فصل: تفسير الآية رقم (50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (45- 48):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)}
قلت: {شاهداً}: حال مقدرة، كمررت برجل معه صقر صائداً به غداً.
يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها النبيُّ إِنَّا أرسلناك شاهداً} على مَن بُعثتَ إليهم، على تصديقهم وتكذيبهم، أي: مقبولاً قولك عند الله، لهم وعليهم، كما يُقبل قول الشاهد العدل في الحكْم، {ومبشراً} للمؤمنين بالنعيم المقيم، {ونذيراً} للكافرين بالعذاب الأليم، {وداعياً إِلى الله} إلى الإقرار بربوبيته، وتوحيده، وما يجب الإيمان به، من صفاته، ووعده، ووعيده، {بإِذْنِهِ} بأمره، أو: بتيسيره. وقيّد به الدعوى إيذاناً بأنه أمر صعب، لا يتأتى إلا بمعونةٍ من جناب قدسه، {وسِراجاً منيراً} يُستضاء به في ظلمة الجهالة، وتُقتبس من نوره أنوار الهداية، قد جلى به الله ظلمات الشرك، واهتدى به الضالون، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير، ويهتدى به. وقيل: المراد به القرآن، فيكون التقدير: وذا سراج. ووُصف بالإنارة؛ لأن من السُرج مَن لا يضيء جدًّا إذا قلّ سَلِيطُه، أي: زيته ورقَّت فتيلته. أو: شاهداً بوحدانيتنا، ومبشراً برحمتنا، ونذيراً بنقمتنا، وداعياً إلى عبادتنا، وسراجاً تُنير الطريقَ إلى حضرتنا.
{وَبَشِّرِ المؤمنينَ بأن لهم من اللهِ فضلاً كبيراً} ثواباً عظيماً، يربو على ثواب سائر الأمم. وفي الحديث: «مثَلُكمْ ومَثَلُ اليهود والنصارى كمَن استأجر عُمالاً إلى آخر اليوم، فعَمِلَتِ اليهودُ إلى الظهر، ثم عجزوا، ثم عملت النصارى إلى العصر، فعجزوا، ثم عملتم إلى آخر النهار، فاستحققتم أجر الفريقين، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: نحن أكثر عملاً، وأقلّ أجراً، فقال لهم الله تعالى: هل ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أُوتيه مَن أشاء» وفي رواية: «أنهم عملوا إلى الظهر، أو العصر. وقالوا: لا حاجة لنا بأجرك، فبطل أجر الفريقين» وهذا في حق مَن أدرك الإسلام منهم ولم يؤمن. والحديث في الصحيح. نقلته بالمعنى.
قال البيضاوي: ولعله معطوف على محذوف، أي: فراقب أمتك وبشِّرهم. اهـ.
{ولا تُطع الكافرين والمنافقين} أي: دُم على مخالفتهم، وهو تهييج وتنفير عن حالهم، {ودَعْ أذاهم} أي: لا تلتفت إليه، ولا تحتفل بشأنه. وهو من إضافة المصدر إلى الفاعل، أي: اجعل إيذائهم إياك في جانب، وأنت في جانب، ولا تُبال بهم، ولا تخفْ من إيذائهم. أو: إلى المفعول، أي: دع إيذاءك إياهم مجازاةً ومؤاخذة على كفرهم. ولذلك قيل: إنه منسوخ. {وتوكلْ على اللهِ} فإنه يكفيكهم، {وكفى بالله وكيلاً} موكولاً عليه، ومفوضاً إليه الأمر في الأحوال كلها، ولعله تعالى لَمّا وصفه بخمسة أوصاف، قابل كُلاًّ منها بخطاب مناسب له، فقابل الشاهد بقوله: {وبُشِّر المؤمنين} لأنه يكون شاهداً عل أمته، وهم يكونون شهداء على سائر الأمم، وهو الفضل الكبير، وقابل المبشِّر بالإعراض عن الكافرين والمنافقين؛ لأنه إذا أعرض عنهم أقبل بكليته على المؤمنين، وهو مناسب للبشارة، وقابل النذير بدَعْ أذاهم؛ لأنه إذا ترك أذاهم في العاجل، والأذى له، لابد له من عقاب عاجل أو آجل، كانوا منذرين به في المستقبل.
وقابل الداعي إلى الله بأمره بالتوكل عليه؛ لأن مَن توكل على الله يسَّر عليه كل عسير، فتسهل الدعوة، ويتيسر أمرها، وقابل السراج المنير بالاكتفاء به وكيلاً؛ لأن مَن أناره الله وجعله بُرهاناً على جميع خلقه كان حقيقاً بأن يَكتفي به عن جميع خلقه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال الورتجبي: إنا أرسلناك بالحقيقة شاهداً، أنت شاهِدُنا، شاهدناك وشهدت علينا، فألبستك أنوار ربوبيتي، فمَن شهدك بالحقيقة فقد شَهِدنَا. قُلتُ: لأن نوره صلى الله عليه وسلم أول نور ظهر من نور الحق، فمَن شَهِدَه شَهِدَ الحق. ثم قال: ومَن نظر إليك فقد نظر إلينا. قال صلى الله عليه وسلم: «فقد عرف الحق، ومَن رآني فقد رأى الحق» ثم قال: {وسراجاً منيراً} أسرجت نورك من نوري، فتُنور بنوري عيون عبادي المؤمنين، فيأتون إليّ بنورك. ثم أمره بأن يُبشر المؤمنين بأنهم يصلون إلى مشاهدته، بلا حجاب ولا عتاب. اهـ.
قال القشيري: يا أيها المُشَرَّفُ مِنْ قِبَلِنا؛ إنّا أرسلناك شاهداً بوحدانيتنا، ومبشراً، تُبشر عبادنا بنا، وتحذِّرُهم مخالفة أَمْرِنا، وتُعلمهم مواضع الخوف منا، وداعياً الخلق إلينا بنا، وسراجاً منيراً يستضيئون بك، وشمساً ينبسط شعاعك على جميع من صَدَّقَك وآمَنَ بك، ولا يصل إلينا إلا مَن اتَّبعكَ وخَدَمَك وقَدَّمك، {وبَشِّر المؤمنين} بفضلنا عليهم، ونَيْلِهم طَوْلَنا عليهم، وإحساننا إليهم. ومَن لم تُؤثِر فيهم بركة إيمانهم بك؛ فلا قَدْرَ لهم عندنا. ولا تُطع مَن أعرضنا عنه وأضللناه، من أهل الكفر والنفاق، وأهل البدع والشقاق، وتوكل على الله؛ بدوام الانقطاع إليه، وكفى باله وكيلاً. اهـ.

.تفسير الآية رقم (49):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)}
يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا إِذا نكحتُم المؤمناتِ} أي: تزوجتموهن. والنكاح في الأصل: الوطء، من: تناكحت الأشجار: إذا التصق بعضها ببعض. وتسمية العقد نكاحاً مجاز؛ لملابسته له، من حيث إنه طريق إليه، كتسمية الخمر إثماً؛ لأنها سببه، ولم يَرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد؛ لأنه لو استعمل في الوطء لكان تصريحاً به، ومن آداب القرآن الكناية عنه بلفظ الملامسة، والمماسة، والقربان، والتغشي، والإتيان، تعليماً للأدب والحياء. وفي تخصيص المؤمنات، مع أن الكتابيات تُساوي المؤمنات في هذا الحُكُم، إشارة إلى أن الأولَى للمؤمن أن ينكح المؤمنة، تخييراً للنطفة. والمعنى: إذا تزوجتم النساء {ثم طلقتموهن مِن قَبْلِ أن تمسوهن} تجامعوهن. والخلوة الصحيحة كالمسّ، {فما لكم عليهن من عِدَّةٍ تعتدُّونها} أي: تستوفون عددها، وتَعُدونها عليهن، من: عددته الدراهم فاعتدها، كقوله: كِلته الطعام فاكتاله. والإسناد إلى الرجال للدلالة على أن العِدَّة تجب على النساء لحق الأزواج، كما يشعر به، {فما لكم} والإتيان ب {ثم} إزاحة ما عسى أن يتوهم أن تراخي الطلاق ربما يمكن الإصابة فتجب العدة.
{فمَتّعوهُنّ} بشيء من المال، وهذا في المفوض لها قبل الفرض، وأما المفروض لها، أو المسمى صداقها، فتأخذ نصف مَهرها، ولا متعة لها على المشهور. {وسَرِّحوهن سَرَاحاً جميلاً} أي: لا تمسكوهنّ ضراراً، وأخرجوهن من بيوتكم؛ إذ لا عدة لكم عليهن. قال القشيري: {سراحاً جميلاً} لا تذكروهن بعد الفراق إلا بخير، ولا تستردوا منهن شيئاً، ولا تجمعوا عليهن سوء الحال والإضرار من جهة المال. اهـ.
الإشارة: أيها المريدون؛ إذا طلقتم نفوسكم، وغبتم عنها بخمرةٍ قوية، من قَبل أن تمسوهن بمجاهدة ولا مخالفة، فمتعوها بالشهود، وسرحوا فكرتها في ذات المعبود، سَراحاً جميلاً، لا حجر فيه ولا حصر، فمن رزقه الله الغيبة عن نفسه، حتى غاب عن حظوظها وهواها، فقد كفاه الله قتالها، فيدخل الحضرة بلا مشقة ولا تعب، لكنه نادر، وعلى تقدير وجوده يكون ناقص التربية؛ لأنه يكون كمن طُويت له الطُرق للحج، فلا يعرفها كما يعرفها مَن سافر فيها، وكابد مشقتها، وعرف منازلها ومياهها، ووعرها وسهلها، ومخوفها ومأمونها، وكلهم أولياء لله تعالى، لكن طريق التربية أن يكون المريد سلك الطريقة، وقاس شدائد نفسه، وعالجها ليُعالج غيره بما يُعالج نفسه، على يد شيخ عارف بالطريق. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (50):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)}
يقول الحق جلّ جلاله: {يَا أَيُّها النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} مهورهن؛ إذ المهر أجر البضع، ولذا قال الكرخي من الحنفية: إن النكاح بلفظ الإجارة جائز، والجواب أن التأبيد من شرط النكاح، والتأقيت من شرط الإجارة، وبينهما منافاة، وإيتاؤها: إعطاؤها عاجلاً، أو فرضها في المفوض، وتسميته في المسمى. والمراد بالأزواج المحلَّلة له عليه الصلاة والسلام: نساؤه اللاتي في عصمته حينئذ، كعائشة وغيرها، وكان قد أعطاهن مهورهن، أو: جميع النساء اللاتي يريدُ أن يتزوجهن، فأباح له جميع النساء. وهذا أوسع.
{و} أحللنا لك {ما ملكت يمينُك} من السّراري {مما أفاءَ الله عليك} من الغنائم، وهي صفية، أعتقها وتزوجها. {ونباتِ عمِّك وبناتِ عماتِك وبناتِ خَالِك وبنات خَالاتِك} يعني قرابتك، التي من جهة أبيك، ومن جهة أمك. وكان له عليه الصلاة والسلام أعمام وعمات، إخوة لأبيه، ولم يكن لأمه صلى الله عليه وسلم أخ ولا أخت، فإنما يعني بخاله وخالته: عشيرة أمه، وهم بنو زهرة، ولذلك كانوا يقولون: نحن أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا قلنا: المراد بقوله: {أحللنا لك أزواجك} مَن كان في عصمته، فهذا عطف عليهن، وإباحة لأن يتزوج قرابته، زيادة على مَن كان في عصمته، وإذا قلنا: المراد: جميع النساء، فهذا تحديد لهن، على وجه التشريف، بعد دخولهن في العموم. وقوله: {اللاتي هاجَرْنَ معك} قيد في حلّية قرابته عليه الصلاة والسلام. قالت أم هانئ: خطبني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فاعتذرتُ إليه، فعَذَرَني، فأنزل الله هذه الآية، فلم أَحِلَ له؛ لأني لم أُهاجر معه، كنت من الطُلَقَاءِ.
و{مع} هنا: ليست للاقتران، بل لوجود الهجرة فقط، كقوله: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 44].
{و} أحللنا لك {امرأةً مؤمنةً إِن وهبت نفسَها للنبي} من غير مَهر ولا عقد، فهو منصوب بفعل يُفسره ما قبله، أو: عطف على ما سبقه، ولا يدفعه أن التي للاستقبال؛ لأن المعنى بالإحلال: الإعلام بالحِلّ، أي: أعلمناك حِلّ امرأة مؤمنة وهبت لك نفسها، ولا تطلب مهراً إن اتفق، ولذلك نكّرها. واختلف في اتفاق ذلك، والقائل به ذكر أربعاً: ميمونة بنت الحارث، حين جاءها الخاطب، قالت: البعير وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوجها. وزينب بنت خزيمة الأنصارية، أم المساكين، وتوفيت في حياته صلى الله عليه وسلم، وأم شريك بنت جابر الأسدية، وقيل: أم شريك العامرية، قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها، ولم يثبت ذلك. ذكره ابن عبد البر. وخولة بنت حكيم السُلَمية. ذكر البخاري عن عائشة أنها قالت: كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن.
قال أبو نعيم: تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بها. قال السهيلي: فدلّ أنهن كن غير واحدة. والله أعلم. اهـ. وقال ابن عباس: هو بيان حكم في المستقبل، ولم يكن عنده أحد منهن بالهبة، فانظره.
وقرأ الحسن بفتح {أن}، على حذف لام التعليل. وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه بغير {إن} أي: وأحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها، أي: طلب نكاحها والرغبة فيها. وقيل: نكح واستنكح بمعنى واحد. والشرط الثاني تقييد للأول، كأنه قال: أحللنا لك امرأة إن وهبت نفسها، وأنت تريد أن تستنكحها، وإرادته هي: قبول الهبة.
جعلنا ذلك {خالصةً لك من دون المؤمنين} بل يجب عليهم المهر، تسمية أو فرضاً. وفيه إيذان بأنه مما خصّ به عليه الصلاة والسلام لشرف نبوته، وتقرير لاستحقاقه الكرامة. قال ابن جزي: وانظر كيف رجع من الغيبة إلى الخطاب؛ ليخص المخاطب وحده. وقيل: إن {خالصة} يرجع إلى كل ما تقدم من النساء المباحات له صلى الله عليه وسلم؛ لأن سائر المؤمنين قصّروا على أربع نسوة، وأبيح له عليه الصلاة والسلام أكثر من ذلك. ومذهب مالك: أن النكاح بلفظ الهبة لا ينعقد، خلافاً لأبي حنيفة. اهـ. قلت: إن قرنه ذكر الصداق جاز، كما في المختصر.
و{خالصة}: مصدر مؤكد، أي: خلُص إحلالها، أو: إحلال ما أحللنا لك على القيود المذكورة خلوصاً لك. أو: حال من الضمير في {وهبت}، أو: صفة لمصدر محذوف، أي: هبة خالصة لك.
{قد عَلِمْنَا ما فرضنا عليهم في أزواجهم} أي: ما أوجبنا من المهور على أمتك في زوجاتهم، أو: ما أوجبنا عليهم في أزواجهم من الحقوق، كالنفقة وحسن المعاشرة، أو: ما فرضنا عليهم من الاقتصار على الأربع، أو: ما أوجبنا عليهم من الإشهاد والولي، {وما ملكت أيمانُهم} بالشراء وغيره من وجوه الملك، فقد علمنا ما فرضنا عليهم من الإنفاق والرفق، وألا يكلفوهن ما لا طاقة لهن به، مع حلية الوطء، ولو تعددن. وإنما وسَّعنا عليك في أمر النساء {لِكَيْلاَ يكونَ عليك حرجٌ} ضيق، وهو راجع لقوله: {خالصة لك من دون المؤمنين} والجملة من قوله: {قد علمنا ما فرضنا...} الخ: اعتراضية؛ للدلالة على أن الفرق بينه وبين المؤمنين في نحو ذلك ليس لمجرد التوسيع عليه، بل لمعان تقتضي التوسيع عليه والتضييق عليهم تارة، والعكس أخرى، كنكاح الكتابية والأَمة، فتحرمان عليه صلى الله عليه وسلم دون أُمته. {وكان الله غفوراً رحيماً} بالتوسعة على عباده، أو: غفوراً لما يُعسر التجرُّد عنه، رحيماً بالتوسعة في مظان الحرج.
الإشارة: قد وسَّع الله على خواصه في باب النكاح، وأمدّهم في ذلك بالقوة، وأعطاهم من الباءة ما لم يُعط غيرهم، تشريفاً وترغيباً في هذا الأمر، لإبقاء النسل الطيب، ولِما فيه من التوسعة في المعرفة، وحسن الخلق، وتعلم السياسة، فدلّ ذلك أن كثرة النساء لا يُنافي الزهد، ولا يقدح في كمال المعرفة، بل يزيد فيها.
قال الإمام ابن منصور المقدسي، في شرح منازل السائرين في باب الزهد: ومتعلق الزهد ستة أشياء، لا يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها، وهي: المال، والرئاسة، والناس، والنفس، وكل ما دون الله. وليس المراد رفضها عن الملِك، فقد كان داود وسليمان عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المُلك والنساء والمِلك ما لهما. وكان نبينا صلى الله عليه وسلم أزهد البشر على الإطلاق، وله تسع نسوة، وكان عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وعثمان رضوان الله عليهم من الزهّاد، مع ما لهم من الأموال أي: والنساء فكان لعليّ رضي الله عنه أربع حرائر، وسبعة عشر سرية، ولعبد الرحمن بن عوف والزبير أربع أربع، ولعثمان كذلك. وتزوج المغيرة بن شعبة تسعاً وتسعين امرأة. ثم قال: وكان الحسن بن عليّ رضي الله عنهما من الزهّاد، مع أنه كان من أكثر الأمة محبة للنساء ونكاحهن. ثم قال: ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن وغيره، قال: ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال، ولا بإضاعة المال، وإنما الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أُصبت بها أرغب منك فيها لو لم تُصبك. انتهى المقصود منه.

.تفسير الآية رقم (51):

{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)}
يقول الحق جلّ جلاله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {تُرْجي من تشاء منهن} أي: تؤخرها في القسمة، {وتُؤوي إِليك من تشاء} أي: تضمها إليك، والمعنى: تترك مضاجعة مَن تشاء منهن وتضاجع مَن تشاء، فقد خيّره الله في القسمة وعدمها. قال أبو رزين: لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يُطلَّقن، فقلن: يا نبيَّ الله؛ اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت، ودَعْنا على حالنا، فكان ممن أرجى منهن: سودة، وجويرية، وصفية، وميمونة، وأم حبيبة، فكان يقيم لهن ما يشاء، وكان ممن آوى إليه عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وزينب، فكان يقسم لهن بالسوية، لا يفضل بعضهن على بعض. فآوى أربعاً وأرجى خمساً. وقيل: إنه كان صلى الله عليه وسلم يسوّي بين الجميع في القسم، إلا سودة، فإنها وهبت ليلتها لعائشة، حين همّ بطلاقها، وقالت: لا تطلّقني حتى أُحْشَر في زمرتك وفي نسائك. والجمهور على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعدل في القسمة بين نسائه، أخذاً منه بأفضل الأخلاق، مع أن الله خيّره. وقيل: {تُرجي من تشاء} أي: تطلق من تشاء منهن، وتُمسك من تشاء. وقيل: تترك تزوج من شئت من أمتك، وتتزوج من شئت.
{ومن ابتغيتَ مِمَّنْ عزلتَ فلا جُناحَ عليك} أي: ومَن دعوت إلى فراشك، وطلبت صحبتها، ممن عزلت عن نفسك بالإرجاء، فلا ضيق في ذلك، أي: ليس إذا عزلتها من القسمة، أو من العصمة، لم يجز لك ردّها إلى نفسك، بل افعل ما شئت، فلا حرج عليك. {ذلك} التفويض إلى مشيئتك {أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنهنَّ ولاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُن} أي: هو أقرب إلى قرة أعينهن، وقلة حزنهن، ورضاهن جميعاً؛ لأنه إذا علمن أنّ هذا الحكم من عند الله اطمأنت نفوسهنّ، وذهب التغاير، وحصل الرضا، وقرّت العيون.
قلت: والذي يظهر أن مَن أرجاه صلى الله عليه وسلم من النساء إنما كان بوحي، ومَن ضمه كذلك؛ إذ لا يتصرف إلا بإذن من الله، فإذا عَلِمَ النساءُ أن الإرجاء والإيواء كان بوحي من الله؛ رضين بذلك، وقرّت أعينهن، وزال تغايرهن، وأما مطلق التفويض إليه فقط، فلا يقطع الغيرة في العادة، فالإشارة تعود إلى حكم الإرجاء والإيواء فتأمله. و{كلهن}: تأكيد ضمير {يَرْضَيْن}.
{واللهُ يعلم ما في قلوبكم} من أمر النساء، والميل إلى بعضهن، أو: يعلم ما في قلوبكم من الرضا بحُكم الله والتفويض إليه، ففيه تهديد لمَن لم يرضَ منهم بما دبَّر الله، وفوّض إلى رسوله، {وكان الله عليماً} بذات الصدور، {حليماً} لا يُعاجل بالعقوبة، فهو حقيق بأن يُتقى ويُحذر.
الإشارة: إذا تحقق فناء العبد وزواله، وتكملت ولايته، كان مفوضاً إليه في الأمور، يفعل ما يشاء، ويترك ما يشاء، لم يبقَ عليه تحجير، ولم يتوجه إليه عتاب؛ لأن العبد المملوك إذا تحققت محبة سيده له، كتب له عقد التحرير.
وشاهده حديث: «إِذَا أحَبَّ الله عَبْداً لمْ يضُره ذَنْبٌ»، وحديث البخاري: «لعلَّ الله اطَّلَعَ على أهلِ بَدْرٍِ فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غَفَرتُ لكُمْ» وسببه معلوم.
وفي القوت عن زيد بن أرقم: إن الله عزّ وجل ليُحب العبد، حتى يبلغ من حبه أن يقول له: اصنع ما شئت، فقد غفرت لك. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: يبلغ الولي مبلغاً يُقال له: أصحبناك السلامة، وأسقطنا عنك الملامة، فاصنع ما شئت. ومصداقه من كتاب الله: قوله تعالى في حق سليمان عليه السلام: {هَذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39]. وهذا وإن كان للنبي من أجل العصمة، فلَمِنْ كان من الأولياء في مقام الإمامة قسط منه، من أجل الحفظة. وقال أيضاً رضي الله عنه في بعض أدعيته: وأدرج أسمائي تحت أسمائك، وصفاتي تحت صفاتك، وأفعالي تحت أفعالك، درج السلامة، وإسقاط الملامة، وتنزُل الكرامة، وظهور الإمامة. اهـ.
فإذا اندرجت أسماء العبد وصفاته وأفعاله تحت أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله، لم يبقَ للعبد وجود أصلاً، وكان الفعل كله بالله، ومن الله، وإلى الله. وهذا مقام عزيز، لا يناله إلا الأفراد من أهل الفناء في الله، والبقاء بالله، وقد غطى وصفهم بوصفه، ونعتهم بنعته، فغيَّبهم عن اسمهم ورسمهم، فهم بالله فيما يفعلون ويذرُون. والله تعالى أعلم.