فصل: تفسير الآيات (25- 27):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (19- 22):

{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)}
قلت: السقاية والعمارة: مصدران، فلا يشبهان بالجثة، فلابد من حذف، أي: أجعلتم أهل سقاية الحاج كمن آمن، أو جعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن.
يقول الحق جل جلاله: {أجعلتُم} أهل {سِقَايةَ الحاجِّ و} أهل {عمارة المسجدِ الحرام} من أهل الشرك المحبطة أعمالُهم، {كمن آمن باللَّهِ واليوم الآخر} من أهل الإيمان، {وجاهَد في سبيل الله}؛ لإعلاء كلمة الله، المثبتة أعمالهم، بل {لا يستوون عند الله} أبداً؛ لأن أهل الشرك الذين حبطت أعمالهم في أسفل سافلين، إن لم يتوبوا، وأهل الإيمان والجهاد في أعلى عليين.
ونزلت الآية في علي كرم الله وجهه والعباس وطلحة بن شيبة، افتخروا، فقال طلحة: أنا صاحب البيت، وعندي مفاتحه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية، وقال علي رضي الله عنه: لقد أسلمت وجاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيَّن الله تعالى أن الإيمان والجهاد أفضل، ووبخ من افتخر بغير ذلك فقال: {والله لا يهدي القوم الظالمين} أي: الكفرة الذين ظلموا أنفسهم بالشرك، ومعاداة الرسول صلى الله عليه وسلم، وداموا على ذلك، وقيل: المراد بالظالمين: الذين يسوون بينهم وبين المؤمنين.
ثم أكد بقوله: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظمُ درجةً}، وأعلى رتبة، وأكثر كرامة، {عند الله}، ممن لم يستجمع هذه الصفات، أو من أهل السقاية والعمارة عندكم، {وأولئك هم الفائزون} بكل خير، الظافرون بنيل الحسنى والزلفى عند الله، دون من عداهم ممن لم يفعل ذلك.
ثم زاد في كرامتهم فقال: {يُبشرهم ربُّهم برحمةٍ منه} أي: تقريب، وعطف منه {ورضوان وجنات لهم فيها} أي: في الجنان {نعيم مقيم}؛ دائم، لا نفاد له ولا انقطاع. وتنكير المبشر به؛ إشعار بأنه وراء التعيين والتعريف، حال كونهم {خالدين فيها أبداً}، أكد الخلود بالتأبيد؛ لأنه قد يطلق على طُول المكث، {إن الله عنده أجر عظيم} يُستحقر دونه مشاق الأعمال المستوجبة له، أو نعيم الدنيا؛ إذ لا قدر له في جانب نعم الآخرة.
الإشارة: لا يستوي من قعد في وطنه مع عوائده وأسبابه، راكناً إلى عشائره وأحبابه، واقفاً مع هواه، غافلاً عن السير إلى مولاه، مع من هاجر وطنَه وأحبابَه، وخرق عوائده هو أسبابَه، وجاهد نفسه وهواه، سائراً إلى حضرة مولاه، لا يستوون أبداً عند الله؛ لأن هؤلاء مقربون عند الله، والآخرون في محل البعد عن الله، ولو كثر علمهم وعملهم عند الله، شتان بين من همته القصور والحور، وبين من همته الحضور ورفع الستور، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان، وجنات المعارف لهم فيها نعيم لأرواحهم، وهو الشهود والعيان، لا يحجب عنهم طرفة عين، إن الله عنده إجر عظيم، لا يخطر على قلب بشر لا حرمنا الله من ذلك.

.تفسير الآيات (23- 24):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)}
يقول الحق جل جلاله: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم}؛ الذين بقوا على كفرهم {أولياءَ}؛ توالونهم بالمحبة والطاعة، {إِن استحبوا الكفرَ} واختاروه على الإيمان. نزلت في شأن المهاجرين؛ فإنهم لما أُمروا بالهجرة قالوا: إن هاجرنا قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا، وذهبت تجارتنا، وبقينا ضائعين. وقيل: نزلت فيمن ارتد ولحق بمكة، فنهى الله عن موالاتهم. {ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون}؛ بوضعهم الموالاة في غير موضعها.
{قل إِن كان آباؤكُم وأبناؤكُم وإِخوانُكم وعشيرتُكم} أي: أصحابكم، أو أقرباؤكم، {وأموال اقترفتُموها}؛ اكتسبتموها، {وتجارة تخشوْنَ كسادَهَا} أي: فوات وقت إنفاقها، {ومساكنُ ترضونها}؛ لحسنها وسعتها، فإن كان ذلك {أحبَّ إليكم من الله ورسولهِ} أي: من الإيمان بالله وصحبة ورسوله، {وجهادِ في سبيله}، فآثرتم ذلك، وتخلفتم عن الإيمان والهجرة، {فتربصوا حتى يأتي اللَّهُ بأمره} أي: بعقوبة عاجلة أو آجلة، أو بنصر وفتح على المؤمنين، كفتح مكة وغيرها، والمراد بالمحبة: الاختيارية دون الطبيعة؛ فإنها لا تدخل تحت التكليف، والتحفظ عنها؛ لأن حب الأوطان والعشائر طبيعي، والحب المكلف به اختياري، بحيث يجاهد نفسه في إبدال الطبيعي بالاختياري.
ثم هدد من وقف مع حب الأوطان بقوله: {والله لا يهدي القوم الفاسقين} لا يرشدهم ولا يوفقهم. وفي الآية تهديد عظيم، وقلَّ من تحفظ عنه. قاله البيضاوي.
الإشارة: الهجرة من أوطان الغفلة واجبة، ومفارقة الأصحاب والعشائر؛ الذين لا يوافقون العبد على النهوض إلى الله فريضة، فيجب على المريد أن يهاجر من البلد التي لا يجد فيها قلبه، ولا يجد فيها من يتعاون به على ربه، كائنة ما كانت، وما رأينا ولياً قط أنتج في بلده، إلا القليل، فلما هاجر صلى الله عليه وسلم من وطنه إلى المدينة. وحينئذ نصر الدين، بقيت سنة في الأولياء، لا تجد ولياً يعمر سوقُه إلا في غير بلده، ويجب عليه أيضاً أن يعتزل من يشغله عن الآباء والأبناء والأزواج والعشائر، وكذلك الأموال والتجارات التي تشغل قلبه عن الله، بعد أن يقيم في أولاده حقوق الشريعة، فاللبيب هو الذي يجمع بين الحقيقة والشريعة، فلا يضيع من يعول، ولا يترك حق من يتعلق به من الزوجة أو غيرها، ويذكر الله مع ذلك، فيخالطهم بحسه، ويفارقهم بقلبه، فإن لم يستطع وأراد دواء قلبه فليخير الزوجة، ويُوكل من ينوب عنه في القيام بحقوق العيال، حتى يقوى قلبه ويتمكن مع ربه، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجعَل لَّهُ مَخرَجَاً وَيَرزُقهُ مِن حَيثُ لاَ يَحتَسِبُ وَمَن يَتَوَّكَّل عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسبُه} [الطلاق: 2 3].
ولإبراهيم بن أدهم رضي الله عنه:
هَجَرْتُ الخَلْقَ طُرّاً في رِضاكَا ** وأَيْتَمْتُ البَنينَ لِكَيْ أَرَاكَا

فَلَوْ قَطَّعْتَني إِرْباً فَإرْباً ** لِمَا حنَّ الفُؤَادُ إِلَى سِوَاكَا

وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (25- 27):

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)}
قلت: {ويوم حنين}: عطف على {مواطن}، أو منصوب بفعل مضمر، وهذا أحسن؛ لأن قوله: {إذ أعجبتكم كثرتكم} خاص بيوم حنين. انظر: ابن جزي.
يقول الحق جل جلاله: في تذكيرهم بالنعم: {لقد نصَركُم اللَّهُ في مواطنَ كثيرةٍ} أي: في مواقف الحرب ومداحضها في مواضع كثيرة، {و} نصركم أيضاً {يومَ حُنينٍ}، وهي غزوة كانت بعد فتح مكة، متصلة بها، في موضع يقال له: حنين، سمي باسم رجل كان يسكنه، وهو وادٍ بين مكة والطائف، حارب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وكانوا اثنى عشر ألفاً: عشرة آلاف من الذين حضروا فتح مكة، وألفان انضموا إليهم من الطلقاء، قاتلوا هوازن وثقيف ومن انضم إليهم من قبائل العرب. وكانوا ثلاثين ألفاً، فلما التقوا مع بعض المشركين قال بعض المسلمين: لن نُغلَبَ اليوم من قلة، إعجاباً بكثرتهم، واقتتلوا قتالاً شديداً، فأدرك المسلمين إعجابهم، واعتمادهم على كثرتهم، فانهزموا حتى وصل جُلهم إلى مكة، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مركزه، ليس معه إلا عمه العباس، آخذاً بلجامه، وابن عمه أبو سفيان بن الحارث، وناهيك شهادة على تناهي شجاعته صلى الله عليه وسلم، فقال العباس وكان صيِّتاً: صِحْ بالناس، فنادى: يا عباد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فكروا عنقاً واحداً، يقولون: لبيك لبيك، ونزلت الملائكة، فالتقوا مع المشركين، فقال عليه الصلاة والسلام: «هذا حين حَمِي الوَطيس»، ثم أخذ كفاً من تراب فرماهم، وقال: «شاهت الوجوه»، ثم قال: «انهزموا وربِّ الكعبة»، فانهزموا.
فأشار تعالى إلى مقالتهم معاتباً لهم عليها بقوله: {إذْ أعجبتكُم كثرتُكم فلم تُغن عنكم شيئاً} أي: فلم تُغن تلك الكثرة عنكم شيئاً من الإغناء، أو من أمر العدو. وهذه المقالة صدرت من غير النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم؛ لأنه معصوم من الإعجاب، وإن ثبت أنه قال ذلك فليس على وجه الإعجاب، بل على وجه الإخبار، وعلى ذلك جرى الحكم في المذهب: من حرمة الفرار عند بلوغ اثني عشر ألفاً، وكان المسلمون يومئذ اثني عشر ألفاً بالطلقاء؛ وهم مسلمة الفتح: وكانوا ألفين، وسُموا بالطلقاء؛ لمنّ النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، يقال لمن أطلق من أسر: طليق، وجمعه على طلقاء نادر؛ لأنه يشترط في فعيل، الذي يجمع على فعلاء، أن يكون بمعنى فاعل، كظريف وشريف، لا بمعنى مفعول، كدفين ودفنى، وسخين وسخنى، منه. طليق.
ثم قال تعالى: {وضاقتْ عليكم الأرضُ بما رحُبَتْ}؛ برحبها، أي: ضاقت على كثرة اتساعها، فلم تجدوا فيها مكاناً تطمئن إليه نفوسكم من الدهش، {ثم وليتم مدبرين}؛ هاربين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، {ثم أنزل الله سكينته} أي: طمأنينته {على رسوله وعلى المؤمنين} بعد انهزامهم، فرجعوا وقاتلوا، أو على من بقي مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يفروا.
وإعادة الجار؛ للتنبيه على اختلاف حالهما.
{وأنزل جنوداً} من الملائكة {لم تروها} بأعينكم، وكانوا خمسة آلاف، أو ثمانية، أو ستة عشر، على اختلاف الأقوال. {وعذَّبَ الذين كفروا} بالقتل والأسر والسبيٍ، {وذلك جزاءُ الكافرين} أي: ما فعل بهم هو جزاء كفرهم في الدنيا، {ثم يتوبُ الله من بعد ذلك على من يشاء} منهم، بالتوفيق للإسلام، {والله غفور رحيم} يتجاوز عنهم ويتفضل عليهم بالتوفيق والهداية.
رُوي أن أناساً منهم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسْلَمُوا، وقالوا: يا رسولَ الله، أنْتَ خيرُ الناس وأبرهم، وقد سُبي أهلُونا وأولادُنا، وأُخِذَتْ أموالُنَا وقد سُبي يومئذ ستة آلاف نفس، وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى، فقال: «اختاروا، إما سَبْيكُمْ، وإما أمْوالَكُم». فقالوا ما كُنَّا نَعدِلُ الأحسابِ شيئأً، فمنْ كان بيَدِهِ سبي فطابتْ نفسُهُ أنْ يرُدَّهُ فشأنُهُ، ومن لا، فليُعْطِنَا، وليكُنْ قَرْطاً علينا حتَّى نُصيب شيئاً فنُعطِيِه مثله، فقالوا: رضينا وسَلَّمنا، فقال: «إنِّي لا أدري، لَعَلَّ فِيكُمْ مَنْ لا يَرضَى، فارجعوا حتى يرفع إِليَّ عُرفَاوكُمُ أمرَكم» فرفعوا إليه أمْرَهمْ، وقالوا: قد رضُوا، فردَّ السبي إليهم، وقسم الأموال في المؤلفة قلوبهم، ترغيباً في تسكين قلوبهم للإسلام. والغزوة مطولة في كتب السيرة، والله تعالى أعلم.
الإشارة: لقد نصركم الله، يا معشر المريدين، على جهاد نفوسكم وتيسير أموركم، في مواطن كثيرة، إذا رجعتم إلى ربكم، واعتزلتم من حولكم وقوتكم في جميع أموركم، فمن علامة النجاح في النهاية الرجوع إلى الله في البداية، ما تعذر مطلب أنت طالبه بربك، ولا تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك، فمن رجع إلى نفسه، أو استند إلى عقله وحدسه، لم تغن عنه شيئاً، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، ورجع من حيث جاء، فإن انتبه، ورجع إلى ربه، أنزل سكينة عليه، وأيده باليقين، ورجا أن يدرك أمله من رب العالمين.
قال الورتجبي: قوله تعالى: {ثم أنزل الله سكينتة على رسوله}، سكينته عليه الصلاة والسلام زيادة أنوار كشف مشاهدة الله، له، حين خاف من مكر الأزل، فأراه الله اصطفائيته الأزلية، وأمنة من مكره، لا أنه ينظر من الحق إلى نفسه طرفة عين، لكن إذا غاب في بحر القدم لم ير للحدث اثراً، ورأى الحدثان متلاشية في فيض العظمة، ففزع منه به، فآواه الله منه إليه، حتى سكن به عنه. اهـ.

.تفسير الآية رقم (28):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)}
يقول الحق جل جلاله: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نَجَس} أي: عين الخبث، مبالغة في خبثهم، إما لخبث باطنهم بالكفر، أو لأنهم لا يتطهرون من النجاسات، ولا يتوقون منها، فهم ملابسون لها غالباً. وعن ابن عباس رضي الله عنه: أن أعيانهم نجسة كالكلاب. قاله البيضاوي. {فلا يقربوا المسجدَ الحرام}، وهو نص على منع المشركين وهم عبدة الأوثان من المسجد الحرام، وهو مجمع عليه، وقاس مالك على المشركين جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، وقاس على المسجد الحرام سائر المساجد، ومنع جميع الكفار من جميع المساجد.
وجعلها الشافعي عامة في الكفار، خاصةً بالمسجد الحرام، فمنع جميع الكفار من دخول المسجد الحرام خاصة، وأباح دخول غيره، وقصرها أبو حنيفة على موضع النهي، فمنع المشركين خاصة من دخول المسجد الحرام وأباح لهم سائر المساجد، وأباح دخول أهل الكتاب في المسجد الحرام وغيره. قاله ابن جزي.
قوله تعالى: {بعدَ عامهم هذا} يعني: سنة تسع من الهجرة، حين حج أبو بكر بالناس، وقرأ عليٌّ رضي الله عنه عليهم سورة براءة.
{وإن خِفْتُمْ عَيلةً} أي: فقرأ بسبب منع المشركين من الحرم، وكانوا يجلبون لها الطعام، فخاف الناس قلة القوت منها، إذا انقطع المشركون عنهم، فوعدهم الله بالغنى بقوله: {فسوف يغْنيِكُم الله من فضله}؛ من عطائه وتفضله بوجه آخر. وقد أنجز وعده بأن أرسل السماء عليهم مدراراً، وأسلمت العرب كلها، وتمادى جلب الطعام إلى مكّة، ثم فتح عليهم البلاد، وجلبت لهم الغنائم، وتوجه الناس إليهم من أقطار الأرض، وما زال كذلك إلى الآن.
وقيده بالمشيئة؛ لتنقطع الآمال إلى الله، ولينبه على أنه متفضل في ذلك وإن الغنى الموعود يكون لبعض دون بعض، وفي عام دون عام، {إن الله عليمٌ} بأحوالكم، {حكيم} فيما يعطي ويمنع.
الإشارة: بيوت الحضرة وهي القلوب المقدسة لا ينبغي أن يدخلها شيء من شرك الأسباب، أو الوقوف مع رفق الأصحاب، أو الركون إلى معلوم حتى يفرد التعلق بالحي القيوم، ولا ينبغي أيضاَ أن يدخلها شيء من نجاسة حس الدنيا وأكدارها وأغيارها، فيجب على أربابها الفرار من مواطن الكدر، والعزلة عن أربابها؛ لئلا يدخل فيها شيء من نجاستها، فتموت بعد حياتها، وكان عيسى عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه: (لا تجالسوا الموتى فتموت قلوبكم، قالوا: من الموتى يا روح الله؟ قال: المحبون للدنيا الراغبون فيها). فإن خفتم علية؛ بالفرار منهم واعتزال نجاستهم، فسوف يغنيكم الله من فضْلِ غَيْبه إن شاء في الوقت الذي يشاء، إذ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. والله تعالى أعلم.
قال القشيري: {إنما المشركون نجس} أي: لأنهم فقدوا طهارة الأسرار، فبقوا في مزابل الظنون والأوهام، فَمُنِعُوا قُربانَ المساجد التي هي مساجدُ القرب، وأما المؤمنون فطهَّرهم عن التدنُّس بشهود الأغيار، فطالعوا الحقَّ فرْدوا فيما ينشيه من الأمر ويُمضيه من الحُكم. اهـ.