فصل: تفسير الآيات (58- 62):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (58- 62):

{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)}
يقول الحق جل جلاله: {وجاء إخوة يوسف} إلى مصر للميرة، {فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون}، إنما أنكروه؛ لبعد العهد ولتغير سنه، ولأنهم فارقوه في سن الحداثة، ولتوهمهم أنه هللك، أو لقلة تأملهم في حاله؛ لشدة هيبتهم إياه، أو لأنه كان مُلثّماً. رُوي أنهم دخلوا عليه في قصر مُلكه وهو في هيئة عظيمة من الملك، والتاج على رأسه، فقال لهم بعد أن عرفهم: من أنتم، وما أمركم، وما جاء بك إلى بلادي، ولعلكم عيون؟ فقالوا: معاذ الله، نحن بنو أب واحد، وهو شيخ صدِّيق، نبي من الأنبياء، اسمه يعقوب. قال: كم أنتم. قالوا: كنا اثني عشر، فذهب أحدنا إلى البرية، فهلك. فقال: فكم أنتم ها هنا؟ قالوا: عشرة. قال: فأين الحادي عشر؟ قالوا: عند أبيه يتسلّى به عن الهالك، قال: فمن يشهد لكم؟ قالوا: لا يعرفنا ها هنا من يشهد لنا. قال: فَدَعوا عندي بعضكم رهينة، وائتوني بأخ لكم من أبيكم حتى أصدقكم، فاقترعوا؛ فأصابت شمعون. وهذا معنى قوله: {ولما جَهَّزَهُم بجَهَازهم} أعطاهم ما اشتروا منه الطعام، وأوقر ركابهم؛ {قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم} وهو: بنيامين بكسر الباء على وزن إسرائيل، قاله في القاموس. وقيل: كان يوسف عليه السلام يعطي لكل نفس حملاً، ولا يزيد عليه، فسألوه حِملاً زائداً لأخيهم من أبيهم؛ فأعطاهم، وشرط عليهم أن يأتوا به؛ ليعلم صدقهم. ثم قال لهم: {ألا ترَوْنَ أني أُوفي الكيلَ وأنا خيرُ المنزِلين} للأضيافِ. قال لهم ذلك؛ ترغيباً في رجوعهم، وقد كان أحسن ضيافتهم غاية الإحسان.
رُوي أنه عليه السلام نادى صاحب المائدة، وقال له: لا تنزل هؤلاء بدار الغرباء، ولا بدار الأضياف، ولكن أدخلهم داري، وانصب لهم مائدة كما تنصبها لي، واحفظهم وأكرمهم. فسأله عنهم، فلم يجب، فبسط لهم الفرش والوسائد، فلما جن الليل أمر أن توضع بين أيديهم الموائد، والشماع، والمجامر، وهم ينظرون من كوة إلى دار الأضياف، وقد بلغ بهم الجهد، فكانوا يعطونهم قرصة شعير لكل أحد من الغرباء، وهم يرون ما بين أيديهم من الإكرام والطعام، وقد بلغ الحمل من الطعام ألفاً ومائتي دينار. فقال بعضهم لبعض: إن هذا المَلك أكرمنا بكرامة ما أكرم بها أحداً من الغرباء! فقال شمعون: لعل الملك سمع بذكر آبائنا فأكرمنا لأجلهم. وقال آخر: لعله أكرم فقرنا وفاقتنا. ويوسف عليه السلام ينظر إليهم من كوة ويسمع كلامهم، ويبكي. ثم قال لولده ميشا: اشدد وسطك بالمنطقة واخدم هؤلاء القوم، فقال له: من هم با أبت؟ فقال: هم أعمامك يا بني، قال: يا أبت هؤلاء الذين باعوك؟ قال: نعم، باعوني حتى صرت مَلك مصر، ما تقول يا بني، أحسَنُوا أو أساؤوا؟ قال: بل أحسَنوا فما أقول لهم؟ قال: لا تكلمهم، ولا تُفش لهم سراً حتى يأذن الله بذلك، فبقوا في الضيافة ثلاثاً أو أكثر، ثم جهزهم، وأرسلهم، وشرط عليم أن يأتوا بأخيه بنيامين.
قال لهم: {فإن لم تأتوني به فلا كيلَ لكم عندي ولا تقربون}. أي: لا تدخلوا دياري ولا تقربوا ساحتي، {قالوا سَنُراود عنه أباه} أي: سنجهد في طلبه منه، {وإنا لفاعلون} ذلك، لا نتوانى فيه، {وقال لفتيته}؛ لغلمانه الكيالين، وقرأ الأخوان وحفص: {لفتيانه}، بجمع الكثرة: {اجعلوابضاعتَهم} أي: ثمنهم الذي اشتروا به، {في رحالهم}؛ في أوعيتهم. فامر أن يجعل بضاعة كل واحد في رحله، وكانت نعالاً وأدَمَا. وإنما فعل ذلك يوسف تكرماً وتفضلاً عليهم، وترفقاً أن يأخذ ثمن الطعام منهم، وخوفاً من أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به إليه.
{لعلهم يعرفُونها} أي: لعلهم يعرفون هذه اليد والكرامة في رد البضاعة إليهم، فيرجعون إلينا. فليس الضمير للبضاعة؛ لأن ميز البضاعة لا يعبر عنه بلعل، وإنما المعنى: لعلهم يعرفون لها يداً وتكرمة ويرون حقها {إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يَرْجِعُون}، أي: لعل معرفتهم بهذه الكرامة تدعوهم إلى الرجوع. وقصد بذلك استمالتهم والإحسان إليهم. أو: لعلهم يعرفون البضاعة، ولا يستحلون متاعنا فيرجعون به إلينا، وضعف هذا ابن عطية: فقال: وقيل: قصد يوسف برد البضاعة أن يتحرجوا من أخذ الطعام بلا ثمن فيرجعوا لدفع الثمن. وهذا ضعيف من وجوه. ثم قال: ولسرورهم بالضاعة، وقولهم: {هذه بضاعتُنا رُدَّتْ إلينا}، يكشف أن يوسف لم يقصد هذا، وإنما قصد أن يستميلهم ويصلهم كما تقدم.
الإشارة: قوله: {فعرفهم وهم له منكرون}، كذلك أهل الخصوصية من أهل مقام الإحسان، يعرفون مقامات أهل الإيمان ومراتبهم، وأهل مقام الإيمان ينكرونهم ولا يعرفون مقامهم، كما قال القائل:
تَرَكْنَا البُحُورَ الزَّجِرَاتِ وَرَاءنَا ** فَمِنْ أَينَ يَدْرِِي النَّاسُ أين تَوَجَّهْنَا

فكلما علا بالولي المقام خفي عن الأنام، ولا يعرف مراتب الرجال إلا من دخل معهم، وشرب مشربهم، وإلا فهو جاهل بهم. وقوله تعالى: {فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي}: كذلك الحق جل جلاله يقول لعبده: ائتني بقلبك، فإن لم تأتني به فلا أقبل طاعتك، ولا تقرب إلى حضرتي. قال النبي صلى الله عليه السلام: «إنَّ الله لا يَنْظُرُ إلى صَُوَرِكم ولاَ إلى أَعْمَالِكُمْ، وَإَنَّما يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُم ونيَّاتِكُم» أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: {سنراود عنه أباه}: كذلك ينبغي للعبد أن يحتال على قلبه حتى يرده إلى ربه؛ وذلك بقطع العلائق، والفرار من الشواغل والعوائق، حتى تشرق عليه أنوار الحقائق.
وقوله تعالى: {اجعلوا بضاعتَهم في رِحَالِهم}... الآية. كذلك ينبغي للواعظ والمذكر أن يبشر الناس، وينمي بضاعتهم، وهو: الإيمان والمحبة لله ومعرفته، ويجعلها في قلوبهم بحسن وعظه، ونور حاله، فيكون ممن ينهض الناس حاله، ويدل على الله مقاله. ولا يقنط الناس ويفلسهم من الإيمان والمحبة، بل ينبغي أن يجمع بين التبشير والتحذير، والترغيب والترهيب، ويغلب جانب الترغيب بذكر إحسان الله وآلائه.. لعلهم يعرفون ذلك إذا انقلبوا إلى أسبابهم، لعلهم يرجعون إلى الله في غالب أحوالهم. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (63- 67):

{فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)}
قلت: {نكتل}: أصله: نَكْتَيِِل، بوزن نفتعل، من الكيل، قلبت الياء ألفاً؛ لتحرك ما قبلها، ثم حذفت للساكنين. و{حفظاً}: تمييز، ومن قرأ بالألف فحال، كقوله: لله دره فارساً. أو تمييز، وهو أرجح. و{ما نبغي}: استفهامية، أو نافية. و{نمير أهلنا}: عطف على محذوف، أي: ردت فنستظهر بها ونمير... الخ. قال في القاموس: مار يَمير؛ بالكسر: جَلَب الطعام. اهـ. و{إلا أن يحاط}: استثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي: لتأتنني به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم.
يقول الحق جل جلاله: {فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا مُنع منا الكيلُ} أي: حكم بمنعه بعد هذا، إن لم نذهب بأخينا بنيامين، {فأرْسِل معنا أخانا نكتلْ} أي: نرفع المانع من الكيل، ونكتل ما نحتاج إليه. وقرأ الأخوان بالياء: {يكتل} لنفسه، فنضم اكتياله إلى اكتيالنا، {وإنا له لحافضون} من أن يناله مكروه. {قال هل آمنكم عليه} أي: ما آمَنكم عليه {إلا كما أمنْتُكُم على أخيه من قبلُ}، وقد قلتم في يوسف: {وإنا له لحافظون}، {فاللَّهُ خيرٌ حافظاً}؛ فأثق به، وأفوض أمري أليه، {وهو أرحمُ الراحمين}، فأرجو أن يرحمني بحفظه، ولا يجمع عليّ مصيبتين.
{ولما فَتحوا متاعَهُم}: أوعيتهم، {وجدوا بضاعَتَهم رُدت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي} أي: ما نطلب، فهل من مزيد على هذه الكرامة، أكرمنا وأحسن مثوانا، وباع منا، ورد علينا متاعنا، ولا نطلب وراء ذلك إحساناً. أو: ما نتعدى في القول، ولا نزيد على ما حكينا لك من إحسانه. أو: ما نبغي على أخينا، ولا نكذب على الملك. {هذه بضاعتنا رُدَّتْ إلينا}، وهو توضيح وبيان لقولهم: {ما نبغي}، أي: ردت إلينا فنتقوى بها. {ونمير أهلَنا}: نسوق لهم الميرة وهو: الطعام حين نرجع إلى الملك، {ونحفظُ أخانا} من المكاره في ذهابنا وإيابنا.. {ونزدادُ كيلَ بعيرٍ} بزيادة حِمل بعير أخينا، إذ كان يوسف عليه السلام لا يعطي إلا كيل بعير لكل واحد.
{ذلك كيلٌ يسير} أي: ذلك الطعام الذي أتيناه به شيء قليل لا يكفينا حتى نرجع ويزيدنا كيل أخينا، أوْ ذلك الحِمل الذي يزيدنا لبعير أخينا كيل قليل عنده، يسهل عليه لا يتعاظمه، فلا يمنعنا منه. كأنهم اسْتَقَلَّوا ما كيل لهم؛ فأرادوا أن يضاعفوه بالرجوع إلى الملك ويزدادوا إليه ما يكال لأخيهم. وقيل: إنه من كلام يعقوب عليه السلام، والمعنى: أن حمل بعير شيء قليل لا يخاطرَ لمثله بالولد.
{قال لن أرْسِلهُ معكم}؛ لأني رأيت منكم ما رأيت، {حتى تُؤتون موثقاً من الله}؛ حتى تعطوني ما أثق به من عهد الله، وتحلفوا ليَ الأيمان الموثقة {لتأتنني به} في كل حال، {إلا أن يُحاطَ بكم}؛ إلا أن تغلبوا، ولا تطيقوا الإتيان به.
أو: إلا أن تهلكوا جميعاً ويحيط الموت بكم {فلما آتَوْهُ موثقَهم}؛ عهدهم وحلفوا له، {قال} أبوهم: {الله على ما نقولُ} من طلب الموثق وإتيان الولد {وكيل} أي: مطلع رقيب، لا يغيب عنه شيء.
ثم وصاهم {وقال} لهم: {يا بَنيّ لا تدخلوا من بابٍ واحدٍ وادخلوا من أبواب متفرقةٍ}. وكانت في ذلك العهد خمساً: باب الشام، وباب المغرب، وباب اليمن، وباب الروم، وباب طَيْلون. فقال لهم: ليدخل كل أخوين من باب، خاف عليهم العين؛ لأنهم أهل جمال وأُبَّهة، مشتهرين في مصر بالقربة والكرامة؛ فإذا دخلوا كبكبة واحدة أصابتهم العين. ولعل لم يوصهم بذلك في المرة الأولى؛ لأنهم كانوا مجهولين حينئذٍ، وللنفس آثار من العين، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «العَينُ حَقٌّ تُدخِل الرَّجُلَ القَبرَ والجَمَلَ القِدرَ».
وكان عليه الصلاة والسلام يتعوذ منها، بقوله: «اللهم إنِّي أَعُوذ بك مِن كَلِّ نَفسٍ هَامَّةٍ، وعَينٍ لامَّةٍ» يؤخذ من الآية والحديث: التحصن منها قياماً برسم الحكمة. والأمر كله بيد الله. ولذلك قال يعقوب عليه السلام: {وما أغني عنكم من الله من شيء} مما قُضي عليكم بما أشرت به عليكم، والمعنى: أن ذلك لا يدفع من قدر الله شيئاً، فإن الحذر لا يمنع القدر، {إن الحُكم إلا لله} فما حكم به عليكم لا ترده حيلة، {عليه توكلتُ وعليه فليتوكل المتوكلون} أي: ما وثقت إلا به، ولا ينبغي أن يثق أحد إلا به. وإنما كرر حذف الجر؛ زيادة في الاختصاص؛ ترغيباً في التوكل على الله والتوثق به.
الإشارة: رُوي أن إخوة يوسف لما رجعوا عنه صاروا لا ينزلون منزلاً إلا أقبل عليهم أهل ذلك المنزل بالكرامات والضيافات، فقال شمعون: لما قدمنا إلى مصر ما التفت إلينا أحد، فلما رجعنا صار الناس كلهم يكرموننا؟ فقال يهوذا: الآن أثر الملك عليكم، ونور حضرته قد لاح عليكم. اهـ. قلت: وكذلك من قصد حضرة العارفين لا يرجع إلا محفوفاً بالأنوار، معموراً بالأسرار، مقصوداً بالكرامة والإبرار.
قوله تعالى: {فأرسل معنا أخانا...} إلخ؛ قال الأستاذ القشيري: المحبة غيورٌ؛ لما كان ليعقوب تَسَلٍّ عن يوسف برؤية بنيامين، أبت المحبة إلا أن تظهر سُلطانها بالكمال فغارت على بنيامين أن ينظر إليه يعقوب بعين يوسف. اهـ. قلت: وكذلك الحق تعالى غيور أن يرى في قلب حبيبه شيئاً غيره، فإذا رأى أزاله عنه، وفرق بينه وبين ذلك الشيء، حتى لا يُحب شيئاً سوى محبوبه. هذا مما يجده أهل الأذواق في قلوبهم.
وقوله تعالى في وصية يعقوب: {لا تدخلوا من باب واحد}، فيه إشارة إلى أن الدخول على الله لا يكون من باب واحد بحيث يلتزم المريد حالة واحدة وطريقة واحدة؛ كالعزلة فقط، أو الخلطة فقط، أو الصمت على الدوام، أو ذكر الاسم على الدوام.
بل لابد من التلوين قبل التمكين وبعده؛ فالعزلة على الدوام: مقام الضعف، والخلطة من غير عزلة بطالة. بل لا يكون عارفاً حتى يعرف الله، ويكون قلبُه معه في العزلة والخلطة، والصمت والكلام، والقبض والبسط، والفقد والوجد، ويترقى من ذكر الاسم إلى الفكرة والنظرة، كما هو عند أهل الفن.
وقوله تعالى: {عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون}، فيه تهييج على مقام التوكل، وحث على الثقة بالله في جميع الأمور. وفي ذلك يقول الشاعر:
تَوَكَّل على الرَّحمن في كُلِّ حَاجَةٍ ** وَثِق بالله دَبَّر الخلق أجمعْ

وضَع عَنكَ هَمَّ الرِّزْقِ فالرَّبُّ ضَامِنٌ ** وكفّ عن الْكَونَينِ والخلق أَربع

قوله: «والخلق أربع» أراد العالم العلوي والسفلي، والدنيا والآخرة. وكلها أكوان مخلوقة يجب كف البصر والبصيرة عن الميل إليها، والوقوف معها. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (68- 76):

{وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)}
قلت: {ما كان}: جواب لما، و{إلا حاجة}: استثناء منقطع. و{جزاؤه}: مبتدأ، و{من}: شرطية أو موصولة، وخبرها: {فهو جزاؤه}، والجملة: خبر جزاء الأول. أو {جزاؤه}: مبتدأ و{من} خبر، على حذف مضاف، أي: جزاؤه أخذ من وُجد في رحله، وتم الكلام، و{فهو جزاؤه}: جملة مستقلة تقريرية لما قبلها.
يقول الحق جل جلاله: {ولمّا دخلوا من حيثُ أمرهم ابُوهم} أي: من أبواب متفرقة في البلد، {ما كان يُغني عنهم} أي: ما أغنى عنهم رأي يعقوب واتَّبَاعهم له {من الله من شيء} مما قضى عليهم، فاتُّهموا بالسرقة وظهرت عليهم، فأخذ بنيامين الذي كان الخوف عليه، وتضاعفت المصيبة على يعقوب، {إلا حاجةً}: لكن حاجة {في نفس يعقوب} يعني: شفقته عليهم، وتحرزه من أن يعانوا، {قضاها}؛ أظهرها ووصى بها. {وإنه لَذُو علم لمَا علمناه} بالوحي ونصب الدليل. ولذلك قال: {وما أغنى عنكم من الله من شيء}؛ فلم يغتر بتدبيره، ففيه تنزيه ليعقوب عن الوقوف مع الأسباب والعوائد، ورفع إيهام وقوفه مع عالم الحكمة. {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} سر القدر؛ وأنه لا ينفع منه الحذر.
قال ابن عطية: قوله: {ما كان يغني عنهم من الله من شيء}، معناه: ما درأ عنهم قدراً؛ لأنه لو قَُضِي أن تصيبهم عين لأصابتهم، مفترقين أو مجتمعين. وإنما طمع يعقوب عليه السلام أن تصادف وصيته القدر في سلامتهم. ثم أثنى الله عز وجل على يعقوب بأنه لقن مما علمه الله من هذا المعنى، واندرج غيره في ذلك العموم، وقال: إن أكثر الناس ليس كذلك. اهـ.
{ولما دخلوا على يوسفَ آوى إليه أخاه} أي: ضم إليه بنيامين على الطعام، أو في المنزل. رُوي أنه أضافهم، فأجلسهم اثنين اثنين، فبقي بنيامين وحيداً فبكى، وقال: لو كان يوسف حياً لجلس معي، فأجلسه معه على مائدته، ثم قال: لينزل كل اثنين بيتاً، وهذا لا ثاني له فيكون معي، فبات عنده، وقال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: من يجد إذاً مثلك، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، {قال إني أنا أخوك} وعرفه بنفسه، {فلا تبتئس} ولا تحزن {بما كانوا يعملون} في حقنا من الأذى، أو: لا تحزن بما يعمله فتياني، ولا تبالي بما تراه في تحيُّلي في أخذك.
{فلما جَهَّزهُم بجَهَازِهمْ جعل السِّقايةَ}، التي هي الصواع، {في رَحْلِ أَخيه}، وهي إناء يشرب بها الملك، ويأكل فيها، وكان من فضة، وقيل: من ذهب. وقيل: كان صاعاً يُكال به. وقصد بجعله في رحل أخيه أن يحتال على إمساكه معه؛ إذ كان شَرْعُ يعقوب أن من سرق استعبده المسروق منه. {ثم أذَّن مؤَذِّنٌ} بعد أن انصرفوا: {أيتها العير إنكُم لسارقون}، والخطاب لإخوة يوسف، وإنما استحل رميهم بالسرقة مع علمه بانهم أبرياء؛ لما في ذلك من المصلحة في المآل، وبوحي لا محالة، وإرادة من الله تعالى عَنَتُهم بذلك، يقويه قوله تعالى: {كذلك كدنا ليوسف}، ويمكن من أن يكون فيه تورية، وفيها مندوحة عن الكذب، أي: إنكم لسارقون يوسف من أبيه، حين باعوه.
{قالوا وأقبلُوا عليهم ماذا تفقدون} أي: أيُّ شيء ضاع منكم؟ والفقد: غيبة الشيء عن الحس. {قالوا نَفقِدُ صُوَاعَ الملكِ} الذي يكيل به، أو يشرب فيه، {ولمن جاء به حِمْلُ بعيرٍ} من الطعام، {وأنا به زعيم} كفيل أؤديه إلى من رده. وفيه دليل على جواز الجعل، وضمان الجعل قبل تمام العمل. قاله البيضاوي.
{قالوا تالله لقد عَلِمْتُم ما جئنا لنُفسدَ في الأرض وما كنا سارقين} فيما مضى، استشهدوا بعلمهم بديانتهم على براءه أنفسهم؛ لما عرفوا منهم من الديانة والأمانة في دخولهم أرضهم، حتى كانوا يجعلون الأكمة في أفواه إبلهم؛ لئلا تنال زرع الناس، {قالوا فما جزاؤه} أي: السارق، {إن كنتم كاذبين} في ادعاء البراءة. {وقالوا جزاؤه مَن وُجِدَ في رَحْلهِ فهو جزاؤه}؛ يحبس في سرقته، ويُسْتَرَقّ للمسروق منه، وهذا كان قصد يوسف عليه السلام، وهي كانت شريعة يعقوب. وكانت أيضاً شريعتنا في أول الإسلام ثم نسخ بالقطع. ثم قالوا: {كذلك نجزي الظالمين} بالسرقة.
{فَبَدأَ} المؤذن أو يوسف؛ لأنهم رُدُّوا إلى مصر، أي: بدأ في التفتيش، {بأوعيتِهم قبلَ وعَاءِ أخيه} بنيامين، تقية للتهمة، {ثم استخرجها}؛ أي: السقاية، أو الصواع؛ لأنه يُذكر ويُؤنث، {من وعاءِ أخيه} {كذلك}، أي: مثل ذلك الكيد {كِدْنَا ليوسفَ} أي: علمناه الحيلة بالوحي في أخذ أخيه، {ما كان ليَأخُذَ اخاه في دين الملك} ملك مصر؛ لأن دينه كان الضرب وتغريم ضعف ما أخذ دون الاسترقاق. {إلا أن يشاءَ اللهُ} أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك. أو: لكن أخذه بمشيئة الله وإرادته. {نرفعُ درجات من نشاء} بالعلم والعمل، كما رفعنا درجته، {وفوق كلّ ذي علم عليم} أرفع درجة منه.
قال البيضاوي: واحتج به من زعم أنه تعالى عالم بذاته؛ إذ لو كان ذا علم لكان فوقه من هو أعلم منه أي: لدخوله تعالى في عموم الآية والجواب: أن المراد كل ذي علم من الخلق؛ لأن الكلام فيهم، ولأن العليم هو الله تعالى. ومعناه: الذي له العلم البالغ، ولأنه لا فرق بينه وبين قولنا: فوق كل العلماء عليم، وهو مخصوص. اهـ.
قلت: وقد ورد ثبوت العلم له تعالى في آيات وأحاديث. كقوله تعالى: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] {أُنزِلِ بِعِلْمِ الله} [هود: 14]، «وإني على عِلمٍ من عِلمِ اللهِ علَّمَنيهِ» إلى غير ذلك مما هو صريح في الرد عليهم.
الإشارة: يؤخذ من قوله تعالى: {ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم}: امتثال أمر الأب فيما يأمر وينهى. ولا فرق بين أب البشرية وأب الروحانية وهو الشيخ، فامتثال أمره واجب على المريد، ولو كان فيه حتف أنفه، وأمره مقدم على أمر الأب كما تقدم في سورة النساء. وقد قالوا: أركان التصوف ثلاث: الاجتماع، والاستماع، والاتباع. وقوله تعالى: {ما كان يُغني عنهم من الله شيء إلا حاجة...} الخ: فيه الجمع بين مراعاة القدرة والحكمة، فالقدرة تقتضي التفويض؛ إذ لا فعل لغير الله، والحكمة تقتضي الحذر، واستعمال الأسباب؛ لأن الحكمة رداء للقدرة. فالكمال هو الجمع بينهما؛ ستراً لأسرار الربوبية، فالباطن ينظر لتصريف القدرة، والظاهر يستعمل أستار الحكمة.
وقوله تعالى: {فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رَحْل أخيه...} الآية. هذا من فعل أهل التصريف بالله، المأخوذين عنهم، لا يدخل تحت قواعد الشرع؛ لأن فاعله مفعول به، أو ناظر بنور الله إلى غيب مشيئة الله، كأفعال الخضر عليه السلام. قال الورتجبي: إن الله سبحانه إذا خصَّ نبياً، أو ولياً أإلبسه صفاته بتدريج الحال؛ ففي كل حالة له يكسوه نوراً من صفته، فمن جملة صفاته: كيد الأزل ومكر الأبد، فكسى علم كيده قلب يوسُفَ، حتى كاد برؤية كيد الله الأزلي، فعرفه فيه اسرار لطف صنائعه، وعلم حقائق أفعاله وقدرته. اهـ.
وقوله: {نرفع درجات من نشاء}: أي بالعلم بالله؛ كالكشف عن أسرار ذاته وأنوار صفاته، والتخلق بمعاني أسمائه، والتحقق بمقامات اليقين، ومنازل السائرين. وهذه درجات المقربين، وليس فوقها إلا درجة الأنبياء والمرسلين. أو بالعلم بأحكام الله وشرائعه؛ كالعلم بأحكام العبادات والعادات، وسائر المعاملات. وهذه درجات عامة أهل اليمين من العلماء الأتقياء والصالحين، ومنتهى درجاتهم هي ابتداء درجات العارفين المقربين، ثم الأنبياء والمرسلين. {وفوق كل ذي علم عليم}، ومنتهى العلم إلى الله العظيم.