فصل: تفسير الآيات (6- 8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (6- 8):

{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)}
قلت: {أسفًا}: مفعول من أجله لباخع، أو حال، أي: متأسفًا، وجواب إن: محذوف، أي: إن لم يؤمنوا فعلك باخع نفسك.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فلعلك} يا محمد {باخعٌ}: مهلك {نفسَك} وقاتلها بالغم والأسف على تخلف قومك عن الإيمان وفراقهم عنك، {على آثارهم} إذا تولوا عنك، عندما تدعوهم إلى الله. شبهه، لأجل ما تداخله من الوجد على توليتهم، بمن فارقته أعزته، وهو يتحسر على آثارهم، ويبخع نفسه وجدًا عليهم. {إِن لم يُؤمنوا بهذا الحديث} أي: القرآن الذي عبّر عنه في صدر السورة بالكتاب، صدر ذلك منك {أسفًا} أي: بفرط الحزن والتأسف عليهم.
ثم علّل وجه إدبارهم عن الإيمان، وهو اغترارهم بزهرة الدنيا، فقال: {إِنا جعلنا ما على الأرض}؛ من الأشجار والأزهار والثمار، وما اشتملت عليه من المعادن، وأنواع الملابس والمطاعم، والمراكب والمناكح، {زينةً لها} أي: مبهجة لها، يستمتع بها الناظرون، وينتفعون بها مأكلاً وملبسًا، ونظرًا واعتبارًا، حتى إن الحيّات والعقارب؛ من حيث تذكيرها بعذاب الآخرة، من قبيل المنافع، بل كل حادث داخل تحت الزينة من حيثُ دلالته على الصانع، وكذلك الأزواج والأولاد، بل هم من أعظم زينتها، داخلون تحت الابتلاء. جعلنا ذلك {لنبلوهم}: لنختبرهم، حتى يظهر ذلك للعيان، {أيُّهم أحسنُ عملاً}، أيهم أزهد فيها، وأقبلهم على الله بالعمل الصالح؛ إذ لا عمل أحسن من الزهد في الدنيا؛ إذ هو سبب للتفرغ لأنواع العبادة، بدنية وقلبية.
قال أبو السعود: وحسن العمل: الزهد فيها، وعدم الاكتراث بها، والقناعة باليسير منها، وصرفها على ما ينبغي، والتأمل في شأنها، وجعلها ذريعة إلى معرفة خالقها، والتمتع بها حسبما أذن الشرع، وأداء حقوقها، والشكر على نعمها، لا جعْلها وسيلة إلى الشهوات، والأغراض الفاسدة، كما يفعله الكفرة وأهل الأهواء... انظر بقية كلامه.
{وإِنا لجاعلون ما عليها}؛ عند تناهي الدنيا؛ {صعيدًا جُرُزًا} أي: ترابًا يابسًا، لا نبات فيه، بعدما كان يَتَعجب من بهجته النظارُ، ويتشرف بمشاهدته الأبصار، فلا يغتر بما يذهب ويفنى إلا من لا عقل له، فلا تستغرب إدبارهم، إذ لا عقل لهم.
ويحتمل أن يكون تسليةً للنبي صلى الله عليه وسلم؛ من حيث إنه أرشده إلى شهود تدبير الحق، فيسلو، بذلك عن إعراضهم؛ لغيبته في المصور المدبر عن الصور، وعن الزينة في المُزَيِّن فالكون مظهر الصفات ومرآتها، ويغيب في الذات- التي هي معدنها- بإفناء الظاهر، وإفناء الأفعال، كما نبّه عليه بقوله: {وإِنا لجاعلون...} إلخ.
الإشارة: الخصوصية- من حيث هي- لها بداية ونهاية، فمن شأن أهل بدايتها: الحرص على الخير لهم ولعباد الله، فيتمنون أن الناس كلهم خصوص أو صالحون، فإذا رأوا الناس أعرضوا عنها تأسفوا عليهم، وإذا أقبلوا عليهم فرحوا من أجلهم، زيادة في الهداية لعباد الله، فإذا تمكنوا منها ورسخت أقدامهم فيها، وحصل لهم الفناء الأكبر، لم يحرصوا على شيء، ولم يتأسفوا من فوات شيء، لهم ولغيرهم.
وقد يتوجه العتاب لهم على الحرص في بدايتهم؛ تكميلاً لهم، وترقية إلى المقام الأكمل.
وقوله تعالى: {إنا جعلنا ما على الأرض...} إلخ، هو حكمة تخلف الناس عن الخصوصية، حتى يتميز الطالب لها من المعرض عنها، فمن أقبل على زينة الدنيا وزهرتها، فاتته الخصوصية، وبقي من عوام الناس، ومن أعرض عنها وعن بهجتها، وتوجه بقلبه إلى الله، كان من المخصوصين بها، المقربين عند الله.
وهذا هو أحسن الأعمال التي اختبر الله به عباده بقوله: {لنبلوهم أيهم أحسن عملاً}، وفي الحديث: «الدنيا مال مَنْ لاَ مَالَ لَه، لَهَا يَجْمَعُ مَنْ لاَ عَقْلَ لَه. وعليها يُعَادِي مَنْ لاَ عِلْمَ عِنْدَه» وفي الزهد والترغيب أحاديث كثيرة مفردة بالتأليف، وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (9- 12):

{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)}
قلت: {أم}: منقطعة مقدرة ببل، التي هي للانتقال من حديث إلى حديث، لا للإبطال، والهمزة: للاستفهام عند الجمهور، وبمعنى بل، فقط، عند غيرهم، و{عجبًا}: خبر كان، و{من آياتنا}: حال منه، و{إذ أوى}: ظرف لعجبًا، لا لحَسِبَْتَ، أو مفعول اذكر، أي: اذكر هذا الوقت العجيب، وهو حين التجأ الفتية إلى الكهف، و{لنا} و{مِنْ أمرنا}: يتعلق ب {هيئ}، و{أيّ الحزبين}: معلق لنعلم عن المفعولين؛ لما فيه من معنى الاستفهام، وهو مبتدأ، و{أحصى}: خبره، وهو فعل ماضٍ، و{أمدًا}: مفعوله.
و{لِما لبثوا}: حال منه، أو مفعول {أحصى}، واللام زائدة، و{ما}: موصولة، و{أمدًا}: تمييز، وقيل: {أحصى}: اسم تفضيل، من الإحصاء بحذف الزوائد، و{أمدًا}: منصوب بفعل دل عليه أحصى، أي: يحصى كقوله:
وَأَضْرَبَ مِنَّا بالسُّيُوفِ القَوَانِسَا

لأن اسم التفضيل لا ينصب المفعول به، إجماعًا، ويجوز أن يكون تمييزًا بعد اسم التفضيل.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {أم حَسِبْتَ} أي: ظننت يا محمد، والمراد: حسبان أمته {أنَّ أصحابَ الكهف}، وهو الغار الواسع في الجبل. واختُلف في موضعه؛ فقيل: بقرب فلسطين، وقيل: بالأندلس بمقربة من لوشة في جهة غرناطة. وذكر ابن عطية أنه دخل كهفهم، وفيه موتى، ومعهم كلبهم، وعليهم مسجد، وقريب منه بناء يقال له الرَّقِيم، قد بقي موضع جدرانه، وفي تلك الجهة آثار يقال لها: مدينة دقيوس، والله أعلم. وقال ابن جزي: ومما يُبعد ذلك ما رُوي أن معاوية مرَّ عليهم، وأراد الدخول إليهم ولم يدخل، هيبةً، ومعاوية لم يدخل الأندلس قط، وأيضًأ: فإن الموتى في لَوْشة يراهم الناس، ولا يدرك أحد الرعب الذي ذكر الله في أهل الكهف. اهـ.
والمشهور: أن الرقيم هو اللوح المكتوب فيه أسماؤهم وأنسابهم، وكان جُعِل ذلك الكتاب في خزانة الملك، وهو لوح من رصاص أو حجر، أمر بكتب أسمائهم فيه لما شكا قومُهم فقْدَهم. وقيل: اسم كلبهم.
أي: أظننت أنهم {كانوا} في قصتهم {من} بين {آياتنا عَجَبًا} أي: كانوا عجبًا دون باقي آياتنا، ليس الأمر كذلك. والمعنى: أن قصتهم، وإن كانت خارقة للعادة، ليست بعجيبة، بالنسبة إلى سائر الآيات التي من تعاجيبها ما ذكر من خلق الله تعالى على الأرض، من الأجناس والأنواع الفائتة الحصر من مادة واحدة، بل هي عندها كالنزر الحقير. وقال القشيري: أزال موضع الأعجوبة من أوصافهم، بما أضاف إلى نفسه بقوله: {من آياتنا}، وقَلْبُ العادةِ مِنْ قِبَلِ اللهِ غيرُ مُسْتَنْكَرٍ ولا مُبْتَدَعٍ. اهـ.
ثم ذكر أول قصتهم، فقال: {إِذْ أوى الفتيةُ}: جمع فتى، وهو الشاب الكامل، أي: اذكر حين التجأ الفتية إلى الكهف، هاربين بدينهم، خائفين على إيمانهم من كفار قومهم، ورأسهم دقيانوس، على ما يأتي في قصتهم.
{فقالوا}؛ حين دخلوا الغار: {ربَّنا آتنا من لدُنك}؛ من مستبطن أمورك وخزائن رحمتك الخاصة المكنونة عن أعين العادات، {رحمةً} خاصة تستوجب الرفق والأمن من الأعداء، {وَهَيِّئ}: أصلح {لنا من أمرنا} الذي نحن عليه من مفارقة الكفار ومهاجرتهم، {رَشَدًا}: هداية نصير بها راشدين مهتدين، أو: اجعل أمرنا كله رشدًا وصوابًا، كقولك: لقيت منك أسدًا، فتكون من باب التجريد، أو: إصابة للطريق الموصل إلى المطلوب، وأصل التهيئة: إحداث هيئة الشيء.
{فَضَرَبْنَا على آذانهم} أي: أَنَمْنَاهُمْ، شبَّه الإنامة الثقيلة المانعة من وصول الأصوات إلى الآذان بضرب الحجاب عليها، وتخصيص الآذان بالذكر مع اشتراك سائر المشاعر لها في الحَجْب عن الشعور عند النوم؛ لأنها تحتاج إلى الحجب أكثر، إذ هي الطريقة للتيقظ غالبًا. والفاء في {فضربنا}: مثلها في قوله: {فاستجبنا لَهُ} [الأنبياء: 90]، بعد قوله: {إِذ نادى}، فإنَّ الضرب المذكور، وما ترتب عليه من التقليب ذات اليمين وذات الشمال، والبعث، وغير ذلك، إيتاءُ رحمةٍ لَدُنِّيَّةٍ خفيةٍ عن أبصار المستمسكين بالأسباب العادية؛ استجابة لدعوتهم، أي: فاستجبنا لهم وأَنَمْناهم، {في الكهف سنينَ عددًا} أي: ذوات عدد، أو تُعَدُّ عددًا، أو معدودة، ووصْف السنين بذلك: إمَّا للتكثير، وهو الأنسب بكمال القدرة، أو التقليل، وهو الأليق بمقام إنكار كون القصة عجبًا من سائر الآيات العجيبة؛ فإن مدة لبثهم كبعض يوم عنده تعالى.
{ثم بعثناهم}؛ أيقظناهم من تلك النومة الشبيهة بالموت، {لنعْلَمَ} علم مشاهدة، أي: ليتعلق علمنا تعلقًا حاليًّا كتعلقة أولاً تعلقًا استقباليًّا، {أيُّ الحزبين}: الفريقين المختلفين في مدة لبثهم المذكور في قوله: {قالوا لبثنا يومًا...} إلخ، {أحْصَى} أي: أضبط {لِما لَبِثُوا}: للبثهم، {أمدًا} أي: غاية، فيظهر بذلك عجزهم، ويُفوضوا ذلك إلى العليم الخبير، ويتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم، من حفظ أبدانهم وأديانهم، فيزدادوا يقينًا بكمال قدرته وعلمه، وليتيقنوا به أمر البعث، ويكون ذلك لطفًا بمؤمني زمانهم، وآية بينة لكفارهم، وعبرةً لمن يأتي بعدهم، فهذه حِكَمُ إيقاظهم بعد نومهم، والله عليم حكيم.
الإشارة: عادته تعالى فيمن انقطع إليه بكليته، وآوى إلى كهف رعايته، وآيس من رفق مخلوقاته، أن يكلأه بعين عنايته، ويرعاه بحفظ رعايته، ويُغَيِّبَ سمع قلبه عن صوت الأكدار، ويصون عين بصيرته عن رؤية الأغيار، حين انحاشوا إلى حِمى رحمته المانع، وتظللوا تحت ظل رشده الواسع. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (13- 16):

{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (16)}
قلت: {بالحق}: إما صفة لمصدر محذوف، أو حال من ضمير {نَقُصُّ}، أو من {نبأهم}، أو صفة له، على رأي من يرى حذف الموصول مع بعض صلته، أي: نَقُصُّ قصصًا ملتبسًا بالحق، أو نقصه متلبسين بالحق، أو نقص نبأهم ملتبسًا بالحق، أو نبأهم الذي هو ملتبس بالحق. و{إذ قاموا}: ظرف لربطنا، {وشططًا}: صفة لمحذوف، أي: قولاً شططًا، أي: ذا شطط، وُصِف به؛ للمبالغة. و{هؤلاء}: مبتدأ، وفي اسم الإشارة تحقير لهم، و{قومنا}: عَطْفُ بيانٍ له. و{اتخذوا}: خبر، و{ما يعبدون}: موصول، عطف على الضمير المنصوب، أو مصدرية، أي: وإذ اعتزلتموهم ومَعْبُودِيهِمْ إلا الله، أو عبادتهم إلا عبادة الله، وعلى التقديرين: فالاستثناء متصل على تقدير أنهم كانوا مشركين يعبدون الله والأصنام. ومنقطع؛ على تقدير تمحضهم بعبادة الأوثان، ويجوز أن تكون {ما} نافية؛ على أنه إخبار من الله- تعالى- عن الفتية بالتوحيد، معترض بين {إذ} وجوابه العامل فيها.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {نحن نقصُّ عليك نبأَهم}، والنبأ: الخبر الذي له شأن وخطر، قصصًا ملتبسًا {بالحق}: بالصدق الذي لا يطرقه كذب ولا ريبة.
وخبرهم، حسبما ذكر محمد بن إسحاق: أنه قد مرج أهل الإنجيل، وظهرت فيهم الخطايا، وطغت ملوكهم، فعبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت، وكان مَنْ بَالَغَ في ذلك وعتا عتوًا كبيرًا: دقيانوس؛ فإنه غلا فيه غلوًا كبيرًا، فجاس خلال الديار والبلاد؛ بالعبث والفساد، وقتل من خالفه ممن تمسك بدين المسيح، وكان يتتبع الناس فيُخيرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان، فمن رغب في الحياة الدنيا الدنية: تبعه وصنع ما يصنع، ومن آثر عليها الحياة الأبدية: قتله وقطع آرابه، وعلّقها بسور المدينة وأبوابها. فلما رأى الفتيةُ ذلك، وكانوا عظماء مدينتهم، وكانوا بني الملوك، قاموا فتضرعوا إلى الله تعالى، واشتغلوا بالصلاة والدعاء، فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم أعوان الجبار، فأحضروهم بين يديه، فقال لهم ما قال، فخيَّرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان، فقالوا: إن لنا إلهًا ملأ السماواتِ والأرض عظمةً وجبروتًا، لن ندعو من دونه أحدًا، ولن نُقر بما تدعونا إليه أبدًا، فاقض ما أنت قاض، فأمر بنزع ما عليهم من الثياب الفاخرة، وأخرجهم من عنده. زاد في رواية: وضمنهم أهلهم، وخرج إلى مدينة (نينوى)؛ لبعض شأنه، وأمهلهم إلى رجوعه؛ ليتأملوا في أمرهم، وإلاَّ فعل بهم ما فعل بسائر المسلمين.
فأجمعت الفتيةُ على الفرار والالتجاء إلى الكهف الحصين، فأخذ كلٍّ منهم من بيت أبيه شيئًا، فتصدقوا ببعضه، وتزودوا بالباقي، فأَوَوْا إلى الكهف. وفي رواية: أنهم مروا بكلب فتبعهم، على ما يأتي في شأنه، فجعلوا يُصَلُّون في ذلك الكهف آناء الليل وأطراف النهار، ويبتهلون إلى الله- سبحانه- بالأنين والجُؤَار، ففوضوا أمر نفقتهم إلى يمليخا، فكان إذا أصبح يضع عنه ثيابه الحسان، ويلبس ثياب المساكين، ويدخل المدينة ويشتري ما يهمهم، ويتحسس ما فيها من الأخبار، ويعود إلى أصحابه، فلبثوا على ذلك إلى أن قَدِم الجبارُ المدينةَ فطلبهم، وأحضر آباءهم، فاعتذروا بأنهم عَصَوْهم ونهبوا أموالهم، وبذروها في الأسواق، وفروا إلى الجبل.
فلما رأى يمليخا ما رأى من الشر رجع إلى أصحابه وهو يبكي، ومعه قليل من الزاد، فأخبرهم بما شهد من الهول، ففزعوا إلى الله- عزّ وجلّ- وخروا له سُجدًا، ثم رفعوا رؤوسهم وجلسوا يتحدثون في أمرهم، فبينما هم كذلك إذ ضرب الله على آذانهم فناموا، ونفقتُهم عند رؤوسهم. فخرج دقيانوس في طلبهم بخيله ورَجله، فوجدهم قد دخلوا الكهف، فأمر بإخراجهم فلم يُطق أحدٌ منهم أن يَدخله، فلما ضاق بهم ذرعًا، قال قائل منهم: أليس لو كنتَ قدرتَ عليهم قتلتهم؟ قال: بلى. قال: فابْنِ عليهم باب الكهف وَدَعْهم يموتوا؛ جُوعًا وعَطَشًا، ففعل فكان شأنهم ما قص الله تعالى، إذ قال: {إِنهم فتيةٌ}، استئناف بياني، كأن سائلاً سأل عن حالهم، فقال: إنهم فتية شبان كاملون في الفتوة {آمنوا بربهم}، فيه التفات إلى ذكر الربوبية التي اقتضت تربيتهم وحفظهم، {وزدناهم هُدىً}؛ بأن ثبَّتناهم على ما كانوا عليه، وأظهرنا لهم من مكنونات محاسننا ما آثروا به الفناء على البقاء. وفيه التفات إلى التكلم؛ لزيادة الاعتناء بشأنهم، {وربطنا على قلوبهم} أي: قويناهم، حتى اقتحموا مضايق الصبر على هجر الأهل والأوطان، والنعيم والإخوان، واجترأوا على الصدع بالحق من غير خوف ولا حذر، والرد على دقيانوس الجبار؛ {إِذْ قاموا} أي: انتصبوا لإظهار شعار الدين، قال مجاهد: خرجوا من المدينة فاجتمعوا على غير ميعاد. فقال أكبرهم: إني لأجد في نفسي شيئًا، إن ربي هو رب السماوات والأرض، فقالوا: نحن أيضًا كذلك، فقاموا جميعًا {فقالوا ربُنا ربُّ السماواتِ والأرضِ}، وعزموا على التصميم بذلك. وقيل: قاموا بين يدي الجبار من غير مبالاة به، حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام، فحينئذ يكون ما سيأتي من قوله تعالى: {هؤلاء...} الخ: منقطعًا صادرًا عنهم، بعد خروجهم من عنده.
ثم قالوا: {لن ندعوَ من دونه إِلهًا}، لا استقلالاً ولا اشتراكًا، ولم يقولوا: ربًا؛ للتصميم على الرد على المخالفين، حيث كانوا يُسمون أصنامهم آلهة، وللإشعار بأن مدار العبودية على وصف الألوهية. {لقد قُلنا إِذًا شَطَطًا}: قولاً ذا شطط، وهو الجور والتعدي، أي: لقد جُرنا وأفرطنا في الكفر، وقلنا قولاً خارجًا عن حد المعقول، إنْ دعونا إلهًا غير الله جَزْمًا.
{هؤلاء قومُنَا} قد {اتخذوا من دون آلهةً}، فيه معنى الإنكار، {لولا}: هلا {يأتونَ عليهم}: على ألوهيتهم {بسلطان بَيِّن}: بحجة ظاهرة، {فمن أظلمُ} أي: لا أحد أظلم {ممن افترى على الله كذبًا} بنسبة الشريك إليه؛ فإنه أظلم من كل ظالم.
{وإذ اعتزلتموهم} أي: فارقتموهم {و} فارقتم {ما يعبدون إِلا الله فَأْووا إِلى الكهف}: فالتجئوا إليه، والمعنى: وإذا اعتزلتموهم اعتزالاً اعتقاديًا فاعتزلوهم اعتزالاً جسمانيًا، {ينشرْ لكم ربٌُّكم}: يبسط لكم ويوسع عليكم {من رحمته} في الدارين، {ويهيئْ لكم من أمركم} الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين، {مِرْفَقًا}: ما ترتفقون به، أي: تنتفعون، وجزمهم بذلك؛ لنصوع يقينهم، وقوة وثوقهم بفضل الله. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد وصف الله- تعالى- أهلَ الكهف بخمسة أوصاف هي من شعار الصوفية؛ الإيمان، الذي هو الأساس، وزيادة الاهتداء بتربية الإيقان إلى الوصول إلى صريح العرفان، وربط القلب في حضرة الرب، والقيام في إظهار الحق أو لداعي الوجد، والصدع بالحق من غير مبالاة بأحد من الخلق.
وقال الورتجبي في قوله تعالى: {وزدناهم هُدىً}: أي: زدناهم نورًا من جمالي، فاهتدوا به طرق معارف ذاتي وصفاتي، وذلك النور لهم على مزيد الوضوح إلى الأبد؛ لأن نوري لا نهاية له. وقال عند قوله: {إِذ قاموا}: قد استدل بهذه الآية بعضُ المشايخ على حركة الواجدين في وقت السماع والذكر؛ لأن القلوب إذا كانت مربوطة بالملكوت ومحل القدس حرَّكها أنواعُ الأذكار وما يَرِد عليها من فنون السماع. والأصل قوله: {وربطنا على قلوبهم إِذ قاموا}، نعم هذا المعنى إذا كان القيام قيامًا بالصورة، أي: الحسية في القيام الحسي، وإذا كان القيام من جهة الحفظ والرعاية، والربط من جهة النقل من محل التلوين إلى محل التمكين، فالاستدلال بها في السكون في الوجد أحسن، إذا كان الربط بمعنى التسكين والقيام بمعنى الاستقامة. اهـ.
قلت: الحاصل: أنا إذا حملنا القيام على الحسي ففيه دليل لأهل البداية على القيام في الذكر والسماع. وإذا حملناه على القيام المعنوي، وهو النهوض في الشيء، أو الاستقامة عليه كان فيه دلالة لأهل النهاية على السكون وعدم التحرك، وكأنه يشير إلى قضية الجنيد في بدايته ونهايته. والله تعالى أعلم.
وقال ابن لب: قد اشتهر الخلاف بين العلماء في القيام لذكر الله- تعالى- وقد أباحته الصوفية، وفعلته ودامت عليه، واستفادوه من كتاب الله تعالى من قوله- عزّ وجلّ- في أصحاب الكهف: {إِذ قاموا فقالوا ربُّنا ربُّ السماوات والأرض}، وإن كانت الآية لها محامل أخرى سوى هذا. اهـ. قلت: وقوله تعالى: {الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً} [آل عمران: 191]: صريح في الجواز.
وقال في القوت: وقد روينا أنه صلى الله عليه وسلم مرَّ برجل يظهر التأوه والوجد، فقال مَنْ كان معه: أتراه يا رسولَ الله مُرائيًا؟ فقال: «لا، بل أوّاه منيب»، وقال لآخر: أظهر صوته بالآية: «أِسْمِع الله عزَّ وجّل ولا تُسَمِّع»، فأنكر عليه بما شهد فيه، ولم ينكر على أبي موسى قوله: (لو علمتُ أنك تَسمع لحبَّرته لك تحبيرًا)؛ لأنه ذو نية في الخير وحسن قصد به، ولذا كل من كان له حسن قصد، ونية خير، في إظهار عمل، فليس من السمعة والرياء في شيء؛ لتجرده من الآفة الدنيوية، وهي الطمع والمدح. اهـ.