فصل: تفسير الآيات (80- 83):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (77- 79):

{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)}
قلت: معنى الشرط والجواب: إن ثبت أن بنيامين يسرق فقد سرق أخ له، أي: سرقته كسرقة اخيه، و{مكاناً}: تمييز.
يقول الحق جل جلاله: قال إخوة يوسف، لما ظهرت السرقة عليهم: {إن يسرقْ} بنيامين {فقد سرق أخٌ له} أخوه يوسف {من قبل}، فهذا الأمر إنما صدر من ابْنَي راحيل، لا منا، قصدوا بذلك رفع المضرة عن أنفسهم، ورموا بها يوسف وشقيقه، وهذه السرقة التي رموه بها؛ قيل: كانت ورثت عمته من أبيها منطقة، وكانت تخصُّ يوسف وتحبه، فلما شب، أراد يعقوب انتزاعه منها، فشدت المنطقة على وسطه، ثم اظهرت ضياعَها، ففتَّش عليها، فوجدت مشدودة على وسطه، فصارت أحق به في حكمهم وقيل: كان لجده من أمه صنم من ذهب، فسرقه وكسره، وألقاه في الجيف. وقيل: كان في البيت عناق أو دجاجة فأعطاها السائل.
{فأسرَّها يوسفُ في نفسه ولم يُبدها لهم} أي: أخفى هذه الإجابة، ولم يكذبهم فيها. أو: الحزازة التي وجد في نفسه من قولهم: {فقد سرق أخ له من قبل}؛ أي: أسر كراهية مقالتهم. أو: المقالة التي يفسرها قوله: {قال أنتم شرُّ مكاناً}؛ أي: قال في نفسه خفية: أنتم شر مكاناً، أي: انتم أقبح منزلة في السرقة بسرقتكم أخاكم، أو بسوء صنيعكم بما فعلتم معي. {والله أعلم بما تَصِفُون}، وقد علم سبحاته أن الأمر ليس كما تصفون، فهو إشارة إلى كذبهم فيما نسبوا إليه من السرقة.
{قالوا يا أيها العزيزُ إن له أباً شيخاً كبيراً} في السن، أو القدر، ذكروا حاله؛ استعطافاً له، وكانوا أعلموه بشدة محبة أبيه فيه، {فخُذ أحدَنا مكانه}؛ فإن أباه ثكلان، أي: حزين على أخيه الهالك، يستأنس به، {إنا نراك من المحسنين} إلينا، فأتمم إحسانك، أو من المتعودين الإحسان فلا تغير إحسانك. {قال معاذَ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده} فإنَّ أَخْذَ غيره ظلم، فلا آخذ أحداً مكانه؛ {إنا إذاً لظالمون} في مذهبكم؛ لأن الله أمرنا باسترقاق السارق؛ فاسترقاق غيره ظلم.
الإشارة: النفس الأمارة من شأنها الانتصار، ودفع النقائص عنها والعار. والنفس المطمئنة من شأنها الاكتفاء بعلم الله، والرضا بما يجري به القضاء من عند الله، فإذا اختلجها شيء من الانتصار أَسَرَّتْه، ولم تخرجه إلى حالة الإظهار.
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: آداب الفقير المتجرد أربعة أشياء: الحرمة للأكابر، والرحمة للأصاغر، والانتصاف من نفسه، وعدم الانتصار لها. اهـ. فالفقير إذا انتصر لنفسه فقد نقض العهد مع ربه، فيجب عليه التوبة. وقالوا: الصوفي دمه هدر، وعرضه وماله مباح. يعني: أنه لا ينتصر لنفسه، فكل من آذاه لا يخاف من جانبه؛ فكأنه مباح، مع كونه حراماً بالشريعة، بل هو أشد حرمة من غيره. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (80- 83):

{فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)}
قلت: {نجياً}: حال، أي: انفردوا عن الناس مناجين. وإنما أفرده؛ لأنه مصدر، أو بزنته. و{من قبل ما}: يحتمل أن تكون مزيدة ومصدرية مرفوعة بالابتداء، أي: تفريطكم في يوسف واقع من قبل هذا. قاله ابن جزي. وفيه نظر؛ فإن الظرف المقطوع لا يقع خبراً، أوْ منصوبة بالعطف على مفعول {تعلموا}، أي: لم تعلموا أخذ ميثاق أبيكم، وتفريطكم في يوسف قبل هذا.
يقول الحق جل جلاله: {فلما استيأسوا}؛ أي يئسوا {منه} من يوسف أن يجيبهم إلى ما دعوه إليه من أخذ أحدهم مكان أخيهم، {خَلَصُوا} أي: تخلصوا من الناس، وانفردوا عنهم {نجيّاً} متناجين، يناجي بعضهم بعضاً: كيف وقع للصاع؟ وكيف يتخلصون من عهد أبيهم؟ ثم فسر تلك المناجاة: {قال كبيرُهمْ} في السن، وهو رُوَيْبيل، أو في الرأي، وهو شمعون، وقيل يهوذا: {ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله}؛ عهداً وثيقاً، وحلفتم له لتأتن بابنه إلا أن يُحاط بكم؟ فكيف تصنعون معه، {ومن قبلُ} هذا {فرطتم في يوسف} واعتذرتم بالأعذار الكاذبة؟ {فلن أبرح الأرض}؛ فلن أفارق أرض مصر {حتى يأذن لي أبي} في الرجوع، {أو يحكم الله لي}: أو يقضي لي بالخروج منها، أو بتخليص أخي منهم قهراً، {وهو خيرُ الحاكمين}؛ لأن حكمه لا يكون إلا بالحق.
رُوي أنهم كلموا العزيز في إطلاقه، فقال رويبيل، وقيل: يهوذا: أيها الملك، لتتركن أخانا أو لأصيحن صيحة تضع منها الحوامل، ووقف شعر جسده، فخرجت من ثيابه، فقال يوسف لابنه الصغير، واسمه نائل: قم إلى جنبه ومُسَّه، فمسه، وكان بنو يعقوب إذا غضب أحدهم لا يسكن غضبه إلا إذا مسه أحد من آل يعقوب، فلما مسه ولد يوسف عليه السلام سكن غضبه، فقال: من هذا؟ إن في هذا البلد لبذراً من بذر يعقوب.
وقيل: إنهم هموا بالقتال، وقال يهوذا لإخواته: تفرقوا في أسواق مصر، وأنا أصيح صيحة تشق مراريهم، فإذا سمعتم صوتي، فاخربوا يميناً وشمالاً، فلما غضب، وأراد أن يصيح مسه ولد يوسف فسكن، فلما لم يسمعوا صوته أتوا إليه فوجدوا قد سكن غضبه، فقال: إن هنا بذراً من آل يعقوب.
ثم قال لهم: {ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا أنّ ابنك سرق} على ما شهدنا من ظاهر الأمر، {وما شهدْنا إلا بما علمنا} بأن رأينا الصاع استُخرج من وعائه. {وما كنا للغيب حافظين} أي ما كنا لباطن الأمر حافظين، فلا ندري أسرق، أو أحد دسه في وعائه؟ أو ما كنا حين أعطيناك العهد حافظين للغيب، عالمين بالقدر المغيب، وأنك تصاب به كما أصبت بأخيه. {واسأل القرية التي كنا فيها}؛ وهي القرية التي لحقهم فيها المنادي، أي: أرسل إليهم عن القصة إن اتهمتنا.
{و} سل أيضاً {العيرَ}: أهل العير، {التي أقبلنا فيها}، والعير: جماعة الإبل. {وإنا لصادقون} فيما أخبرناك به. هذا تمام وصية كبيرهم. فلما رجعوا إلى أبيهم، وقالوا له ما قال لهم كبيرهم.
{قال} لهم أبوهم: {بل سَوَّلت لكم أنفسُكم أمراً} أي: زينت لكم أمراً فصنعتموه، وإلا فمن أين يدري الملك أن السارق يُؤخذ في السرقة، إذ ليست بشريعته، {فصبر جميلٌ} أي: فأمري صبر جميل، {عسى اللهُ أن يأتيني بهم جميعاً}؛ بيوسف وبنيامين، وأخيهما الذي بقي بمصر؛ {إنه هو العليمُ} بحالي وحالهم، {الحكيم} في تدبيره. رُوي أن عزرائيل دخل ذات يوم على يعقوب عليهما السلام فقال له يعقوب: جئت لقبض روحي، أو لقبض روح أحد من أولادي وأهلي؟ قال: إنما جئت زائراً، فقال له: أقسمت عليك بالله إلا ما أخبرتني، هل قبضت روح يوسف؟ فقال: لا، بل هو حي سَوِيّ، وهو ملك وله خزائن، وجنود وعبيد، وعن قريب يجمع الله شملك به. اهـ.
الإشارة: فلما استيأس القلب من الدنيا، والرجوع إليها، وقطع يأسه من حظوظها وهواها، خلصت له المناجاة وصفت له أنوار المشاهدات، وأنواع المكالمات، والقلب هو كبير الأعضاء وملكها، فيقول لها: ألم تعلموا أن الله قد أخذ عليكم موثقاً ألا تعصوه ولا تُخالفوه، ومن قبل هذا وهو زمان البطالة، قد فرطتم في عبادته، فلن أبرح أرض العبودية حتى يأذن لي في العروج إلى سماء شهود عظمة الربوبية، أو يحكم لي بالوصال، وهو خير الحاكمين. فإن وقعت من الجوارح هفوة فيقال لها: ارجعوا إلى أبيكم وهو القلب فقولوا: إن ابنك سرق، أي: تعدى وأخذ ما ليس له من الهوى فيما ظهر لنا، وما شهدنا إلا بما علمنا، فرب معصية في الظاهر طاعة في الباطن، واسأل البشرية التي كنا فيها والخواطر التي أقبلنا على المعصية فيها، فيقول القلب: بل زينت لكم أنفسكم أمر الهوى، فدواؤكم الصبر الجميل، والتوبة للعظيم الجليل، عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً، فنصرفهم في طاعة الله ومرضاته. والله تعالى أعلم بأسرار حِكَم كتابه، فعلم الإشارة يقبل مثل هذا وأكثر. وإياك والانتقاد؛ فقد قالوا في باب الإشارة أرق من هذا وأغرب. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (84- 87):

{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)}
قلت: يا أسفي، ويا ويلتي، ويا حسرتي، مما عوض فيه الألف عن ياء المتكلم. والأسف: أشد الحزن. وقيل: شدة الحسرة. و{كظيم}: إما بمعنى مفعول، كقوله: {وهو مكظوم}؛ أي: فهو مملوء غيظاً على أولاده، ممسك له في قلبه، تقول: كظم السقاء؛ إذا شد على ملئِه. أو بمعنى فاعل؛ كقوله: {والكاظمين الغيظ} [آل عمران: 134]؛ من كظم البعير جِرَّتَهُ؛ إذا ردها في جوفه. و{تفتأ}: من النواقص اللازم للنفي، وحذفه هنا لعدم الإلباس؛ لأنه لو كان مثبتاً لأكد باللام والنون. والحرض: المريض المشرف على الهلاك، وهو في الأصل مصدر، ولذلك لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع. والبث: أشد الحزن.
يقول الحق جل جلاله: {وتولّى} يعقوب عن أولاده، أي: أعرض {عنهم} لما لم يصدقهم، كراهةً إما صادف منهم، ورجع إلى تأسفه {وقال يا أسَفَا} أي: يا شدة حزني {على يوسف}. وإنما تأسف على يوسف دون أخويه لأن محبته كانت أشد؛ لإفراط محبته فيه، ولأن مصيبته سبقت عليهما. {وابيضَّتْ عيناه} من كثرة البكاء {من الحُزن}، كأَنَّ العَبْرَةَ محقت سوادها، وقيل: ضعف بصره، وقيل: عمي. وقد رُوي أنه: «حَزِنَ يعقُوب حُزْن سبعين ثَكْلَى، وأُعطِي أَجر مائَة شَهيدٍ، وما ساءَ ظَنّه بالله قَطّ».
وفيه دليل على جواز التأسف والبكاء عند التفجع. ولعل أمثال ذلك لا يدخل تحت التكليف، فإنه قلَّ من يملك نفسه عند الشدائد، وقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «القلْبُ يَحْزَنُ، والعَيْنُ تَدمَعُ، ولا نَقُولُ إلاَّ ما يُرْضِي رَبَّنا، وإنَّا على فِراقِكَ يا إبراهِيمُ لَمَحْزُونون».
{فهو كظيم} أي: مملوء غيظاً على أولاده؛ لما فعلوا. أو كاظم غيظه، ماسك له، لم يظهر منه شيئاً، ولم يَشْكُ لأحد.
{قالوا تاللهِ تَفْتَؤا}: لا تزال {تذكرُ يوسفَ} تفجعاً عليه، {حتى تكون حَرَضاً}: مشرفاً على الهلاك، {أو تكون من الهالكين}: من الميتين. {قال إنما أشكو بَثّي} أي: شدة همي {وحزني} الذي لا صبر عليه، {إلى الله} لا إلى أحد منكم ولا غيركم؛ فَخَلّوني وشِكَايتي، فلست مِمَّن يجزع ويَضْجَر؛ فيستحق التعنيف، وإنما أشكو إلى الله، ولا تعنيف فيه؛ لأن فيه إظهار الفقر، والعجر بين يديه، وهو محمود. {وأعلمُ من الله ما لا تعلمون} أي: أعلم من لطف الله ورأفته ورحمته، ما يوجب حسن ظني وقوة رجائي، وأنه لا يخيب دعائي، ما لا تعلمون. أو: وأعلم من طريق الوحي من حياة يوسف ما لا تعلمون؛ لأنه رأى ملك الموت فأخبره بحياته، كما تقدم. وقيل: علم من رؤيا يوسف أنه لا يموت حتى تخر له إخوته سُجّداً.
{يا بَني اذهبوا} إلى الأرض التي تركتم بها أخويكم، {فتحسسُوا من يوسفَ وأخيهِ} أي: تعرفوا من خبرهما، وتفحَّصوا عن حالهما.
والتحسس: طلب الشيء بالحواس. وإنما لم يذكر الولد الثالث؛ لأنه بقي هناك اختياراً. وفي ذكر يوسف دليل على أنه كان عالماً بحياته. {ولا تيأسوا من رَّوْح الله}: لا تقنطوا من فرجه وتنفيسه، أو من رحمته، وقرئ بضم الراء، أي: من رحمته التي يحيي بها العباد، أي: ولا تيأسوا من حي معه روح الله؛ فكل من بقي روحه يرْجى، أي: ويوسف عندي، فمن معه روح الله فلا تيأسوا من رجوعه. {إنه} أي: الشأن {لا ييأسُ من رَّوْح الله إلا القومُ الكافرون} بالله وصفاته؛ لأن العارف لا يقنط من رحمته في شيء من الأحوال. وإنما جعل اليأس من صفة الكافر؛ لأن سببه تكذيبٌ بالربوبية، أو جهل بصفة الله وقدرته، والجهل بالصفة جهل بالموصوف، فالإياس من رحمة الله كفر.
وأما الحديث الرجل الذي قال: (إذا متُّ فاحرقوني، ثم اذْروني في البحر والبر في يوم رائح، فلئِنِ قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحد من الناس)، حسبما في الصحيح، فليس فيه اليأس ولا تعجيز القدرة، لكن لما غلبه الخوف المفرط لم يتأمل ولم بضبط حاله؛ إما لحقه من الخوف وغمره من الدهش، دون عقد ولا إصرار على نفي الرحمة واليأس منها. ويدل على ذلك قوله: (لما قال له الرب تعالى: ما حملك على هذا؟ قال: مخافتك، فغفر له). ولم يقل اليأس من رحمتك. انظر المحشي الفاسي.
الإشارة: لم يتأسف يعقوب عليه السلام على فقد صورة يوسف الحسية، إنما تأسف على فقد ما كان يشاهد فيه من جمال الحق وبهائه، في تجلي يوسف وحسن طلعته البهية، وفي ذلك يقول ابن الفارض:
عَيْني لِغَيْرِ جَمَالِكُمْ لاَ تَنْظُرُ ** وسِوَاكمُ فِي خَاطِري لا يَخطرُ

فلما فقد ذلك التجلي الجمالي حزن عليه، وإلا فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام أولى بالغنى بالله عما سواه. فإذا حصل للقلب الغنى بالله لم يتأسف على شيء، ولم يحزن على شيء؛ لأنه حاز كل شيء، ولم يفته شيء. «ماذا فقد من وجده، وما الذي وجد من فقده». ولله در القائل:
أَنَا الفَقِيرُ إِليْكُمُ والْغَنِيُّ بِكُمُ ** وَلَيْس لِي بَعدَكُمُ حِرْصٌ عَلى أَحدِ

وهذا أمر محقق، مذوق عند العارفين؛ أهل الغنى بالله. وقوله: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله}: فيه رفع الهمة عن الخلق، والاكتفاء بالملك الحق، وعدم الشكوى فيما ينزل إلى الخلق... وهو ركن من أركان طريق التصوف، بل هو عين التصوف. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (88- 92):

{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)}
قلت: {من يتق ويصبر}: من قرأ بالياء: أجرى الموصول مجرى الشرط؛ لعمومه وإبهامه، فعطف على صلته بالجزم، ومنه قول الشاعر:
كذَلِكَ الذي يَبْغي عَلَى النَّاسِِ ظَالِماً ** تُصْبه عَلَى رغمِ عَوَاقِبُ مَا صَنَعْ

يقول الحق جل جلاله: {فلما دخلوا عليه} على يوسف حين رجعوا إليه مرة ثالثة، {قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضُّرُّ} شدة الجوع {وجئنا} إليك {ببضاعةٍ مُّزجَاةٍ}: رديئة، أو قليلة، أو ناقصة، تدفع وترد من أزجيته، دفعته. ومنه {يُزْجِي سَحَاباً} [النور: 43] قيل: كانت دراهم زيوفاً وقيل: الصنوبر وحبة الخضراء. وقيل: سَويق المُقْل أي: الدوم. وقيل: عروضاً. {فأوْف لنا الكَيْلَ}: أتممه لنا، {وتصدَّقْ علينا} بالمسامحة، وقبول المزجاة، أو بالزيادة على ثمننا. وهذا يقتضي أن الصدقة كانت حلالاً على الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو خلاف المشهور. أو برد أخينا، {إن الله يجزي المتصدّقين} أحسن الجزاء. والتصدق: التفضل مطلقاً، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في القصر: «هذهِ صَدَقةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ عَلَيكُمْ بها، فاقبلوا صدقته».
رُوي أن يعقوب عليه السلام لما أرسلهم أرسلهم المرة الثالثة ليتحسسوا أخبار يوسف وأخيه، أرسل معهم كتاباً ونصه: بسم الله الرَّحمن الرحيم، من يعقوب الحزين إلى عزيز مصر، ولو عرفت اسمك لذكرتك في كتابي هذا، يا من أعتز بعز الله، فالله يُعِزُ من يشاء، ويُذل من يشاء، وإني أيها العزيز قد اشمأز قلبي، وقطع الحزن أوصالي، وإني ناهٍ إلى الإقراح، دائم البكاء والصياح، وإني من نطفة آباء كرام، فكيف يتولد اللصوص مني وأنا من الخصوص! وقد أخبرت أنك وضعت الصَّاع بالليل في رحل ولدي الأصغر، وإني حزين عليه كما كنتُ حزيناً على أخيه الفقيد، حزناً دائماً سرمداً شديداً. وإن كنت أفجعتني في الآخرة؛ فإن قلبي لا محالة طائر. ثم ختمه بالسلام.
فلما دفعوه ليوسف قرأه. وبكى بكاء شديداً، ثم دفعه لأخيه بنيامين فقرأه وبكى أيضاً. ثم نزل عن سريره، ثم دفع لهم الكتاب الذي كانوا يكتبوه لمالك بن ذعْر لما باعوه بخطوط شهادتهم، كان أخذه من مالك حين باعه. فلما قرأوه تغيرت ألوانهم وتضعضعت أركانهم، وبُهتوا، فقال لهم: {هلْ علمتم ما فعلتم بيوسفَ وأخيه}؛ من إيذاء يوسف، وتفريقه من أبيه، ومضرة أخيه من بعده، فإنهم كانوا يذلونه ويشتمونه، أي: هل علمتم قبحة فتبتم منه؟ قاله نصحاً وتحريضاً لهم على التوبة. {إذ أنتم جاهِلَون} أي: فعلتم ذلك حين كنتم جاهلين قُبح ذلك. وإنما سماهم جاهلين؛ لأن فعلهم حينئذٍ فعل الجهال، أو لأنهم حينئذٍ كانوا صبياناً طياشين، فعرفوه حينئذٍ على ظن، فقالوا: {أئنك لأنتَ يوسف}؟ بالاستفهام التقريري. وقرأ ابن كثير على الإيجاب. قيل: عرفوه بذوائبه وشمائله حين نزل إليهم وكلمهم.
وقيل: تبسم فعرفوه بثناياه. وقيل: رفع التاج عن رأسه فعرفوه بِشَامةٍ كانت في رأسه بيضاء، وكانت لسارة يعقوب مثلها.
{قال} لهم: {أنا يوسف وهذا أخي} من أبي وأمي. ذكره تعريفاً لنفسه به، وتفخيماً لشأنه، وإدخالاً له في المنة بقوله: {قد مَنّ الله علينا} بالسلامة والكرامة والعز. {إنه من يتقِ} الله {ويصبرْ} على بلواه، وعلى طاعته وتقواه {فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}، وضع المحسنين موضع المضمر؛ تنبيهاً على أن المحسن جمع بين الصبر والتقوى. فمن اتقى الله وصبر فهو محسن...
{قالوا تالله لقد آثَرَكَ اللهُ علينا} بحسن الصورة وكمال السيرة، أو فضلك علينا رغماً على أنفنا، {وإن كنا لخاطئين} أي: والحال أن شأننا أنَّا كنا مذنبين فيما فعلنا معك. {قال لا تثريبَ}: لا عتاب {عليكم اليوم} أي: لا عقوبة عليكم في هذا اليوم. ثم دعا لهم فقال: {يغفرُ الله لكم}، فيوقف على اليوم. وقيل: يتعلق بيغفر، فيوقف على ما قبله، وهو بعيد؛ لأنه تحكم على الله، وإنما يصلح أن يكون دعاء، إذ هو الذي يليق بآداب الأنبياء، فكأنه أسقط حق نفسه بقوله: {لا تثريب عليكم اليوم}، ثم دعا الله أن يغفر لهم الله حقه. قاله ابن جزي، وصدر به البيضاوي. وبه تعلم ضعف وقف الهبطي.
ثم قال في تمام دعائه: {وهو أرحمُ الراحمين}؛ فإنه يغفر الصغائر والكبائر، ويتفضل على التائب.
قال البيضاوي: ومن كرم يوسف عليه السلام أنهم لما عرفوه أرسلوا له، وقالوا: إنك تدعوننا بالبكرة والعشي إلى الطعام، ونحن نستحي منك لما فرط منا فيك، فقال لهم: إن أهل مصر كانوا ينظرون إليَّ بالعين الأولى، ويقولون: سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ، ولقد شَرُفْت بكم، وعظمت في أعينهم حيث إنكم إخوتي، وإني من حفدة إبراهيم عليه السلام. اهـ.
الإشارة: من رام الدخول إلى حضرة الكريم الغفار، فليدخل من باب الذل والانكسار. وفي الحِكَم: (ما طلب لك شيء مثل الاضطرار، ولا أسرع بالمواهب مثل الذلة والافتقار). فإذا قرعت الباب، ورمت الدخول مع الأحباب، فقل بلسان التضرع والانكسار: يا أيها العزيز الغفار مسنا الضر، وهو البعد والغفلة، وجئنا ببضاعة مزجاة؛ عمل مدخول، وقلب معلول، فأوْفِ لنا ما أملناه من الجزاء المأمول، وتفضل علينا بالقبول والوصول، وقل: اليوم نغفر لكم ونغطي مساوءكم، ونوصلكم بما مني إليكم من الإحسان، لا بما منكم إلينا الطاعة والإذعان. هؤلاء إخوة يوسف لما أظهروا فاقتهم، واستقلوا بضاعتهم، وأحضروا شكايتهم، سمح لهم وقربهم، وكشف لهم عن وجهه الجميل، ومنحهم العطاء الجزيل، فما ظنك بالرب العظيم الجليل، الذي هو أرحم الراحمين، ومحل أمل القاصدين.