فصل: تفسير الآية رقم (21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (21):

{وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)}
قلت: {تَبعاً}: جمع تابع، أو مصدر نُعت به؛ للمبالغة على حذف مضاف، أي: كنا لكم ذا تبع، و{من عذاب الله من شيء}: من، الأولى؛ لبيان، والثانية: زائدة، هذا المختار. وعليه الصلاة والسلام و{محيص}: إما مصدر، أو اسم مكان.
يقول الحق جل جلاله: {وبرزوا لله} أي: لأمر الله {جميعاً}، فيبرزون من قبورهم يوم القيامة حفاةً عراةً، لفصل القضاء، أو: برزوا لله على ظنهم؛ فإنهم كانوا يرتكبون الفواحش خفية، ويظنون أنها تخفى على الله، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم. وإنما عبَّر بالماضي؛ لتحقق وقوعه. فيقول حينئذٍ {الضعفاءُ} وهم: الأتباع، لضعف رأيهم عندهم، {للذين استكبروا} وهم الرؤساء الذين استتبعوهم وغووهم: {إنا كنا لكم تَبَعاً} في الكفر، وتكذيب الرسل، والإعراض عن نصحهم، {فهل أنتم مُغْنون عنا من عذابِ الله من شيء} أي: فهل أنتم دافعون عنا شيئاً من عذاب الله؟.
{قالوا}، أي: رؤساؤهم، في جوابهم واعتذارهم: {لو هدانا الله لهديناكم} أي: لو هدانا الله للإيمان، ووفقنا إليه لهديناكم ولكن ضللنا فأضللناكم، أي: اخترنا لكم ما اخترنا لأنفسنا، ولو هدانا الله لطريق النجاة من العذاب لهديناكم وأغنيناه عنكم، لكن سُدَّ دوننا طريق الخلاص، {سواءٌ علينا أجزِعْنَا أمْ صَبَرنا}، أي: مستوٍ علينا الجزع والصبر، {ما لنا من محيص}: من مهرب ومنجى، ويحتمل أن يكون قوله: {سواءٌ علينا...} إلخ، من كلام الفريقين معاً، ويؤيده ما رُوي أنهم يقولون: تعالوا نجزع، فيجزعون خمسمائة عام، فلا ينفعهم، فيقولون: تعالوا نصبر، فيصبرون كذلك، ثم يقولون: {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص}. نسأل الله العصمة بمنَّه وكرمه.
الإشارة: إذا ترقى العارفون، ومن تعلق بهم، عن عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، وبرزوا لشهود الله في كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، وعند كل شيء، وتنزهوا في حضرة الأسرار، ورُفعوا يوم القيامة مع المقربين الأبرار، بقي ضعفاء اليقين؛ الذين تعوقوا عن صُحبتهم، في غم الحجاب، وتعب الحس والخواطر، مسجونين في سجن الأكوان، فيقولون لمن عَوَّقهم عن صحبة العارفين من أهل الرئاسة والجاه: إنا كنا لكم تبعاً، فهل تمنعون شيئاً مما نحن فيه من غم الحجاب، وسقوط الدرجة؟ فيقولون: لو هدانا الله لصحبتهم لهديناكم. فإذا نظروا يوم القيامة إلى ارتفاع درجاتهم ضجوا، وفزعوا على ما فاتهم، فلا ينفعهم ذلك؛ فما لهم من محيص عن تخلفهم عن مقام المقربين. رُوي أن أهل عليين إذا أشرفوا على الأسلفين تشرق منازلهم من أنوار وجوههم. وسيأتي إن شاء الله الحديث عند قوله: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17].

.تفسير الآية رقم (22):

{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)}
قلت: {إلا أن دعوتُكم}: الاستثناء منقطع، ويجوز الاتصال، و{بما أشركتمون}: مصدرية، أو موصولة اسمية، و{من قبل}: يتعلق بأشركتمون، وعلى الثاني: بكفرت.
يقول الحق جل جلاله: {وقال الشيطانُ}، أي إبليس الأقدم {لمَّا قُضِي الأمرُ} أي: أمر الحساب، وفزغ منه، ودخل أهل الجنةِ الجنة، وأهلُ النارِ النارَ. رُوي أنه يُنصب له منبر من نار، فيقوم خطيباً في النار على أهل النار، يعني على الأشقياء من الثقَلين، فيقول في خطبته: {إن الله وعدكم وعدَ الحق}، أي: وعداً حقاً أنجزه لكم، وهو وعد البعصث والجزاء، {ووعدتكم} وعد الباطل، وهو: ألاَّ بعث ولا حساب، وإن كان واقعاً شيء من ذلك فالأصنام تشفع لكم، {فأخْلَفتكم}، أي: فظهر خلاف ما وعدتكم، جعل تبين خلف وعده كالإخلاف منه، مجازاً. {وما كان لِيَ عليكم من سلطان}؛ من تسلط، فألجئكم إلى الكفر والمعاصي، {إلا أن دعوتُكم}؛ إلا دعائي إياكم بتسويل وتزيين، {فاستجبْتمْ لِي}، وهو ليس من جنس التسلط، لكنه تهكم بهم، على طريقة قوله:
تَحِيَّةُ بَيْنِهِم ضَرْبٌ وَجِيعُ

ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً، أي: ما تسلطت عليكم بالقهر، لكن دعوتكم فأسرعتم إجابتي، {فلا تلوموني}؛ فإنَّ من اشتهر بالعداوة لا يُلام على أمثال ذلك، {ولُوموا أنفسكم}؛ حيث أطعتموني حين دعوتكم، ولم تطيعوا ربكم لما دعاكم. ولا حجة للمعتزلة في الآية على أن العبد يخلق أفعاله؛ لأن كسب العبد مقدر في ظاهر الأمر، لقيام عالم الحكمة، وهو رداء لعالم القدرة، فالقدرة تبرز، والحكمة تستر، وهو ما يظهر من اختيار العبد، ولا اختيار له في الحقيقة؛ قال تعالى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الإنسان: 30، التكوير: 29] {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ا} [الأنعام: 112].
ثم قال لهم: {ما أنا بمُصْرخِكُم}: بمغيثكم من العذاب، {وما أنتم بمُصْرخِيَّ}: بمغيثي، {إني كفرت بما أشركتمونِ من قبلُ}، أي: إني كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم في دار الدنيا، بمعنى: تبرأت منه واستنكرته، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر: 14]. أو: أني كفرت بالله الذي أشركتموني معه في طاعته من قبل، حين امتنعْت من السجود. والأول أظهر.
قال تعالى: {إنَّ الظالمين لهم عذابٌ أليم}. ويحتمل أن يكون من تتمة خطبة الشيطان، قال البيضاوي: وفي حكاية أمثال ذلك لطف للسامعين، وإيقاظ لهم، حتى يُحاسبوا أنفسهم ويتدبروا عواقبهم. اهـ.
الإشارة: ينبغي لك أيها العبد الصالح الناصح لنفسه ان تصغي بسمع قلبك إلى هذه المقالة، التي تصدر من الشيطان عند فوات الأوان، فتبادر إلى خلاص نفسك ما دمت في قيد حياتك، قبل حلول رمسك، قبل أن تزل بك القدم، حيث لا ينفعك الندم، فتحاسب نفسك، وتتدبر في عواقب أمرك، وتصحح عقائد توحيدك، وتعمل جهدك في طاعة ربك، وتجتنب مواقع غرور الشيطان، وتعتمد على فضل الكريم المنان، وتجعل الموت نصب عينيك، وما هو مستقبل تجعله حاصلاً، وما هو متوقع تجعله واقعاً؛ فكل ما هو آت قريب، و{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام: 134]. وفي الحِكَم: (لو أشرق نور اليقين في قلبك لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها، ولرأيت محاسن الدنيا وكسفة الفناء ظاهرة عليها). وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (23):

{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)}
يقول الحق جل جلاله: {وأدخل الذين آمنوا}، أي: أدخلهم الله على أيدي الملائكة {جنات تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها}، فيدخلونها {بإذن ربهم}؛ بأمره، فيأذن للملائكة أن تُدخلهم حين يقضي بينهم. {تحيتُهم فيها سلامٌ} أي: تحييهم الملائكة، أو الخدام، حين يتلقونهم يسلمون عليهم، ويهنئونهم، على ما في الحديث.
الإشارة: في ذكر هذه الآية بعد خطبة الشيطان تنبيه على وجه الخلاص منه، حتى لا يكون من أهل خطبته، وهو تصحيح الإيمان وتقوية مواده، وهو ما ذكرنا قبل في مواد طمأنينة أهل الإيمان، وإن أسعده الله بصحبة عارف رقَّاه إلى شهود العيان، فلا يكون للشيطان ولا لغيره عليه سلطان، لتحقيق عبوديته، وارتقائه إلى شهود عظمة ربوبيته؛ قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، وهم الذين رسخت في قلوبهم شجرة الإيمان، وارتفعت أغصانها إلى الرحمن.

.تفسير الآيات (24- 27):

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)}
قلت: {كلمة طيبة}: يجوز أن يكون مفعولاً بمحذوف، أي: جعل كلمة، وتكون الجملة تفسيرية لضرب المثل، وأن تكون {كلمة}: بدلاً من {مَثَلاً}، و{شجرة}: صفة لها، أو خبر عن مضمر، أي: هي شجرة.
يقول الحق جل جلاله: {ألم تَرَ} يا محمد، أو أيها السامع، {كيف ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً} لأهل لا إله إلا الله، وهم: أهل التوحيد، الذين رسخ التوحيد في قلوبهم، وعبّروا عنه بألسنتهم. فمثال الكلمة الطيبة التي نطقوا بها، ورسخ معناها في قلوبهم {كشجرةٍ طيبةٍ}: كالنخلة مثلاً، {أصلُها ثابت} في الأرض، غائص بعروقه فيها، {وفروعها في السماء}؛ أي: أعلاها. أي: يريد الجنس، أي: فروعها وأفنانها في السماء، {تُؤتي أًكُلُها}: تُعطى ما يؤكل من ثمرها {كل حين} وقَّته الله لإثمارها، فقيل: سنة، وبه قال ابن عباس وجماعة من المفسرين والفقهاء، واستدلوا بها على من حلف لا يُكلم أخاه حيناً لزمه سنة، وعن ابن عباس أيضاً والضحاك وغيرهما: {كل حين}؛ أي: غدوة وعشية، ومتى أريد جناها، قلت: وهذا هو الظاهر.
واخْتُلف في هذه الشجرة الطيبة، التي ضرب الله بها المثل لكلمة الإخلاص، فقيل: غير معينة، وقيل: النخلة، وبه قال الجمهور. قال الشطيبي: وقيل: جوزة الهند، فإنها ثابت الأصل، متصلة النفع، يكون طعمها أولاً لبناً، ثم عسلاً، ثم تنعقد طعاماً، ويصنع بلبنها ما يصنع بلبن المواشي، ثم يكون كالخل، ثم كالخمر، ثم كالزيت، كل هذا قبل عقد الطعم، وأما النخلة فهي: ستة أشهر طلع رخص، وستة أشهر رطب طيب، فنفعه متصل. وقال ابو حنيفة: إنه ببلاد اليمن نوعٌ من التمر، يقال له: الباهين، يطعم السنة كلها. اهـ. قلت: وقد ذكر ابن مقشب جوزة الهند، ووصفها كما قال الشطيبي، وقوله:في النخلة ستة أشهر... إلخ، فيه نظر، وصوابه: ثلاثة، فإن المعاينة ترده.
والمشبه بهذه الشجرة: المؤمن الكامل الدائم نفعه، المتصل علمه، أوقاته معمورة بذكر الله، أو تذكير عباد الله، وحركاته وسكناته في طاعة الله، حيث أراد بها وجه الله، فكل حين وساعة يصعد منه عمل إلى الله.
ثم قال تعالى: {ويضربُ الله الأمثال للناس لَعلهم يتذكرون}؛ لأن في ضربها زيادة إيضاح وإفهام وتذكير؛ فإنه تصوير للمعاني وتقريبها من الحس، لتفهم سريعاً.
ثم ذكر ضدها فقال: {وَمَثَلُ كلمة خبيثة}؛ كلمة الكفر {كشجرة} كمثل شجرة؛ {خبيثة}؛ كالحنظلة مثلاً، {اجْتُثتْ}: استؤصلت، وأُخذت جثتها، وقُلعت {من فوق الأرض}، أي: قطعت من فوق الأرض؛ لأن عروقها قريبة منه، {ما لها من قرارٍ} استقرار. وهذا في مقابلة قوله: {أصلها ثابت}. قال البيضاوي: واختُلف في الكلمة والشجرة؛ ففُسرت الكلمة الطيبة بكلمة التوحيد أي: (لا إله إلا الله)، ودعوة الإسلام والقرآن، والكلمة الخبيثة بالإشراك بالله تعالى، والدعاء إلى الكفر، وتكذيب الحق.
ولعل المراد بهما ما يعم ذلك، فالكلمة الطيبة: ما أعرب عن حق، أو دعا الى صلاح، والكلمة الخبيثة: ما كان على خلاف ذلك، وفُسرت الشجرة الطيبة بالنخلة، ورُوي ذلك، مرفوعاً، وبشجرة في الجنة، والخبيثة بالحنظلة، ولعل المراد بهما أيضاً ما يعم ذلك. اهـ.
{يُثبت اللهُ الذين آمنوا بالقول الثابت} وهو: لا إله إلا الله، أو كل ما يثبت في القلب، ويتمكن فيه من الحق، بالحجة الواضحة، {في الحياة الدنيا} مدة حياتهم، فلا يزالون إذا افتتنوا في حياتهم، أو عند موتهم، وهي حسن الخاتمة، {وفي الآخرة} عند السؤال، فلا يتلعثمون إذا سُئلوا عن معتقدهم في القبر، وعند الموقف، فلا تدهشهم أهوال القيامة. رُوي أنه صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال: «ثُمَّ تُعَادُ رُوحه في جَسَدِهِ، فَيَأتيهِ مَلَكانِ، فيُجْلِسَانهِ فِي قَبْرهِ، ويَقُولاَنِ لَه: مَنْ رَبُّكَ، وَمَا دِينُكَ، وَمَنْ نَبِيكَ؟ فيقول: رَبي الله، ودِيني الإسْلاَمُ، ونَبيي محمد صلى الله عليه وسلم. فينادي مُنَادٍ من السَّماءِ: أنْ صَدَقَ عَبْدِي» فذلك قوله تعالى: {يُثَبِتُ اللهُ الذينَ أَمنُوا بِالقَولِ الثابتِ}. قلت: والقدرة صالحة لهذا كله. قال الغزالي: هو أشبه شيء بحال النائم.
{ويُضِلُّ اللهُ الظالمين} الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والتقليد، فلا يهتدون إلى الحق، ولا يثبتون في مواقف الفتن. {ويفعلُ الله ما يشاء}؛ من تثبيت بعض، وإضلال آخرين، من غير اعتراض عليه، ولا تعقيب لحكمه.
الإشارة: الكلمة الطيبة، هي كلمة التوحيد، والشجرة الطيبة هي شجرة الإيمان، وأصلها هو: التوحيد الثابت في القلب، وفروعها: الفرائض والواجبات، وأغصانها: السنن المؤكدات، وأوراقها: المندوبات والمستحبات، وأزهارها: الأحوال والمقامات، وأذواقها: الوجدان وحلاوة المعاملات، وانتهاء طيب أثمارها: العلوم وكشف أسرار الذات، الذي هو مقام الإحسان، وهي معرفة الشهود والعيان. فمن لم يبلغ هذا المقام لم يجْن ثمرة شجرة إيمانه. ومن نقص شيئاً من هذه الفروع نقص بقدرها من شجرة إيمانه، إما من فروعها، أو من أغصانها، أو من ورقها، أو من حلاوة أذوقها، أو مِنْ عَرْف أزهارها، أو من طيب ثمرتها. ومعلوم أن الشجرة إذا نبتت بنفسها في الخلاء، ولم تُلَقَّح كانت ذَكَّاره، تورق ولا ثمر، فهي شجرة إيمان من لا شيخ له يصلح للتربية، فإن الفروع والأوراق كثيرة، والثمار ضعيفة، أيُّ ريح هاج عليها أسقطها. وراجع ما تقدم في إشارة قوله تعالى: {وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة} [المائدة: 35]. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (28- 30):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)}
يقول الحق جل جلاله: {ألم تَرَ} يا محمد {إلى الذين بدَّلوا} شكر {نعمةَ الله كفراً}؛ بأن وضعوا الكفر مكان الشكر، أو: بدلوا نفس النعمة كفراً؛ فإنهم لما كفروها سُلبت منهم، فصاروا تاركين لها مُحصلين للكفر مكانها؛ كأهل مكة، خلقهم الله من نسل إسماعيل عليه السلام، وأسكنهم حَرَمه، وجعلهم خُدَّام بيته، وَوَسَّع عليهم أبواب رزقه، وعطف عليهم قلوب خلقه، وتمم شرفهم ببعْثة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا ذلك، فقحطوا، وجاعوا حتى أكلوا الميتة، وأُسروا وقُتلوا يوم بدر، وصاروا كذلك مسلوبي النعمة، موصوفين بالكفر؛ وعن عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما: أنها نزلت في الأفجريْن من قريش: بني المغيرة، وبني أمية؛ فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمُتِّعُوا إلى حين. {وأحَلَّوا قومَهم}: من أطاعهم في الكفر والتبديل، أي: أنزلوهم {دارَ البوار}: دار الهلاك، بحملهم على الكفر معهم، ثم فسرهم بقوله: {جهنم يصلونها}: يحترقون فيها، و{بئس القرارُ}؛ وبئس المستقر جهنم.
ثم بيَّن كفرهم، فقال: {وجعلوا لله أنداداً}: أشباهاً وأمثالاً، يعبدونها معه، {ليُضِلوا عن سبيله}؛ عن طريق التوحيد، أي: لتكون عاقبتهم الضلال أو الإضلال، على القراءتين، أي: ليضلوا في أنفسهم، أو ليضلوا غيرهم. وليس الضلال كان غرضهم في اتخاذ الأنداد، ولكن لمَّا كان نتيجته وعاقبته جُعل كالغرض. {قل تمتعوا} بشهواتكم الدنيوية، فإنها فانية، أو بعبادتكم الأوثان، فإنها من قبيل الهوى والأمر للتهديد. وفي التهديد بصيغة الأمر إيذان بأن المهدد عليه كالمطلوب؛ لإفضائه إلى المهدد به، وان الأمرين كائنان لا محالة، فلابد من وقوع تمتعهم، ولابد من إفضائهم إلى النار. ولذلك علقه بقوله: {فإنَّ مصيرَكم إلى النار}، وأن المخاطب، لانهماكه فيه، كالمأمور به من آمر مطاع. قاله البيضاوي.
الإشارة: ظهور أهل التربية في زمان الغفلة والجهل نعمة عظيمةُ، لكن لا يعرفها إلا من سقط عليها، ومن أنكرها، وسدَّ بابها، وعوَّق الناس عن الدخول في طريقها، فقد بدل نعمة الله كفراً، وأحلَّ الناس من تبعه دار البوار، وهي: الإقبال على الدنيا، والانهماك في الغفلة، وخراب الباطن من نور اليقين، وكثرة الخواطر والوساوس، والحرض والجزع والهلع، وغير ذلك من أمراض القلوب. وأيُّ عذاب المؤمن أشد من هذا في الدنيا؟ ويسقط في الآخرة عن درجة المقربين، ومن لم يصحب أهل التوحيد الخالص لا يخلو من عبادة أنداد وأشباه؛ بمحبته لهم والركون إليهم. ومن أحب شيئاً فهو عبد له. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه ذات يوم: إنا لا نحب إلا الله، ولا نحب معه شيئاً سواه. فقال له بعض الحاضرين: قال جدك رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النفس مجبولة على حب من أحسن إليها» فقال له الشيخ: إنا لا نرى الإحسان إلا من الله، ولا نرى معه غيره. اهـ. بالمعنى.