فصل: تفسير الآيات (43- 49):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (43- 49):

{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)}
قلت: يقال: عَبرت الرؤيا بالتخفيف عبارة، وهو أفصح من عبَّرت بالتشديد تعبيراً. واللام للبيان، أو لتقوية العامل؛ لضعف الفعل بتأخيره عن مفعوله. والأصل: تعبرون الرؤيا. وأصل {ادكر} اذتكر، فقلبت التاء دالاً مهملة، وأدغمت المعجمة فيها فبقيت دالاً. وإليه أشار ابن مالك بقوله:
في ادَّانَ وازْدَادْ وادَّكِرْ دالاً بَقِي

و{دأباً} حال، أي: دائبين، أو مصدر بإضمار فعله، أي: تدأبون دأباً. وفيه لغتان: السكون، والفتح.
يقول الحق جل جلاله: {وقال الملِكُ}؛ وهو ملك مصر الذي كان العزيز وزيراً له، واسمه: ريان بن الوليد. وقيل: مصعب بن الريان، وكان من الفراعنة رُوي أن يوسف عليه السلام لما لبث في السجن سْبع سنين سجد، وقال: إلهي، خلصني من السجن، فكلما دعا يوسف أمنت الملائكة، فاتفق في الليلة التي دعا فيها يوسف أن رأى الملكُ تلك الرؤيا التي ذكرها بقوله: {إني أرى} في المنام {سبعَ بقراتٍ سمَانٍ} خرجن من نهر يابس، وسبع بقرات عجاف مهازيل خرجن بأثرهن فابتلعت المهازيلُ السمان، {وسبعَ سنبلات خُضْرٍ} قد انعقد حَبُّها، {و} سبعاً، {أخر يابسات} قد أدركت، فالْتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها. فلما رأى ذلك انتبه مرعوباً، وجمع ندماءه، ودعا المفسرين، فقال: {يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي}؛ اعبروها، {إن كنتم للرؤيا تعْبُرون} أي: إن كنتم عالمين بعبارة الرؤيا.
{قالوا}: هذه {أضغاثُ أحلام}؛ تخاليطها، جمع ضَغث، وأصله: ما جمع من أخلاط النبات وحُزم، فاستعير للرؤيا الكاذبة. وإنما جمعوا {أحلام}؛ للمبالغة في وصف الحلم بالكذب. ثم قالوا: {ومن نحن بتأويل الأحلام بعالمين}، والمعنى: ليس لها تأويل عندنا؛ لأنها أكاذيب الشيطان، وإنما التأويل للمنامات الصادقة.
{وقال الذي نجا منهما} من صاحبي السجن، وهو الساقي، وكان حاضراً، {وادَّكرَ بعد أُمة} أي: وتذكر بعد جماعة من السنين، وهي سبع سنين، {أنا أُنبئكم بتأويله فأرسلون} إلى من عنده علمها، أو إلى السجن. رُوي أنه لما سمع مقالة الملك بكى، فقال الملك: ما لك تبكي؟ قال: أيها الملك؛ إن رؤياك هذه لا يعبرها إلا الغلام العبراني الذي في السجن، فتغير وجه الملك، وقال: إني نسيته، وما ذكرته منذ سبع سنين، ما خطر لي ببال. فقال الساقي: وأنا مثلك، فقال لهم الملك: وما يدريك أنه يعبر الرؤيا؟ فحدثه بأمره، وأمر الساقي فقال له: امض إليه وسله، فقال: إني والله أستحي منه؛ لأنه أوصاني ونسيت، فقال له: لا تستح منه؛ لأنه يرى الخير والشر من مولاه فلا يلومك. فأتاه.
فقال: {يوسفُ} أي: يا يوسف، {أيها الصّدّيق}: المبالغ في الصدق. وإنما وصفه بالصِّدِّيقية لما جرب من أحواله، وما رأى من مناقبه، مع ما سمع من تعبير رؤياه ورؤيا صاحبه، {افْتِنَا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات} أي: أفتني في رؤيا ذلك واعبرها لي، {لعلي أرجعُ إلى الناس} أي: أعودُ إلى الملك ومن عنده، أو إلى أهل البلد؛ إذ قيل: إن السجن كان خارجاً البلد.
{لعلهم يعلمون} تأويلها. أو يعلمون فضلك ومكانتك. وإنما لم يجزم بعلمهم؛ لأنه ربما اختُرِم دونه، أو لعلهم لا يفهمون ما يقول لهم.
{قال} في تعبيرها: {تزرعون سبعَ سنينَ دأباً} أي: على عادتكم المستمرة من الخصب والرخاء. {فما حصدتُّم فَذَرُوهُ}: اتركوه {في سُنْبُله}؛ لئلا تأكله السوس، وهي نصيحة خارجة عن عبارة الرؤيا، {إلا قليلاً مما تأكلون} في تلك السنين، أي: لا تدرسوا منه إلا ما تحتاجون إلى أكله خاصة، وذلك أن أرض مصر لا يبقى فيها الطعام عامين. فعلمهم حيلة يبقى بها السنين المخصبة إلى السنين المجدبة، وهو أن يتركوه في سنبله غير مُدرَس؛ فإن الحبة إذا بقيت في غشائها حُفظت بإذن الله.
{ثم يأتي من بعد ذلك سبع شِدَادٌ} أي: ذات شدة وجوع {يأكُلْنَ ما قدمتم لهن} أي: يأكل أهلهن ما ادخرتم لأجلهن. أسند الأكل إلى السنين مجازاً؛ تَطْبِيقاً بين المعبر والمعبر به، {إلا قليلاً مما تحصنون} أي: مما تخزنون وتخبئُون للزراعة والبذر. {ثم يأتي من بعد ذلك عام يُغاث الناس} أي: يغيثهم الله بالفرج من القحط، أو يغاث بالمطر، لكن مصر إنما تسقى من النيل. {وفيه} أيضاً {يَعْصِرُون} العنب والزيتون؛ لكثرة الثمار. أو يعصرون الضروع لحلب اللبن؛ لأجل الخصب. وهذه بشارة بشرهم بها بعد أن أوَّل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة. والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة. ولعله علم ما في السنة الثامنة من الخصب والرخاء بالوحي، أو بأن انتهاء الجدب لا يكون إلا بالخصب، وبأن سنة الله الجاربة أن يوسع على عباده بعد ما ضَيّق علهيم، لقوله: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} [الشرح: 5]. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الروح في أصل نشأتها علامة داركَةٌ، تكاشف بالأمور قبل وقوعها، إذا غابت عن إحساسها الذي حجبها عن ذلك العلم، ولو كانت من كافر إذا غاب عن حسها بنوم، أو اصطلام، عقل. فمن طهرها من دنس الشرك بالتوحيد، وغيبها عن شواغل الحس بالتفرغ والتجريد، رجعت إلى أصلها، وفاضت عليها العلوم التي كانت لها قبل التركيب في القالب الحسي، علماً وكشفاً. ولا شيء أنفع لها في الرجوع من السهر والجوع. وفي أسرار كثيرة حسية، ومعنوية، وبسببه جمع الله شمل يوسف بأبيه وإخوته. وبه أيضاً ملَّك اللَّهُ يوسف ونصره ومكنه في الأرض حتى ملك مصر وأهلها. ولذلك قال نبينا عليه الصلاة والسلام-: «اللهم إعِنِّي عَلَيهم أي على قريش بِسبعٍ كَسَبع يُوسفَ»
وذكر الغزالي في الإحياء، في أسرار الجوع، أربعين خصلة. وفي بعض الأثر: (أن الله تعالى عذب النفس بأنواع من العذاب، ومع كل عذاب يقول لها: من أنا؟ فتقول هي: ومن أنا؟ حتى عذبها بالجوع، فقالت: أنت ربي سبحانك الواحد القهار). والممدوح منه؛ هو المتوسط دون إفراط ولا تفريط، كما قال البوصيري.
وَاخْشَ الدَّسَائِسَ مِنْ جُوع ومِنْ شِبعٍ ** فَرُبَّ مَخْمَصَةٍ شَرٌّ مِنَ التُّخَمِ

وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (50- 57):

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)}
يقول الحق جل جلاله: ولما جاء الرسول من عند يوسف بالتعبير، وسمعه الملك، تعجب منه، واستعظم علمه وعقله، وقال: لا ينبغي لمثل هذا أن يُسجن، {ائتوني به فلما جاءه الرسولُ} ليُخرجه، {قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أيديهن}: ما شأنهن حتى قطعن أيديهن، وهل رأين مني ميلاُ إليهن. وإنما تأنى في الخروج، وقدَّم سؤال النسوة، والفحص عن حاله؛ ليظهر براءة ساحته، وليعلم الملك أنه سُجن ظلماً، فلا يقدر الحاسد أن يتوسل به إلى تقبيح أمره. وفيه دليل على أنه ينبغي أن يتقي مواضع التهم، ويجتهد، في نفيها، وفي الحديث: «مَنْ كََان يُؤمِنُ بِالله ِواليومِ الآخِرِفلا يَقِفَنَّ مَواقِفَ التُّهَم».
وفيه دليل على حلمه وصبره، وعدم اهتباله بضيق السجن؛ إذ لم يُجب الداعي ساعة دُعي بعد طول سجنه. ومن هذا المعنى تواضع معه نبينا صلى الله عليه وسلم حيث قال «لَو لَبِثت في السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسفُ لأَجَبْتُ الدَّاعِي» ولم يذكر امرأة العزيز كرماً، ومراعاةً للأدب، ورعياً لذمام زوجها، وستراً لها. بل ذكر النسوة اللاتي قطعن أيديهن.
ثم قال: {إن ربي بكيدهن عليم} حين قلن لِي: أطع مولاتك. وفي عبارته تعظيم لكيدهن، والاسشهاد عليه بعلم الله، وبراءته مما قذف به، والوعيد لهن على كيدهن. ثم جمع الملك النسوة، وكُن ستاً أو سبعاً، مات منهن ثلاث ويوسف في السجن، وبقي أربع ومعهن امرأة العزيز، و{قال} لهن: {ما خطبكُنَّ}؛ ما شأنكن {إذ راودتُنَّ} أي: حين راودتن {يوسفَ عن نفسه}، وأسند المراودة إلى جميعهن؛ لأن المَلِك لم يتحقق أن امرأة العزيز هي التي راودته وحدها. {قلنَ حاشَ لله}؛ تنزيهاً لله أن يعجز عن خلق عفيف مثله، أو تنزيهاً ليوسف أن يعصيه؛ لأجل خوف الله. وهذا تبرئة ليوسف ولهن، أو لهن فقط. وتكون تبرئة يوسف في قولهن: {ما علمنا عليه من سُوءٍ}: من ذنب.
{قالت امرأةُ العزيز الآن حَصْحَصَ الحق}: أي: تبين ووضح، أو ثبت واستقر، {أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} في قوله: {راودتني عن نفسي} فلما رجع إليه الرسول، وذكر ما قالته النسوة، وما أقرت به امرأة العزيز، قال: {ذلك ليعلم أني لم أخُنْهُ بالغيب} أي: فعلت ذلك التثبت والتأني في الخروج ليعلم العزيز أني لم أخنه في زوجته {بالغيب} في حال غيبته، أو بظهر الغيب وراء الأستار والأبواب المغلقة، بل تعففت عنها. {وأن الله لا يهدي كيدَ الخائنين} أي: لا ينفذه ولا يسدده. أو لا يهدي الخائنين ليكدهم. وأوقع الفعل على الكيد؛ مبالغةً. وفيه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها زوجها، وتوكيد لأمانته.
رُوي عن ابن عباس أنه لما قال: {لم أخُنْهُ بالغيب} قال جبريل عليه السلام: ولا حين هممت.
فقال: {وما أُبرئُ نفسي} لا أنزهها في عموم الأحوال، أو لا أزكيها على الدوام. قاله تواضعاً وإظهاراً للعبودية؛ وتنبيهاً على أنه لم يرد بذلك تزكية نفسه، ولا العجب بحاله، بل إظهاراً لنعمة العصمة والتوفيق.
ثم قال: {إنَّ النفسَ لأمارةٌ بالسوء} بحيث إنها مائلة بالطبع إلى الشهوات، فتهُم بها، وتستعمل القوى والجوارح في نيلها في كل الأوقات، {إلا ما رحم ربي}: إلا وقت رحمة ربي بالعصمة والحفظ، أو: إلا ما رحم الله من النفوس فيعصمها من ذلك. وقيل: الاستثناء منقطع، أي: لكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة، {إن ربي غفور رحيم}، يغفرما همت به النفوس، ويرحم من يشاء بالعصمة. أو يغفر للمستغفر ذنبه المعترف على نفسه، ويرحمه بالتقريب بعد تعرضه للإبعاد.
وقيل: إن قوله تعالى: {ذلك ليعلم أني لم أخُنْه بالغيب} إلى هنا، هو من كلام زليخا. والأول أرجح.
{وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي} أي: أجعله خاصتي وخلاصتي، أو أجعله خالصاً لنفسي. قال أولاً: {ائتوني به} فقط، فلما تبين له حاله وظهر كماله، قال: {ائتوني به أستخلصه لنفسي} رُوي أنه لما أراد ان يخرجه أرسل إليه بخلعة يأني فيها، وكان بين السجن والبلد: أربعة فراسخ، فقال يوسمف: لا أخرج من السجن حتى لا يبقى فيه أحد، فأمر الملك بخروج جميع مَن فيه. فلما خرج من السجن اغتسل وتنظف، ولبس ثياباً جدداً، فلما دخل على الملك، قال: اللهم إني أسألك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره. ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية، فقال: ما هذا اللسان؟. فقال: لسان آبائي. وكان الملك يعرف سبعين لساناً، فكلمه بها، فأجابه بجميعها، فتعجب منه، فقال: أحب أن أسمع رؤياي، فحكاها، ونعت له البقرات والسنابل وأماكنها فأجلسه على السرير، وفوض إليه أمره. وهذا معنى قوله تعالى: {فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين} أي: فلما أتوا به وكلمه وشاهد منه الرشد والدعاء، {قال إنك اليوم} عندنا {مكينٌ} أي: في مكانه ومنزلة، {أمين}: مؤتمن على كل شيء، ثم فوض إليه أمر المملكة.
وقيل: توفي قطفير أي: العزيز فنَصَّبه منصبه، وزوجه من زليخا بعد أن شاخت، وافتقرت، فدعا الله تعالى فرد عليها جمالها وشبابها، فوجدها عذراء وولد منها إفراثيم وميشا. ثم قال له الملك: ما ترى نصنع في هذه السنين المخصبة؟. {قال اجعلني على خزائنِ الأرض} أي: أرض مصر ألى أمرها. والخزائن: كل ما يخزن فيه طعام ومال وغيرهما. {إني حفيظٌ} لها ممن لا يستحقها، {عليم} بوجوه التصرف فيها. قال البيضاوي: ولعله عليه السلام لما رأى أنه يستعمله في أمره لا محالة، آثر ما تعم فوائده وعوائده، وفيه دليل على جواز طلب التولية، وإظهار أنه مستعد لها، والتولي من يد الكافر، إذا علم أنه لا سبيل إلى إقامة الحق وسياسة الخلق إلا بالاستظهار به.
وعن مجاهد: ان الملك أسلم على يديه. اهـ. قلت: وقد تقدم عن الورتجبي ما يدل عليه.
وقال ابن عطية: وطلب يوسف للعمل إنما هو حسبة منه عليه السلام؛ لرغبته أن يقع العدل، ونحو هذا هو دخول أبي بكر رضي الله عنه في الخلافة، مع نهيه المستشيرَ له من الأنصار عن أن يتأمَّر على اثنين. فجائز للفاضل أن يعمل ويطلب العمل إذا رأى ألا عوض منه. اهـ. وفي الاكتفاء في أخبار الخلفاء: أن عمر أراد أبا هريرة على العمل، فامتنع، فقال له: أوليس يوسف خيراً منك، وقد طلب العمل؟ فقال: يوسف نبي ابن نبي، وأنا ابن أميمَةَ، فأنا أخاف ثلاثاً واثنين: أن أقول بغير علم، وأقضي بغير عدل، وأن يضرب ظهري، ويشتم عرضي، ويؤخذ مالي. اهـ.
{وكذلك مَكَّنَا ليوسف} أي: ومثل ذلك الصنع الجميل الذي صنعنا بيوسف مكناه {في الأرض}؛ أرض مصر، {يتبوأ منها حيثُ يشاءُ}: ينزل من بلادها حيث يريد هو، أو ينزل منها حيث نريد، {نُصيب برحمتنا من نشاء} في الدنيا والآخرة، {ولا نُضيع أجر المحسنين}، بل نوفي أجورهم عاجلاً وآجلاً. ويوسف أفضلهم في زمانه، فمكَّنه الله من أرض مصر، حتى ملكها بأجمعها؛ وذلك أنه لما فوض إليه الملك اجتهد في جمع الطعام وتكثير الزراعات، حتى دخلت السنون المجدبة، وعم القحط مصر والشام، ونواحيهما، وتوجه الناس إليه، فباعهم في السنة الأولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق لهم منها شيء، ثم في السنة الثانية بالحلي والحلل، ثم في السنة الثالثة بأمتعة البيوت، هم في الرابعة بالدواب، ثم في الخامسة بالرباع والعقار، ثم في السادسة بأولادهم، ثم في السابعة برقابهم حتى استرقهم جيمعاً، ثم عرض الأمر على الملك، فقال: الرأي رأيك. فأعتقهم ورد إليهم أموالهم.
قال تعالى: {ولأجرُ الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون} الشرك والفواحش، فهو أحق بالرغبة وأولى بالطلبة. وقال ابن جزي في قوله: {نُصيب برحمتنا من نشاء}: الرحمة هنا المراد بها الدنيا، وكذلك الأجر في قوله: {ولا نُضيع أجر المحسنين}؛ بدليل قوله بعد ذلك: {ولأجرُ الآخرة خير} فأخبر تعالى أن رحمته في الدنيا يصيب بها من يشاء من مؤمن وكافر، وطائع وعاص، وأن المحسنين لابد من أجرهم في الدنيا. فالأول في المشيئة، والثاني واقع لا محالة. ثم أخبر أن أجر الآخرة خير من ذلك كله {للذين آمنوا وكانوا يتقون}، وفيه إشارة إلى أن يوسف عليه السلام جمع الله له بين الدنيا والآخرة. اهـ.
الإشارة: في الآية ثلاث فوائد: الأولى: مدح التأني في الأمور، ولو كانت جلالية؛ لأنه يدل على كمال العقل والرزانة، وطمأنينة القلب.
وذم العجلة؛ لأنها من خفة العقل والطيش، وعدم الصبر والاحتمال. يؤخذ ذلك من تأني يوسف عليه السلام في السجن بعد طول مدته. وفي الحديث: «التَأَنِّي مِن اللَّهِ، والعَجَلَةُ من الشَّيطَانِ».
الثانية: عدم تزكية النفس، ودوام اتهامها، ولو بلغت من التصفية ما بلغت. وقد تقدم في قوله تعالى: {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ} [الأنعام: 70]، وقال بعض الصوفية: وكيف يصلح لعاقل أن يزكي نفسه والكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يقول: {إنا النفس لأمارة بالسوء}، والنفوس ثلاثة: أمارة، ولوامة، ومطمئنة. وزاد بعضهم: اللهامة من قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8]..
الثالثة: تسلية أهل البلاء، إذا صحبهم الإحسان والتقوى، وبشارتهم بالعز بعد الذل، والغنى بعد الفقر، والنصر والتمكين في الأرض بعد الاستضعاف والهوان، يؤخذ ذلك من قوله: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين}. وفي ذلك يقول الشاعر:
وكُلُّ عَبْدٍ أَرَادَ الله عِزَّتَه ** فَهُو َالعَزِيزُ وعزُّ اللهِ يغْشَاه

قََدْ لاَحَ عِزُّ لَه في الأرْضِ مُنْتَشِرٌ ** فَهُو الحَبِيبُ لِمَنْ نَادَاهُ لبّاهُ

يا حُسْنَهُ ومَتى قَد طَالَ مَطْلَبُه ** تَاجُ البرية والرحمنُ صَفَّاهُ