فصل: تفسير الآية رقم (36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (29):

{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)}
يقول الحق جل جلاله للمؤمنين: {قاتِلوا} أهل الكتاب من اليهود والنصارى {الذين لا يؤمنون بالله} على ما يجب له، لإشراكهم عُزير وعيسى، ولتجسيمهم، {ولا باليوم الآخر}؛ لأنهم ينكرون المعاد الجسماني، فإيمانهم في الجانبين كلا إيمان {ولا يحرِّمون ما حرَّمَ الله ورسولُه} محمّد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يحلون الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير، وغير ذلك مما حرمته الشريعة المحمدية، {ولا يَدينونَ دينَ الحق} أي: لا يدخلون في الإسلام، الذي هو الدين الحق، الناسخ لسائر الأديان ومبطلها.
ثم بيَّن الذين أّمر اللَّهُ بقتالهم بقوله: {من الذين أوتوا الكتاب}؛ وهم اليهود والنصارى، وحين نزلت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزوة تبوك لقتال النصارى، ووصل إلى أوائل بلد العدو، فصالح أهل أدرج وأيلة، وغيرهما، على الجزية وانصرف، ذلك امتثال للآية.
قال تعالى: {حتى يُعطوا الجزبة} أي: ما تقرر عليهم أن يعطوه، وقدْرها عند مالك: أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهماً على أهل الورق، يؤخذ ذلك من كل رأس، واتفق العلماء على قبول الجزية من اليهود والنصارى، ويلحق بهم المجوس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «سُنُّوا بِهِمْ سُنًّةَ أَهْلِ الكتاب» لأن لهم شبهة كتاب، فألحقوا بهم. واختلفوا في قبولها من عَبدة الأوثان؛ قال مالك: تؤخذ من كل كافر إلا المرتد، ولا تؤخذ من النساء والصبيان والمجانين.
وقوله تعالى: {عن يدٍ} أي: يباشر إعطاءها بيده، لا يبعثها مع أحد، أو لا يمطل بها، كقولك: يداً بيد، أو عن استسلام وانقياد، كقولك: ألقى فلان بيده. {وهم صاغرون}؛ أذلاء محقرون. وعن ابن عباس رضي الله عنه: تؤخذ الجزية من الذمي، وتوجأ عنقه، أي: تصفع.
الإشارة: يؤمر المريد بقتل نفسه وحظوظه وهواه، وأعظمها: حب الدنيا والرئاسة والجاه، ولا يزال يخالف هواها، ويعكس مراداتها، ويحملها ما يثقل عليها، حتى تنقاد إليه بالكلية، بحيث لا يثقل عليه شيء، ويستوي عندها العز والذل، والفقر والغنى، والمدح والذم، والمنع والعطاء، والفقد والوجد، فإن استوت عندها الأحوال فقد أسلمت وأعطت ما يجب عليها، فيجب حفظها ورعايتها، وتصديقها فيما يرد عليها. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (30- 33):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}
قلت: {عزيز}: مبتدأ، و{ابن الله}: خبر، فمن نونه جعله مصروفاً؛ لأنه عنده عربي، ومن حذف تنوينه: إما لمنعه من الصرف؛ للعلمية والعجمية عنده، وإما لالتقاء الساكنين؛ تشبيهاً للنون بحروف اللين، وهو ضعيف، والأول أحسن.
يقول الحق جل جلاله: {وقالت اليهودُ عُزَيرٌ ابنُ الله}، قال ابن عباس: هذه المقالة قالها أربعة منهم، وهم: سَلامُ بن مُشْكم، ونُعْمَانُ أو لُقْمَانُ بْنُ أَوفَى، وشَاسُ بنُ قَيس، وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ. وقيل: لم يقلها إلا فنحاص، ونسب ذلك لجميعهم؛ لسكوتهم عنه. قال البيضاوي: إنما قال ذلك بعضهم من متقدميهم، أو ممن كانوا بالمدينة، وإنما قالوا ذلك؛ لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة بختنصر من يحفظ التوراة، وهو أي عزير لما أحياه الله بعد مائة عام، أملى عليهم التوراة حفظاً، فتعجبوا من ذلك، وقالوا: ما هذا إلا أنه ابن الله، والدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية قُرئت عليهم فلم يكذبوا مع تهالكهم على التكذيب. اهـ.
{وقالت النصارى المسيحُ ابنُ الله}، هو أيضاً قول بعضهم، وإنما قالوه استحالة أن يكون الولد بلا أب، أو لما كان يفعل من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، وتقدم الرد عليهم، وسبب إدخال هذه الشبهة عليهم، في سورة المائدة.
قال تعالى: {ذلك قولُهم بأفواههم} من غير دليل ولا برهان، بل قالوا به من عندهم {يُضاهِئون} أي: يشابهون في هذه المقالة {قولَ الذين كفروا من قبلُ}، يعني: قدماءهم، على معنى أن الكفر قديم فيهم. قال ابن جزي: فإن كان الضمير لليهود والنصارى، أي المتقدمين، فالإشارة بقوله: {الذين كفروا من قبل} للمشركين من الغرب، إذ قالوا: الملائكة بنات الله، وهم أول كافر، أو للصابئين، أو لأمم تقدمت، وإن كان الضمير للمعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم؛ من اليهود والنصارى، فالذين كفروا من قبل هم أسلافهم المتقدمون. اهـ.
{قاتَلهُم اللَّهُ} أي: أهلكهم ودمرهم؛ لأن من قاتله الله هلك، فيكون دعاء، أو تعجباً من شناعة قولهم، {أنَى يُؤفكون} أي: كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل.
{اتخذوا أحبارَهم} أي: علماءَهم {ورهبانَهم}؛ عُبَّادَهم {أرباباً من دون الله}؛ بأن أطاعوهم في تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله، وفي السجود لهم، {والمسيحَ ابنَ مريمَ}؛ بأن جعلوه ابن الله، {وما أمروا إلا ليعبدوا إِلهاً واحداً} وهو الله الواحد الحق، وأما طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام وسائر من أمر بطاعته، فهو في الحقيقة طاعة الله، {لا إله إلا هو}؛ تقرير للتوحيد، {سبحانه عما يشركون}؛ تنزيهاً له عن أن يكون معه شريك.
{يريدون أن يُطفئوا} أي: يُخمدوا {نورَ الله}؛ القرآن أو الإسلام بجملته، {بأفواههم} كقولهم فيه: سحر، وشعر، وغير ذلك، وفيه إشارة إلى ضعف حيلتهم فيما أرادوا، {ويأبى اللَّهُ}؛ لا يرضى {إلا أن يُتِمَ نوره} بإعلاء التوحيد وإظهار الإسلام، وإعزاز القرآن وأهله، {ولو كره الكافرون} ذلك، فإن الله لا محالة يُتم نوره، ويظهر دينه.
{هو الذي أرسلَ رسولهُ} محمداً صلى الله عليه وسلم {بالهدى ودين الحق ليُظهرَهُ على الدين كله}، الضمير في يُظهره. للدين الحق، أو للرسول صلى الله عليه وسلم. واللام في {الدين}. للجنس، أي: على سائر الأديان فينسخها، أو على أهلها فيخذلهم، وقد أنجز وعده، وأظهر دينه ورسوله على الأديان كلها، حتى عم المشارق والمغارب، {ولو كَرِهَ المشركون} ذلك الإظهار، فيظهره الله رغماً من أنفهم. وقيل: يتحقق ذلك عند نزول عيسى عليه السلام، حتى لا يبقى دين إلا دين الإسلام، والله تعالى أعلم.
الإشارة: من انطمس نور بصيرته نسب لله ما لا يليق بكمالاته، ومن لم تنهضه سوابق العناية وقف مع الوسائط ولم ينفذ إلى شهود الوسائط، وقد عيَّر الله قوماً وقفوا مع الوسائط فقال: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}، وقال، في شأن الواسطة العظمى؛ غيرةً على القلوب أن تقف مع غيره: {ليسَ لَكَ مِنَ الأَمرِ شَيء} [آل عمران: 128]، {إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ} [هود: 12]، ودخل بعض العارفين على إنسان وهو يبكي، فقال: وما يبكيك؟ فقال له: مات أستاذي، فقال له ذلك العارف: ولم جعلت أستاذك من يموت؟.
فالوسائط؛ كالأنبياء والأولياء، إنما هم مُوَصِّلونَ إلى الله، دالون عليه، فمن وقف معهم ولم ينفذ إلى الله فقد اتخذه رباً عند الخواص.
وقال الورتجبي على هذه الآية: عيَّر الحق تعالى من بقي في رؤية المقتدَى به دون رؤية الحق، وإن كان وسيلة منه، فإن في إفراد القدم من الحدوث، النظر إلى الوسائط، وهو شرك، وتصديق ذلك تمام الآية؛ {وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً}. غَيرهُ الوحدانية ما أبقت في البَيْن غيراً من الشواهد والآيات وجميع الخلق. قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرهُم} [الأنعام: 91]. ولما رأى صلى الله عليه وسلم غيره القدم على شأن استهلاك الغير زجر من مدحه وتجاوز في المدح فقال: «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح».
ثم قال الورتجبي: قال بعضهم في هذه الآية: سكنوا إلى أمثالهم، فطلبوا الحق من غير مظانه، وطُرق الحق واضحة لمن كحل بنور التوفيق، وبصر سبل التحقيق، ومن أعمي عن ذلك كان مردوداً عن طريق الحق إلى طرق الضالين من الخلق، وقد وقع أنهم معيرون وموبخون بقلة عرفانهم أهل الحقائق، وركونهم إلى أهل التقليد، وسقطوا عن منازل أهل التوحيد في التفريد، وهكذا شأن من اقتدى بالزّواقين من أهل السالوس المتزينين بزي المشايخ والعارفين المتحققين، وتخلفَ خلفَ الجامعين للدنيا، الذين يقولون: نحن أبناء المشايخ ونحن رؤساء الطريقة، يُضْحك اللهُ الدهرَ من جهلهم حيث حيث علموا أن الولاية بالنسب، حاشا أن من لم يُذق طعمِ وِصال الله، وقلبُه معلق بغير الله، هو من أولياء الله.
قال الجنيد: إذا أراد الله بالمريد خيراً هداه إلى صحبة الصوفية، ووقاه من صحبة القراء. ولو اشتغلوا بشأنهم وجمع دنياهم، ولم يتعرضوا لأولياء الله، ولم يقصدوا إسقاط جاههم، لكفيهم شقاوتهم، لاسيما ويطعنون على الصديقين العارفين. قال الله في شأنهم: {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون}، كيف تطفأ بتراب حسبانهم أنوارُ شموس الصفات، التي من جباه وجوههم، ولئالئ خدودهم، وأصلها ثابت في أفلاك الوحدانية وسماوات القيومية، ويزيد نورهم على نور؛ لأنه تعالى بلا نهاية ولا منتهى لصفاته.
قوله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق}: إن الله سبحانه سن سنة أزلية: ألا يجد أحدٌ سبيله إلا من يقُيض له أستاذاً عارفاً بالله، وبسِّر دينه وربوبيته، فيدله إلى منهاج عبوديته، ومعارج روحه وقلبه، إلى مشاهدة ربوبيته، ويكون هو واسطة بينه وبين الله، وإن كان الفضل بيد الله، يؤتيه من يشاء بغير علة ولا سبب، جعله واسطة للتأديب لا للتقريب، وصيره شفيعاً للجنايات، لا شريكاً في الهدايات، هداه نور القرآن، وبيّنه حقيقة البيان، مع إظهار البرهان. قيل: جعل الله الوسائط طريقاً لعباده إليه، وبعثهم أعلاماً على الطرق ونوراً يهتدى بهم، وعرفهم سبل الحق وحقيقة الدين، قال الله تعالى: {أرسل رسوله بالهدى ودين الحق}، انتهى كلامه.

.تفسير الآيات (34- 35):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)}
قلت: {يحمى عليها}: الجار والمجرور: نائب الفاعل، وأصله: يوم تحمى النار الشديدة الحمى عليها، فجعل الإحماء للنار؛ مبالغةً، ثم حذفت النار، وأسند الفعل إلى الجار والمجرور؛ تنبيهاً على المقصود، فانتقل من صيغة التأنيث إلى صيغة التذكير.
يقول الحق جل جلاله: {يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموالَ الناس بالباطل}؛ يأخذونها بالرشا في الأحكام، وسَمى أخذ المال أكلاً؛ لأنه الغرض الأعظم منه، {ويصدون عن سبيل الله} أي: يعوقون الناس عن الدخول في دينه، {والذين يكنزون الذهبَ والفِضةَ} أي: يدخرونها {ولا يُنفقونها} أي: الأموال المفهومة من الذهب والفضة، أو الكنوز، أو الفضة، واكتفى بذكرها عن الذهب؛ إذ الحُكم واحد، {فبشِّرهم بعذاب أليم}؛ وهو الكي بها، وهذا الحكم يحتمل أن يرجع لكثير من الأحبار والرهبان، فيكون مبالغة في وصفهم، بالحرص على المال وجمعه، وأن يراد به المسلمون الذين يجمعون الأموال، ويقتنونها ولا يؤدون حقها، ويكون اقترانه بأكلة الرشا من أهل الكتب؛ للتغليظ. ويدل عليه: أنه لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «إِنَّ الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيِّبَ بها ما بقي من أموالكم». وقوله عليه الصلاة والسلام: «ما أدى زَكَاته فَلَيْسَ بِكَنْز». وقال أبو ذر وجماعة من الزهاد: كل ما فضل عن حاجة الإنسان فهو كنز، وحمل الآية عليه.
ثم ذكر وعيدهم فقال: {يوم يُحمَى عليها} أي: على الأموال المكنوزة، {في نار جهنم} أي: يوم توقد النار ذات الحمى الشديد عليها، حتى تكون صفيحة واحدة، {فتُكوى بها جباهُهم وجنوبهم وظهورهُم}، خصهم بالعذَاب، لأنهم كانوا يعرضون عن السائل، ويُولون ظهره، فيعرضون عنه بجباههم وجنوبهم. أو لأنها أشرف الأعضاء، لاشتمالها على الدِّماغ والقلب والكبد. أو لأنها أصول الجهات الأربع، التي هي مقادم الإنسان؛ مؤخره وجنبتاه.
يقال لهم: {هذا ما كنزتم لأنفسكم} أي: لمنفعتها، وكان عينَ مضرتها وسببَ تعذيبها، {فذُوقوا ما كنتم تكنِزُون} أي: وبال كنزكم، أو ما كنتم تكنزونه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ صَاحِب ذهبٍ ولا فضْةٍ لا يُؤدِّي منها حقّها إلاّ إذا كان يومُ القيامة صُفحت له صفائح من نَار، فأحمي عليها من نار جهنم، فيُكوى بها جبينُه وجنبه وظهرُه، كلما بردت أُعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله: إما إلى الجنة وإما إلى النار». رواه مسلم بطوله.
قال ابن عطية: روي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: قد ذم الله تعالى كسب الذهب والفضة، فلو علمنا أي المال خير حتى نَكْسبه؟ فقال عمر: أنا أَسأل لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله، فقال: «لِسان ذاكر، وقلب شَاكر، وزَوْجَة تُعينُ المرء على دينهِ». ورُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال، لما نزلت الآية: «تَبّاً للذَّهَبِ والفِضَّةِ». فحينئذٍ أشفق أصحابه، وقالوا ما تقدم. اهـ. لابن حجر.
من خير ما يتخذ الإنسانُ ** في دنياه كيما يستقيمَ دينُه

قلبٌ شكور ولسانٌ ذاكر ** وزوجةٌ صالحة تُعينُه

وهو نظم لهذا الحديث، وقد تكلم عليه في المجامع وشرحِه. قاله المحشي.
الإشارة: هذه الآية تغبُر في وجوه علماء السوء، الذين يتساهلون في أكل الدنيا بالعلم، كقبض الرشا، وقبض ما فوق أجرته في الأحكام، فترى بعض قضاة الجور يقبضون المثاقيل على إنزال يده على الحكم، مع أنه واجب عليه، حيث تعين عليه بنصب الإمام له، وتجر ذيلها على أغنياء الدنيا، الذين يجمعون الأموال ويكنزونها، فترى أحدهم ينفق في نزهته وشهوة نفسه الأموال العريضة، وإذا أتاه فقير يسأله درهماً أو درهمين، تَمَعَّر وجهه، وتغير لونه، فبشرهم بعذاب أليم. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (36):

{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)}
قلت: {عند الله}: معمول لعدة؛ لأنها مصدر، و{في كتاب الله}: صفة لاثني عشر، و{يوم}: متعلق بالثبوت المقدر في الخبر، أي: ثابتة في كتاب الله يوم خلق الأكوان والزمان. وقوله: {منها}: أي: الأشهر، ثم قال: {فيهن}. وضابط الضمير إن عاد على الجماعة المؤنثة، حقيقة أو مجازاً، إن كانت أكثر من عشرة، قلتَ: منها وفيها، وإن كانت أقل من عشرة، قلت: منهن وفيهن، قال تعالى: {يَأكُلُهُنّ} [يوسف: 46] وقال هنا: {فيهن}. انظر الإتقان. و{كافة}: حال من الفاعل أو المفعول.
يقول الحق جل جلاله: {إِنَّ عِدَّة الشهور} في كل سنة {عند الله}؛ في علم تقديره، {اثنا عشرَ شهراً}: أولها المحرم، وآخرها ذو الحجة. وأول من جعل أولها المحرم: عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وهذه العدة ثابتة {في كتاب الله}؛ اللوح المحفوظ، أو في حكمه، أو القرآن، {يومَ خَلَقَ السموات والأرض}، هذا أمر ثابت في نفس الأمر منذ خلق الله الأجرام والأزمنة، {منها} أي: الأشهر {أربعة حُرُم}، واحد فرد، وهو رجب، وثلاثة سَرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، {ذلك الدين القيم} أي: تحريم الأشهر الحرم هو الدين القويم، دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وتمسكت به العرب حتى غيَّره بعضهم بالنسيء، {فلا تظلموا فيهن أنفسَكم}؛ بهتك حرمتها والقتال فيها، ثم نسخ بقوله: {وقاتلوا المشركين كافةً} أي: في الأزمنة كلها؛ {كما يُقاتلونكم كافة}؛ لأنهم، إن قاتلتموهم فيها قاتلوكم فهذا نسخ لتحريم القتال في الأشهر الحرم.
وقال عطاء: لا يحل للناس أن يغزوا في الأشهر الحرم، ولا في الحَرم، إلا أن يُبدئوا بالقتال، ويرده غزوه صلى الله عليه وسلم حُنيناً والطائف في شوال وذي القعدة. {واعلموا أن الله مع المتقين} بالنصر والمعونة، وفيه بشارة وضمان لهم بالنصر بسبب تقواهم.
الإشارة: أهل الفهم عن الله: الأزمنةُ كلها عندهم حُرُم، والأمكنة كلها عندهم حَرامٌ، فهم يحترمون أوقاتهم ويغتنمون ساعاتهم لئلا تضيع. قال الحسن البصري: أدركت أقواماً كانوا على ساعاتهم أشفق منكم على دنانيركم ودراهيمكم، يقول: كما لا يخرج أحدكم ديناراً ولا درهماً إلا فيما يعود عليهم نفعه، كذلك لا يحبون أن يخرجوا ساعة من أعمارهم إلا فيما يعود عليهم نفعة وقال الجنيد رضي الله عنه: الوقت إذا فات لا يُستدرك، وليس شيء أعز من الوقت. اهـ.
وكل جزء يحصل له من العمر غير خال من عمل صالح، يتوصل به إلى مُلْك كبير لا يفنى، ولا قيمة لما يوصل إلى ذلك؛ لأنه في غاية الشرف والنفاسة، ولأجل هذا عظمت مراعاة السلف الصالح لأنفسهم، ولحظاتهم، وبادروا إلى اغتنام ساعاتهم وأوقاتهم، ولم يضيعوا أعمارهم في البطالة والتقصير، ولم يقنعوا من أنفسهم لمولاهم إلا بالجد والتشمير، وإلى هذه الإشارة بقوله: {فلا تظلموا فيهن أنفسكم}؛ بتضييعها في غير ما يقرب إلى الله. ثم أمر بجهاد القواطع، التي تترك العبد في مقام الشرك الخفي، وبَشَّرهُم بكونه معهم بالنصر والتأييد، والمعونة والتسديد.