فصل: تفسير الآيات (71- 72):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (68- 70):

{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قالوا حرِّقوه} أي: قال بعضهم لبعض، لَمَّا عجزوا عن المحاججة، وضاقت عليهم الحيل، وعييت بهم العلل، وهذا دَيْدنُ المبطل المحجوج، إذا قُرعَت شبهه بالحجة القاطعة وافتضح، لم يبق له حينئذ إلا المناصبة والمعاداة، فناصبوا إبراهيم عليه السلام، وقالوا حرِّقوه بالنار؛ لأنه أشد العقوبات، {وانصُروا آلهتكم} بالانتقام لها {إن كنتم فاعلين} للنصر، أي: إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرًا مؤزرًا، فاختاروا له أهول المعاقبات، وهو الإحراق، وإلاَّ فقد فرطتم في نصرتها، والذي أشار بالإحراق نمرود، أو رجل من أكراد فارس، اسمه هيزن، وقيل: هدير، خسفت به الأرض، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة.
رُوِيَ أنهم، لما أجمعوا على حرقه عليه السلام، بنوا له حظيرة بكُوثَى- قرية من قرى الأنباط بالعراق- فجمعوا صلاب الحطب من أصناف الخشب، مدة أربعين يومًا، وقيل: شهرًا، حتى إن المرأة تنذر: لَئِنْ أصابت حاجتها لتَحِطَبنَّ في نار إبراهيم. ثم أوقدوا نارًا عظيمة، لا يكاد يحومُ حولها أحد، حتى إن كانت الطير لتمرُ بها، وهي في أقصى الجو فتحترق من شدة وهجها، ولم يقدر أحد أن يقربها، فلم يعلموا كيف يُلقونه عليه السلام فيها، فأتى إبليس وعلمهم علمَ المنجنيق، فعملوه. وقيل: صنعه لهم رجل من الأكراد، فخسف الله تعالى به في الأرض مثل الآخر، ثم عمدوا إلى إبراهيم عليه السلام، فوضعوه فيه مغلولاً مقيدًا مجردًا، فصاحت السماءُ والأرضُ ومن فيها من الملائكة: يا ربنا، إبراهيم، ليس في الأرض أحد يعبدك غيرُه، يُحرق فيك، فَأذَنْ لنا في نصرته، فقال لهم: إن استغاث بواحد منكم فأغيثوه، فرموا به فيها من مكان شاسع، فقال له جبريل عليه السلام، وهو في الهواء: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا. قال: فسل ربك. فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فرفع همته عن الخلق، واكتفى بالواحد الحق، فجعل الله الخطيرةَ روضة. وهذا معنى قوله: {قلنا يا نار كوني بردًا وسلامًا على إِبراهيم} أي: كوني ذات برد وسلام، أي: ابردي بردًا غير ضار.
قال ابن عباس: لو لم يقل {وسلامًا} لمات إبراهيم من بردها، ولم تبق يومئذ نار إلا طفئت، ظنت أن الخطاب توجه لها، فما انتفع أحد من أهل الأرض يومئذ بنار، ولم تبق دابة إلا أتت تطفئ عنه النار، إلا الوزغ. فلذلك أمر نبيُنا صلى الله عليه وسلم. بقتلها، وسماها فويسقا. قال السدي: فأخذت الملائكة بضَبْعَي إبراهيم وأقعدوه على الأرض، فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس. قال كعب: ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه. ورُوي أنه عليه السلام مكث فيها سبعة أيام، وقيل: أربعين، وقيل: خمسين، والأول أقرب.
قال إبراهيم عليه السلام: ما كنتُ أيامًا قط أنعم مني من الأيام التي كنتُ فيها. قال ابن بسار: وبعث الله تعالى ملك الظل فقعد إلى جنبه يُؤنسه، قالوا: وبعث الله بقميص من حرير الجنة. قلت: وقد تقدم ذكره في سورة يوسف. وأتاه جبريل فقال: إن ربك يقول: أما علمت أن النار لا تضر أحبائي. فنظر نمرود من صرحه، فأشرف عليه، فرآه جالسًا في روضة مونقة، ومعه جليسٌ على أحسن ما يكون من الهيئة، والنار محيطة به، فنادى: يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم، قال: فاخرج، فقام يمشي فخرج منها، فاستقبله نمرود وعظَّمه. وقال: من الرجل الذي رأيتُه معك؟ قال ذلك ملك الظل، أرسله ربي ليؤنسني، فقال: إني مُقرب إلى إلهك قربَانًا لِمَا رأيته من قدرته وعزته فيما صنع بك. فقال عليه السلام: لا يقبل الله منك ما دُمتَ على دينك هذا، حتى تفارقه إلى ديني، قال: لا استطيع ترك ملكي، ولكن سأذبح له أربعة آلاف بقرة، فذبحها، وكف عن إبراهيم عليه السلام.
قال شعيب الجبائي: أُلقِي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة، وذبح إسحاق وهو ابن سبع سنين، وولدته سارة وهي بنت تسعين سنة، ولَمَّا علت ما أراد من ذبحه بقيت يومين وماتت في الثالث. اهـ. وهذا كما ترى من أكبر المعجزات، فإنَّ انقلاب النار هواء طيبًا، وإن لم يكن بدعًا من قدرة الله، لكنه من أكبر الخوارق، واختلف في كيفية برودتها؛ فقيل: إن الله تعالى أزال ما فيها من الحر والإحراق، وقيل: دفع الله عن جسم إبراهيم حرها وإحراقها مع تَرْكِ ذلك فيها، والله على كل شيء قدير.
قال تعالى: {وأرادوا به كيدًا}؛ مكرًا عظيمًا في الإضرار، {فجعلناهم الأخسرين} أي: أخسر من كل خاسر، حيث جاء سعيهم في إطفاء نور الحق برهانًا قاطعًا على أنه عليه السلام على الحق، وهم على الباطل، وموجبًا لارتفاع درجته واستحقاقهم للهلاك، فأرسل الله على نمرود وقومه البعوض، فأكلت لحومهم وشربت دماءهم، ودخلت بعوضة في دماغ نمرود فأهلكته بعد المحنة الشديدة، وبالله التوفيق.
الإشارة: أجرى الله تعالى عادته في المتوجه الصادق، إذا أراد الوصول إلى حضرته، أن يبْتَليه قبل أن يُمكنه، ويمتحنه قبل أن يُصافيه؛ لأنَّ محبته تعالى مقرونة بالبلاء، والداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور. فإذا رُمِيَ الولي في منجنيق الابتلاء، وألقي في نار الجلال، وتعرضت له الأكوان: ألك حاجة؟ فيقول- إن كان مؤيَدًا-: أمَّا إليك فلا، وأما إلى الله فبلى، فإذا قيل له: سله، فيقول: علمه بحالي يغني عن سؤالي. فلا جرم أن الله تعالى يقول لنار الجلال: كوني بردًا وسلامًا على وليي، فينقلب حرها بردًا وسلامًا، فلا يرى أيامًا أحلى من تلك الأيام التي ابتُلي فيها.
وهذا أمر مجرب مَذُوق، وأما إن التفت إلى التعلق بغير الله تعالى، فإنَّ البلاء يُشدد عليه، أو يخرج من دائرة الولاية، والعياذ بالله. فالولي هو الذي يقلب الأعيان بهمته، وبالنور الذي في قلبه، حسية كانت أو معنوية، فيقلب الخوف أمنًا، والحزن سرورًا، والقبض بسطًا، والفاقة غنًى، وهكذا... فحينئذ تنفعل له الأشياء وتطيعه، وتخرق له العوائد، حتى لو ألقي في النار الحسية لبردت. قال الورتجبي: كان الخليل منُورًا بنور الله، وكان فعل النار من فعل الله، فغلب نور الصفة على نور الفعل، ولو بقيت النار حتى وصل إليها الخليل لصارت مضمحلة، فعلم الحق ذلك، فقال لها: {كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم} حتى تبقى لظهور معجزته وبيان كرامته. اهـ. ومصداق ما ذكره: قول النار يوم القيامة للمؤمن: جُز فقد أطفأ نورك لهبي، كما ورد. والله أعلم.

.تفسير الآيات (71- 72):

{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)}
قلت: {إلى الأرض}: يتعلق بحال محذوفة، ينساق إليها الكلام، أي: ذاهبًا بهما إلى الأرض.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ونجيناه} أي: إبراهيم {ولوطًا} ابن أخيه هاران، ذاهبًا بهما من العراق {إِلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين}، وهي أرض الشام. وبركاته العامة: أنَّ أكثر الأنبياء بُعثوا فيها، فانتشرت في العالمين شرائعهم، التي هي مبادئ الخيرات الدينية والدنيوية، وهي أرض المحشر، فيها يجمع الناس، وفيها ينزل عيسى عليه السلام، وقال أُبي بن كعب: ما من ماء عذب إلاَّ وأصله من تحت صخرة بيت المقدس، وهي أرض خِصب، يعيش فيها الفقير والغني.
قال ابن إسحاق: خرج إبراهيم من كُوثى من أرض العراق، وخرج معه لوط وسارة، فنزل حَرّان، ثم خرج منها إلى مصر، ثم خرج منها إلى الشام، فنزل السَّبُعَ من أرض فلسطين بزوجه سارة، بنت عمه هاران الأكبر، ونزل لوط عليه السلام بالمؤتفكة، وبينهما مسيرة يوم وليلة، وكلاهما من الشام.
{ووهبنا له إسحاق ويعقوبَ نافلةً} أي: وهبنا له إسحاق ولدًا من صلبه، وزاد يعقوب، ولد ولده، نافلة؛ لأنه سأل ولدًا بقوله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين} [الصَّافات: 100] فأُعطيه، وأُعطى يعقوب نافلة، زائدًا على ما سأل؛ لأنه أعطى من غير سؤال، فكأنه تبرعًا. قال ابن جزي: واختار بعضهم- على هذا- الوقف على إسحاق لبيان المعنى، وهذا ضعيف؛ لأنه معطوفٌ على كل قول. اهـ. وقيل: {نافلة} يرجع لهما معًا، أي: أعطيناه ولدًا وولد ولد، عطيةً، فيكون حالاً منهما معًا، قيل: هو مصدر، كالعاقبة من غير لفظ الفعل، الذي هو {وهبنا} وقيل: اسم، {وكُلاًّ} أي: كل واحد من هؤلاء الأربعة، {جعلنا صالحين}؛ بأن وفقناهم لصلاح الظاهر والباطن، حتى استحقوا الخصوصية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الهجرة سُنَّة من سُنن الأنبياء والأولياء، فكل من لم يجد في بلده من يعينُه على دينه، يجب عليه الانتقال إلى بلدٍ يجد فيها ذلك. وكذلك المريد إذا لم يجد قلبه في محل؛ لكثرة عوائده وشواغله بحيث يشوش عليه قلبه فلينتقل إلى بلد تقل فيها العلائق والشواغل، إن وجد فيها من يحرك معهم فنَّه، كان بادية أو حاضرة. والغالب أن الحاضرة تكثر فيها العوائد والحظوظ والشهوات، فلا يدخلها المريد حتى يتقوى ويملك نفسه، يأخذ النصيب من كل شيء، ولا ينقص من نصيبه شيء، وقد تقدم هذا مرارًا. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (73):

{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وجعلناهم} أي: إبراهيم وإسحاق ويعقوب، {أئمةً} يُقتدى بهم في أمور الدين؛ إجابة لدعوته بقوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} [البَقَرَة: 124] أي: فاجعل أئمة، {يَهدُون} الخلق إلى الحق، {بأمرِنَا} لهم بذلك، وإرسالنا إياهم حتى صاروا مكملين، أو يهدون الخلق بإرادتنا ومشيئتنا. {وأوحينا إِليهم فعلَ الخيرات} وهي جميع الأعمال الصالحة، أي: أمرناهم أن يفعلوا جميع الخيرات، ليتم كمالهم بانضمام العمل الصالح إلى العلم، وأصله: أن يفعلوا الخيرات، ثم فعلَ الخيرات، {وإِقامَ الصلاةِ وإِيتاءَ الزكاة}، وهو من عطف الخاص على العام؛ دلالة على فضله وشرفه، وأصله: وإقامة الصلاة، فحذفت التاء المعوضة من إحدى الألفين؛ لقيام المضاف إليه مقامها. {وكانوا لنا عابدين}: قانتين مُطيعين، لا يخطر ببالهم غير عبادتنا ومشاهدتنا. وأنتم يا معشر العرب والعجم من ذريتهم، فاتبعوهم في ذلك. وبالله التوفيق.
الإشارة: إنما يعظم جاه العبد عند الله بثلاثة أمور: انحياشه بقلبه إلى الله، ومسارعته إلى ما فيه رضا الله، وإرشاد العباد إلى الله، بدعائهم إلى الله بالحال والمقال، فبقدر ما يقع من هداية الخلق على يديه يعلو مقامه عند الله، إن حصلت المعرفة بالله، وبهذا تعرف شرف مرتبة مشيخة الصوفية، الدالين على الله، الداعين إلى حضرة الله، إن تكلموا وقع كلامهم في قلوب الخلق، فيرجعون إلى الله من ساعتهم، مجالسهم كلها وعظ وتذكير، حالهم يُنهض إلى الله، ومقالهم يدل على الله، ففي ساعة واحدة يتوب على يديهم من الخلق ما لا يتوب على يد العالم في سنين؛ وذلك لإنهاض الحال والمقال، فلا جَرَمَ أنهم أعز الخلق إلى الله، وأعظمهم قدرًا عند الله.
قال السهروردي في العوارف: ورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفس محمد بيده لئن شئتم لأقسمن لكم، إن أحب عباد الله إلى الله يُحَبِّبُونَ الله إلى عباده، ويُحبِّبُون عباد الله إلى الله، ويمشون في الأرض بالنصيحة» وهذا الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رتبة المشيخة والدعوة؛ فإن الشيخ يُحبب الله إلى عباده حقيقة، ويحبب عباد الله إلى الله.
فأما كونه يُحبب عباد الله إلى الله؛ لأن الشيخ يسلك بالمريد طريق الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأخلاقه. ومن صح اقتداؤه واتباعه أحبه الله، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} [آل عِمرَان: 31]، ووجه كونه يُحبب الله إلى عباده؛ لأنه يسلك بالمريد طريق التزكية، وإذا تزكت النفس انجلت مرآة القلب، ودخل فيها نور العظمة الإلهية، ولاح فيها جمال التوحيد، وذلك ميراث التزكية، قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشّمس: 9]، وفلاحها: الظفر بمعرفة الله، فإذا عرفه، قطعًا، أحبه وفنى فيه.
فرتبة المشيخة من أعلى الرتب؛ لأنها خلافة النبوة في الدعوة إلى الله.
ثم قال: فعلى المشايخ وقار لله، وبهم يتأدب المريد ظاهرًا وباطنًا، قال الله تعالى: {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعَام: 90]، فالمشايخ، لَمَّا اهتَدْوا، أُهِّلُوا للاقتداء بهم، وجُعِلوا أئمة للمتقين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، حاكيًا عن الله عزّ وجلّ: «إذا كان الغالبُ على عبدي الاشتغال بي، جعلت همته ولذَّتهُ في ذكري، فإذا جعلت همته ولذته في ذكري، أحبني وأحببته، ورفعتُ الحجابُ فيما بيني وبينه، لا يسهو إذا سَهَا الناسُ، أولئك كلامُهُم كلام الأنبياءِ، أولئك الأبطالُ حقًا، أولئك الذين إذا أردتُ بأهلِ الأرضِ عقوبةً أو عذابًا، ذكرتُهم فصرفتُه بهم عنهم» انتهى كلامه رضي الله عنه.
ومن كلام ذي النون المصري- لمّا تكلم على الأبدال- قال: فهمُهم إليه ثائرة، وأعينهم إليه بالغيب ناظرة، قد أقامهم على باب النظر من رؤيته، وأجلسهم على كراسي أطباء أهل معرفته، ثم قال لهم: إن أتاكم عليل من فقدي فداووه، أو مريض من فراقي فعالجوه، أو خائف مني فانصروه، أو آمن مني فحذّروه، أو راغب في مواصلتي فمنوه، أو راحل نحوي فزودوه، أو جبان في متاجرتي فشجعوه، أو آيس من فضلي فرجُّوه، أو راجٍ لإحساني فبشروه، أو حسن الظن بي فباسطوه، أو مُعظَّم لقدري فعظموه، أو مسيء بعد إحساني فعاتبوه، أو مسترشد فأرشدوه. اهـ. وهذه صفة مشايخ التربية على ما شهدناهم، وما شهدنا إلا بما علمنا. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (74- 77):

{وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)}
قلت: {ولوطًا}: إما مفعول بمحذوف يُفسره قوله: {آتيناه} أي: وآتينا لوطًا، أو: باذكر. و{نوحًا}: مفعول باذكر.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولوطًا آتيناه حُكمًا} أي: حكمة، أو نبوة، أو فصْلاً بين الخصوم بالحق، {وعلمًا} بِنَا وبما ينبغي علمه للأنبياء- عليهم السلام- من علم السياسة، {ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائثَ}؛ اللواطة، وقذف المارة بالحصى، وغيرها، وصفت بصفة أهلها، وأسندت إليها على حذف مضاف، أي: من أهل القرية، بدليل قوله: {إِنهم كانوا قوم سَوْءٍ فاسقين}: خارجين عن طاعة الله ورسوله. {وأدخلناه في رحمتنا} أي: في أهل رحمتنا، أو جنتنا، {إنه من الصالحين} الذين صلحت ظواهرهم وبواطنهم، فنجيناه؛ جزاء على صلاحه، كما أهلكنا قريته؛ عقابًا على فسادهم.
{و} اذكر {نوحًا}، وقدّم هؤلاء عليه؛ لتعلقهم بإبراهيم، أي: خبره، {إِذْ نادى} أي: دعا الله تعالى على قومه بالهلاك، أي: اذكر نبأه الواقع وقت دعائه، {من قبلُ} هؤلاء المذكورين، {فاستجبنا له} دعاءه الذي من جملته قوله: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر} [القَمَر: 10]، {فنجيناه وأهله} المؤمنين به، من ولده وقومه، {من الكرب العظيم}، وهو الطوفان وتكذيب أهل الطغيان. وأصل الكرب: الغم الشديد، {ونصرناه} نصرًا مستتبعًا للانتقام، {من القوم الذين كذبوا بآياتنا} أي: منعناه من إذايتهم، {إِنهم كانوا قومَ سَوْءٍ}، تعليل لما قبله، {فأغرقناهم أجمعين}، صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم؛ لأن الإصرار على تكذيب الحق، والانهماك في الشر والفساد، مما يُوجب الإهلاك العام. والله تعالى أعلم.
الإشارة: نبي الله لوط عليه السلام لمَّا هاجر من أرض الظلمة إلى الأرض المقدسة، أعطاه الله العلم والحكمة. فكل من هاجر من الغفلة إلى محل الذكر واليقظة، وهجر ما نهى الله عنه عوَّضه الله علمًا بلا تعلم، وأجرى على لسانه ينابيع الحكمة. قال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه: إذا اعتقدت النفس على ترك الآثام، جالت في الملكوت، وعادت إلى ذلك العبد بطرائف الحكمة، من غير أن يُؤدِّيَ إليها عالمٌ علمًا. ومصداقه الحديث: «من عمل بما يعلم، ورثه الله عَلْمَ ما لم يعلم»
ولمَّا أجهد نفسه في تغيير المنكر نجّاه الله من أذاهم وما لحق بهم، وكذلك نبيه نوح عليه السلام؛ لما دعا قومه إلى الله، وأجهد نفسه في نصحهم، نجاه الله من شرهم وجعل النسل من ذريته، فكان آدم الأصغر. وهذه عادة الله تعالى في خواصه، يُكثر فروعهم، ويجعل البركة في تركتهم. وبالله التوفيق.