فصل: تفسير الآيات (75- 76):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (73- 74):

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)}
قلت: {هم أحسن}: صفة لِكَمْ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإِذا تُتلى عليهم}؛ على الكفرة {آياتُنا} الناعية عليهم فظاعة حالهم ووخامة مآلهم، والناطقة بحسن عاقبة المؤمنين، حال كونها {بيناتٍ}: واضحات في نفسها، أو بينات الإعجاز، أو بينات المعاني، {قال الذين كفروا} أي: قالوا، ووضع الموصول موضع الضمير؛ للتنبيه على أنهم قالوا ما قالوا كافرين بما يُتلى عليهم رادين له، أو: قال الذين تمرَّدوا في الكفر والعتو؛ وهم النضر بن الحارث وأتباعه، قالوا {للذين آمنوا}، اللام للتبليغ، أي: قالوا مبلغين الكلام لهم، وقيل: لام الأجل، كقوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11] أي: لأجلهم وفي حقهم، والأول أولى؛ لأن الكلام هنا كان معهم بدليل قوله: {أيُّ الفريقين} أي: المؤمنين والكفار، {خيرٌ} كأنهم قالوا: أينا {خيرٌ مقامًا} أي: مكانًا: نحن أو أنتم، وقرئ بالضم، أي: موضع إقامة ومنزل، {وأحسنُ نَدِيًّا}؛ مجلسًا ومجتمعًا، أو: أينا خير منزلاً ومسكنًا، وأحسن مجلسًا؟
يُروَى أنهم كانوا يُرجلون شعورهم ويدهنونها، ويتزينون بالزينة الفاخرة، ثم يقولون ذلك لفقراء المؤمنين، يريدون بذلك أن خيريتهم، حالاً، وأحسنيتهم، مقالاً، مما لا يقبل الإنكار، وأنَّ ذلك لكرامتهم على الله سبحانه وزلفاهم عنده، وأنَّ الحال التي عليها المؤمنون، من الضرورة والفاقة ورَثَاثَةِ الحال؛ لقصور حظهم عند الله. وما هذا القياس العقيم والرأي السقيم إلا لكونهم جَهلةً لا يعلمون إلا ظاهرًا من الحياة الدنيا، وذلك مبلغهم من العلم، فردَّ عليهم بقوله: {وكم أهلكنا قبلهم من قَرْنٍ هم أحسنُ أثاثًا}: مالاً ومتاعًا {ورِءْيًا}؛ منظرًا، أي: كثيرًا من القرون التي كانوا أفضل منهم، فيما يفتخرون به من الحظوظ الدنيوية، كعاد وثمود وأضرابهم العاتية قبل هؤلاء، أهلكناهم بفنون العذاب، ولو كان ما آتيناهم لكرامتهم علينا، لما فعلنا بهم ما فعلنا، وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفى، كأنه قيل: فلينتظر هؤلاء أيضًا مثل ذلك.
و{أثاثًا}: تمييز، وهو متاع البيت، أو ما جد منه، و{رِءْيًا}: كذلك، فِعْل من الرؤية بمعنى المنظر، قال ابن عزيز: {رءيا} بهمزة ساكنة: ما رأيت عليه من شارة حسنة وهيئة، وبغير همز: يجوز أن يكون على معنى الأول، ويجوز أن يكون من الريّ. أي: منظرهم مُرتو من النعمة. وَزِيًّا، بالزاي المعجمة، في قراءة ابن عباس، يعني هيئة ومنظرًا. اهـ.
الإشارة: رفعة القدر والمقام لا تكون بالتظاهر بمفاخر اللباس والطعام، ولا بحسن الهيئة ومنظر الأجسام، وإنما يكون باحتظاء القلوب بمعرفة الله، وتمكين اليقين من القلوب، واطلاعها على أسرار الغيوب، مع القيام بوظائف العبودية، أدبًا مع عظمة الربوبية، ونسيان النفوس والاشتغال عنها بالعكوف في حضرة القدوس، فأهل القلوب لا يعبأُون بظواهر الأشباح، وإنما يعتنون بحياة الأرواح.
كمل حقيقتك التي لم تَكْمُلِ ** والجسم دعه في الحضيض الأسفل

فقوت قلوبهم التواجد والأذكار، وحياة أرواحهم العلوم والأسرار، وأنشدوا:
بالقوت إحياءُ الجسوم وذكره ** تحيا به الألباب والأرواح

هو عيشهم ووجودهم وحياتهم ** حقًا ورَوْح نفوسهم والرَّاح

وأما من عَظُمَ جهلُه، وكَثُفَ حجابه، فإنما ينظر إلى بهجة الظواهر وتزيينها بأنواع المفاخر، أو إلى من عظم جاهه وكثرت أتباعه، وهذه نزعة جاهلية، حيث قالوا حين يُتلى عليهم الوعظ والتذكير: {أي الفريقين خير مقامًا وأحسن نديًا}، {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ} [الرُّوم: 7]. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (75- 76):

{قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)}
قلت: {ويزيد}: عطف على {فليَمدُد}؛ لأنه في معنى الخبر، أي: من كان في الضلالة يمده الله فيها، ويزيد في هداية الذين اهتدوا مددًا لهدايتهم، أو عطف على {فسيعلمون}، وجمع الضمير في {رَأَوا} وما بعدها؛ باعتبار معنى {مَنْ}، وأفرد أولاً باعتبار لفظها.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قُلْ} يا محمد {مَنْ كان} مستقرًا {في الضلالة} مغمورًا في الجهل والغفلة عن عواقب الأمور، مشتغلاً بالحظوظ الفانية، {فليَمْدُدْ له الرحمنُ مَدَّا} أي: يمد له بطول العمر وتيسير الحظوظ، إما استدراجًا، كما نطق به قوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً} [آل عِمرَان: 178]، أو قطعًا للمعاذير كما نطق به قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّر} [فاطر: 37]، أو: {فليمدد له}: يدعه في ضلاله، ويمهله في كفره وطغيانه، كقوله تعالى: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]. والتعرّض لعنوان الرحمانية؛ لبيان أن أفعالهم من مقتضيات الرحمة مع استحقاقهم تعجيل الهلاك.
وكأنه جلّ جلاله لما بيَّن عاقبة الأمم المهلَكة، مع ما كان لهم من التمتع بفنون الحظوظ العاجلة، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب هؤلاء المفتخرين بما لَهُم من الحظوظ بمآل أمر الفريقين، وهو استدراج أهل الضلالة ثم أخذهم، وزيادة هداية أهل الإيمان ثم إكرامهم، كما بيَّن ذلك بقوله: {حتى إِذا رَأوا ما يُوعدون}، فهو غاية للحد الممتد، أي: نمد لهم في الحياة وفنون الحظوظ حتى ينزل بهم ما يوعدون؛ {إِمَّا العذاب} الدنيوي بالقتل، والأسر، وغلبة أهل الإيمان عليهم، {وإِمَّا الساعةَ}، وهو يوم القيامة وما ينالهم فيه من الخزي والهوان، و{إما} هنا: لمنع الخُلو، لا لمنع الجمع؛ فإن العذاب الأخروي لا ينفك عنهم بحال.
{فسيعلمون} حينئذ {مَن هو شرٌّ مكانًا} من الفريقين، بأن يشاهدوا الأمر على عكس ما كانوا يُقدّرون، فيعلمون أنهم شر مكانًا، لا خير مقامًا، {و} يعلمون أنهم {أضعفُ جندًا} أي: جماعة وأنصارًا، لا أحسن نَدِيًّا، كما كانوا يدعونه، وليس المراد أن لهم يوم القيامة جندًا سيَضعف، وما كان له من فئة ينصرونه من دون الله، وإنما ذكر ذلك ردًّا لما كانوا يزعمون أن لهم أعوانًا وأنصارًا، يفتخرون في الأندية والمحافل، فردَّ ذلك بأنه باطل وظل آفل، ليس تحته طائل.
ثم ذكر فريق أهل الإيمان فقال: {ويزيدُ اللهُ الذينَ اهتدوا هُدَىً} أي: كما يمد لأهل الضلالة؛ زيادة في ضلالهم، كذلك يزاد في هداية أهل الهداية؛ ثوابًا على طاعتهم؛ لأن كلا يجزي بوصفه، فلا تزال الهداية تنمو في قلوبهم حتى يردوا موارد الكرم، أمَّا في الدنيا فبكشف الحجاب وانقشاع السحاب حتى يشاهدوا رب الأرباب، فما كانوا يؤمنون به غيبًا صار عيانًا، وأمَّا في الآخرة فبنعيم الحور والقصور، ورؤية الحليم الغفور.
فقد بيَّن الحق تعالى حال المهتدين إثر بيان حال الضالين، وأن إمهال الكافر وتمتيعه بالحظوظ ليس لفضله، وإن منع المؤمن من تلك الحظوظ ليس لنقصه، بل قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا الفانية، وقوم ادخرت لهم طيباتهم للحياة الباقية، قال تعالى: {والباقياتُ الصالحاتُ}؛ كأنواع الطاعات، {خيرٌ عند ربك}؛ لبقاء فوائدها ودوام عوائدها... وقد تقدم تفسيرها.
والتعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه، أي: فهي أفضل {ثوابًا} أي: عائدة مما يتمتع به الكفرة من النعم الفانية، التي يفتخرون بها؛ لأن مآلها الحسرة السرمدية والعذاب الأليم، ومآل الباقيات الصالحات النعيم المقيم في دار الدوام، كما أشير إليه بقوله: {وخيرٌ مَرَدًّا} أي: مرجعًا وعاقبة، وتكرير الخير لمزيد الاعتناء بشأن الخيرية وتأكيد لها في التفضيل، مع أن ما للكفرة بمعزل من أن يكون له خيرية في العاقبة، ففيه نوع تهكم بهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: اعلم أن الحق- جلّ جلاله- يرزق العبد على قدر نيته، ويمده على قدر همته، فمن كانت همته في الحظوظ العاجلة والشهوات الفانية، أمده الله فيها، ومتعه بها ما شاء، على حسب القسمة، ثم أعقبه الندم والحسرة، ومن كانت همته الآخرة، أمده سبحانه في الأعمال التي تُوصله إلى نعيمها، كصلاة وصيام وصدقة وتدريس علم، وأذاقه من حلاوتها ما يُهون عليه مرارتها، ثم أعقبه النعيم الدائم من القصور والحور، وأنواع الطيبات، مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
ومن كانت همته الله- أي: الوصول إلى حضرته دون شيء سواه- أمده الله في الأعمال التي توصله إليه، وهي أعمال القلوب؛ من التخلية والتحلية، كالتخلية من الرزائل والتحلية بالفضائل، وكقطع المقامات بأنواع المجاهدات، ورأس ذلك أن يُوصله إلى شيخ كامل جامع بين الحقيقة والشريعة، بين الجذب والسلوك، قد سلك الطريق على شيخ كامل، فإذا وصله إليه وكشف له عن سر خصوصيته فليستبشر بحصول المطلب وبلوغ الأمل. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (77- 80):

{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: في حق العاص بن وائل: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا}: القرآن المشتمل على البعث والحساب قال خبَّاب بن الأرَت: كان لي على العَاصِ بن وَائِل دِيْنٌ، فاقْتَضيتُه، فقَالَ: لاَ، والله لا أَقْضيكَ حتى تَكْفُرَ بمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: لا والله لا أَكْفُرُ بمُحَمَّدٍ حَتَّى تَمُوتَ ثم تُبعثَ، قال العاص: فإذا مِتُّ ثم بُعثتُ، جئتني وسيكون لي ثمَّ مالٌ وولدٌ، فأعطيك، لأنكم تزعمون أن في الجنة ذهبًا وفضة- استهزاء واستخفافًا- وفي رواية البخاري: «كُنت قَيْنَا في الجاهلية، فصنعتُ للعاصي سيفًا فجئتُ أتَقَاضَاهُ...» فذكر الحديث. فالهمزة للتعجيب من حاله، للإيذان بأنها من الغرابة والشناعة بحيث يقضي منها العجب، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي: أنظرت فرأيت الذي كفر بآياتنا الباهرة التي من حقها أن يؤمن بها كل من شاهدها.
{وقال} مستهزءًا بها، مصدّرًا باليمين الفاجرة: والله {لأُوتَينَّ} في الآخرة {مالاً وولدًا} أي: انظر إلى حاله فتعجب من حالته البديعة وجرأته الشنيعة، {أَطَّلَع الغيبَ} أي: أبلغ من عظمة الشأن إلى أن يرتقي إلى علم الغيب، الذي استأثر به العليم الخبير، حتى ادعى أن يُؤتى في الآخرة مالاً وولدًا، وأقسم عليه، {أم اتخذ عند الرحمن عَهْدًا} بذلك، فإنه لا يتوصل إلى العلم بذلك إلا بأحد هذين الطريقين، وهذا رد لكلمته الشنعاء، وإظهار لبطلانها إثر ما أشير إلى التعجب منها.
والتعرض لعنوان الرحمانية للإشعار بِعِلِّية الرحمة للإيتاء، فإن الرحمة تقتضي الإعطاء على الدوام. والعهد: قيل: كلمة الشهادة، أو العمل الصالح، فإن وعده تعالى بالثواب عليها كالعهد، قال القشيري: {أَطَّلَع الغيبَ} فقال بتعريف له منا، {أم اتخذ عند الرحمن عهدًا} أي: ليس الأمر كذلك. ثم قال: ودليل الخطاب يقتضي أن المؤمن إذا أمَّلَ من الله شيئًا جميلاً، فالله تعالى يحققه له؛ لأنه على عهد مع الله تعالى، والله لا يُخلف الميعاد. اهـ.
ثم أبطل ما أمله الكافر فقال: {كلا} أي: انزجر عن هذه المقالة الشنيعة، فهو ردع له عن التفوه بتلك العظيمة، وتنبيه على خطئه، قال تعالى: {سنكتبُ ما يقول} أي: سنظهر ما كتبنا عليه، فهو كقول الشاعر:
إذَا ما انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ

أي: تبين أني لم تلدني لَئِيمَةٌ، أو: سنحفظ عليه ما يقول فنجازيه عليه في الآخرة، أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمةً في الحال ويجازى عليها في المآل، فإن نفس الكتابة لم تتأخر عن القول لقوله تعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، قال ابن جزي: إنما جعله مستقبلاً؛ لأنه إنما يظهر الجزاء والعقاب في المستقبل. اهـ.
قلت: والظاهر إنما أبرزه بصورة المستقبل، تنبيهًا على عدم نسخه، وأنه ماض نافذ.
قاله في الحاشية.
{ونَمُدُّ له من العذاب مَدًّا}، مكان ما يدعيه لنفسه من الإمداد بالمال والأولاد، أي: نطول له من العذاب ونمد له فيه ما يستحقه، أو نزيد في مضاعفة عذابه، لكفره وافترائه على الله سبحانه، واستهزائه بآياته العظام، ولذلك أكده بالمصدر، دلالةً على فرط الغضب والسخط.
{ونَرِثُه ما يقولُ}، قال مكي: حرف الجر محذوف، أي: نرث منه ما يقول. اهـ. والظاهر أن {ما}: بدل من الضمير، وهو الهاء، أي: نرث ما يقول وما يدعيه لنفسه اليوم من المال والولد. وفيه إيذان بأنه ليس لما يقول مصداق موجود سوى القول، أي: ننزع منه ما آتيناه، {ويأتينا} يوم القيامة {فرْدًا} لا يصحبه مال ولا ولد كان له في الدنيا، فضلاً أن يؤتى ثمَّةَ مالاً وولدًا زائدًا. وقال القشيري: فردًا بلا حجة على قوله وقَسَمِه: {لأوتين مالاً وولدًا}، وذلك منه استهزاء ومحض كفر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يُفهم من الآية أن الإنسان إذا آمن بآيات الله وعمل بما أمره الله يكون له عهد عند الله، فإذا تمنى شيئًا أو منَّاه غيره لا يخيبه الله، ويتفاوت الناس في العهد عند الله، على قدر تفاوتهم في طاعته ومعرفته، وسيأتي في قوله: {لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً} [مريَم: 87] زيادة بيانه. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (81- 84):

{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: واتخذ المشركون الأصنام {آلهةً} يعبدونها من دون الله {ليكونوا لهم عِزًّا} يوم القيامة، ووصلة عنده يشفعون لهم، {كلا} لا يكون ذلك أبدًا، فهو ردع لهم عن ذلك الاعتقاد الباطل، وإنكارٌ لوقوع ما علَّقوا به أطماعَهم، {سيكفرون بعبادتهم} أي: تجحد الآلهة عبادتَهم لها، بأن يُنطقهم الله تعالى وتقول ما عبدتمونا، أو: سيكفر الكفرة عبادتهم لها حين شاهدوا سوء عاقبة عبادتهم لها، كقوله: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعَام: 23]، {ويكونون عليهم ضِدًا} أي: تكون الآلهة، التي كانوا يرجون أن تكون لهم عزًا، ضدًا للعز، أي: ذلاً وهوانًا؛ لأنهم تعززوا بمخلوق بسخط الخالق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من طلب رضا المخلوق بمعصية الخالق عاد حامده من الناس ذامًّا» وتكون عونًا عليهم، وآلة لعذابهم، حيث تجعل وقود النار وحَصَب جهنم، أو تكون الكفرة ضدًا وأعداء للآلهة، كافرين بها، بعد أن كانوا يُحبونها كحب الله، ويعبدونها من دون الله، وتوحيد الضد؛ لتوحيد المعنى الذي عليه تدور مضادتهم، فإنهم بذلك كشيء واحد، كقوله عليه الصلاة والسلام: «وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ».
وسب عبادتهم للأصنام تزيين الشيطان، وَفَاء بقوله: {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض} [الحِجر: 39]، كما قال تعالى: {ألم تَرَ أنا أرسلنا الشياطينَ على الكافرين} أي: سلطهم عليهم ومكنهم من إغوائهم، بقوله تعالى: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ} [الإسرَاء: 64] الآية.
وهذا تعجيب لرسوله صلى الله عليه وسلم مما نطقت به الآيات الكريمة عن هؤلاء الكفرة، العتاة المردة، من فنون القبائح من الأقاويل والأفاعيل، والتمادي في الغي، والانهماك في الضلال، والتصميم على الكفر، من غير صارف يلويهم، ولا عاطف يثنيهم، وإجماعهم على مدافعة الحق بعد اتّضاحه، وتنبيه على أن جميع ذلك بإضلال الشياطين وإغوائهم، لا أن له مسوغًا في الجملة، أي: ألم تر ما فعلت الشياطين بالكفرة حتى صدر منهم ما صدر من تلك القبائح والعظائم، وليس المراد تعجيبه عليه السلام من مطلق إرسال الشياطين عليهم، كما يوهمه تقليل الرؤية، بل عما صدر عنهم من حيث إنها من آثار إغواء الشياطين، كما ينبئ عنه قوله تعالى: {تَؤُزهُم أزًّا} أي: تغريهم وتهيجهم على المعاصي تهييجًا شديدًا، بأنواع الوساوس والتسويلات. فالأز والاستفزاز أخوان، معناهما: شدة الانزعاج، وجملة {تؤزّهم}: حال مقدرة من الشياطين، أو استئناف وقع جوابًا عن صدر الكلام، كأنه قيل: ماذا تفعل بهم الشياطين؟ قال: {تؤزّهم أزًّا}.
{فلا تعجل عليهم} بأن يهلكوا حسبما تقتضي جناياتهم ويبيدوا عن آخرهم، وتطهرُ الأرض من فسادهم، {إِنما نعدّ لهم عَدًّا} أي: لا تستعجل بهلاكهم، فإنه لم يبق لهم إلا أيام وأنفاس قلائل نعدها عدًا، ثم نأخذهم أخذًا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل من اتخذ شيئًا يتعزز به من دون الله وطاعته انقلب عليه ذُلاً وهوانًا، ولذلك قيل: من تعزز بمخلوق مات عزه. فإن أردت عزًا لا يفنى فلا تتعزز بعز يفنى، وهو التعزز بالمال أو الجاه، أو غير ذلك مما يفنى، وسيأتي عند قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ العزة فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً} [فاطر: 10]. {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنَافِقون: 8] زيادة بيان. وكما أرسل الحق تعالى الشياطين على الكافرين تزعجهم إلى المعاصي أرسل الملائكة والواردات الإلهية إلى المؤمنين تنهضهم إلى طاعة الله، وتزعجهم إلى السير لمعرفة الله. فالملائكة تحرك العبد إلى الطاعة، والواردات تزعجه إلى الحضرة، تخرجه عن عوائده وتدمغ له مِن علائقه، وعوائقه، حتى ينفرد لحضرة الحق: وفي الحكم: الوارد يأتي من حضرة قهار، لأجل ذلك لا يصادمه شيء إلا دمغه؛ {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}. وقال أيضًا: متى وردت الواردات الإلهية عليك هدمت العوائد لديك؛ {إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها}.
وقال القشيري على قوله: {تؤزهم أزًّا}: أي: تزعجهم إزعاجًا، فخاطر الشيطان يكون بإزعاج وظلمة، وخاطر الحقِّ يكون بَروْحٍ وسكون، وهذه إحدى الفوارق بينهما. اهـ. قلت: ومن الفوارق أيضًا: أن خاطر الحق لا يأمر إلا بالخير مع برودة وانشراح في القلب وسكون وأناة... وفي الحديث: «العجلة من الشيطان، والأناة من الرحمن». اهـ. بخلاف خاطر الشيطان؛ فإنه لا يأمر إلا بالشر، وقد يأمر بالخير إذا كان يجرُّ به إلى الشر، وعلامته أن يكون فيه ظلمة ودَخن وعجلة وبطش، وقد استوفى الكلام عليهم في النصيحة الكافية. وبالله التوفيق.