد بكم سوءاً؟ وهو البُعد والطرد، أو: مَن يمنعكم من رحمته، إن أراد بكم رحمة، وهي التقريب إلى حضرته، فلا أحد يعصمكم من إبعاده، ولا أحد يمنعكم من إحسانه؛ إذ لا وليّ ولا ناصر سواه. اللهم انصرنا بنصرك المبين، وارحمنا برحمتك الخاصة، حتى تُقَرِّبَنَا إلى حضرتك، بفضل منك وجودك، يا أرحم الراحمين.

.تفسير الآيات (18- 19):

{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)}
يقول الحق جلّ جلاله: {قد يعلم اللهُ المعوِّقين منكم} أي: يعلم مَنْ يُعوِّقُ عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويَمْنَعُ، وهم المنافقون والمثبطون للناس عن الخروج إلى الغزو، {والقائلين لإخوانهم} في الظاهر؛ من ساكني المدينة من المسلمين: {هَلُمَّ إلينا}؛ تعالوا إلينا، ودعُوا محمداً. ولغة أهل الحجاز في {هلم}: أنهم يُسوون فيه بين الواحد والجماعة. وأما بنو تميم فيقولون: هلم يا رجل، وهلموا يا رجال.. وهكذا. {ولا يأتون البأسَ}؛ الحرب {إلا قليلاً}؛ إلا إتياناً قليلاً، أو يحضرون ساعةً، رياءً، ويقفون قليلاً، مقدار ما يرى شهودهم ثم ينصرفون. {أشِحَّةٌ عليكم}؛ جمع شحيح، وهو البخيل، نُصب على الحال من ضمير {يأتون} أي: لا يأتون الحرب؛ بُخلاً عليكم بالمعاونة أو بالنفقة في سبيل الله، أو: في الظفر والغنيمة، أي: عند الظفر وقَسْم الغنيمة. {فإذا جاء الخوفُ} من قِبَلَ العدو، أو: منه صلى الله عليه وسلم، {رأيتهم ينظرون إليك}؛ في تلك الحالة، {تدور أعينُهم} يميناً وشمالاً {كالذي يُغْشى عليه من الموت}؛ كما ينظر المغشي عليه معالجة سكرات الموت؛ حذراً وخوفاً ولِواذاً بك.
{فإذا ذهبَ الخوفُ} أي: زال ذلك الخوف وأمِنوا، وحيزت الغنائم {سلقوكم بألسنةٍ حِدَادٍ}؛ خاطبوكم مخاطبة شديدة، وآذوكم بالكلام، يقال: خطيب سِلق: فصيح، ورجل مِسْلق وسَلاَّق: مبالغ في الكلام. يعني: بسطوا ألسنتهم فيكم، وقت قسم الغنيمة، ويقولون: أعطنا؛ فإنا قد شهدنا معكم، وبمكاننا غَلبتم عدوكم. {أشِحَّةً على الخير} أي: خاطبوكم؛ أشحة على المال والغنيمة. فهو حال من فاعل سلقوكم، فهم أشح القوم عند القسم، وأجبنهم عند الحرب، {أولئك لم يؤمنوا} في الحقيقة، بل بالألسنة فقط، {فأحبط اللهُ أعمالهم}؛ أبطلها، بإضمار الكفر مع ما أظهروا من الأعمال الخبيثة، {وكان ذلك} الإحباط {على الله يسيراً}؛ هيناً.
الإشارة: هذه صفة منافقي الصوفية، يدخلون معهم على تذبذب، فإذا رأوا قوماً توجهوا لخرق عوائدهم وتخريب ظواهرهم، أو: أرادوا الخروج عن دنياهم، عَوَّقُوهُمْ عن ذلك، وثبطوهم، وكذلك إذا تواجهوا في سفر لشُقة بعيدة؛ ليستتروا بهم، وقالوا لأخوانهم في الطريق: هلم إلينا، ولا يأتون مكان حرب أنفسهم إلا قليلاً. أشحةً بأنفسهم عليكم، فإذا جاء الخوف، وتجلّى لهم الحق تعالى باسمه الجليل؛ بأن نزلت بالفقراء محنة، رأيْتَهُمْ ينظرون إليك، تدور أعينهم، نظر المغشي عليه من الموت، فإذا ذهب الخوف، وجاء النصر والعز؛ سلقوكم بألسنة حداد، وقالوا: إنا كنا معكم، أولئك لا نصيب لهم مما للقوم من الخصوصية. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (20):

{يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)}
يقول الحق جلّ جلاله: {يَحْسَبُون} أي: هؤلاء المنافقون {الأحزابَ}، يعني: قريشاً وغطفان، الذين تحزّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: اجتمعوا، أنهم {لم يذهبوا} ولم ينصرفوا؛ لشدة جُبنهم، مع أنهم انصرفوا. {وإن يأتِ الأحزابُ} كرة ثانية؛ {يودُّوا لو أنهم بادون في الأعراب}، والبادون: جمع باد، أي: يتمنى المنافقون- لجُبنهم- أنهم خارجون من المدينة إلى البادية، حاصلون بين الأعراب؛ ليأمنوا على أنفسهم، ويعتزلوا مما فيه الخوف من الحرب، {يسألون} كل قادم منهم من جانب المدينة. وقرئ {يَسَاءلون}، بالشد. أي: يتساءلون، بعضهم بعضاً {عن أنبائكم}؛ عن أخباركم وعما جرى عليكم، {ولو كانوا} أي: هؤلاء المنافقون {فيكم} أي: حاضرون في عسكركم، وَضَرَ قِتَالٌ، {ما قاتلوا إلا قليلاً}؛ رياءً وسمعة، ولو كان لله؛ لكان كثيراً؛ إذ لا يقل عمل لله.
الإشارة: الجبان يخاف والناس آمنون، والشجاع يأمن والناس خائفون، ولا ينال من طريق القوم شيئاً جبانٌ ولا مستحي ولا متكبر. فمن أوصاف الضعفاء: أنهم، إذا نزلت بالقوم شدة أو محنة- كما امْتُحِنَ الجنيد وأصحابه- يتمنون أنهم خارجون عنهم، وربما خرجوا بالفعل، وإن ذهبت شوكتهم؛ يحسبون أنهم لم يذهبوا؛ لشدة جزعهم. ومن أوصافهم: أنهم يكثر سؤالهم عن أخبار القوم، والبحث عما جرى بهم؛ خوفاً وجزعاً، ولو مضوا معهم لم يغنوا شيئاً. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (21- 24):

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)}
يقول الحق جل جلاله: {لقد كان لكم في رسول الله}؛ محمد صلى الله عليه وسلم {أسوَةٌ حَسَنَة}؛ خَصْلَةٌ حسنة، من حقها أن يُؤتسى بها؛ كالثبات في الحرب، ومقاساة الشدائد، ومباشرة القتال. أو: في نفسه قدوة يحسن التأسي به. كما تقول: في البيضة عشرون رطلاً من حديد، أي: هي في نفسها عشرون. وفيه لغتان: الضم والكسر، كالعِدوة والعُدوة، والرِشوة والرُشوة. وهي {لمَن كان يرجو اللهَ واليوم الآخر} أي: يخاف الله ويخاف اليوم الآخر، أو: لأجل ثواب الله ونعيم اليوم الآخر. و{لمن}: قيل: بدل من ضمير لكم، وفيه ضعف؛ إذ لا يبدل من ضمير المخاطب إلا ما يدل على الإحاطة. وقيل: يتعلق بحسنة، أي: أسوة حسنة كائنة لمَن آمن، {وذكر الله كثيراً} أي: في الخوف والرجاء، والشدة والرخاء، فإن المؤتسِي بالرسول يكون كذلك.
{ولمَّا رأى المؤمنون الأحزابَ} قد أقبلوا عليهم؛ ليستأصلوهم، وقد وعدهم الله أن يسلط عليهم المحن، ويُزَلْزَلُوا حتى يستغيثوا ويستنصروا بقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم..} [البقرة: 214] إلى قوله: {نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، فلما جاء الأحزاب واضطربوا؛ {قالوا هذا ما وعدنا اللهُ ورسولهُ وصدق اللهُ ورسولهُ}، وعَلِمُوا أن الجنة والنصرة قد وجبت لهم. وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «إنَّ الأحزاب سائِرون إليكم، في آخر تِسْع ليال، أو عشر»، فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد، قالوا ذلك. و{هذا}: إشارة إلى الخطب والبلاء، أي: هذا الخطب الذي وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، {وما زادهم}، ما رأوا من اجتماع الأحزاب ومجيئهم، {إلا إيماناً} بالله وبمواعيده {وتسليماً} لقضائه وأقداره.
{من المؤمنين رجال صَدَقوا ما عاهدوا اللهَ عليه} أي: صدقوا فيما عاهدوه، فحذف الجار، وأوصل المفعول إلى {ما}؛ وذلك أن رجالاً من الصحابة نَذَرُوا أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا، وقاتلوا حتى يُسْتَشْهَدُوا، وهم: عثمان بن عفان، وطلحة، وسعيد بن زيد، وحمزة، ومصعب، وأنس بن النضر، وغيرهم. {فمنهم مَن قضى نَحْبهُ}؛ نذره؛ بأن قاتل حتى استشهد؛ كحمزة، ومصعب، وأنس بن النضر. والنَّحْبُ: النذر، واستعير للموت؛ لأن كل حي من المحدثات لابد له أن يموت، فكأنه نذرٌ لازم في رقبته، فإذا مات؛ فقد قضى نحبه، أي: نذره. وقال في الصحاح: النحب: النذر، ثم قال: والنَّحْبَ: المدة والوقت. يقال: قضى فلان نَحْبَه، إذا مات. اهـ. فهو لفظ مشترك بين النذر والموت. وصحح ابنُ عطية أن النحب الذي في الآية ليس من شرطه الموت. بل معناه: قَضَى نذره الذي عاهد الله عليه من نصرة الدين، سواء قُتل أو بقي حيًّا.
بدليل قوله- عليه الصلاة والسلام- في طلحة: «هذا ممن قَضَى نَحْبَه». اهـ.
{ومنهم مَن ينتظرُ} أي: الموت على الشهادة؛ كعثمان وطلحة، {وما بدّلوا}؛ العهد {تبديلا}؛ ولا غيَّروه، لا المسْتَشْهَد، ولا مَن ينتظر الشهادة. وفيه تعريض بمَن بدّل من أهل النفاق، كقوله تعالى فيما مر: {وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ...} [الأحزاب: 15]. {ليجزي اللهُ الصادقين بصدقهم}؛ بوفائهم بالعهد، {ويُعذِّب المنافقين إن شاء} إذا لم يتوبوا، {أو يتوبَ عليهم} إن تابوا {إن الله كان غفوراً} بقبول التوبة، {رحيماً} بعفو الحوبة.
الإشارة: قد تقدّم ما يتعلق بالاقتداء بالرسول- عليه الصلاة والسلام- والاهتداء بهديه، وأنه منهاج الأكابر. وقوله تعالى: {ولَمَّا رأى المؤمنون الأحزاب...} الآية. كذلك الأقوياء من هذه الطائفة، إذا رأوا ما يهولهم ويروعهم زادهم ذلك إيماناً وتسليماً، ويقيناً وطمأنينة، وتحققوا بصحة الطريق؛ إذ هو منهاج السائرين والأولياء الصادقين، وسنة الأنبياء والمرسَلين. قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] الآية. وتقدم في إشارتها ما يتعلق بهذا المعنى.
قال بعضهم: نحن كالنجوم، كلما اشتدت الظلمة قَوِيَ نُورُنَا. وقال القشيري: كما أن المنافقين اضطربت عقائدهمُ عند رؤية الأعداء، فالمؤمنون وأهل اليقين زادوا ثِقَةٌ، وعلى الأعداء جرأةً، ولحكم الله استسلاماً. وفي الله قوة. ثم قال: قوله تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا...} الآية، شَكَرَ صنيعَهم في المِرَاسَ، ومدح يقينهم عند شهود الناس، وسمّاهم رجالاً؛ إثباتاً لهم بالخصوصية في الرتبة، وتمييزاً لهم من بين أشكالهم بعلوِّ الحال، فمنهم مَنْ خرج من دنياه على صِدْقه، ومنهم مَنْ ينتظر حكم الله في الحياة والممات، وحقيقة الصدق: حفْظُ العهد وترك مجاوزة الحدَّ. ويقال: استواءُ السِّرِّ والجهر. ويقال: هو الثبات عندما يكون الأمر جدًّا.
قوله تعالى: {ليجزي الله الصادقين بصدقهم..} في الدنيا بالتمكين، والنصرة على العدو، وإعلاء الرتبة، وفي الآخرة بجزيل الثواب، وجميل المآب، والخلودِ في النعيم المقيم، والتقدم على الأشكال بالتكريم والتعظيم. وقوله: {ويُعذب المنافقين إن شاء} يقال: إذا لم يجَزم بعقوبة المنافق، وتعلَّق القول فيه على الرجاء، فبالحريّ ألا يُخيِّبَ المؤمنَ في رجائه. انتهى كلام القشيري.

.تفسير الآيات (25- 27):

{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)}
يقول الحق جلّ جلاله: {وَرَدَّ اللهُ الذين كفروا} أي: الأحزاب {بغَيْظِهم}؛ ملتبسين بغيظهم، فهو حال كقوله: {تَنبُتُ بِالدُّهنِ} [المؤمنون: 20] أي: ردهم غائظين {لم ينالوا خيراً}؛ ظفراً، أي: لم يظفروا بالمسلمين. وسمّاه {خيراً} بزعمهم، وهو أيضاً حال، أي: غير ظافرين، {وكفى اللهُ المؤمنين القتال} بالريح، والملائكة، {وكان اللهُ قوياً عزيزاً}؛ قادراً غالباً، فقهرهم بقدرته وغلبهم بقهريته. {وأنزل الذين ظاهروهم}: عاونوا الأحزاب وجاؤوا بهم {من أهلِ الكتاب}، يعني بني قريظة، أنزلهم {من صَياصِيهم}؛ من حصونهم. والصيصة: ما يتحصّن به. قال الهروي: وكل ما يتحصّن به فهو صيصة، ويقال لقرون البقر والظبي: صَيَاصي؛ لأنها تتحصن بها، وفي وصف أصحاب الدجال: شواربهم كالصياصي، لطولها، وفتلها، فصارت كالقرون. اهـ.
رُوي أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب، ورجع المسلمون إلى المدينة- على فَرَسه الحيزوم، والغُبار على وجه الفَرَس والسَّرْج، فقال: ما هذا جبريلُ؟ فقال: من مُتَابعةِ قُريش. ثم قال: إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة، وأنا عائدٌ إليهم، فإن الله داقهُمْ دَقَّ البيض على الصَّفا، وهم لكم طُعْمةٌ.
وفي رواية: لَمَّا رجع- عليه الصلاة والسلام- ودخل مغتسله، جاءه جبريل بعمامة من استبرق، على بغلة، عليها قطيفة من ديباج، فقال: قد وضعتَ السِّلاح، والله ما وضعت الملائكةُ السلاحَ، وما رجعت إلا من طلب القوم، وإن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة. فأذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس: أنَّ من كان سَامِعاً مُطيعاً فلا يُصلَّين العَصْرَ إلا في بني قُريظة. فخرج إليهم، فحاصرهُم خمساً وعشرين ليلةٌ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنزلُون على حُكْمي؟ فأبَوْا، فقال: تنزلون على حكم سَعد بن مُعاذِ؟ فرضوا به. فقال سعد: نحكم فيهمْ: أن تُقتل مقاتِلتَهُم، وتُسبى ذَرارِيهمْ ونساؤُهُم. فكبَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال: «لقد حكم فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة».
ثم استنْزلهم، وخَنْدَق في سوق المدينة خندقاً، وقدَّمَهُم، فضرب أعناقَهُم. وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة. وقيل: كانوا ستمائة مقاتل، وسبعمائة أسير، فقتل المقاتلة، وقسم الأسارى، وهم الذراري والنساء. وكان عليّ والزبير رضي الله عنهما يضربان أعناق بني قريظة. والنبي صلى الله عليه وسلم جالس هناك. والقصة مطولة في كتب السير.
{وقذَفَ في قلوبهم الرعبَ} الخوف. وفيه السكون والضم، {فريقاً تقتلون} وهم الرجال {وتأسرون فريقاً} وهم النساء والذراري. قالت عائشة رضي الله عنها: لم يقتل صلى الله عليه وسلم من نساء بني قريظة امرأة إلا واحدة، قتلها بخلاد بن سويد، كانت شدخت رأسه بِحجَر من فوق الحصن.
{وأورثكم أرضَهم وديارَهم وأموالهم} كالمواشي والنقود والأمتعة. رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار، وقال لهم: «إنكم في منازلكم» {و} أورثكم {أرضاً لم تطؤوها} بعدُ، قيل: خيبر، ولم يكونوا نالوها، أو: مكة، أو: فارس والروم، أو: كل أرض لم تُفتح إلى يوم القيامة، فمكّنهم الله من ذلك كله، وفتح عليهم مشارق الأرض ومغاربها. {وكان الله على كل شيءٍ قديراً} فيقدر على جميع ذلك.
الإشارة: هذه عادة الله مع خواصه، أن يُخوفهم ثم يُؤمنهم، ويذلهم ثم يعزهم، ويفقرهم ثم يغنيهم، ويجعل دائرة السوء على مَن ناوأهم، ويكفيهم أمرهم من غير محاربة ولا قتال، {وكفى الله المؤمنين القتال...} الآية. ثم يكون لهم التصرف في الوجود بأسره، أمرهم بأمر الله، وحكمهم بحكمه، والله غالب على أمره.
ولَمَّا نصر الله رسولَه، وفرّق الأحزاب، وفتح عليه قريظة والنضير، ظنّ أزواجه أنه اختص بنفائس أموال اليهود وذخائرهم، فقعدن حوله وقلن: يا رسول الله؛ بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل والإماء والخول ونحن على ما تراه من الفاقه والضيق، وآلمن قلبه- عليه الصلاة والسلام- لمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأن يعاملهن به بما يعامل به الملوكُ والأكابرُ أزواجَهم.