فصل: تفسير الآيات (9- 10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (7- 8):

{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)}
قلت: {يوسف}: عجمي، وفي سينه ثلاث لغات: الضم وهو الأشهر والفتح، والكسر.
يقول الحق جل جلاله: {لقد كان في يوسف وإخوته} أي: في قصصهم {آيات}؛ دلائل قدرة الله وحكمته، وعلامة نبوتك حيث أخبرتَ بها من غير تعلم. ففي ذلك آيات {للسائلين} أي: لمن سأل عن قصتهم. والمراد بإخوته: علاته العشرة، والعلات: أبناء أمهات لأب واحد، فكانوا إخوته لأبيه، وهم: يهوذا، ورَوْبيل، وشمعون، ولاوي، وريالون، ويشجر، ودينة من بنت خالته ليّا، تزوجها يعقوب أولاً، فلما توفيت تزوج راحيل، فولدت له بنيامين، ويوسف. وقيل: جمع بينهما، ولم يكن الجمع حينئذٍ محرماً. وأربعة آخرون من سُريتَيْن، وهم: دان، وتفثالى، وجاد، وآشر.
{إذ قالوا ليُوسفُ وأخوه} بنيامين، وخُص بالإضافة؛ لأنه شقيقه، {أحبُّ إلى أبينا منا ونحنُ عصبةٌ} أي: والحال أنا جماعة أقوياء، فنحن أحق بالمحبة؛ لأنهما لا كفاءة فيهما. والعصبة: العشرة ففوق: {إن أبانا لفي ضلالٍ}؛ خطأ {مبين}؛ ظاهر؛ لتفضيل المفضول. رُوي أنه كان أحب إليه؛ لما كان يرى فيه من مخايل الخير، وكان إخوته يحسدونه، فلما رأى الرؤيا ضاعف له المحبة، بحيث لم يصبر عنه، فتناهى حسدهم حتى حملهم على التعرض لقلته. وهكذا شأن الحسد يبلغ بصاحبه امراً عظيماً.
الإشارة: كان يعقوب عليه السلام لا يفارق يوسف ليلاً ولا نهاراً. وهكذا شأن المحبين. وأنشدوا:
وَلِي كَبِدٌ يَسرِي إِليهِم سَلاَمه ** بَجَمر تَلَظَّى والفؤادُ ضِرامُه

وأجفَانُ عَين لا تَمَل من البُكَا ** وصَبٌّ تَشَكِّى للحبيب غَرَامُه

فأنتُم سُروري أنتُم غَايةُ المنى ** وقَلبي إِليكم والغرامُ زِمامُه

فَوَالله ما أَحبَبتُ ما عِشتُ غَيرَكم ** لأن اشتياقي لا يحل اكتتامه

. اهـ.
قال الجنيد رضي الله عنه: رأيت غلاماً حسن الوجه يعنف كهلاً حسناً، فقلت: يا غلام، لِمَ تفعل هذا؟ قال: لأنه يدعي أنه يهواني، ومنذ ثلاث ما رآني، قال: فوقعت مغشياً علي، فلما أفقتُ ما قدرت على النهوض، فقيل لي في ذلك، فقلت: ينبغي للمحب ألا يفارق باب محبوبه على أي حال. وأنشدوا:
لاَزم البابَ إن عَشِقتَ الجَمَالا ** واهجُر النَّوم إنْ أردت الوِصَالا

واجعل الروحَ منك أَوَّل نَقدٍ ** لحبيبٍ أَنوارُه تَتَلالا

قلت: فالحبيب غيور؛ لا يحب أن يرى في قلب حبيبه غيره. فإذا رأى فيه شيئاً أخرجه منه، وفرق بينه وبينه؛ غيرةً منه واعتناء به، وهو السر في افتراق يوسف من أبيه. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (9- 10):

{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)}
يقول الحق جل جلاله: قال إخوة يوسف لما حركهم الحسد {اقتلوا يوسف}؛ قيل: إنما قاله شمعون ودان، ورضي به الآخرون، {أو اطرَحُوهُ أرضاً}؛ أي: في أرض بعيدة يأكله السباع، أو يلتقطه أحد، فإن فعلتم {يَخلُ لكم وجهُ أبيكم} أي: يصفْ إليكم وجه أبيكم؛ فليقبل بكليته عليكم، ولا يلتفت عنكم إلى غيركم، ولا ينازعكم في محبته أحد، {ولا تكونوا من بعده}؛ من بعد يوسف، أو الفراغ من أمره، أو قتله، أو طرحه، {قوماً صالحين} تائبين إلى الله عما جنيتم، مع محبة أبيكم. أو صالحين في أمور دنياكم، فإنها تنتظم لكم بخلو وجه أبيكم لكم، {قال قائل منهم} هو يهوذا، وكان أحسنهم فيه رأياً، وقيل: روبيل: {لا تقتلوا يوسف}؛ فإن القتل عظيم، {وألقُوه في غيابه الجُبِّ}: في قعره، سمي به لغيبته عن أعين الناظرين. ومن قرأ بالجمع، فكان بتلك الجب غيابات، {يلتقطْه}: يأخذه {بعضُ السيارة} أي: الذين يسيرون في الأرض، {إن كنتم فاعلين} ما يفرق بينه وبين أبيه ولا بد، أو كنتم فاعلين بمشورتي.
الإشارة: إن أردت أن يخلو لك وجه قلبك فيخلو لك وجه حبيبك، حتى تشاهده عياناً وتعرفه إيقاناً، فاقتل كل ما يميل إليه قلبك ويعشقه من الهوى، واطرح عن عين بصيرتك رؤية السِّوى، ترى من أنوار وجهه، وأسرار محاسنه، ما تبتهج به القلوب والأسرار، وتتنزه في رياض محاسنه البصائر والأبصار، وأنشدوا:
إِنْ تَلاَشَى الكَون عَنْ عَينِ كَشفِي ** شَاهَدَ القلبُ غَيبَهُ في بَيَان

فَاطرحِ الكَون عن عِيَانِكَ وامْحُ ** نُقطَةَ الغَينِ إِن أَرَدتَ تَرَانِي

.تفسير الآيات (11- 14):

{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)}
قلت: {تأمننا}: اجتمع نونان، فيجوز الإدغام، وبه قرأ أبو جعفر، وقرأ الجماعة بالإشمام. وقوله: {يرتع ويلعب}: جواب الأمر، فمن قرأ بكسر العين فجزمه بحذف الياء، وهو من رعي الإبل، ومن قرأ بالإسكان فهو من الرتع، وهي الإقامة في الخصب والنعم، والتاء على هذا أصلية. ووزن الفعل: يفعل، ووزنه على الأول يفتعل، قال ابن عطية: فيرتع على قراءة نافع من رعي الإبل، أي: يتدرب في رعي الإبل وحفظ المال. قال أبو علي: وقراءة ابن كثير: {نرتع} بالنون {ويلعب} بالياء، فنزعها حسن؛ لإسناد النظر في المال والرعاية إليهم، واللعب إلى يوسف لصباه، وقرأ أبو عمر وابن عامر: {نرتع ونلعب}؛ بالنون فيهما، وإسكان العين والباء، من الرتوع، وهو الإقامة في الخصب والمرعي في أكل وشرب، وقرأ عاصم والأخَوان: {يرتع ويلعب} بإسناد ذلك كله إلى يوسف. اهـ. قلت: وكذا قرأ نافع، غير أنه يكسر العين وهم يسكنون.
{ونحن عصبة}: حال، والرابط الواو، والعصبة: الجماعة من العشرة إلى فوق.
يقول الحق جل جلاله: قال إخوة يوسف لأبيهم: {يا أبانا مَا لَك لا تأمنّا على يوسف} أي: لم تخافنا عليه؟ {وإنا له لناصحون} نشفق عليه، ونريد له الخير. أرادوا أن يستنزلوه عن رأيه في حفظه منهم لما تنسم من حسدهم. قلت: قد نصحوه في الحقيقة حيث تسببوا في ملكه وعزه. رُوي أنهم لما قالوا له: {مالك...} إلخ، اهتزت أركانه، واصفر لونه، واصطكت أسنانه، وتحركت جوانبه، كأنه علم بما في قلوبهم بالفراسة. ثم قالوا: {أرسِله معنا غداً يرتع}: يتسع في أكل الفواكه ونحوها. أو يتعلم الرعاية، {ويلعبُ} بالاستباق والانتضال، {وإنا له لحافظون} أن يناله مكروه.
{قال} يعقوب: {إني ليحزنني أن تذهبوا به} لشدة مفارقته عليَّ، وقلة صبري عنه، {وأخافُ أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافِلُون}: لاشتغالكم بالرتع واللعب، أو لقلة اهتمامكم به، وإنما خاف عليه من الذيب، لأن الأرض كانت مذأبة، وقيل: رأى في المنام أن الذئاب أحدقت بيوسف، فكان يخافه، وإنما كان تأويلها: إحداق إخوته به حين أرادوا قتله. {قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة}: جماعة، {إنا إذا لخاسرون}: مغبرنون من القوة والحزم، أو مستحقون بأن يدعى عليهم بالخسارة.
الإشارة: لم يسمح يعقوب عليه السلام بفراق حبيبه ساعة، وكذلك العبد لا ينبغي أن يغفل عن سيده لحظة؛ لأن الغفلة فراق، والذكر انجماع، والعبد لا صبر له عن سيده. وأنشدوا:
فلأَبكيَن على الفراق كما بكى ** سفا لفُرقةِ يوسفٍ يعقوبُ

وَلأَدعُوَنَّكَ في الظلام كما دعا ** عند البلية رَبّةُ أيوبُ

وأنشدوا أيضاً في ذم الغفلة:
غَفَلتَ عَنِ الأَيَّامِ يا أَخي فَانتَبِهْ ** وَشَمِّرْ فإن الموتَ لا شك واقعْ

على أي شيءٍ هو حزنك قائم ** جنود المنايا تأتيك فانهض وسارعْ

قيل: إن بعض الصالحين رأى أستاذه في المنام، فقال له: يا أستاذ، أي الحسرات عندكم أعظم؟ قال: حسرة الغافلين، وأنشدوا:
تيقظ إلى التِّذكارفالعمر قد مضى ** وحتى مَتَى ذا السكرُ من غفلة الهوى

ورأى ذو النون المصري بعض الصالحين في المنام، فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه، وقال: يا مدعي، ادعيت محبتي ثم غفلت عني. وأنشدوا:
تغافلت عن فهم الحقيقة بالهوى ** فلا أُذنٌ تُصغِي ولا عينٌ تَذرِفُ

ضعفت ولكن في أمانيك قوةٌ ** فيا تابعَ اللذاتِ كم تتخلفُ

ورأى عبد الله بن مسلمة والده في النوم، فقال له: يا أبت، كيف ترى حالك؟ فقال له: يا ولدي عشنا غافلين. وأنشدوا:
غفلتَ وحادِي الموتِ يحدوك للبِلاَ ** وجسمك يا مغرور أصبح معتلا

وحتى متى يا صاح بابك مغلق ** أتاك نذير الموت والعمر قد ولّى

وقيل: ما أصاب يعقوب ما أصابه في ولده إلا من أجل خوفه عليه، وغفلته عن استيداعه ربه، ولو استودعه ربه لحفظه. لكن لا ينفع حذر من قدر. {وكان أمر الله قدراً مقدوراً}.

.تفسير الآيات (15- 18):

{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)}
قلت: (لمّا) حرف وجود لوجود، يطلب الشرط والجواب، وجوابها هنا محذوف، أي: فعلوا به ما فعلوا. وقيل: جوابها: {أجمعوا}، وقيل: {أوحينا} على زيادة الواو فيهما. وجملة: {وهم لا يشعرون}: حال من {تنبئنهم}، فيكون خطاباً ليوسف عليه السلام، أو من {أوحينا}؛ أي: وهم لا يشعرون حين أوحينا إليه. فيكون حينئذٍ الخطاب لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، و{صبر جميل}: مبتدأ، والخبر محذوف، أي: مثل. أو: خبر عن مبتدأ، أي: أمري صبر جميل. و{على قميصه}: في موضع نصب على الظرف، أي: فوق قيمصه. أو: حال من الدم؛ إن جوز تقديمها على المجرور.
يقول الحق جل جلاله: فلما ذهبوا بيوسف معهم {وأجْمَعُوا} أي: عزموا {أن يجعلوه في غيابات الجُبِّ}؛ وهو بئر بأرض الأردن، أو بين مصر ومدين، أو على ثلاثة فراسخ من مقام يعقوب.
قال الفراء: كان حفره شداد بن عاد. فانظره. قال السدي: ذهبوا بيوسف وبه عليهم كرامة، فلما برزوا في البرية أظهروا له العداوة، وجعل أخوه يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه، فجعل لا يرى منهم رحيماً. فضربوه حتى كادوا يقتلونه، فجعل يصيح: يا أبتاه، يا يعقوب، لو تعلم ما صنع بابنك بنو الإماء. اهـ. وكان إخوته سبعة من خالته الحرة، والباقون من سريتين له، كما تقدم.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان يعقوب عليه السلام ينظر إلى يوسف عليه السلام حتى غاب عنه، وعن نظره، فلما علموا أنهم غيبوه عنه، وضعوه في الأرض وجروه عليها، ولطموا خده، فجرد شمعون سكينه وأراد ذبحه، فتعلق بذيل روبيل وضربه، وكذلك جيمع إخواته؛ إذا لجأ لواحد منهم طرده، فضحك عند ذلك يوسف عليه السلام فقال له يهوذا: ليس هذا موضع الضحك يا يوسف، فقال: من تعزز بغير الله ذل، ظننت أنه لا يصيبني وأنا بينكم مكروه لما رأيت من قوتكم وشدتكم، فسلطكم الله علي بشؤم تلك الفكرة؛ حتى لا يكون التوكل إلا عليه والتعزز إلا به. اهـ. بالمعنى.
وقال الفراء: كانت زينب بنت يعقوب عليه السلام أخت يوسف وكانت رأت في منامها كان يوسف وضع بين الذئاب وهم ينهشون، فانتبهت فازعة، ومضت إلى أبيها باكية، فقالت: يا أبت، أين أخي يوسف؟ قال: أسلمته إلى إخواته، فمضت خلفه حتى لحقت به، فأمسكته، وتعلقت بذيله، وقالت: لا أفارقك اليوم يا أخي أبداً، فقال لها إخوتها: يا زينب، أرسليه من يدك، فقالت: لا أفعل ذلك أبداً؛ لأني لا أطيق فراق أخي، فقالوا: بالعشي نرده إليك ويأتيك. ثم أقبل يوسف عليه السلام يقبل رأسها ويديها، ويقول لها: يا أختاه دعيني أسير مع إخوتي أرتع وألعب، فذهب، وجلست تشيعه بعينها، ودموعها تتناثر مما رأت؛ خوفاً عليه. اهـ.
فلما غابوا به عنها فعلوا به ما تقدم، وهموا بقتله، فقال لهم يهوذا: أما عاهدتمُوني ألا تقتلوه؛ فأتوا به إلى البئر فدلوه فيها فتعلق بشفيرها، فربطوا يده، ونزعوا قميصه ليلطخوه بالدم، ويحتالوا به على أبيهم، فقال: يا إخوتاه رُدّوا عليّ قميصي أتوارى به، فقالوا: ادعُ الأحد عشر كوكباً والشمس والقمرَ يلبسوك ويؤنسوك. فلما بلغ نصفها ألقوه، وكان فيها ماء، فسقط، ثم آوى إلى الصخرة كانت فيها فقام عليها يبكي، فجاءه جبريل بالوحي، كما قال: {وأوحينا إليه...} إلخ. وكان ابن سبع عشرة سنة، وقيل: كان مراهقاً. وقال ابن عطية: كان ابن سبع سنين، وأوحي إليه في صغره كما أوحي إلى يحيى وعيسى عليهما السلام.
وفي القَصَص: أن إبراهيم عليه السلام، حين ألقي في النار، جُرد من ثيابه، فأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق، وإسحاق إلى يعقوب، فجعله في تميمة علقها على يوسف، فأخرجه جبريل وألبسه يوسف.
ثم قال له فيما أوحي إليه: {لتنبئنهم} أي: لتحدثنهم {بأمرهم هذا}؛ بما فعلوا بك، {وهم لا يشعرون} أنك يوسف، لعلو شأنك وبعده عن أوهامهم، وطول العهد المغير للحال والهيئات. وذلك إشارة إلى ما قال لهم بمصر، حين دخلوا عليه ممتارين، فعرفهم وهم له منكرون، إلى أن قال لهم: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف: 89]. وفي رواية: أوحى إليه: يا يوسف لا تحزن على ما أصابك، فإنك تصل إلى ملك كبير، ويقف إخوتك بين يديك. بشره بما يؤول إليه أمره، أيناساً وتطبيباً لقلبه. وقيل: {وهم لا يشعرون} متصل بقوله: {وأوحينا} أي: آنسناه بالوحي وهم لا يشعرون ذلك.
{وجاؤوا أباهم عِشَاءَ} آخر النهار، وقرئ {عُشي} بضم العين والقصر، جمع أعشى، أي: عُشي من البكاء. فجاؤوا إليه {يبكُون} أي: متباكين. روي أنه لما سمع بكاءهم فزع وقال: يا بني، أين يوسف؟ فقالوا: {يا أبانا إنا ذهبنا نستبق}؛ أي: نتسابق بأقدامنا في العَدْو، أو الرمي {وتركنا يوسفَ عند متاعنا فأكله الذئبُ وما أنت بمؤمنٍ لنا}: بمصدق لنا، {ولو كنا صادقين}؛ لسوء ظنك، وفرط محبتك ليوسف.
{وجاؤوا على قميصه}: فوق قميصه {بدم كذبٍ}، أي: ذي كذب بمعنى مكذوب فيه؛ لأنهم ذبحوا جدياً ولطخوا قميصه بدمه. رُوي أنه لما سمع بخبر يوسف صاح ودعا بقميصه فأخذه، وألقاه على وجهه، وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص، وقال: ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا! أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه.
وفي رواية أخرى: أنه لما رأى صحة القميص ضحك، فقالوا له: الضحك والبكاء من فعل المجانين! فقال: أما بكائي فعلى يوسف لما رأيت الدم، وأما ضحكي، فإني لما رأيت صحة القميص رجوت أن الحديث غير صحيح، ولذلك {قال بل سولتْ لكم أنفسكم أمراً} أي: سهلت لكم، وهونت في أعينكم أمراً عظيماً حتى أقدمتم عليه.
وقيل: لما سمع مقالهم غشي عليه إلى الصباح، وهم يبكون بأجمعهم، ويقولون بينهم: بئس ما فعلناه بيوسف ووالده، وأي عذر لنا عند الله. فلما أفاق نظر إلى أولاده، وقال: هكذا يا أولادي كان ظني فيكم، بئس ما فعلتم، وبئس ما سولت لكم أنفسكم {فصبر جميل} أي: فأمري صبري جميل. وفي الحديث: «الصبرُ الجميل الذي لا شكوى فيه إلى الخلق» {واللَّهُ المستعانُ على ما تصفون} أي: على احتمال ما تصفونه من هلاك ابني يوسف. وهذه الجريمة كانت قبل استنبائهم، إن صح أنهم تنبأوا. وقد تقدم في سورة البقرة الخلاف في نبوة الأسباط فراجعه.
الإشارة: في هذه الآية رجاء كبير لأهل العصيان، وبشارة وتأنيس لمن أراد مقام الإحسان بعد الإساءة والغفلة والنسيان، وذلك أن هؤلاء السادات فعلوا بيوسف عليه السلام ما فعلوا، فلما تابوا بعد هذا الفعل العظيم اجتباهم الحق تعالى، وتاب عليهم، وقربهم حتى صاروا أنبياء، على حد قول بعض العلماء. ولذلك قيل: كم من خصوص خرجوا من اللصوص، وكم من عابد ناسك خرج من ظالم فاتك. وفي الحكم: (من استغرب أن ينقذه الله من شهوته، وأن يخرجه من وجود غفلته، فقد استعجز القدرة الإلهية، وكان الله على كل شيء مقتدراً). وللشافعي رضي الله عنه:
فَلما قَسَا قَلبي وَضَاقَت مَذَاهِبِي ** جَعَلتُ الرَجَا منِّي لِعَفْوكَ سُلَّمَا

تَعَاظَمَني ذَنبِي فَلَمَّا قَرَنتُهُ ** بِعفوكَ رَبِّي كَانَ عَفوُكَ أَعظَمَا

وهذا إنما يكون بالتوبة النصوح، والنهوض التام، والمجاهدة الكبيرة، كما فعل إبراهيم بن أدهم، والفضل بن عياض، والشيخ أبو يعزى، وغيرهم ممن كانوا لصوصاً فصاروا خصوصاً. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن لَم يَغلِب نَفسَه وَهَواه فَليس لَهُ حَظٌ في عُقبَاه» وأنشدوا:
جَنَينَا على النَّفس الَّتي لَك رُشدُها ** بِطبْعِ الهَوى فِيها وَتِيهٍ مَن الحِجا

جَزَى الله خَيراً مَن أَعَدَّ لِدَائهِ ** دَوَاءَ التُقَى فَاستَعمَلَ الخَوفَ والرَّجَا

جَبَانٌ وتَرجُوا أن تُلقَّبَ فَارساً ** مَتَى شَابه العَضبُ اليَمَانيُّ دُملَجَا

وفيها أيضاً: تنويه بمقام الصابرين وعاقبة المتقين، فإن يعقوب عليه السلام، لما استعمل الصبر الجميل، جمع الله شمله بولده مع ما أعد له من الثواب الجزيل. ويوسف عليه السلام، لما صبر على ما أصابه من المحن؛ عوضه العز الدائم بترادف المنن. وفي الخبر: «أعلى الدرجات درجات الصابرين». لكل عمل ثواب محدود، وثواب الصابرين غير محدود ولا معدود. قيل: إن الله تعالى أعطى لكل صابر قصراً في الجنة مسيرة الشمس أربعين يوماً، من درة بيضاء معلقة في الهواء، ليس تحته دعامة، ولا فوقه علاقة، وله أربعة آلاف باب، يدخل من كل باب سبعون ألف ملك، يسلمون على صاحبه ولا ترجع النوبة إليهم أبداً. اهـ.