فصل: تفسير الآية رقم (21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (17- 18):

{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)}
قلت: {تزاور} أصله: تتزاور، فأُدغمت التاء في الزاي. وقرأ الكوفيون بحذفها، وابن عامر ويعقوب: {تَزَوَّرُ} كتَمرد، كلها من الزَّوْر بمعنى الميل. و{ذات اليمين}: ظرف بمعنى الجهة. وجملة: {وهم في فجوة}: حال، و{ذراعيه}: مفعول {باسط}؛ لأنه حكاية حال، أي: يبسط، و{فرارًا}: مصدر؛ لأنه عبارة عن معنى التولية، أو حال، أي: لوليت فارًا، و{رُعْبًا}: مفعول ثان لملئت، أو تمييز.
يقول الحقّ جلّ جلاله: في بيان حالهم بعدما أووا إلى الكهف: {وترى الشمسَ إِذا طلعت تزَاورُ} أي: تنتحي وتميل {عن كهفهم} الذي أووا إليه، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب. وليس المراد الإخبار بوقوع الرؤية تحقيقًا، بل الإنباء بكون الكهف بحيث لو رأيته ترى الشمس إذا طلعت تميل عن كهفهم {ذاتَ اليمين} أي: جهة ذات يمين الكهف، عند الداخل إلى قعره، {وإِذا غَرَبَت} أي: وتراها إذا غربت {تَقْرِضُهم} أي: تقطعهم وتتعدى عنهم {ذاتَ الشمال} أي: جهته وجانبه الذي يلي المشرق. وكان ذلك بتصريف الله تعالى على منهاج خرق العادة؛ كرامة لهم. وقيل: كان باب الكهف شماليًا يستقبل بنات نعش، {وهم في فجوةٍ منه}: في موضع واسع منه، وذلك موقع لإصابة الشمس، ومع ذلك يُنحيها الله عنهم.
{ذلك من آيات الله} أي: ما صنع الله بهم من ميل الشمس عنهم عند طلوعها وغروبها، من آيات الله العجيبة الدالة على كمال علمه وقدرته، وفضيلة التوحيد وكرامة أهله عنده سبحانه. قال بعضهم: هذا قبل سد دقيانوس باب الكهف، قلت: كان قبل السد وبعد هدم السد؛ لأنه هُدم بعدُ، فما قام أهل الكهف حتى وجدوه مهدومًا. وظاهر الآية يُرجح من قال: إنه من باب خرق العادة.
{مَن يَهدِ الله فهو المهتدِ} الذي أصاب الفلاح. والمراد: إما الثناء عليهم، والشهادة بإصابة المطلوب، والإخبار بتحقيق ما أمَّلُوه من نشر الرحمة وتهيئة المرافق، أو التنبيه على أن أمثال هذه الآية كثيرة، ولكن المنتفع بها هو مَنْ وفقه الله وهداه للاستبصار بها، {ومن يُضلل} أي: يخلق فيه الضلال؛ بصرف اختياره إليه، {فلن تجد له}، ولو بالغت في التتبع والاستقصاء، {وليًّا}: ناصرًا {مُرشدًا}، يهديه إلى ما ذكر من الفلاح. والجملة معترضة بين أجزاء القصة.
ثم قال: {وتحسبُهُم} بالفتح والكسر، أي: تظنهم {أيقاظًا}، لانفتاح أعينهم، أو لكثرة تقلبهم، وهو جمع يقظ؛ بظم القاف وكسرها، {وهم رقود} أي: نيام، {ونُقلِّبهم} في رقودهم {ذاتَ اليمين} أي: جهة تلي أيمانهم، {وذات الشمال} أي: جهة تلي شمائلهم؛ لكي لا تأكل الأرضُ ما يليها من أبدانهم. قال ابن عباس رضي الله عنه: لو لم يتقلبوا لأكلتهم الأرض.
قيل: كانوا يتقلبون مرتين في السنة. وقيل: مرة يوم عاشوراء. وقيل: في تسع سنين.
{وكلبهم باسطٌ ذراعيه}، حكاية حال ماضية أي: يبسط ذراعيه، وهو من المرفق إلى رأس الأصابع. {بالوصيد} أي: بموضع من الكهف، وقيل: بالفِناء من الكهف، وقيل: العَتَبة. وهذا الكلب، قيل: هو كلبٌ مَروا به فتبعهم، فطردوه مرارًا، فلم يرجع، فأنطقه الله، فقال: يا أولياء الله لا تخشوا إصابتي؛ فإني أُحب أحباء الله، فناموا حتى أحرُسَكم. وقيل: هو كلبُ راعٍ مروا به فتبعهم على دينهم، ومر معه كلبه، ويؤيده قراءة: {وَكَالِبُهُمْ} أي: وصاحب كلبهم، وقيل: هو كلب صيد لهم أو زرع، واختُلف في لونه؛ قيل أحمر، وقيل: أصفر، وقيل: أصهب.
{لو اطّلعتَ عليهم} أي: لو عاينتهم وشاهدتهم. والاطلاع: الإشراف على الشيء بالمعاينة والمشاهدة، {لولَّيت منهم فرارًا}: هربًا بما شاهدت منهم، {ولمُلئتَ منهم رُعْبًا}، أي: خوفًا يملأ الصدور برُعبه، لِمَا ألبسهم الله من الرهبة، أو لعظم أجرامهم وانفتاح أعينهم، وكانت منفتحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم. وعن معاوية: أنه غزا الروم فمرّ بالكهف، فقال: لو كُشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم، فقال ابن عباس رضي الله عنه: ليس لك ذلك؛ قد منع الله تعالى مَنْ هو خير منك، حيث قال: {لو اطلعت عليهم...} الآية، فلم يسمع، وقال: ما أنتهي حتى أعْلَم علمهم، فبعث ناسًا، وقال: اذهبوا فانظروا، ففعلوا، فلما دخلوا بعث الله ريحًا فأحرقتهم. اهـ.
الإشارة: للصوفية- رضي الله عنهم- تشبه قويّ بأهل الكهف، في الانقطاع إلى الله، والتجرد عن كل ما سواه، والانحياش إلى الله، والفرار من كل ما يشغل عن الله، والتماس الرحمة الخاصة من الله، وطلب التهيئة لكل رشد وصواب، ولهذا المعنى ختم الشيخ القطب ابن مشيش تصليته المشهورة بما دَعَوْا به، حين أووا إلى كهف الإيواء؛ تَشَبُّهًا بهم في مطلق الانقطاع والفرار من مواطن الحس. ولذلك لَمَّا تشبهوا بهم حفظهم الله- أي: الصوفية- ممن رام أذاهم، وغيّبهم عن حس أنفسهم، وأشهدهم عجائب لطفه وقدرته، ومن تمام التشبه بهم: أنك قلَّ أن تجد فرقة تُسافر منهم إلا ويتبعهم كلب يكون معهم، حتى شهدتُ ذلك في جُل أسفارنا مع الفقراء؛ تحقيقًا لكمال التشبيه. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (19- 20):

{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وكذلك} أي: وكما أنمناهم وحفظنا أجسادهم من البلاء والتحلل، وكان ذلك آية دالة على كمال قدرتنا، {بعثناهم} من النوم {ليتساءلوا بينهم} أي: ليسأل بعضُهم بعضًا، فيترتب عليه ما فصّل من الحِكَم البالغة، أو: ليتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم، فيزدادوا يقينًا على كمال قدرة الله، ويستبصروا أمر البعث، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم.
{قال قائلٌ منهم} هو رئيسهم، واسمه: مكْسلَيمنيا: {كم لبثتمْ} في منامكم؟ لعله قال ذلك؛ لِمَا رأى من مخالفة حالهم، لِمَا هو المعتاد في الجملة، {قالوا} أي: بعضهم: {لبثنا يومًا أو بعض يوم}، قيل: إنما قالوا ذلك؛ لأنهم دخلوا الكهف غُدوة، وكان انتباههم آخر النهار، فقالوا: {لبثنا يومًا}، فلما رأوا أن الشمس لم تغرب بعدُ قالوا: {أو بعض يوم}، وكان ذلك إخبارًا عن ظنِّ غالب، فلم يُعْزَوْا إلى الكذب.
{قالوا} أي: بعضٌ آخر منهم، بما سنح له من الأدلة، ولِمَا رأى من طول أظافرهم وشعورهم: {ربكُم أعلمُ بما لبثتم} أي: أنتم لا تعلمون مدة لبثكم، وإنما يعلمها الله- سبحانه-، وهذا رد منهم على الأولين بأجمل ما يكون من حسن الأدب، {فابعثوا أحَدكم بورقكم هذه إِلى المدينة}، أعرضوا عن البحث عن المدة، وأقبلوا على ما يهم في الوقت، والورق: الفضة، مضروبة أو غير مضروبة، ووصْفُها باسم الإشارة يقتضي أنها كانت معينة ليشتري بها قوت ذلك اليوم، وحملها دليل على أن التزود لا ينافي التوكل، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يتزود لغار حراء ليتعبد فيه. ثم قالوا: {فلينظر أيُّها} أي: أيُّ أهلها {أزكى طعامًا} أي: أحل وأطيب، أو أكثر وأرخص، {فليأتِكُمْ برزقٍ منه} أي: من ذلك الأزكى طعامًا، {وليتلطف}: وليتكلف اللطفَ في دخول المدينة وشراء الطعام، لئلا يُعرف، {ولا يُشْعِرَنَّ بكم أحدًا}؛ ولا يخبر بكم ولا بمكانكم أحدًا من أهل المدينة، أو: لا يفعل ما يؤدي إلى ذلك.
ثم علل النهي بقوله: {إِنهم إِن يَظْهَرُوا عليكم}: يطلعوا عليكم، أو يظفروا بكم، والضمير: للأهل المقدر في {أيها}، أي: إنَّ أهل المدينة إن يظفروا بكم {يَرجُموكم} إن ثبتم على ما أنتم عليه، {أو يُعيدوكم في مِلَّتهمْ} أي: يصيروكم إليها ويدخلوكم فيها؛ كرهًا، كقوله تعالى: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم: 13]، وقيل: كانوا على ملتهم ثم خالفوهم للحق. {ولن تُفلحوا إِذًا}؛ إن دخلتم فيها، ولو بالكره والجبر، {أبدًا}، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وفيه من التشديد والتحذير ما لا يخفى.
الإشارة: وكذلك بعثنا مَنْ توجه إلينا من نوم الغفلة والجهالة ليتساءلوا بينهم؛ ليتعرفوا ما أنعم الله به عليهم من اليقظة والنجاة من البطالة، فإذا انتبهوا من نوم الغفلة، استصغروا أيام البطالة؛ لأن أيام الغفلة قليلة أمدادها، وإن كثرت آمادها، وفي الحِكَم: (رب عمر اتسعت آماده، وقَلَّْتْ أمداده)، بخلاف زمان اليقظة، فإنه كثيرة أمداده، وإن قلّتْ آماده، فهو طويل؛ معنىً، وإن قلَّ؛ حسًا، ولذلك قال في الحِكَم أيضًا: ورب عمر قليلةٌ آماده، كثيرةٌ أمداده.
وقال أيضًا: من بورك له في عمره: أدرك في يسيرٍ من الزمان مِنْ مِنَن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ولا تلحقه الإشارة.
فإن توقفوا على قوت أشباحهم التمسوا أطيبه وأزكاه وأحله، فإنَّ أكل الحلال يُنور القلوب وينشط الأعضاء للطاعة، وتلطفوا في أخذه من غير مزاحمة ولا حرص ولا تعب، فإنْ أطلعهم الله على سره المكنون من أسرار ذاته بالغوا في إخفائه، حتى لا يُشْعروا به أحدًا من خلقه، غير من هو أهلٌ له؛ لأنهم، إن أظهروه لغيرهم، رجموهم أو أعادوهم إلى ملتهم، بأن يقهروهم إلى الرجوع عن طريق القوم، ولن يفلحوا إذًا أبدًا. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (21):

{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)}
قلت: {إذ يتنازعون}: ظرف لقوله: {أعثرنا}، لا ليعلموا، أي: أعثرنا هم عليهم حين يتنازعون بينهم... إلخ، و{رجمًا}: حال، أي: راجمين بالغيب، أو مفعول مُطلق، أي: يرجمون رجمًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وكذلك} أي: وكما أنمناهم وبعثناهم لازدياد يقينهم {أعْثَرْنا عليهم}: أطلعنا الناس عليهم {ليَعْلموا} أي: ليعلم القوم الذين كانوا في ذلك الوقت {أنَّ وعد الله} أي: وعده بالبعث والثواب والعقاب {حقٌّ} صادق لا خُلْف فيه، أو: ثابت لا مرد له؛ لأن نومهم وانتباههم كحال من يموت ثم يُبعث، {وأنَّ الساعة} أي: القيامة، التي هي عبارة عن وقت بعث الخلائق جميعًا؛ للحساب والجزاء، {لا ريبَ فيها}: لا شك في قيامها، فإنَّ مَنْ شاهد أنه جلّ وعلا تَوفَّى نفوسهم وأمسكها ثلاثمائة سنة وأكثر، حافظًا لأبدانها من التحلل والفساد، ثم أرسلها كما كانت، لا يبقى معه ريب، ولا يختلجه شك، في أن وعده تعالى حق، وأنه يبعث مَنْ في القبور، ويجازيهم بأعمالهم.
وكان ذلك الإعثار {إِذْ يتنازعون}: حين كانوا يتنازعون {بينهم أمْرَهُم}، في أمر البعث مختلفين فيه؛ ففرقة أقرّت، وفرقة جَحَدّتْ، وقائل يقول: تُبعث الأرواح فقط، وآخر يقول: تُبعث جميعُ الأجسام بالأرواح، قيل: كان ملك المدينة حينئذ رجلاً صالحًا، ملَكها ثمانيًا وعشرين سنة، ثم اختلف أهلُ مملكته في البعث كما تقدم، فدخل الملِكُ بيته وغلق الباب، ولبس مسحًا وجلس على رماد، وسأل ربه أن يظهر الحق، فألقى الله- عزّ وجلّ- في نفس رجل من ذلك البلد الذي فيه الكهف، أن يهدم بنيان فم الكهف، فهدم ما سدَّ به دقيانوس بابَ الكهفِ؛ ليتخذه حظيرة لغنمه، فعند ذلك بعثهم الله- تعالى- فجرى بينهم من التقاول ما جرى.
رُوِيَ أنَّ المبعوث لمَّا دخل المدينة؛ ليشتري الطعام، أخرج دراهمه، وكانت على ضرب (دقيانوس)، فاتهموه أنه وجد كنزاً، فذهبوا به إلى الملك، فقص عليه القصة، فقال بعضهم: إن آباءنا أخبرونا أن فتية فروا بدينهم من (دقيانوس)، فلعلهم هؤلاء، فانطلق الملكُ وأهلُ المدينة؛ من مسلم وكافر، فدخلوا عليهم وكلموهم، ثم قالت الفتية للملك: نُودعك الله ونعيذك به من الإنس والجن، ثم رجعوا إلى مضاجعهم، فماتوا، فألقى المَلِكُ عليهم ثيابه، وجعل لكل منهم تابوتًا من ذهب، فرآهم في المنام كارهين للذهب، فجعلها من الساج، وبنى على باب الكهف مسجدًا. وقيل: لما انتهوا إلى الكهف قال لهم الفتى: مكانَكَم حتى أدخل أولاً؛ لئلا يفزعوا، فدخل، فَعُمِّي عليهم المدخل، فبنوا ثَمَّةَ مسجدًا.
وقيل: المتنازَع فيه: أمر الفتية قبل بعثهم، أي: أعثرنا عليهم حين يتذاكرون بينهم أمرهم، وما جرى بينهم وبين دقيانوس من الأحوال والأهوال، ويتلقون ذلك من الأساطير وأفواه الرجال.
وعلى التقديرين: فالفاء في قوله: {فقالوا ابنُوا} فصيحة، أي: أعثرنا عليهم فرأوا ما رأوا، ثم ماتوا، فقال بعضهم: {ابنوا عليهم}: على باب كهفهم {بُنيانًا}؛ لئلا يتطرق إليهم الناس، ففعلوا ذلك؛ ضنًا بمقامهم ومحافظة عليهم.
ثم قالوا: {ربهم أعلمُ بهم}، كأنهم لما عجزوا عن إدراك حقيقة حالهم؛ من حيث النسبة، ومن حيث العدد، ومن حيث بُعد اللبث في الكهف، قالوا ذلك؛ تفويضًا إلى علام الغيوب. أو: يكون من كلامه سبحانه؛ ردًا لقول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين، {قال الذين غلبوا على أمرهم}، وهو الملك والمسلمون، وكانوا غالبين في ذلك الوقت: {لنَتَّخِذَنَّ عليهم مسجدًا}، فذكر في القصة أنه جعل على باب الكهف مسجدًا يصلي فيه.
ثم وقع الخوض في عهد نبينا- عليه الصلاة والسلام- بين نصارى نجران حين قدموا المدينة، فجرى بينهم ذكر أهل الكهف وبين المسلمين في عددهم، كما قال تعالى: {سيقولون ثلاثةٌ رابعُهُم كلبهم}، وهو قول اليعقوبية من النصارى، وكبيرهم السيد، وقيل: قالته اليهود، {ويقولون خمسة سادِسُهم كلبهُم}، هو قول النسطورية منهم، وكبيرهم العاقب، {رجمًا بالغيب}: رميًا بالخبر من غير اطلاع على حقيقة الأمر، أو ظنًا بالغيب من غير تحقيق، {ويقولون سبعة وثامنهمْ كلبهم}، وهو ما يقوله المسلمون بطريق التلقي من هذا الوحي، وعدم نظمه في سلك الرجم بالغيب، وتغيير سبكه؛ بزيادة الواو المفيدة لزيادةِ تأكيد النسبة فيما بين طرفيها، يَقضي بصحته.
قال تعالى: {قل} يا محمد؛ تحقيقًا للحق، وردًا على الأولين: {ربي أعلم بعدَّتهم} أي: ربي أقوى علمًا بعدتهم، {ما يعلمهم} أي: ما يعلم عددهم {إِلا قليلٌ} من الناس، قد وفقهم الله تعالى للاطلاع عليهم بالدلائل أو بالإلهام. قال ابن عباس رضي الله عنه: أنا من ذلك القليل، قال: حين وقعت الواو انقطعت العدة، وأيضًا حين سكت عنه تعالى ولم يقل: رجمًا بالغيب، علم أنه حق. وعن علي- كرم الله وجهه-: أنهم سبعة، أسماؤهم: يمليخا، وهو الذي ذهب بورقهم، ومكسيلمينيا، وهو أكبرهم والمتكلم عنهم، ومشلينا، وفي رواية الطبري: ومجْسَيْسِيا بدله، وهؤلاء أصحاب يمين الملك، وكان عن يساره: مرنوش ودبرنوش وجشاذنوس، وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره، والسابع: الراعي الذي تبعهم حين هربوا من دقيانوس، واسمه: كفشططيوش. وذكر ابن عطية عن الطبري غير هؤلاء، وكلهم عجميون، قال: والسندُ في معرفتهم واهْ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: عادة الحق تعالى في أوليائه أن يُخْفِيهم أولاً عن أعين الناس، رحمةً بهم؛ إذ لو أظهرهم في البدايات؛ لفتنوهم وردوهم إلى ما كانوا عليه، حتى إذا تخلصوا من البقايا، وتمكنوا من معرفة الحق وشهوده، أعثر عليهم من أراد سعادته ووصوله إلى حضرته؛ ليعلموا أن وعد الله بإبقاء العدد الذين يحفظ الله بهم نظام العالم في كل زمان حق، وأنّ خراب العالم بانقراضهم، وقيام الساعة لا ريب فيه. وفي الآية تنبيه على ذم الخوض بما لا علم للعبد به، ومدح من رد العلم إلى الله في كل شيء. والله تعالى أعلم.