فصل: تفسير الآيات (78- 82):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (78- 82):

{قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)}
قلت: {هذا}، الإشارة إما إلى نفس الفراق، كقولك: هذا أخوك، أو إلى الوقت الحاضر، أي: هذا وقت الفراق. أو إلى السؤال الثالث. و{بيني}: ظرف مضاف إليه المصدر؛ مجازًا، وقرئ بالنصب، على الأصل، و{غَصْبًا}: مصدر نوعي ليأخذ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قال} الخضر عليه السلام: {هذا فراقُ بيني وبينك} فلا تصحبني بعد هذا، {سأنبئُك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا} أي: سأخبرك بالخبر الباطن، فيما لم تستطع عليه صبرًا؛ لكونه منكرًا في الظاهر، فالتأويل: رجوع الشيء إلى مآله، والمراد هنا: المآل والعاقبة، وهو خلاص السفينة من اليد العادية، وخلاص أَبَوَيْ الغلام من شره، مع الفوز بالبدل الأحسن، واستخراج اليتيمين للكنز، وفي جعل صلة الموصول عدم استطاعته، ولم يقل:بتأويل ما رأيت؛ نوعُ تعريضٍ به، وعناية عليه السلام.
ثم جعل يفسر له، فقال: {أما السفينة} التي خرقتُها، {فكانت لمساكين}: ضُعفاء، لا يقدرون على مدافعة الظلمة، فسماهم مساكين؛ لذلهم وضعفهم، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وأمتْنِي مِسْكِينًا، واحْشُرْنِي في زُمرةِ المَسَاكِينِ» فلم يُرد مسكنة الفقر، وإنما أراد التواضع والخضوع، أي: احشرني مخبتًا متواضعًا، غير جبار ولا متكبر، وقيل: كانت السفينة لعشرة إخوة: خمسة زَمْنَى، وخمسة {يعملون في البحر}. وإسناد العمل إلى الكل، حينئذ، بطريق التغليب، ولأن عمل الوكيل بمنزلة الموكل. {فأردت أن أعيبها}: أجعلها ذات عيب، {وكان ورائهم ملكٌ} أي: أمامهم، وقرئ به، أو خلفهم، وكان رجوعهم عليه لا محالة، وكان اسمه: جلندي بن كركر وقيل: هُدَدُ بن بُدَد، قال ابن عطية: وهذا كله غير ثابت، يعني: تسمية الملك. {يأخذُ كلَّ سفينة} صالحة، وقرئ به، {غَصْبًا} من أصحابها.
وكان حق النظم أن يتأخر بيانُ إرادةِ التعيُّبِ عن خوف الغصب، فيقول: فكانت لمساكين، وكان ورائهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة، فأردت أن أعيبها؛ لأن إرادة التعيب مُسَبَّبٌ عن خوف الغصب، وإنما قدّم؛ للاعتناء بشأنها؛ إذ هي المحتاجة إلى التأويل، ولأن في التأخير فصلاً بين السفينة وضميرها، مع توهم رجوعه إلى الأقرب قال البيضاوي: ومبني ذلك- أي: التعيب وخوف الغصب- على أنه متى تعارض ضرران يجب حمل أهونهما بدفع أعظمهما، وهو أصل ممهد، غير أن الشرائع في تفاصيله مختلفة. اهـ.
{وأما الغلامُ} الذي قتلتُه {فكان أبواه مؤمنين} وقد طُبع هو كافرًا، وإنما لم يصرح بكفره؛ لعدم الحاجة إليه؛ لظهوره من قوله: {فخشينا أن يُرهقهما}: فخفنا أن يغشى الوالدَيْنِ المؤمنَيْنِ {طغيانًا} عليهما {وكفرًا} بنعمتهما؛ لعقوقه وسوء صنيعه، فَيُلْحِقُهُمَا شرًا، أو لشدة محبتهما له فيحملهما على طاعته، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر، فلعله يميلهما إلى رأيه فيرتدا.
وإنما خشي الخضر عليه السلام منه ذلك؛ لأن الله سبحانه أعلمه بحاله وأطلعه على عاقبة أمره، وقرئ: {فخاف ربك}، أي: كره سبحانه كراهية من خاف سوء عاقبة الأمر. ويجوز أن تكون القراءة المشهورة من قول الله سبحانه على الحكاية، أي فكرهنا أن يرهقهما طغيانًا وكفرًا؛ {فأردنا أن يُبدلهما ربُّهما خيرًا منه}؛ بأن يرزقهما بدله ولدًا {خيرًا منه زكاةً}: طهارة من الذنوب والأخلاق الردية، {وأقربَ رُحْمًا} أي: رحمة وعطفًا، وفي التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليهما ما لا يخفى؛ من الدلالة على وصول الخير إليهما، فلذلك قيل: ولدت لهما جارية، تزوجها نبي من الأنبياء فولدت نبيًا، هدى الله تعالى على يديه أمة من الأمم، وقيل: ولدت سبعين نبيًا، وقيل: أبدلهما ابنًا مؤمنًا مثلهما.
{وأما الجدارُ} الذي أقمتُ {فكان لغلامين يتيمين في المدينة} أي: القرية المذكورة فيما سبق، ولعل التعبير عنها بالمدينة؛ لإظهار نوع اعتداد بها، باعتداد ما فيها من اليتيمين وأبيهما الصالح، قيل: اسم اليتيمين أصرم وصريم. {وكان تحته كنزٌ لهما} من فضة وذهب، كما في الحديث، والذم على كنزهما إنما هو لمن لم يؤد زكاته، مع أن هذه شريعة أخرى. قال ابن عباس: (كان لوحًا من ذهب، مكتوب فيه: عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن؟ وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب؟ وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح؟ وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل؟ وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ لا إله إلا الله، محمد رسول الله). وقيل: كانت صحفًا فيها علم مدفون.
{وكان أبوهما صالحًا}، فيه تنبيه على أن سَعْيَهُ في ذلك كان لصلاح أبيهما، وفيه دليل على أن الله تعالى يحفظ أولياءه في ذريتهم، قيل: كان بينهما وبين الأب الذي حُفظا به سبعة أجداد. قال محمد بن المنكدر: (إن الله تعالى ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده، ومَسربته التي هو فيها، والدويرات التي حولها، فلا يزالون في حفظ الله وستره). وكان سعيد بن المسيب يقول لولده: إني لأزيد في صلاتي من أجلك، رجاء أن أُحْفَظَ فيك، ويتلو هذه الآية. ويتلو هذه الآية. وفي الحديث: «ما أحسن أحدٌ الخلافة في ماله إلا أحسن الله الخلافة في تركته» ويؤخذ من الآية: القيام بحق أولاد الصالحين؛ إذ قام الخضر عليه السلام بذلك.
{فأراد ربك} أي: مالكك ومُدبر أمرك. وفي إضافة الرب إلى ضمير موسى عليه السلام، دون ضميرهما، تنبيه له عليه السلام على تحتم كمال الانقياد، والاستسلام لإرادته سبحانه، وَوُجوب الاحتراز عن المناقشة فيما برز من القدرة في الأمور المذكورة وغيرها. أراد {أن يبلغا أشُدَّهما}: حُلُمَهُمَا وكمالَ رأيِهِمَا، {ويستخرجا كنزهما} من تحت الجدار، ولولا أني أقمته لانقض، وخرج الكنز من تحته، قبل اقتدارهما على حفظ المال وتنميته، وضاع بالكلية؛ {رحمةً من ربك} مصدر في موضع الحال، أي: يستخرجا كنزهما مَرْحُومَيْنِ به من الله تعالى.
أو: يتعلق بمضمر، أي: فعلت ما فعلت من الأمور التي شاهدتها، {رحمة من ربك}؛ بمن فُعل له أو به.
وقد استعمل الخضر عليه السلام غاية الأدب في هذه المخاطبة؛ فنسب ما كان عيبًا لنفسه، وما كان ممتزجًا له ولله تعالى؛ فإن القتل بلا سبب ظاهرهُ عيبٌ، وإبداله بخير منه خير، فأتى بضمير المشاركة، وما كان كمالاً محضًا، وهو إقامة الجدار، نسبه لله تعالى.
ثم قال: {وما فعلته} أي: ما رَأَيْتَ من الخوارق {عن أمري} أي: عن رأيي واجتهادي، بل بوحي إلهي مَلَكي، أو إلهامي، على اختلافٍ في نبوته أو ولايته، {ذلك} أي: ما تقدم ذكره من التأويلات، {تأويلُ} أي: مآل وعاقبة {ما لم تَسْطِع عليه صبرًا} أي: تفسير ما لم تستطع عليه صبرًا، فحذف التاء؛ تخفيفًا، وهو فذلكة لِمَا تقدم، وفي جعل الصلة غير ما مرَّ تكرير للتنكير عليه وتشديد للعتاب. قيل: كل ما أنكر سيدنا موسى عليه السلام على الخضر قد جرى له مثله، ففي هذه الأمثلة حجة عليه، وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة، نودي: يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت مطروح في اليم؟ فلما أنكر قتل الغلام وقيل له: أين إنكارك من وكْزك القبطي وقضائك عليه؟ فلما أنكر إقامة الجدار، نودي: أين هذا من رفعك الحجر لبنات شعيب دون أجر؟ والله تعالى أعلم.
رُوِيَ أنه قال له: لو صبرتَ لأتيتُ بك على ألفي عجيبة، كلها مما رأيت. ولما أراد موسى عليه السلام أن يفارقه، قال له: أوصني، قال: لا تطلب العلم لتحدث به، واطلبه لتعمل به. اهـ.
وفي رواية: قال له: اجعل همتك في معادك، ولا تخض فيما لا يعنيك، ولا تأمن الخوفَ، ولا تيأس الأمْن، وتدبر الأمور في علانيتك، ولا تذر الإحسان في قدرتك. فقال له: زدني يا ولي الله، فقال: يا موسى إياك واللجاجة، ولا تمش في غير حاجة، ولا تضحك، من غير عَجَب، ولا تُعير أحدًا بخطيئة بعد الندم، وابك على خطيئَتك يا ابن عمران، وإياك والإعجاب بنفسك، والتفريط فيما بقي من عمرك، فقال له موسى: قد أبلغت في الوصية، أتم الله عليك نعمته، وغمرك في رحمته، وكلأك من عدوه. فقال الخضر: آمين. فأوصني أنت يا نبي الله، فقال له موسى: إياك والغضب إلا في الله، ولا ترضى عن أحد إلا في الله، ولا تحب لدنيا ولا تبغض لدنيا، فإنك تخرج من الإيمان وتدخل في الكفر، فقال له الخضر: قد أبلغت في الوصية يا ابن عمران، أعانك الله على طاعته، وأراك السرور في أمرك، وحببك إلى خلقه، وأوسع عليك من فضله، قال موسى: آمين.
تنبيه: قد تقدم أن الجمهور على حياة الخضر عليه السلام. وسبب تعميره أنه كان على مقدمة ذي القرنين، فلما دخل الظلمات أصاب الخضر عين الحياة، فنزل فاغتسل منها، وشرب من مائها، فأخطأ ذو القرنين الطريق، فعاد، فلم يصادفها، قالوا: وإلياس أيضًا في الحياة، يلتقيان في كل سنة بالموسم، واحتج من قال بموت الخضر بقوله- عليه الصلاة والسلام-، كما في الصحيح، بعد صلاة العشاء: «أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّه عَلَى رأسِ مِائَةِ سَنَةِ، لا يَبْقَى ممَنْ هُوَ اليَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدًا»، ويجاب بأن الخضر عليه السلام كان في ذلك الوقت في السحاب، أو يخصص الحديث به؛ كما يخص بإبليس ومن عَمَّر من غيره. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الاعتراض على المشايخ موجب للبُعد عنهم، والبُعد عنهم موجب للبُعد عن الله، فلا وصول إلى الله إلا بالوصول إليهم مع التعظيم والاحترام؛ «سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه»؛ كما في الحِكَم. فالواجب على المريد، إذا كان بين يدي الشيخ، السكوت والتسليم والاحترام والتعظيم، إلا أن يأمره بالكلام، فيتكلم بآداب ووقار وخفض صوت، فإذا رأى منه شيئًا يخالف ظاهر الشريعة فليسلم له، ويطلب تأويله، فإن الشريعة واسعة، لها ظاهر وباطن، فلعله اطلع على ما لم يفهمه المريد.
وكذلك الفُقراء لا ينكر عليهم إلا ما كان محرّمًا مجمعًا على تحريمه، ولا تأويل فيه، كالزنا بالمعينة أو اللواط، وأما ما اختلف فيه، ولو خارج المذهب، فلا ينكر عليه، وكذلك ما فيه تأويل. هذا إن صحت عدالته، فقد قالوا: إن صحت عدالة المرء فليترك وما فعل. وتأمل قضية شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن المجذوب في مسألة الثور الذي أمر الفقراء بذبحه، فلما ذبحوه تبين أنه كان صدقة عليه، وكذلك غيره من أرباب الأحوال، يُلتمس لهم أحسن المخارج، فإن أحوالهم خضرية، وما رأينا أحدًا أولع بالإنكار فأفلح أبدًا. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (83- 88):

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ويسألونك} أي اليهود، سألوه على وجه الامتحان، أو قريش، بتلقينهم. والتعبير بالمضارع؛ للدلالة على استمرارهم على ذلك إلى ورود الجواب، والمراد: ذو القرنين الأكبر، وكان على عهد إبراهيم عليه السلام، ويقال: إنه الذي قضى لإبراهيم حين تحاكم إليه في بئر السبع بالشام، واسمه تبرس، وقيل: هرديس، وأما ذو القرنين الأصغر، بالقرب من زمن عيسى عليه السلام، واسمه الإسكندر، وهو صاحب أرسطو الفيلسوف، وقيل: المراد به هنا الأصغر، واقتصر عليه المحلِّي.
قال الإمام الرازي: والأول أظهر؛ لأن من بلغ مُلكه من السعة والقوة إلى الغاية التي نطق بها التنزيل إنما هو الأكبر، كما شهدت به كتب التواريخ. قلت: كلاهما بلغا الغاية القصوى، وملكا المشارق والمغارب، أما ذو القرنين الأكبر، فقيل: إنه كان ملِكًا عادلاً صالحًا، ملك الأقاليم، وقهر أهلها من الملوك، ودانت له البلاد، وإنه كان داعيًا إلى الله تعالى، سائرًا في الخَلْق بالمعونة التامة والسلطان المؤيد المنصور، وكان الخضر على مقدمة جيشه، بمنزلة المستشار الذي هو من الملك بمنزلة الوزير. وقيل: كان ابن خالته. وذكر الأزرقي وغيره أنه أسلم على يد إبراهيم عليه السلام، فطاف معه بالكعبة مع إسماعيل. ورُوي أنه حج ماشيًا، فلما سمع إبراهيم عليه السلام بقدومه تلقاه ودعا له، وأوصاه بوصايا. ويقال: إنه أُتي بفرس ليركب، فقال: لا أركب في بلد فيه الخليل، فعند ذلك سخّر له السحاب، وطوى له الأسفار، فكانت السحاب تحمله وعساكيره وجميع آلاتهم، إذا ارادوا غزو قوم. وسئل عنه عليّ رضي الله عنه: أكان نبيًا أو ملَكًا- بالفتح-؟ فقال: لم يكن نبيًا ولا ملَكًا، ولكن كان عبدًا أحبَّ الله فأحبه الله، وناصَحَ الله فناصحه، فسخر له السحاب، ومدَّ له الأسباب.
وقال مجاهد: ملك الأرض أربعةٌ: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: سليمان وذو القرنين، والكافران: نمرود وبختنصر. اهـ.
وأما ذو القرنين الأصغر، وهو الإسكندر اليوناني، فرُوِيَ انه لما مات أبوه جمع مُلْكَ الروم بعد أن كان طوائف، ثم قصد ملوك العرب وقهرهم، ثم مضى حتى أتى البحر الأخضر، ثم عاد إلى مصر، فبنى الإسكندرية وسماها باسمه، ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل، وورد بيت المقدس وذبح في مذبحةٍ، ثم انعطف إلى أرمينية وباب الأبواب، ودان له العراقيون والقبط والبربر، واستولى على ملوك الفرس، وقصد السند وفتحه، وبنى مدينة سرنديب وغيرها، ثم قصد الصين، وغزا الأمم البعيدة، ورجع إلى العراق ومرض ومات.
رُوِيَ أن أهل النجوم: قالوا له: إنك تموت على أرض من حديد، وتحت سماء من خشب، فبلغ بابل، ورعُف، وسقط عن دابته، فبسطت له دروع من حديد، فنام عليها، فآذته الشمس، فأظلوه بترس من خشب، فنظر، فقال: هذه أرض من حديد وسماء من خشب، فمات، وهو ابن ألف وستمائة سنة، وقيل: ثلاثة آلاف، قال ابن كثير: وهو غريب.
قلت: والذي لابن عساكر: أنه عاش ستًا وثلاثين سنة، وأنه كان بعد داود وسليمان- عليهما السلام- ثم قال ابن عساكر بعد كلام: وإنما بينّا هذا؛ لأن كثيرًا من الناس يعتقدون أنهما واحد، وأن المذكور في القرآن العظيم هو المتأخر، فيقع بذلك خطأ كبير. كيف لا، والأول كان عبدًا صالحًا مؤمنًا، ملكًا عادلاً، وزيره الخضر عليه السلام، وقد قيل: إنه كان نبيًا، وأما الثاني فقد كان كافرًا، وزيره أرسْطَاطَاليس الفيلسوف، وقد كان بينهما من الزمان أكثر من ألفي سنة، فأين هذا من ذلك؟!. اهـ. فتأمله مع ما ذكر في اللُباب من تعزيته أمه، مما يدل على إسلامه، قال فيه: لما علم ذو القرنين أن الموت استعجله، دعا بكاتبه، فقال له: اكتب تعزيتي لأمي، بسم الله الرحمن الرحيم، من الإسكندر بن قيصر، رفيق أهل الأرض بجسده وأهل السماء بروحه، إلى أمي رومية ذات الصفا، التي لم تتمتع بثمرتها في دار الفناء، وعما قريب تجاوره في دار البقاء، يا أماه؛ أسألك بودك لي وودي لك، هل رأيت لِحَيِّ قرارًا في الدار الدنيا؟ وانظري إلى الشجر والنبات يخضر ويبتهج، ثم يهشم ويتناثر، كأن لم يغنَ بالأمس، وإني قد قرأت في بعض الكتب فيما أنزل الله: يا دنياي ارحلي بأهلِكِ، فإنكِ لستِ لهم بدار، إنما الدنيا واهبة الموت، موروثة الأحزان، مفرقة الأحباب، مخربة العمران، وكل مخلوق في دار الأغيار ليس له قرار. انظر بقية كلامه فيه. ولا يلزم من صحبته أرسطاطاليس أن يكون على دينه. والله تعالى أعلم.
واختُلِفَ في ذي القرنين المذكور في القرآن: هل كان نبيًا أو ملَكًا- بفتح اللام- أو ملِكًا- بالكسر- وهو الصحيح، واختلف في وجه تسميته بذي القرنين؛ فقيل: كان في رأسه أو تاجه ما يشبه القرنين، وقيل: لأنه كان له ذؤابتان، وقيل: لأنه دعا الناس إلى الله عزّ وجلّ، فضُرب بقرنه الأيمن، ثم دعا إلى الله فضرب بقرنه الأيسر، وقيل: لأنه رأى في منامه أنه صعد الفلك فأخذ بقرني الشمس، وقيل: لأنه انقرض في عهده قرنان، وقيل: لأنه سخر له النور والظلمة، فإذا سرى يهديه النور من أمامه، وتحوطه الظلمة من ورائه. اهـ.
ثم ذكر الحق تعالى الجواب، فقال: {قل سأتلو عليكم} أي: سأذكر لكم {منه ذكرًا} أي: خبرًا مذكورًا، أو قرآنا يخبركم بشأنه، والسين؛ للتأكيد، والدلالة على التحقق المناسب لمقام تأييده صلى الله عليه وسلم، وتصديقه بإنجاز وعده، لا للدلالة على أن التلاوة ستقع في المستقبل؛ لأن هذه الآية نزلت موصولة بما قبلها، حين سألوه صلى الله عليه وسلم عنه، وعن الروح، وعن أهل الكهف، فقال: غدًا أُخبركم، فتأخر الوحي كما تقدم، ثم نزلت السورة مفصلة.
ثم شرع في تلاوة ذلك الذكر، فقال: {إِنا مكنَّا له في الأرض} أي: مكنا له فيها قوة يتصرف فيها كيف يشاء، بتيسير الأسباب وقوة الاقتدار، حيث سخر له السحاب، ومدّ له في الأسباب، وبسط له النور، فكان الليل والنهار عليه سواء، وسهل له السير في الأرض وذللت له طرقها، {وآتيناه من كل شيء} أراده من مهمات ملكه ومقاصده المتعلقة بسلطانه {سببًا} أي: طريقًا يُوصله إليه؛ من علم، أو قدرة، أو آلة، فأراد الوصول إلى الغرب {فأتْبَع سببًا}: طريقًا يوصله إليه.
{حتى إذا بلغ مَغْرِب الشمس} أي: منتهى الأرض من جهة المغرب، بحيث لا يتمكن أحد من مجاوزته، ووقف على حافة البحر المحيط الغربي، الذي فيه الجزاير المسماة بالخالدات، التي هي مبدأ الأطوال على أحد القولين. {وجدَها} أي: الشمس، {تغربُ في عينٍ حَمِئَةٍ} أي: ذات حمأ، وهو الطين الأسود، وقرئ: حامية، أي: حارة، رُوي أن معاوية رضي الله عنه قرأ حامية، وعنده ابن عباس، فقال ابن عباس: حمئة، فقال: معاوية لعبد الله بن عمرو بن العاص: كيف تقرأ؟ قال: كما يقرأ أمير المؤمنين، ثم وجه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب؟ قال: في ماء وطين، كذا نجده في التوراة، فوافق قول ابن عباس رضي الله عنه.
وليس بينهما تنافٍ، لجواز كون العين جامعة بين الوصفين، وأما رجوع معاوية إلى قول ابن عباس بما سمعه من كعب الأحبار، مع أن قراءته أيضًا متواترة، فلكون قراءة ابن عباس قطعية في مدلولها، وقراءته محتملة، ولعله لَمَّا بلغ ساحل البحر المحيط رآها كذلك، إذ ليس في مطمح نظره غير الماء، كما يلوح به قوله تعالى: {وجدها تغرب}، ولم يقل: كانت تغرب؛ فإن الشمس في السماء لا تغرب في الأرض.
{ووجد عندها} أي: تلك العين {قومًا}؛ قيل: كان لباسهم جلود الوحش، وطعامهم ما لفظه البحر، وكانوا كفارًا، فخيّره الله تعالى بين أن يعذبهم بالقتل، وأن يدعوهم إلى الإيمان، فقال: {قلنا يا ذا القرنين إِما أن تُعَذَّبَ} بالقتل من أول الأمر، {وإِمّا أن تتخذ فيهم حُسْنًا}؛ أمرًا ذا حُسْنٍ، وذلك بالدعوة إلى الإسلام والإرشاد إلى الشرائع، واستدل بهذا على نبوته، ومن لم يقل بها قال: كان بواسطة نبي كان معه في ذلك العصر، أو إلهامًا، بعد أن كان التخيير موافقًا لشريعة ذلك النبي، {قال} ذو القرنين، لمن كان عنده: مختارًا للشق الأخير، وهو الدعاء إلى الإسلام: {أمّا من ظَلَم} في نفسه، وأصرّ على الكفران، ولم يقبل الإيمان {فسوف نُعذِبُه} بالقتل. وعن قتادة: أنه كان يطبخ من كفر في القدور، {ثم يُرَدُّ إلى ربه} في الآخرة {نُعَذِّبُهُ} فيها {عذابًا نُكْرًا}؛ منكرٌ فظيعًا، لم يُعهد مثله، وهو عذاب النار.
وفيه دلالة ظاهرة على أن الخطاب لم يكن بطريق الوحي إليه، أي: حيث لم يقل: ثم يرد إليك، وأن مقاولته كانت مع النبي، أو مع من عنده من أهل مشورته.
{وأما مَنْ آمن} بموجب دعوته {وعَمِلَ} عملاً {صالحًا} حسبما يقتضيه الإيمان {فله} في الدارين {جزاء الحُسنى}، أي: المثوبة الحسنى، أو الفعلة الحسنى جزاء، على قراءة النصب، على أنه مصدر مؤكد للجملة، قُدِّم عليه المبتدأ؛ اعتناءً، أو حال، أو تمييز. {وسنقول له من أمرنا} أي: مما نأمر به {يُسْرًا}: سهلاً ميسرًا، غير شاق عليه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ذو القرنين لَمَّا أقبل بكليته على مولاه، ودعا إلى الله، ونصح لله، مكّنه الله تعالى من الأرض، ويسر له أموره، حتى قطع مشارقها ومغاربها، وكذلك من انقطع إلى الله، ورفع همته إلى مولاه، وأرشد الخلق إلى الله، تكون همته قاطعة، يقول للشيء كن فيكون، بقدرة الله وقدره. وسخر له الكون بأسره، يكون عند أمره ونهيه «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدته كانت الأكوان معك»، يقول الله تعالى، في بعض كلامه: «يا عبدي كن لي كما أريد، أكن لك كما تريد».
قال القشيري: ذو القرنين مكَّن له في الأرض جهرًا، فكانت تُطوى له إذا قطع أحوازها، وسُهل له أن يندرج في مشارقها ومغاربها، ويحظر أقطارها ومناكبها، ومن كان في محل الإعانة من الأولياء؛ فالحق سبحانه يُمكنه في المملكة، ليحصل عند همته ما أراد من حصول طعام أو شراب، أو غيره من قطع مسافة، أو استتار عن أبصار، وتصديق مأمول، وتحقيق سؤال، وإجابة دعاء، وكشف بلاء، وفوق ذلك تمكينه من تحقيق همه له في أمره، ثم فوق ذلك في التمكين في أن يُحضِر بهمتهم قومًا بما شاؤوا، ويمنع قومًا عما شاؤوا، فلهم من الحق تحقيق أمل، إذا تصرفوا في المملكة بإرادات في سوانح وحادثات، وفوق هذا التمكين في المملكة إيصال قوم إلى منازل ومحالُ، فالله يحقق فيهم همتهم. اهـ. قلت: وفوق ذلك كله تمكينهم من شهود ذاته، في كل وقت وحين، حتى لو طلبوا الحجاب لم يُجابوا، ولو كُلفوا أن يروا غيره لم يستطيعوا، وهؤلاء هم الذين لهم التمكين في الإيصال إلى منازل السائرين ومحالُ الواصلين. والله تعالى أعلم.