فصل: تفسير الآية رقم (5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (5):

{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}
يقول الحق جل جلاله: {فإذا انسلخ الأشهر} أي: انقضى الأشهر، {الحُرم} وهي الأربعة التي امهلهم فيها، فمن قال: إنها شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، فهي الحرم المعروفة، زاد فيها شوال، ونقص رجب، وسميت حرماً؛ تغليباً للأكثر، ومن قال: إنها ذو الحجة إلى ربيع الثاني، فسميت حرماً؛ لحرمتها ومنع القتال فيها حينئذٍ. وغلط من قال: إنها الأشهر الحرم المعلومة؛ لإخلاله بنظم الكلام ومخالفته للإجماع؛ لأنه يقتضي بقاء حرمة الأشهر الحرم. انظر البيضاوي.
فإذا انقضت الأربعة التي أمهلتهم فيها {فاقتلوا المشركين} الناكثين {حيث وجدتموهم} من حل أو حرم، {وخُذوهم} أسارى، يقال للأسير: أخيذ، {واحصروهم}؛ واحبسوهم {واقعدوا لهم كل مرصد}؛ كل ممر وطريق؛ لئلا ينبسطوا في البلاد، {فإن تابوا} عن الشرك وآمنوا، {وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة}؛ تصديقاً لتوبتهم وإيمانهم؛ {فخلوا سبيلهم} أي؛ فدعوهم ولا تتعرضوا لهم بشيء من ذلك.
وفيه دليل على ان تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلى سبيله، بل يقاتل؛ كما فعل الصديق رضي الله عنه بأهل الردة. والآية: في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أُقَاتِل النَّاس حتَّى يَقُولوا لا إله إلا الله، ويُقيموا الصَّلاة ويُؤتوا الزَّكَاةَ...» الحديث.
{أن الله غفور رحيم}، هو تعليل لعدم التعرض لمن تاب، أي: فخلوهم؛ لأن الله قد غفر لهم، ورحمهم بسبب توبتهم.
الإشارة: فإذا انقضت ايام الغفلة والبطالة التي احترقت النفس فيها، فاقتلوا النفوس والقواطع والعلائق حيث وجدتموهم، وخذوا أعداءكم من النفس والشيطان والهوى، واحصروهم، واقعدوا لهم كل مرصد يتعرضون فيه لكم، فإن أذعنوا، وانقادوا، وألقوا السلاح، فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم.

.تفسير الآية رقم (6):

{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)}
قلت: {أحد}: فاعل يفسره: {استجارك}.
يقول الحق جل جلاله: {وإنْ} أتاك {أحدٌ من المشركين} المأمورين بالتعرض لهم، حيثما وجدوا، {استجاركَ}؛ يطلب جوارك، ويستأمنك، {فأجِرْهُ} أي: فأمنهُ؛ {حتى يسمع كلامَ الله} ويتدبره، ويطلع على حقيقة الأمر، لعله يُسلم، {ثم أبلغه مأمنه} أي: موضع أمنه إن لم يسلم، ولا تترك أحداً يتعرض له حتى يبلغ محل أمنه؛ {ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون} أي: ذلك الأمر الذي أمرتك به بسبب أنهم قوم لا علم لهم بحقيقة الإيمان، ولا تدعوهم إليه، فلابد من إيجارهم، لعلهم يسمعون ويتدبرون؛ فيكون ذلك سبب إيمانهم.
الإشارة: وإن استجارك أيها العارف أحد من عوام المسلمين ممن لم يدخل معكم بلاد الحقائق، وأراد أن يسمع شيئاً من علوم القوم، فأجره حتى يسمع شيئاً من علومهم وأسرارهم، فلعل ذلك يكون سبباً في دخوله في طريق القوم. ولا ينبغي للفقراء أن يطردوا من يأتيهم من العوام، بل يتلطفوا معهم، ويسمعوهم ما يليق بحالهم؛ لأنَّ العوام لا علم لهم بما للخواص، فإن اطلعوا على ما خصهم الله به من العلوم دخلوا معهم، إن سبق لهم شيء من الخصوصية.
وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه: لا ينبغي لأهل الخصوصية أن يدخلوا بلد العموم إلا في جوار أحد منهم، وإلاّ أنكرته البلد؛ لأن البلد أم تغير على غير أبنائها، ولا ينبغي أيضاً للعموم أن يدخلوا بلد الخصوص إلا في جوار رجل منهم، وإلا أنكرته البلد. اهـ.

.تفسير الآيات (7- 11):

{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)}
قلت: {إلا الذين}: محله النصب على الاستثناء، أو جر على البدل من المشركين، أو رفع على الانقطاع، أي: لكن الذين عاهدتم فما استقاموا لكم، و(الإل): القرابة والحِلف، وحذف الفعل في قوله: {كيف وإن يظهروا عليكم}؛ للعلم به بما تقدم، أي: كيف يكون لهم عهد والحال أنهم إن يظهروا عليكم... إلخ.
يقول الحق جل جلاله: في استبعاد العهد من المشركين والوفاء به: {كيف يكونُ للمشركين عهدٌ عند الله وعندَ رسوله}؟ مع شدة حقدهم وعداوتهم للرسول وللمسلمين، مع ما تقدم لهم من النقض والخيانة فيه، {إلا الذين عاهدتُّم عند المسجد الحرام} قيل: هم المستثنون قبلُ. وقال ابن اسحاق: هي قبائل بني بكر، كانوا دخلوا وقت الحديبية، في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فلم يكن نقض إلا قريش وبنو الديل من بني بكر، فأُمر المسلمون بإتمام العهد لمن لم يكن نقض. وقال ابن عباس: هم قريش، وقال مجاهد: خزاعة، وفي القولين نظر؛ لأن قريشاً وخزاعة كانوا أسلموا وقت الأذان؛ لأنهم أسلموا في الفتح، والأذان بعده بسنة.
قال تعالى في شأن من استثنى: {فما استقاموا لكم} على العهد ولم يغدروا، {فاستقيمُوا لهم} على الوفاء، أي: تربصوا بهم وانتظروا أمرهم، فإن استقاموا لكم فاستقيموا لهم، {إِن الله يحب المتقين} الذين إذا عاهدوا وفوا، وإذا قالوا صدقوا.
ثم كرر استبعاد وفائهم فقال: {كيف} يصح منهم الوفاء بعهدكم {و} هم {إن يظهرُوا عليكم} ويظفروا بكم في وقعة {لا يرقُبوا} أي: لا يراعوا {فيكم إلاَّ}؛ قرابة أو حلفاً، وقيل: ربوبية، أي: لا يراعون فيكم عظمة الربوبية ولا يخافون عقابه، {ولا ذمَّةً} أي: عهداً، أو حقاً يعاب على إغفاله، {يُرضونكم بأفواههم}؛ بأن يعدوكم بالإيمان والطاعة، والوفاء بالعهد، في الحال، مع استبطان الكفر والغدْر، {وتأبى} أي: تمنع {قلوبهم} ما تفوه به أفواههم، {وأكثرهم فاسقون} متمردون، لا عقيدة تزجرهم، ولا مروءة تردعهم، وتخصيص الأكثر؛ لما في بعض الكفرة من التمادي على العهد، والتعفف عما يجر إلى احدوثة السوء. قاله البيضاوي.
{اشْتَروا بآيات الله} أي: استبدلوا بها {ثمناً قليلاً} أي: عرضاً يسيراً، وهو اتباع الأهواء والشهوات، {فصدُّوا عن سبيله}؛ دينه المُوصل إليه، أو بيته بصد الحجاج عنه. {إنهم ساء ما كانوا يعملون} أيْ: قبح عملهم هذا، أو ساء ما كانوا يعملون من كونهم {لا يرقبون في مؤمن إلاَّ ولا ذمة}؛ فيكون تفسيراً لعملهم السوء، لا تكريراً. وقيل: الأول في الناقضين العهد، وهذا خاص بالذين اشتروا، وهم اليهود، أو الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطمعهم.
وقوله تعالى؛ {في مؤمن}: فيه إشارة إلى أن عداوتهم إنما هي لأجل الإيمان فقط، وقوله أولاً: {فيكم}، كان يحتمل أن يظن ظان أن ذلك للإحن التي وقعت بينهم، فزال هذا الاحتمال بقوله: {في مؤمن}.
قاله ابن عطية: {وأولئك هم المعتدون} في الشرارة والقبح. {فإن تابوا} عن الكفر، {وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين}؛ لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، {ونفصّلُ الآيات لقوم يعلمون}، حث على تأمل ما فصل من أحكام المعاهدين وخصال التائبين. قاله البيضاوي.
الإشارة: لا ينبغي للخواص أن يثقوا بمحبة العوام، ولا يغتروا بما يسمعون من عهودهم، فإن محبتهم على الحروف، مهما رأوا خلاف ما أملوا من حروفهم، وأطماعهم، نكثوا وأدبروا، فللعارف غِنّى بالله عنهم. وفي ذلك يقول سيدنا علي كرم الله وجهه:
مَا الفَخْرُ إِلاَّ لأَهْلِ العِلْمِ إِنَّهُمُ ** عَلَى الهُدَى لمن اسْتَهْدَى أدلاَّءُ

وَقَدْرُ كل امرئ مَا كَانَ يُحسنهُ ** والجَاهِلُون لأَهْلِ العلْمٍ أَعْدَاءُ

.تفسير الآيات (12- 15):

{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)}
يقول الحق جل جلاله: {وإن نكثُوا أَيمانَهم} أي: نقضوها {من بعدِ عهدهم} أي: من بعد ما أعطوكم من العهود على الوفاء بها، {وطعنوا في دينكم} بصريح التكذيب وتقبيح الأحكام، {فقاتِلُوا أئمّةَ الكفر} أي: فقاتلوهم لأنهم أئمة الكفر، فوضع أئمة الكفر موضع الضمير؛ للدلالة على أنهم صاروا بذلك ذوي الرئاسة والتقدم في الكفر، فهم أحِقاء بالقتل، وقيل: المراد رؤساء المشركين، والتخصيص: إما لأن قتلهم أهم وهم أحق به، أو للمنع من مراقبتهم، {إنهم لا أَيمان لهم} على الحقيقة، وإلاًَّ لم يقدروا أن ينكثوها، واستشهد به الحنفية على أن يمين الكافر لا تلزم، وهو ضعيف؛ لأن المراد، نفي الوثوق عليها، لا أنها ليست بأيمان. قاله البيضاوي. قلت: وما قالته الحَنَفِيِّةُ هو مذهب المالكية، إذا حنث في حال الكفر، ثم أسلم، فلا يلزمه شيء. وقرأ ابن عامر بكسر الهمزة، أي: لا أيمان لهم صحيحاً يعصم دماءهم.
{لعلهم ينتهون} أي: ليكن غرضكم في مقاتلتهم أن ينتهوا عما هم عليه، كما هي طريقة أهل الإخلاص لا إيصال الإذاية لهم، أو مقابلة عداوة.
ثم حضَّ على قتالهم فقال: {أَلاَ تُقاتِلُون قوماً نَكَثُوا أَيمانهم} التي حلفوها للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين على ألا يعاونوا عليهم، فعاونوا بني بكر على خزاعة، {وهمّوا بإخراج الرسول} حين تشاوروا في أمره بدار الندوة على ما مرّ، {وهم بدؤوكم أول مرة} بالمعاداة والمقاتلة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بدأهم بالدعوة، وإلزام الحجة بالكتاب والتحدي به، فعدلوا عن معارضته إلى المعاداة والمقاتلة، فما يمنعكم أن تعارضوهم وتصادموهم، {أتخشونهم} أي: أتهابون قتالهم حتى تتركوا أمري، {فالله أحقُّ أن تخشَوه إن كنتم مؤمنين}؛ فإن قضية الإيمان ألا يُخاف إلا منه.
ثم وعدهم بالنصر فقال: {قاتلوهم يُعذِّبْهُم الله بأيديكم ويُخْزِهِمْ}؛ يُهنهم بالقتل والأسر، {وينصركُمْ عليهم}، فيمكنكم من رقابهم، ويملككم أموالهم ونساءهم، {وَيشْفِ صدورَ قومٍ مؤمنين}، يعني: بني خزاعة شفوا صدورهم من بني بكر؛ لأنهم كانوا أغاروا عليهم وقتلوا فيهم. وقيل: بطوناً من اليمن قدموا مكة وأسلموا، فلقوا من أهلها أذى شديداً، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أبشروا، فإن الفرج قريب». {ويُذْهِبْ غيظَ قلوبهم}؛ بما لقوا منهم حين أغاروا عليهم، وقد أوفى الله بما وعدهم؛ بفتح مكة وهوازن.
والآية من المعجزات. قاله البيضاوي. وهذا يقتضي أن هذا التخصيص كان قبل الفتح، فيلتئم مع ما بعده، ويبعد اتسامه مع ما قبله من البراءة، ونبذ العهد والإعلام بذلك؛ لكونه بعد الفتح، والله أعلم. قاله المحشي. ويمكن الجواب بأن يكون صدر السورة بعد الفتح، وبعضها؛ من قوله: {وإن أحد من المشركين...} إلخ نزل قبل الفتح، فإن الآيات كانت تنزل متفرقة فيقول صلى الله عليه وسلم: «اجعلوا هذه الآية في محل كذا». والله تعالى أعلم.
ثم أخبر تعالى بأن بعض المشركين يتوب من كفره بقوله: {ويتوبُ اللَّهُ على من يشاءُ} هدايته، فيهديه للإيمان، ثم يتوب عليه، وقد كان ذلك في كثير منهم. {والله عليمٌ} بما كان يكون، {حكيم} لا يفعل ولا يحكم إلا على وفق حكمته.
الإشارة: من رجع عن طريق القوم، ونقض عهد الأشياخ، ثم طعن في طريقهم، لا يرجى فلاحه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، أعني في طريق الخصوص؛ لأنه جمع بين نقض العهد والطعن على الأولياء، وقد قال تعالى: «من آذى لي ولياً فقد آذنني بالحرب» ومن رجع عنها؛ لضعف ووهن، مع بقاء الاعتقاد والتسليم، فربما تقع الشفاعة منهم فيلحق بهم، بخلاف الأول، فقد تقدم عن القشيري، في سورة آل عمران، أنهم يريدون الشفاعة فيه، فيخلق الله صورة على مثله، فإذا رأوها تركوا الشفاعة فيه، فيبقى مع عوام أهل اليمين. فانظره. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (16):

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)}
قلت: {أم}: منقطعة، بمعنى الهمزة؛ للإنكار والتوبيخ على الحسبان، والخطاب للمؤمنين أو المنافقين، والوليجة: البطانة والصحبة.
يقول الحق جل جلاله: {أم حسبتم} أي: أظننتم {أن تُتْركُوا} من غير اختبار، {ولمَّا يعلمِ الله الذين جاهدُوا منكم} أي: ولم يتبين الخلَّص منكم، وهم الذين جاهدوا، من غيرهم، والمراد: علمَ ظهور، أي: أظننتم أن تتركوا ولم يظهر منكم المجاهد من غيره، قال البيضاوي: نفى العلم، وأراد نفي المعلوم؛ للمبالغة، فإنه كالبرهان عليه من حيث إن تعلق العلم به مستلزم لوقوعه. اهـ. بل يختبركم حتى يظهر الذين جاهدوا منكم.
{ولم يتخِذوا من دون الله ولا رسولِه ولا المؤمنين وَليجَةً}؛ بطانة، أي: جاهدوا وأفردوا محبتهم لله ولرسوله وللمؤمنين، ولم يتخذوا من دونهم بطانة، أي أصحاب سرٍ يوالونهم ويبثون إليهم أسرارهم، بل اكتفوا بمحبة الله ومودة رسول الله والمؤمنين، دون موالاة من عاداهم، والتعبير ب (لما): يقتضي أن ظهورَ ذلك متوقع، {واللَّهُ خبيرٌ بما تعملون}: تهديد لمن يفعل ذلك.
الإشارة: إفراد المحبة لله ولأولياء الله من أعظم القربات إلى الله، وأقرب الأمور الموصلة إلى حضرة الله، والالتفات إلى أهل الغفلة؛ بالصحبة والمودة، من أعظم الآفات والأسباب المبعدة عن اللهِ، والعياذ بالله. وفي الحديث: «المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيله» و«المَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ» و«مَنْ أَحَبْ قَوْماً حُشِرَ مَعَهم» إلى غير ذلك من الآثار في هذا المعنى.

.تفسير الآيات (17- 18):

{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)}
يقول الحق جل جلاله: {ما كان للمشركين} أي: ما صح لهم {أن يعمرُوا مساجدَ الله} أي: شيئاً من المساجد، فضلاً عن المسجد الحرام، وقيل: هو المراد، وإنما جمع؛ لأنه قبلة المساجد وإمامها، فأمره كأمرها، ويدل عليه قراءة من قرأ بالتوحيد، أي: ليس لهم ذلك، وإن كانوا قد عمروه تغلباً وظلماً، حال كونهم {شاهدين على أنفسهم بالكفر}؛ بإظهار الشرك وتكذيب الرسول، أي: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متباينين: عمارة بيت الله، وعبادة غير الله، {أولئك حَبِطَتْ أعمالُهم} في الدنيا والآخرة؛ لما قارنها من الشرك والافتخار بها، {وفي النار هم خالدون}؛ لأجل كفرهم.
{إنما يَعْمُرُ مساجدَ الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة}، أي: إنما تستقيم عمارتها بهؤلاء الجامعين للكمالات العلمية والعملية، ومن عمارتها: تزيينها بالفرش، وتنويرها بالسرج، وإدامة العبادة والذكر ودروس العلم فيها، وصيانتها مما لم تبن له؛ كحديث الدنيا.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: «إِنَّ بُيُوتِي في أَرْضِي المَسَاجدُ وإنَّ زُوَّاري فيهَا عُمَّارُهَا، فَطُوبى لعَبْدٍ تَطَهَّرَ في بَيْتِهِ، ثُمَّ زَارَني في بَيْتِي، فَحَقٌ عَلَى المَزُوِر أَنْ يُكْرِمَ زَائِرَه» ووقف عبد الله بن مسعود على جماعة في المسجد يتذاكرون العلم فقال: بأبي وأمي العلماء، بروح الله ائتلفتم، وكتاب الله تلوتم، ومسجد الله عمرتم، ورحمة الله انتظرتم، أحبكم الله، وأحب من أحبكم. اهـ.
وإنما لم يذكر الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ لما علم أن الإيمان بالله قرينُه وتمامه الإيمانُ به، ولدلالة قوله: «وأقام الصلاة وآتى الزكاة» عليه. قال البيضاوي.
{ولم يخش} في أموره كلها {إلا الله}، فهذا الذي يصلح لعمارة بيت الله، {فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين}، وعبَّر بعسى، قطعاً لأطماع المشركين في الاهتداء والانتفاع بأعمالهم، وتوبيخاً لهم على القطع بأنهم مهتدون؛ فإن كان اهتداء هؤلاء، مع كمالهم، ودائراً بين عسى ولعل، فما ظنك بأضدادهم؟، ومنعاً للمؤمنين أن يغتروا بأحوالهم فيتكلوا عليها. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَتَعَاهَدُ المسجِد فاشهدوا لَهُ بالإيمان» ثم تلا الآية.
الإشارة: مساجد الحضرة محرمة على أهل الشرك الخفي والجلي، لا يدخل الحضرة إلا قلب مفرد، فيه توحيد مجرد، لا يعمر مساجد الحضرة ألا قلب مطمئن بالله، غائب عما سواه، قد رفض الركون إلى الأسباب، وأفراد الوجهة لمسبب الأسباب، قطع الشواغل والعلائق حتى أشرقت أنوار الحقائق. وإنما يعمر مساجد حضرة القدوس من آمن بالله واليوم الآخر، وأقام صلاة القلوب، وآتى زكاة النفوس، ولم يراقب أحداً من المخلوقين، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين إلى حضرة رب العالمين.