فصل: تفسير الآيات (43- 45):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (43- 45):

{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)}
يقول الحق جّل جلاله: {فاستمسكْ} أي: تمسّك {بالذي أُوحِيَ إِليك} من الآيات والشرائع، واعمل بذلك، سواء عجلنا لك الموعد أو أخرناه، {إِنك على صراطٍ مستقيم}؛ على دين قَيم لا عوجَ فيه، وهو تعليل للأمر بالاستمساك. {وإِنه} أي: ما أُوحي إليك {لَذِكرّ}؛ لشرف عظيم {لك ولقومك}؛ ولأمتك، أو: لقومك من قريش، فما زال العز فيهم، والشرف لهم، من زمانه صلى الله عليه وسلم إلى قرب الساعة. قال صلى الله عليه وسلم: «لا يزال هذا الشأن في قريش ما بقيّ منه اثنان» وفي رواية: «لا يزال هذا الأمر في قريش، لا يُعاديهم أحد إلا كُبّ على وجهه بمكة، ويعدهم الظهور، فإذا قالوا: لِمن الملك بعدك؟ أسمك فلم يجبهم، حتى نزلت: {وإنه لذكر لك ولقومك} فكان بعد ذلك إذا سئل قال: لقريش» فلا يُجيبونه، فقبلته الأنصار على ذلك.
أو: وإنه لموعظة لك ولأمتك بأجمعها. {وسوف تسألون} يوم القيامة عن شكركم هذه النعمة، أو: عما أوحي إليه، وعن قيامكم بحقوقه، وعن تعظيمكم له.
{واسْأَلْ من أرسلنا مِن قبلك مِن رسلنا أجعلنا من دون الله آلهةً يُعبدون}، فليس المراد سؤال الرسل حقيقة، ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم والفحص عن مِللهم، هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء؟ وكفاه نظراً وفحصاً نظره في كتاب الله المعجز، المصدق لما بين يديه. وإخبارُ الله فيه بأنهم إنما يعبدون من دون الله ما لم يُنزل به سلطاناً. وهذه الآيةُ في نفسها كافية، لا حاجة إلى غيرها.
وقيل إنه صلى الله عليه وسلم جُمع له الأنبياء- عليهم السلام- وقيل له: سلهم، وهو ضعيف. وقيل معناه: سل أمم مَن أرسلنا، وهم أهل الكتابين: التوراة والإنجيل، وإنما يخبرونه عن كتب الرسل، فإذا سألهم فأكنما سأل الأنبياء، ومعنى هذا السؤال: التنبيه على بطلان عبادة الأوثان، والاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد، وأنه ليس ببدع ابتدعه حتى ينكر ويعادي: وقيل: الخطاب له، والمراد غيره ممن يرتاب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الاستمساك بالوحي كان حاصلاً له صلى الله عليه وسلم، وإنما المراد الثبوت على ما هو حاصل، والاسترشاد إلى ما ليس بحاصل، فالمراد الترقي في زيادة العلم، والكشف إلى غير نهاية، كقوله: {اهدنا الصراط المستقيم}، فالترقي لا ينقطع لمَن تمسك بالوحي التمسُّك الحقيقي، بحيث كُشِف له عن غوامض أسرار القرآن، وزال الحجاب بينه وبين الله تعالى، فهو دائماً في زيادة العلم والكشف، إلى ما لا نهاية له. وهذا هو الشرف العظيم في الدارين. فمَن لم يشكره سُئل عنه، أو سُلب منه في الدنيا. ثم إن التوحيد في الذات والصفات والأفعال مما أجمعت عليه الملل، وكل داعٍ إنما يدعو إليه، وكل شيخ مربي إنما يُوصل إليه، ومَن لم يُوصل إليه أصحابه فهو دجّال. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (46- 50):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا} أي: متلبساً بآياتنا {إِلى فرعون وملَئِه فقال إِني رسولُ رب العالمين} فأجابوه بقولهم: {فأتنا بآية إن كنت من الصادقين} كما صرّح به في آية أخرى. {فلما جاءهم بآياتنا إِذا هم منها يضحكون}؛ يسخرون منها، ويهزؤون، ويسمُّونها سحراً. و{إذا} للمفاجأة، وهو جواب لمّا، لأن فعل المفاجأة معها مقدّر، وهو العامل في {إذا}، أي: لما جاءهم فاجؤوا وقت ضحكهم منها، أي: استهزؤوا بها أول ما رأوها، ولم يتأملوا فيها.
{وما نُرِيهم من آيةٍ} من الآيات {إِلا هي أكْبرُ من أُختها}؛ قرينتها، وصاحبتها التي كانت قبلها، أي: ما ظهر لهم آية إلا وهي بالغة أقصى مراتب الإعجاز، بحيث يجزم كل مَن ينظر إليها أنها أكبر من كل ما يُقاس بها من الآيات. والمراد: وصف الكل بغاية الكِبرَ من غير ملاحظة قصور في شيء منها، قال النسفي: وظاهر النظم يدلّ على أن اللاحقة أعظم من السابقة، وليس كذلك، بل المراد بهذا الكلام: أنهن موصوفات بالكبر، كما يقال: هما أخوان، كلّ منهما أكبر من الآخر. اهـ. وقال في الانتصاف: الظاهر: أن كل آية إذا أُفردت استغرقت الفكر وبهرته، حتى يجزم أنها النهاية، وأنَّ كل آية دونها، فإذا نقل الفكر إلى الأخرى كانت كذلك. وحاصله: أنه لا يقدر الفكر أن يجمع بين آيتين، لتتميز الفاضلة من المفضولة. اهـ.
{وأخذناهم بالعذاب} وهو ما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءَالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 130]، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ...} [الأعراف: 133] الآية. {لعلهم يرجعون}؛ لكي يرجعوا عما هم عليه من الضلال.
{وقالوا يا أيُّه الساحِرُ}، كانوا يقولون للعالِم: إنما هو ساحر؛ لتعظيمهم علم السحر، أو: نادوه بذلك في مثل تلك الحالة لغاية عتوهم ونهاية حماقتهم وقرأ الشامي بضم الهاء، لاتباع حركة ما قبلها حين سقطت الألف، {ادْعُ لنا ربك} يكشف عنا العذاب {بما عَهِدَ عندك} أي: لعهده عندك بأن دعوتك مستجابة، أو: بما عهد عندك من النبوة والجاه، أو: بما عهد من كشف العذاب عمن اهتدى، {إِننا لمهتدون}؛ مؤمنون أن كشف عنا بدعوتك، كقوله: {لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} [الأعراف: 134]، {فلما كشفنا عنهم العذاب} بدعوته {إِذا هم يَنكُثُون}؛ ينقضون العهد، أي: فاجؤوا وقت نكث عهدهم بالاهتداء. وقد مرَّ تمامه في الأعراف.
الإشارة: قد ظهرت الآيات على الأنبياء والرسل، فلم ينتفع بها إلا مَن سبقت له العناية، وكذلك ظهرت الكرامات على أيدي الأولياء الداعين إلى الله، فلم ينتفع بها إلا مَن سبق له التقريب والاصطفاء. على أن الصادق في الطلب لا يحتاج إلى ظهور كرامة، بل إذا أراد الله أن يوصله إليه وصله إلى وَليّ من أوليائه، فطوى عنه وجود بشريته، وأشهده سر خصوصيته، فخصع له من غير توقف على كرامة ولا آية. وأما مَن لم يسبق له التقريب؛ إذا رأى ألف آية ضحك منها واستهزأ، ورماها بالسحر والشعوذة، والعياذ بالله من البُعد والطرد.

.تفسير الآيات (51- 56):

{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ (56)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ونادى فرعونُ}، إما بنفسه، أو: أمر مَن ينادي، كقولك: قطع الأميرُ اللصّ. والظاهر أنه نادى بنفسه، {في قومه}؛ في مجمعهم وفيما بينهم، بعد أن كشف العذاب عنهم، مخافة أن يؤمنوا، {قال يا قوم أليس لي مُلكُ مِصرَ وهذه الأنهارُ}؛ أنهار النيل، ومعظمها أربعة: نهر الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تييس، {تجري من تحتي}؛ تحت سريري؛ لارتفاعه، أو: بين يدي في جناتي وبساتيني.
قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: نيل مصر سيد الأنهار، سخّر الله له كل نهر بين المشرق والمغرب، فإذا أراد الله أن يجريه أمر الأنهار فأمدته بمائها، وفجّر له كل نهر عيوناً، فإذا انتهت جريته إلى ما أراد الله سبحانه أوحى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره. قاله في الاكتفاء. ومهبطه من جبل القمر، وقيل: أصله من الجنة، والله تعالى أعلم. وحدُّ مصر: من بحر الإسكندرية إلى أسوان، بطول النيل. والأنهار المذكورة هي الخلجان الكبار، الخارجة من النيل.
وعن عبد الله بن طاهر: أنه لما ولي مصر خرج إليها، فلما شارفها، قال: أهي القرية التي افتخر بها فرعون، حتى قال: {أليس لي ملك مصر}؟ والله لهي أقلّ عندي من أن أدخلها، فثنى عنانه. وعن هارون الرشيد: أنه لما قرأها، قال: والله لأولينّها أخسَّ عبيدي، فولاها الخُصَيْب، وكان خادم وُضوئه.
{وهذه الأنهارُ}: إما عطف على {ملك مصر}، ف {تجري}: حال منها، أو: واو الحال، ف {هذه} مبتدأ، و{الأنهار}: صفتها و{تجري}: خبر، {أفلا تُبصرون} قوتي وسلطاني، مع ضعف موسى وقلة أتباعه. أراد بذلك استعظام ملكه وترغيب الناس في اتباعه.
ثم قال: {أم أنا خير} مع هذه المملكة والبسْطة {مِن هذا الذي هو مَهينٌ} أي: ضعيف حقير، من: المهانة، وهي القلة. {ولا يكاد يُبينُ} الكلام لما به من اللثة. قاله افتراء عليه عليه السلام، وتنقيصاً له في أعين الناس، باعتبار ما كان في لسانه عليه السلام. وقد كانت ذهبت عنه، لقوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُوؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: 36]. والهمزة للتقرير، كأنه قال إثر ما عدّد من أسباب فضله، ومبادئ خيريته: أثبت عندكم واستقر لديكم أني أنا خير، وهذه حال، مِن هذا. وإما متصلة، والمعنى: أفلا تبصرون أم تبصرون؟ فوضع قوله: {أما أنا خير} موضع {تُبصرون}؛ لأنهم إذا قالوا: أنت خير؛ فهم عنده بُصَراء. وهذا من باب تنزيل السبب منزلة المسبب. انظر أبا المسعود.
{فلولا أُلْقِيَ عليه أسَاوره من ذهب} أي: فهلاَّ أُلقي عليه مقاليد الملك إن كان صادقاً، لأنهم كانوا إذا سوّدوا رجلاً سوّروه بسوار، وطوّقوه بطوق من ذهب.
{أو جاء معه الملائكةُ مقترنين}؛ مقرونين يمشون معه، مقترن بعضهم ببعض، ليكونوا أعضاده وأنصاره، أو: ليشهدوا له بالنبوة؟ {فاستخف قومَهُ} أي: فاستفزهم، وطلب منهم الخفة والسرعة في مطاوعته. أو: فاستخف أحلامهم واستزلهم، {فأطاعوه} فيما أمرهم به {إِنهم كانوا قوماً فاسقين}، خارجين عن الدين، فلذلك سارعوا إلى طاعته.
{فلما آسَفُونا}؛ أغضبونا أشد الغضب، منقول من: أَسف: إذ اشتد غضبه، {انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين}، والمعنى: أنهم أفرطوا في المعاصي فاستوجبوا أن نُعجِّل لهم العذاب، وألا نحلُم عليهم. {فجعلناهم سَلَفاً}؛ قدوة لمَن بعدهم من الكفار، يسلكون مسلكهم في استيجاب مثل ما حلّ بهم من العذاب، فكل مَن تفرعن وتجبّر ففرعون إمامه وقدوته. أو: جعلناهم متقدمين في الهلاك، ليتعظ بهم مَن بعدهم إلى يوم القيامة. والسلف: جمع سالف، وهو الفارط المتقدم، {ومثلاً للآخِرين} أي: عظةً لهم، أو: قصة عجيبة، تسير مسير الأمثال، فيقال: مثلكم كقوم فرعون، كما قال تعالى: {كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ} [آل عمران: 11]. وهاهنا قراءات، قد وجَهناها في كتاب مستقل.
الإشارة: عاقبة التكبُّر والافتخار الذُّل والهوان والدمار، وعاقبة التواضع والانكسار العزُّ والنصرة، انظر إلى فرعون لما تعزّز واستكبر هلك مع قومه في لُجة البحار. قال القشيري: ليعلم أن مَن تعزّز بشيء دون الله فهلاكه وحتْفه فيه، وفرعون لمَّا استصغر موسى وحديثه، وعابَه بالفقر، سلَّطه الله عليه، فكان هلاكه بيده، وما استصغر أحدٌ أحداً إلا سُلط عليه. ثم قال في قوله تعالى: {فاستخف قومه فأطاعوه}: طاعةٌ الرهبة لا تكون مخلصةً، وإنما تكون الطاعةُ صادقةً إذا صَدَرَتْ عن الرغبة، {فلما آسفونا}؛ أغضبونا، وإنما أراد: أغضبوا أولياءنا، وهذا أصل في باب الجمع، أضاف إغضابهم أولياءه إلى نفسه. وفي الخبر أنه تعالى يقول: «مرضت فلم تعدني» وقال لإبراهيم عليه السلام: {يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج: 27] وقال لنبينا صلى الله عليه وسلم: {مَّن يُطِع الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. اهـ.

.تفسير الآيات (57- 62):

{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ولما ضُرب ابنُ مريمَ مثلا}، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ على قريش: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] الآية، فغضبوا، فقال ابن الزِّبَعْرى: يا محمد! أخاصة لنا ولآلهتنا، أم لجميع الأمم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم»، فقالوا: ألست تزعم أن عيسى نبي، يُثنى عليه وعلى أمّه خيراً، وقد علمت أنَّ النصارى يعبدونهما؟ وعزيز يُعبد، والملائكة يُعبدون، فإن كان هؤلاء في النار، فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم، ففرحوا، وضحكوا، وسكت النبيُّ انتظاراً للوحي.
وفي رواية: فقال لهم صلى الله عليه وسلم: «إنما عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك» وقال لابن الزبعرى: «ما أجهلك بلغة قومك، أَمَا فهمت أن» ما «لِما لا يعقل، فهي خاصة بالأصنام»، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى...} [الأنبياء: 101] الآية. ونزلت هذه الآية.
والمعنى: ولما ضرب ابن الزبعرى عيسى {ابن مريم مثلاً} لآلهتهم، وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة النصارى إياه {إِذا قومُك} قريش {منه} أي: من هذا المثل {يَصِدُّون} ترتفع لهم جلبة وضجيج، فرحاً وضحكاً، فهو من: الصديد، وهو الجلبة ورفع الصوت، ويؤيده: تعديته بمَن، ولو كان من الصدود لقال: {عنه}، وقرئ بالكسر والضم، وقيل: هما لغتان، كيعكِفُون ويعكُفُون ويعرِشون ويعرُشُون، وقيل: بالكسر معناه: الصديد، أي: الضجيج والضحك، وبالضم معناه: الإعراض، فيكون من الصدود، أي: فهم من أجل هذا المثل يعرضون عن الحق، أي: يثبتون على ما كانوا عليه من الإعراض، أو يزدادون.
{وقالوا آلهتُنا خيرٌ أَمْ هو} يعني أن آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى، فإذا كان عيسى من حصب جهنم كان أمر آلهتنا هيناً. أو: فإذا كان عيسى في النار، فلا بأس بكوننا مع آلهتنا فيها. قال تعالى: {ما ضربوه لك إِلا جَدَلا} أي: ما ضربوا لك ذلك المثل إلا لأجل الجدال والخصام، لا لطلب الحق حتى يذعونا له عند ظهوره، {بل هم قوم خَصِمُونَ} أي: لُدّاً، شِدَاد الخصومة، مجبولون على اللجاج، وذلك أن الآية إنما قصدت الأصنام، بدليل التعبير ب ما، إلا أن ابن الزبعرى حدا عنه لمّا رأى كلام الله تعالى محتملاً لفظُه للعموم، مع علمه بأن المراد به أصنامهم، وجد للحيلة مساغاً، فصرف اللفظ إلى الشمول والإحاطة بكل معبود غير الله، على طريق اللجاج والجدال والمكابرة، وتوقَّح في ذلك، فصمت عنه صلى الله عليه وسلم حتى أجاب عنه ربه.
وقيل: لما سمعوا قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ...} [آل عمران: 59] الآية، قالوا: نحن أهدى من النصارى، لأنهم عبدوا آدمياً، ونحن نعبد الملائكة، فنزلت.
فقولهم: آلهتنا خير، هو حينئذ تفضيل لآلهتهم على عيسى عليه السلام؛ لأن المراد بهم الملائكة. ومعنى: {ما ضربوه...} الخ: ما قالوا هذا القول إلا للجدال. وقيل: لما نزل: {إن مثل عيسى عند الله..} الآية، قالوا: ما يريد محمد إلا أن نعبده كما عبد النصارى المسيح. ومعنى {يصدون}: يضجون ويسخرون، والضمير على هذا في {أَم} هو لمحمد صلى الله عليه وسلم، وغرضهم ومرادهم بالموازنة بينه وبين آلهتهم الاستهزاء به صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يكون مرادهم التنصُّل عما أنكر عليهم من قولهم: الملائكة بنات الله، ومن عبادتهم لهم، كأنهم قالوا: ما قلنا بدعاً من القول، ولا فعلنا منكراً من الفعل، فإنَّ النصارى جعلوا المسيح ابن الله، وعبدوه، فنحن أرشد منهم قولاً وفعلاً، حيث نسبنا له الملائكة، وهم نسبوا إليه الأناسي. فقوله تعالى: {إن هو إِلا عبدٌ أنعمنا عليه} أي: ما عيسى إلا عبد، كسائر العبيد، أنعمنا عليه بالنبوة، {وجعلناه مثلاً لبني إِسرائيل} أي: أمراً عجيباً، حقيقاً بأن يسير ذكره كالأمثال السائرة، ففيه تنبيه على بطلان رفعه عن رتبة العبودية، أي: قصارى أمره أنه ممن أنعمنا عليه بالنبوة، وخصصناه ببعض الخواص البديعة، بأن خلقناه على وجهٍ بديع، وقد خلقنا آدم بوجه أبدع منه، فأين هو من رتبة الربوبية حتى يتوهم أنه رضي بعبادته مع الله؟ ومَن عبده فإنما عبد الشيطان.
ثم قال تعالى: {ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكةً في الأرض} بدلاً منكم، كذا قال الزجاج، ف مِن بمعنى البدل {يَخْلُفُون} أي: يخلفونكم في الأرض، أي: لو نشاء لذهبنا بكم وجعلنا بدلاً منكم ملائكة يخلفونكم في الأرض، فيكونون أطوع منك لله تعالى، وقيل: {ولو نشاء} لقدرتنا على عجائب الأمور {لجعلنا منكم} بطريق التوالد، وأنتم رجال، من شأنكم الولادة- {ملائكة} كما خلقناهم بطريق الإبداع {في الأرض} مستقرين فيهم، كما جعلناهم مستقرين في السماء، يخلفونكم مثل أولادكم، ويباشرون الأفاعيل المنوطة بمباشرتكم، فكيف يستحقون المعبودية مع أنهم أجسام، متولدون عن أجسام، والمستحق للعبادة يتعالى عن ذلك؟!
{وإِنه} أي: عيسى عليه السلام {لَعِلْمٌ للساعة} أي: مما يعلم به مجيء الساعة عند نزوله. وقرأ ابن عباس {لَعَلَمٌ} بفتح اللام، أي: وإن نزوله لَعَلَم للساعة، أو: وإن وجوده بغير أب، وإحياءه للموتى، دليل على صحة البعث، الذي هو معظم ما ينكرة الكفرة.
وفي الحديث: إن عيسى عليه السلام ينزل على ثنية بالأرض المقدسة، يقال لها: أَفِيق، وهي عقبة بيت المقدس، وعليه مُمَصَّرتان، وشعر رأسه دهين، وبيده حربة يقتل بها الدجال، فيأتي بيت المقدس، والناس في صلاة العصر، والإمام يؤم بهم، فيتأخر الإمام، فيقدمه عيسى، ويصلي خلفه على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويخرب البيعَ والكنائس، ويقتل النصارى إلا مَن آمن به وبمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: الضمير للقرآن؛ لأن فيه الإعلام بالساعة، {فلا تمْتَرُنَّ بها}؛ فلا تشكنَّ فيها، من المرْية، وهو الشك، {واتبعونِ} أي: اتبعوا هداي وشرائعي، أو: رسولي: وقيل: هو قول نبينا صلى الله عليه وسلم مأموراً به من جهته تعالى: {هذا} أي: الذي أدعوكم إليه {صراط مستقيم}؛ موصل إلى الحق. {ولا يَصُدَّنكم الشيطانُ} عن اتباعي {إِنه لكم عدو مبينٌ}؛ بيِّن العداوة، حيث أخرج آباكم من الجنة، وعرضكم للبلية.
الإشارة: الوعظ والتذكير لا تسري أنواره في القلوب إلا مع التسليم والتصديق، والسكوت والاستماع، كما كان الصحابة رضي الله عنهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم كأنَّ على رؤوسهم الطير، وأما إن دخل معه الجدال واللجاج ذهبت بركته، ولم تسْر أنواره، ولذلك قيل: مذهب الصوفية مبني على التسليم والتصديق، ومذهب الفقهاء مبني على البحث والتفتيش، لكن مع الإنصار، وخفض الصوت، وحسن السؤال من غير ملاججة ولا غضب.