فصل: تفسير الآية رقم (104):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (95- 97):

{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)}
قلت: {حرام}: مبتدأ، وفيه لغتان: حرام وحِرْم، كحلال وحِلّ. و{أنهم...} الخ: خبر، أو فاعل سد مسده، على مذهب الكوفيين والأخفش. والجملة: تقرير لقوله: {كُلٌّ إلينا راجعون}، و{لا} نافية، أي: ممتنع على قرية أهلكناها عدمُ رجوعهم إلينا بالبعث، بل كل إلينا راجعون. وقيل: {لا} زائدة، والتقدير: ممتنع رجوع قرية أردنا إهلاكها عن غيهم، {فإنهم}: على هذا: فاعل بحرام. قاله القصار. و{حتى}: ابتدائية، غاية لما يدل عليه ما قبلها، أي: يستمرون على ما هم عليه من الهلاك، حتى إذا قامت القيامة يرجعون إلينا، ويقولون: {يا ويلنا}. وقال أبو البقاء: {حتى}: متعلقة في المعنى بحرام، أي: يستقر الامتناع، أي: هذا الوقت. و{فإذا هي}: جواب {إذا}. وفي الأزهري: وقد يجمع بين الفاء وإذا الفجائية؛ تأكيدًا، خلافًا لمن منع ذلك. قال تعالى: {فإذا هي شاخصة}، فإنه لو قيل: إذا هي، أو فهي شاخصة لصح. اهـ. وقيل: {يا ويلنا}: على حذف القول، أي: إذا فتحت قالوا: يا ويلهم. و{اقترب}: عطف على فُتحت.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وحرامٌ} أي: ممتنع {على} أهل {قريةٍ أهلكناها}؛ قدرنا هلاكها، أو حكمنا بإهلاكها؛ لعتوهم، {إنهم إلينا لا يَرجعون} بالبعث والحشر، بل لابد من بعثهم وحشرهم وجزائهم على أعمالهم. وتخصيص امتناع عدم رجوعهم بالذكر مع شمول الامتناع للكل؛ لقوله: {كُلٌ إلينا راجعون}؛ لأنهم المنكِرون للبعث والرجوع دون غيرهم. وقيل: المعنى: وممتنع على قرية، أردنا إهلاكها، رجوعهم إلى التوبة، أو ممتنع على قرية، أهلكناها بالفعل، رجوعهم إلى الدنيا. وفيه رد على مذهب القائلين بالرجعة من الروافض وأهل التناسخ، على أن {لا} صلة. وقُرئ بالكسر، على أنه تعليل لما قبله، فحرام، على هذا، خبر عن مبتدأ محذوف، أي: ذلك العمل الصالح حرام على قرية أردنا إهلاكها؛ لأنهم لا يرجعون عن غيرهم.
وقال الزجاج: المعنى: وحرام على قرية، أردنا إهلاكها، أن يُتَقَبَّلَ منهم عمل؛ لأنهم لا يرجعون، أي: لا يتوبون، ويجوز حمل المفتوحة على هذا بحذف اللام، ويستمرون على ما هم عليه من الهلاك، أو: فليستمر امتناعهم من الرجوع.
{حتى إذا فُتحت يأجوجُ ومأجوج} ونُفخ في الصور، وقامت القيامة، فيرجعون، ولا ينفعهم الرجوع. ويأجوج ومأجوج قبيلتان، يقال: الناس عشرة أجزاء، تسعة منها يأجوج ومأجوج. والمراد بفتحها: فتح سدها، على حذف مضاف؛ أي: حتى إذا فُتح سد يأجوج ومأجوج، {وهم} أي: يأجوج ومأجوج، وقيل: الناس بعد البعث، {من كل حَدَبٍ} أي: نشز ومرتفع من الأرض، {يَنسِلُونَ}: يسرعون، وأصل النسل: مقاربة الخطو مع الإسراع. ويدل على عَود الضمير ليأجوج ومأجوج: قوله- عليه الصلاة والسلام-: «ويفتح ردم يأجوج ومأجوج، فيخرجون على الناس، كما قال الله تعالى: {من كل حدب ينسلون...}»
الحديث، ويؤيد إعادتَه على الناس قراءة مجاهد: {من كل جدث}؛ بالجيم، وهو القبر.
ثم قال تعالى: {واقتربَ الوعدُ الحقُّ} أي: ما بعد النفخة الثانية من البعث والحساب، {فإِذا هي شاخصةٌ} أي: فإذا القصة أو الشأن، وهو {أبصارُ الذين كفروا} شاخصة، أي: مرتفعة الأجفان، لا تكاد تطرق من شدة الهول، حال كونهم يقولون: {يا ويلنا}؛ يا هلكتنا، هذا أوانك، فاحضري، {قد كُنَّا في غفلةٍ} تامة {من هذا} الذي دهَمنا؛ من البعث، والرجوع إليه تعالى، للجزاء، ولم تعلم، حيث نُبِّهْنَا عليه بالآيات والنُذر، أنه حق، {بل كنا ظالمين} بتلك الآيات والنذر، مُكذبين بها، أو ظالمين أنفسنا؛ بتعريضها للعذاب المخلد. وهو إضراب عما قبله، من وصف أنفسهم بالغفلة، أي: لم نكن غافلين عنه، حيث نُبِّهْنَا عليه بالآيات والنذر، بل كنا ظالمين بتكذيبهم، والله تعالى أعلم.
تذييل: رَوى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أولا الآية: الدَّجال، ونزول عيسى، ونار تخرج من قرن عدن، تسوق النار إلى المحشر- أي الشام- تقيل معهم إذا قالوا، والدُّخان، والدَّابة، ثم يأجوج ومأجوج» قلت: وبعد موت يأجوج ومأجوج، تبقى مدة عيسى عليه السلام، في أَمَنَةٍ ورَغَدِ عَيْشٍ. قيل: سبع سنين، وقيل: أربعون. ثم يُقبض عيسى، ويُدفن في روضته صلى الله عليه وسلم، ثم تهب ريح تقبض المؤمنين، فلا يبقى من يقول الله الله، قيل: مائة سنة، وقيل: أقل، ثم تخرب الكعبة، ثم يُنفخ في الصور للصعق، واقترب الوعد الحق. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الحضرة محرمة على قلبٍ خراب، أهلكه الله بالوساوس والخواطر، وفتحت عليه من الشواغل والشواغب والخواطر يأجوج ومأجوج، فأفسدته وخربته وجعلته مزبلة للشياطين. فحرام عليه رجوعه إلى الحضرة حتى يتطهر من هذه الوساوس والخواطر، ومن الشواغل والعلائق. قال بعض الصوفية: (حضرة القدوس محرمة على أهل النفوس). فإذا اقترب وعد الحق، وهو أجل موته، قال: يا ويلنا إنا كنا عن هذا غافلين، لم نتأهب للقاء رب العالمين، حتى لقيتُه بقلب سقيم. والعياذ بالله.

.تفسير الآيات (98- 100):

{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إِنكم}، يا كفار قريش ومن دان دينكم، {وما تعبدون من دون الله} من الأصنام والشياطين؛ لأنهم، لطاعتهم لهم واتباعهم خطواتهم، في حكم عبادتهم، ويدخل فيه الشمس والقمر والنجوم، وكل ما عُبد من دون الله ممن لا يعقل، للحديث الوارد في دخولهم النار، تبكيتًا لمن عبدهم؛ لأنهم لا يتضررون بالنار. وأما من يعقل فلا يدخل؛ حيث عبَّر بما. وقيل: يدخل، ثم استثناه بقوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى...}، فكل من عبد شيئًا من دون الله فهو معه، {حَصَبُ جهنم} أي: حطبها، وقرئ بالطاء، أي: وقودها {أنتم لها واردون} أي: فيها داخلون.
{لو كان هؤلاء آلهةً} كما زعمتم {ما وردوها}؛ ما دخلوا النار، {وكلٌّ فيها خالدون} أي: وكل من العابد والمعبود في النار خالدون. {لهم فيها زفير} أي: للكفار في النار أنينٌ وبكاء وعويل، {وهم فيها لا يسمعون} شيئًا؛ لأن في سماع بعضهم بعضًا نوع أُنس. قال ابن مسعود رضي الله عنه: يُجعلون في توابيت من نار، ثم جعلت التوابيت في توابيت أُخَر لها مسامير من نار، فلا يسمعون شيئًا.
رُوِيَ أن النبي صلى الله عليه وسلم دَخَلَ المَسْجِدَ الحَرام، وصَنَادِيدُ قُريشٍ في الحَطِيمِ، وَحَوْلَ الكَعْبَةِ ثلاثمائة وَسِتونَ صَنَمًا، فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ، فَعَرَضَ لَهُ النَّضْرُ بْنُ الحَارِثِ، فكلَّمهُ النبي صلى الله عليه وسلم حَتَّى أفْحَمَهُ، ثُمَّ تلا عليه وعليهم: {إِنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم...} الآيات الثلاث. ثم أقْبَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزِبَعْرَى فرآهم يتساهمون، فقال: فيم خوضكم؟ فأخفى الوَلِيدُ ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخبره بعضهم بما قاله، عليه الصلاة والسلام، فقال ابن الزبعرى للنبي صلى الله عليه وسلم: أأنت قلت: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم}؟ قال: نعم، قال: قد خصمتك، ورب الكعبة، أَلَيْست اليَهُودُ تعبد عُزَيرًا، والنصارى تعبد المَسِيحَ، وبَنُو مُلَيْحٍ يعبدون الملائكة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بَلْ هُمْ يَعْبُدُونَ الشياطِينَ الّتي أَمَرَتْهُم بِهذا، فأنزل الله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى...}».
قلت: كل من عَبَدَ شيئًا من دون الله فإنما عَبَدَ في الحقيقة الشيطان؛ لأنه أمر به وزينه له، ويدل على ذلك أنهم يتبرؤون يوم القيامة، حين تتحقق الحقائق، من عبادتهم، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ} [الفُرقان: 17، 18] مع قوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل} [العَنكبوت: 38]. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من أحب شيئًا حُشر معه، من أحب أولياء الله حُشر معهم، ومن أحب الصالحين حُشر معهم، ومن أحب الفجار حُشر معهم، ومن أحب الدنيا بُعث معها، ثم بعث إلى النار، وهكذا... المرء مع من أحب.

.تفسير الآيات (101- 103):

{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إِن الذين سبقت لهم منا الحسنى} أي: الخصلة الحسنى، أو المشيئة الحسنى، وهي السعادة، أو التوفيق للطاعة، أو البُشرى بالثواب، {أولئك عنها}: عن جهنم {مبعدون}؛ لأنهم في الجنة، وشتان ما بنيهما. قال القشيري: لم يقل متباعدون؛ ليَعْلَم العابدون أن المدارَ على التقدير وسبق الحكم من الله، لا على تَبَاعد العبد وتَقَرُّبه. اهـ. وكأنه يشير لقوله: «هؤلاء إلى الجنَّةِ ولا أُبالي»، أي: بأعمالهم.
{لا يسمعون حَسِيسَهَا} أي: صوتها الذي يحس، وحركة تلهبها، وهذه مبالغة في الإبعاد، أي: لا يقربوها حتى لا يسمعوا صوتها أو صوت من فيها. قال الكواشي: لا يسمعون صوت النار وحركة تلهبها إذا نزلوا منازلهم من الجنة. اهـ. وقال ابن عطية: وذلك بعد دخولهم الجنة؛ لأن الحديث يقتضي أن في الموقف تزفر جهنم زفرة لا يبقى نبي ولا ملك إلا خرَّ على ركبتيه. اهـ. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي: محمل الحديث، إن صح في حق الأنبياء والأكابر، على شهود الجلال والإجلال لله تعالى، ولذلك يقولون: «نفسي نفسي»، لا من خوف النار. اهـ.
قلت: أما كون الناس يُصعقون يوم القيامة، فيكون المصطفى أول من يفيق، فثابت في الصحيح، أما سبب الصعقة فقد ورد في غير البخاري: «أنه يُؤتى بجهنم، ولها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، ثم تزفر زفرة، فلا يبقى نبي ولا ملك إلا خرّ».. الحديث، ويؤيده قوله تعالى: {وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفَجر: 23] والأنبياء- عليهم السلام- بَشَر عبيد، قد تعمهم القهرية، ولا تقدح في منصبهم، وليس صعقهم خوفًا، لكن غلبة ودهشًا، كما صعق موسى- عليه السلام- عند الرؤية، ونبينا- عليه الصلاة والسلام- حين تجلى له جبريل على صورته. والله أعلم. وقال جعفر الصادق: وكيف يسمعون حسيسها، والنار تخمد بمطالعتهم، وتتلاشى برؤيتهم؟ ثم ذكر حديث قول النار للمؤمن: جُز... إلخ.
ويدل على أن هذه الحالة إنما هي بعد دخولهم الجنة، قوله تعالى: {وهم فيما اشتهت أَنفُسُهُم} من النعيم {خالدون}: دائمون، والشهوة: طلب النفس للذة. وهو بيان لفوزهم بالمطالب، إثر بيان خلاصهم من المهالك والمعاطب، أي: دائمون في غاية التنعم، {لا يحزنهم الفزعُ الأكبر}، وهو القيام من القبور عند صيحة البعث، بدليل قوله: {وتتلقاهم الملائكةُ}. قال ابن عباس: «تتلقاهم الملائكة بالرحمة، عند خروجهم من القبور»، قائلين: {هذا يومُكم الذي كنتم تُوعدون} بالكرامة والثواب، والنعيم المقيم فيه، أي: بعد دخولكم الجنة.
وقال الحسن: الفزع الأكبر: الانصراف إلى النار. وعن الضحاك: حين يُطبق على أهل النار. وقيل: حين نفخة الصعق، وقيل: حين يُذبح الموت.
قلت: من سبقت له الحسنى ينجو من جميعها. وقيل: تتلقاهم الملائكة على أبواب الجنة، مُهنئين لهم قائلين: {هذا يومكم الذي كنتم توعدون} في الدنيا، ويُبشرون بما فيه من فنون المثوبات على الإيمان والطاعات. وهذا، كما ترى، صريح في أن المراد بالذين سبقت لهم الحسنى: كافةُ المؤمنين الموصوفين بالإيمان والأعمال الصالحة، لا من ذكر؛ من المسيح، وعُزير، والملائكة، كما قيل. قاله أبو السعود، قلت: وقد يجاب بأنها نزلت في شأنهم وتعم غيرهم؛ لأن سبب النزول لا يخصص. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال الجنيد رضي الله عنه: {إن الذين سبقت لهم منّا الحسنى} أي: سبقت لهم منا العناية في البداية، فظهرت لهم الولاية في النهاية. اهـ. {أولئك عنها} أي: عن نار القطيعة، وهي أغيار الدنيا، مُبعدون، لا يسمعون حسيسها، ولا ما يقع فيها من الهرج والفتن، لغيبتهم عنها بالكلية في الشغل بالله تعالى، فهم فيما اشتهت أنفسهم؛ من لذة الشهود، والقُرب من الملك الودود، خالدون دائمون، لا يحزنهم الفزع الأكبر في الدنيا والآخرة، وتتلقاهم الملائكة بالبُشرى بالوصول، هذا يومكم الذي كنتم توعدون، وهو يوم ملاقاة الحبيب والعكوف في حضرة القريب، عند مليك مقتدر. منحنا الله من ذلك الحظ الأوفر بمنّه وكرمه.

.تفسير الآية رقم (104):

{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)}
قلت: {يوم}: ظرف لاذكر، أو لقوله: {لا يحزنهم الفزع}، أو لتتلقاهم. والسجل: الصحيفة، والكتاب: مصدر، و{كما بدأنا}: منصوب بمضمر، يُفسره ما بعده، و{ما}: موصولة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: واذكر {يوم نَطْوِي السماءَ}؛ وذلك يوم الحشر والناس في الموقف، فتجمع وتُكوّر وتُطوى {كطَيِّ السِّجِلِّ}؛ الصحيفة {للكتاب} أي: لأجل الكتابة فيها؛ لأن الكاتب يطوي الصحيفة على اثنين؛ ليكتب فيها. فاللام للتعليل، أو بمعنى على، أي: كطي الصحيفة على الكتابة التي فيها، لتُصان، وقرأ أبو جعفر: {تُطوى}؛ بالبناء للمفعول. وذلك بمحو رسومها وتكوير نجومها وشمسها وقمرها. وأصل الطي: الدرج، الذي هو ضد النشر. وقرأ الأخوان وحفص: {للكُتُبِ} بالجمع، أي: للمكتوبات، أي: كطي الصحيفة؛ لأجل المعاني الكثيرة التي تكتب فيها، أو كطيها عليها؛ لتُصان. فالكتاب أصله مصدر، كالبناء، ثم يوقع على المكتوب. وقيل: السجل: ملك يطوي كتب ابن آدم، إذا رفعت إليه، فالكتاب، على هذا، اسم للصحيفة المكتوب فيها، والطي مضاف إلى الفاعل، وعلى الأول: إلى المفعول.
{كما بدأنا أول خَلقٍ نُعيده} أي: نعيد ما خلقنا حين نبعثهم، كما بدأناهم أول مرة، فالتنوين في {خَلقٍ} مثله في قولك: أول رجلٍ جاءني، تريد أول الرجال والتقدير: كما بدأنا أول الخلائق، نعيدهم حفاةً عراة غُرلاً. قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّكُمْ تَحْشَرُونَ يَوْمَ القيَامَة حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً. وأول مَنْ يُكْسَى إبْرَاهِيمُ خليلُ الله»، أي: لأنه جرد في ذات الله، فقالت عائشة- رضي الله عنها-: واسوءتاه! فلا يحتشم الناس بعضهم من بعض؟ فقال: «لكل امرئ منهم يومئذ شأن يُغنيه» ثم قرأ- عليه الصلاة والسلام-: {كما بدأنا أول خلق نعيده}.
كما بدأناه من الماء نعيده كيوم ولدته أمه. قلت: قد استدل بعضهم، بظاهر الآية والحديث، أن أهل الجنة ليس لهم أسنان، ولا دليل فيه؛ لأن المقصود من الآية: الاستدلال على كمال قدرته تعالى، وعلى البعث الذي تُنكره الكفرة، لا بيان الهيئة، وعدمُ وجودها نقصان، ولا نقص في الجنة.
ثم أكد الإعادة بقوله: {وعدًا علينا} أي: نُعيده وعدًا، فهو مصدر مؤكد لغير فعله؛ بل لِمَا في {نعيده} من معنى العِدة، أي: وعدنا ذلك وعدًا واجبًا علينا إنجازه؛ لأنا لا نُخلف الميعاد، {إِنا كنا فاعلين} لما ذكرنا لا محالة، فاستعدوا له، وقدِّموا صالح الأعمال للخلاص من هذه الأهوال. وبالله التوفيق.
الإشارة: إذا أشرقت على القلب شموسُ العرفان، انطوت عن مشهده وجودُ الأكوان، وأفضى إلى فضاء العيان، فلا سماء تظله ولا أرض تحمله، وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه:
لقد تجلى ما كان مخبى ** والكون كُلٌّ طويت طي