فصل: تفسير الآية رقم (60):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (58- 59):

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)}
قلت: {لو}: شرطية، و{أنهم}: قال سيبويه: مبتدأ، والخبر محذوف: ولو رضاهم ثابت أو موجود... الخ. وقال غيره: فاعل بفعل محذوف؛ ولو ثبت رضاهم، وجواب {لو}: محذوف، أي: ولو أنهم رضوا لكان خيراً لهم.
يقول الحق جل جلاله: {ومنهم}؛ ومن المنافقين {من يلمزك} أي: يعيبك، ويعترض عليك {في} قسم {الصدقات}، {فإن أُعطوا منها رَضُوا} وفرحوا، {وإِنْ لمْ يُعْطُوا منها} شيئاً {إّذا هم يَسْخَطُون}. والآية نزلت في ابن أُبي؛ رأس المنافقين، قال: ألا تَرونَ إلى صاحِبِكُم إِنَّما يقْسِمُ صَدقَاتكُمْ في رُعَاةِ الغَنَم، ويَزْعُمُ أَنَّهُ يَعْدل. وقيل: في ذي الخُوَيْصِرةِ رأس الخَوَارِجِ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين، فاستعطف قلوب أهل مكة، فآثرهم بالعطاء، فقال: اعْدِلَ يا رَسُول الله، فقال: «ويلَكَ، إنْ لَمْ أَعْدِلْ فمنْ يَعْدِل؟».
قال تعالى: {ولو أنهم رَضُوا ما أتاهم اللَّهُ ورسولُه} أي: بما أعطاهم الرسول من الغنيمة، وذَكَرَ الله؛ للتعظيم، وللتنبيه على أن ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام كان بأمر الله ووحيه، فكأنه فعله هو. {وقالوا حسبنا الله} أي: كفانا فضلُه، {سيؤتينا اللَّهُ من فضله ورسولهُ} صدقة أو غنيمة أخرى، فيؤتينا أكثر مما أتانا، {إنا إلى الله راغِبُون} في أن يُغنينا من فضله وجوده. فلو فعلوا هذا لكان خيراً لهم من اعتراضهم عليك، الموجب لهم المقت والعذاب.
الإشارة: لا يكون المؤمن كاملاً حتى يستوي عنده المنع والعطاء، والفقد والوجد، والفقر، والغنى والعز والذل. وأما إن كان في حالة العطاء والوجد يفرح، وفي حالة المنع والفقد يسخط، فلا فرق بينه وبين أهل النفاق، إلا من حيث التوسم بالإيمان، ولو أنه رضي بما قسم الله له، واكتفى بعلمه، ورغب الله في زيادته من فضله، لكان خيراً له وأسلم. والله تعالى أعلم وأحكم..

.تفسير الآية رقم (60):

{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)}
يقول الحق جل جلاله: {إِنما} تدفع {الصدقاتُ} الواجبة أي: الزكاة لهؤلاء الثمانية، وهذا يُرَجَّحُ أن لَمْزهم كان في قسم الزكاة لا في الغنائم، واختصاص دفع الزكاة بهؤلاء الثمانية مجمع عليه، واختلف: هل يجب تعميمهم؟ فقال مالك: ذلك إلى الإمام، إن شاء عمم وإن شاء خصص، وإن لم يلها الإمام؛ فصاحب المال مخير، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، وأفتى به بعض الشافعية، وقال الشافعي: يجب أن تقسم على هذه الأصناف بالسواء، إن وجدت.
أولها: الفقير: وهو من لا شيء له، وثانيها: المسكين: وهو من له شيء لا يكفيه. فالفقير أحوج، وهو مشتق من فقار الظهر، كأنه أصيب فقاره، والمسكين من السكون، كأن العجز أسكنه. ويدل على هذا قوله تعالى: {أمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَت لِمَسَكِينَ} [الكهف: 79]. فسماهم مساكين مع ملكهم السفينة، وأنه صلى الله عليه وسلم سأل المسكنة؛ وقيل بالعكس، لقوله تعالى: {أًو مِسكيناً ذَا مَتربَةٍ} [البلد: 16] وقيل: هما سواء. {والعاملينَ عليها} أي: الساعين في تحصيلها وجمعها، ويدخل فيهم الحاشر والكاتب والمفرق، ولا بأس أن يعلف خيلهم منها، ويضافون منها بلا سَرف. {والمؤلفة قلوبهم} قال مالك: هم كفار ظهر ميلهم للإسلام، فيعطوا ترغيباً في الإسلام. وقيل قوم أسلموا ونيتهم ضعيفة، فيعطوا ليتمكن الإسلام في قلبهم، وحكمُهم باق، وقيل: أشراف يُترقب بإعطائهم إسلام نظائرهم.
{وفي الرقاب} أي: في فك الرقاب، يشترون ويعتقون، {والغَارِمينَ}، أي: مَنْ عليهم دَيْن، فيعطى ليقضي دينه، ويشرط أن يكون استدانة في غير فساد ولا سرف، وليس له ما يبيع في قضائه. {وفي سبيل الله} يعني: الجهاد، فيعطى منها المجاهدون وإن كانوا أغنياء، ويشتري منها آلة الحرب، ولا يبنى منها سور ولا مركب. {وابن السبيل} وهو الغريب المحتاج لما يوصله لبلده، ولم يجد مسلفاً، إن كان مليَّاَ ببلده، وإلا أعطي مطلقاً.
فرض الله ذلك {فريضة من الله} أي: حقاً محدوداً عند الله. قال ابن جزي: ونصبه على المصدر يعني: لفعل محذوف كما تقدم فإن قيل: لِمَ ذكر مصرف الزكاة في تضاعيف ذكر المنافقين؟ فالجواب: أنه خص مصرف الزكاة في تلك الأصناف؛ ليقطع طمع المنافقين فيها، فاتصلت هذه الآية في المعنى بقوله: {ومنهم من يلمزك في الصدقات...}. اهـ. {والله عليمٌ حكيم}؛ يضع الأشياء في مواضعها.
الإشارة: إنما النفحات والمواهب للفقراء والمساكين، الذين افتقروا من السِّوى، وسكنوا في حضرة شهود المولى.
وفي الحكم: ورود الفاقات أعياد المريدين، ربما وجدت من المزيد في الفاقة ما لا تجده في الصوم والصلاة، الفاقات بسُطُ المواهب. إن أردت بسط المواهب عليك فصحح الفقر والفاقة لديك. {إنما الصدقات للفقراء والمساكين}.
وقال الهروي: الفقر صفة مهجورة، وهو ألذُّ ما يناله العارف، لكونها تدخله على الله، وتجلسه بين يدي الله، وهو أعم المقامات حكماً؛ لقطع العوائق، والتجرد من العلائق، واشتغال القلب بالله. وقيل: الفقير الصادق لا يملِك ولا يُملَك. وقال الشبلي: الفقير لا يستغني بشيء دون الله. وقال الشيخ ابن سبعين رضي الله عنه: الفقير هو الذي لا يحصره الكون. اهـ. يعني: لخروج فكرته عن دائرة الأكوان، وقال القشيري: الفقير الصادق عندهم: مَنْ لا سماء تُظِله، ولا أرضَ تُقِلُّه، ولا سهم يتناوله، ولا معلومَ يشغِله، فهو عبد الله بالله. اهـ.
وقال السهروردي في عوارفه: الفقر أساس التصوف، وبه قوامه، ويلزم من وجود التصوف وجود الفقر؛ لأن التصوف اسم جامع لمعاني الفقر والزهد، مع زيادة أحوال لابد منها للصوفي، وإن كان فقيراً زاهداً. وقال بعضهم: نهاية الفقر بداية التصوف؛ لأن التصوف اسم جامع لكل خلق سني، والخروج من كل خلق دنيء، لكنهم اتفقوا ألاًّ دخول على الله إلا من باب الفقر، ومن لم يتحقق بالفقر لم يتحقق بشيء مما أشار إليه القوم.
وقال أبو إسحاق الهروي أيضاً: من أراد ان يبلغ الشرفَ كل الشرف؛ فليخترْ سبعاً على سبع، فإن الصالحين اختاروا حتى بَلَغُوا سنام الخير. واختاروا الفقر على الغنى، والجوع على الشبع؛ والدُّون على المرتفع، والذلَّ على العز، والتواضع على الكبر، والحزن على الفرح، والموت على الحياة. اهـ. وقال بعضهم: إن الفقير الصادق ليحترز من الغنى؛ حذراً أن يدخله؛ فيفسد عليه فقره، كما يحترز الغنى من الفقر؛ حذراً أن يفسد عليه غناه.
قال بعض الصالحين: كان لي مال، فرأيت فقيراً في الحرم جالساً منذ أيام، ولا يأكل ولا يشرب وعليه أطمار رثة، فقلت: أُعنيه بهذا المال؛ فألقيته في حجره، وقلت: استعن بهذا على دنياك، فنفض بها في الحصباء، وقال لي: اشتريتُ هذه الجلسة مع ربي بما ملكت، وأنت تفسدها عليَّ؟ ثم انصرف وتركني ألقُطها. فوالله ما رأيت أعز منه لَمَّا بَدَّدَها، ولا أذل مني لما كنت ألقطها. اهـ.
وكان بعضهم إذا أصبح عنده شيء؛ اصبح حزيناً، وإذا لم يصبح عنده شيء؛ أصبح فرحاً مسروراً، فقيل له: إنما الناس بعكس هذا، فقال: إني إذا لم يصبح عندي شيء فلي برسول الله صلى الله عليه وسلم أُسوة، وإذا أصبح لي شيء لم يكن لي برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة. اهـ. وجمهور الصوفية: يفضلون الفقير الصابر على الغني الشاكر، ويُفضلون الفقر في الجملة على الغني؛ لأنه عليه الصلاة والسلام اختاره، وما كان ليختار المفضول. وشذ منهم يحيى بن معاذ الواعظ وأحمد بن عطاء.
قال القشيري: كان ابن عطاء يُفضل الغنى على الفقر، فدعا عليه الجنيد فأصيب عقله ثلاثين سنة، فلما رجع إليه عقله قال: إنما أصابني ما أصابني بدعاء الجنيد.
وتكلم يحيى بن معاذ، ففضل الغنى على الفقر، فأعطاه بعض الأغنياء ثلاثين ألف درهم، فدعا بعض المشايخ عليه، فقال: لا بارك الله له فيها، فخرج عليه اللص فنهبه إياها. اهـ. وحكي عن أبي يزيد البسطامي: أنه قال: أًسري بروحي، فرأيت كأني واقف بين يدي الله، فسمعت قائلاً يقول: يا أبا يزيد، إن أردت القرب منا فأتنا بما ليس عندنا، فقلت: يا مولاي وأي شيء ليس عندك، ولك خزائن السماوات والأرض؟ فسمعت: يا أبا يزيد، ليس عندي ذل ولا فقر فمن أتاني بهما بلّغته. اهـ.
وقال في الإحياء: الفقر المستعاذ منه: فقر المضطر، والمسؤول هو: الاعتراف بالمسكنة والذلة والافتقار إلى الله عز وجل. اهـ. قلت: والأحسن أن المستعاذ منه هو: فقر القلوب من اليقين، فيسكنها الجزع والهلع، والفقر المسؤول هو: التخفيف من الشواغل والعلائق، والله تعالى أعلم.
وقد تكلم القشيري هنا على أخذ الزكاة وتركها، فقال: من أهل المعرفة من رأى أنَّ أَخذَ الزكاة المفروضة أَولى، قالوا: لأن الله سبحانه جعل ذلك مِلكاً للفقير، فهو أحل له من المتطوع به. ومنهم من قال: الزكاة المفروضة لأقوام مستحقة، ورأوا الإيثار على الإخوان أولى، فلم يزاحموا أرباب السهمان، وتحرجوا من أخذ الزكاة، ومنهم من قال: إن ذلك وسخ الأموال، وهو لأصحاب الضرورات. وقالوا: نحن آثرنا الفَقْرَ اختياراً... فلم يأخذوا الزكاة المفروضة. اهـ.
وقوله تعالى: {والعاملين عليها}: هم المستعدون للمواهب بالتفرغ والتجريد، و{المؤلفة قلوبهم} على حضرة محبوبهم، والجادُّون في فك الرقاب من الجهل والغفلة؛ وهم أهل التذكير، الداعون إلى الله، {والغارمين} أي: الدافعون أموالهم ومهجهم في رضى محبوبهم، فافتقروا فاستحقوا حظهم من المواهب والأسرار، و{في سبيل الله} أي: المجاهدون أنفسهم في مرضاة الله. {وابن السبيل}: السائحين في طلب معرفة الله. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (61):

{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)}
قلت: {قل أُذُنُ خير}: من قرأ بالإضافة؛ ف {لكم}: متعلق بالاستقرار، أي: هو أذن خير كائن لكم. ومن قرأ بالتنوين؛ ف {خير}: خبر عن {أُذن}؛ خبر ثانٍ، ومن قرأ: {ورحمة}؛ بالرفع فعطف على {أذن خير}، ومن قرأ بالجر، فعطف على {خير} المجرور.
يقول الحق جل جلاله: {ومنهم الذين يُؤذون النبيَّ ويقولون} فيه: {هو أُذُنُ} يسمع كل ما يقال له يصدقه؛ حقاً كان أو باطلاً، فإذا حلفنا له أنا لم نقل شيئاً صدقنا. والقائل لهذه المقالة: قيل: هو نَبْتَل بْن الحَارِثِ، وكان من مردة المنافقين: وقيل: عتاب بن قشير، في جماعة، قالوا: محمد أذن سامِِعِه، نقول ما شئنا، ثم نأتيه فيصدقنا فيما نقول. قال البيضاوي: سمي بالجارحة للمبالغة؛ كأنه من فرط استماعه صار جملته آلة السماع، كما سمي الجاسوس عيناً. اهـ.
قال تعالى في الرد عليهم: {قل أُذُنُ خيرٍ لكم} أي: هو لكم سماع خير وحق، فيسمع الخير والحق ويبلغه لكم، أو قل: هو أذنٌ خيرٌ لكم من كونه غير أذن؛ لأن كونه أذناً يقبل معاذيركم؛ ولو كان غير أذن لكذبكم وفضحكم. وفي (الوجيز) أي: مستمع خير وصلاح، لا مستمع شر وفساد.
قال البيضاوي: وهو تصديق لهم بأنه أذن، لكن لا على الوجه الذي ذموا به يعني من تنقصه بقلة الحزم والانخداع بل من حيث إنه يسمع الخير ويقبله. ثم فسر ذلك بقوله: {يؤمنُ بالله}؛ يصدق بالله وبما له من الكمالات، {ويُومنُ للمؤمنين}؛ ويصدقهم؛ لما يعلم من خلوصهم، واللام مزيدة؛ للتفرقة بين إيمان التصديق وإيمان الإذعان والأمان، {ورحمةٌ للذين آمنوا منكم} أي: هو رحمة لمن أظهر الإيمان منكم، بحيث يقبله ولا يكشف سره. وفيه تنبيه على أنه ليس يقبل قلولكم؛ جهلاً بكم، بل رفقاً بكم وترحماً عليكم، قاله البيضاوي.
وفي ابن عطية: وخص الرحمة بالذين آمنوا؛ إذ هم الذين نجوا بالرسول وفازوا. وفي الوجيز: وهو رحمة لهم، لأنه كان سبب إيمانهم. اهـ. فظاهره أن الإيمان الصادر منهم كان حقيقياً، وهو حُسنُ خلافٍ ظاهر. قال البيضاوي: أي: هو رحمة لمن وفقه الله للإيمان منكم.
{والذين يُؤذون رسول الله} بأي نوع من الإيذاء، {لهم عذابٌ أليم} موجع بسبب إذايته.
الإشارة: تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ومدحه وذكر محاسنه، من أجل القربات وأعظم الطاعات؛ لأن تعظيمه ناشئ عن محبته، ومحبته عقد من عقود الإيمان، لا يتم الإيمان إلا بها، والإخلال بهذا الجانب من أعظم المعاصي عند الله، ولذلك قبح كفر المنافقين واليهود، الذين يؤذون جانب النبوة، وما عابه به المنافقون في هذه الآية هو عين الكمال عند أهل الكمال.
قال القشيري: عابوه بما هو أماره كرمه، ودلالة فضله، فقالوا: إنه؛ لحُسن خُلُقه، يسمع ما يقال له، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «المُؤمنُ غِرٌّ كَرِيمٌ والمُنافِقُ خِبٌّ لَئِيمٌ». قالوا: من الفاضل؟ قالوا: الفَطِنُ المُتَغَافِلُ، وأنشدوا:
وإذا الكريمُ أَتَيْتَه بخدِيعَةٍ ** فرأيته فيما ترومُ يُسارعُ

فاعلمْ بأنَّك لم تخادِعْ جاهلاً ** إنَّ الكريمَ بفضله يتخادع

وكل ولي يتخلق بهذا الخلق السني؛ الذي هو التغافل والانخداع في الله، وكان عبد الله بن عمر يقول: (من خدعنا في الله انخدعنا له). ورأى سيدنا عيسى عليه السلام رجلاً يسرق، فقال له: سرقت يا فلان؟ فقال: والله ما سرقت، فقال عليه السلام: (آمنتُ بالله وكذبتُ عيني). فمن أخلاق الصوفي أن يؤمن بالله، ويؤمن للمؤمنين، كيفا كانوا، ورحمة للذين آمنوا، فمن آذى من هذا وصفه فله عذاب أليم. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (62- 63):

{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)}
قلت: إنما وحّد الضمير في {يُرضوه} إما لأن رضى أحدهما رضى الآخر، فكأنهما شيء واحد، أو لأن الكلام إنما هو في إيذاء الرسول عليه الصلاة والسلام وإرضائه، فذكر الله تعظيماً لجانب الرسول، أو لأن التقدير: والله أحق أن يرضوه، ورسوله كذلك؛ فهما جملتان. والضمير في {أنه من يُحادِدِ}: ضمير الشأن: و{فأن}: إما تأكيد لأن الأُولى، وجملة (فله): جواب، أو تكون بدلاً منها، أو في موضع خبر عن مبتدأ محذوف، أي: فحقٌ، أو واجب له نار جهنم.
يقول الحق جل جلاله: {يحلفون بالله} أي: المنافقون، {لكم} أيها المؤمنون، حين يعتذرون في التخلف عن الجهاد وغيره، {ليُرْضوكم} أي: لترضوا عنهم وتقبلوا عذرهم، {واللَّهُ ورسولهُ أحقُ أن يرضُوه} بالطاعة والوفاق، واتباع ما جاء به، {إن كانوا مؤمنين} صادقين في إيمانهم. {ألم يعلموا أنه} أي: الأمر والشأن، {من يُحادِدِ اللَّهَ ورسولهُ} يعاديهما، ويخالف أمرهما {فأنّ له}؛ فواجبٌ أن له {نارَ جهنم خالداً فيها ذلك الخزيُ} أي: الهول {العظيم}، والهلاك الدائم، والعياذ بالله.
الإشارة: من أرضى الناسَ بسخط الله أسخطهم عليه وسخط عليه، ومن اسخط الناس في رضي الله أرضاهم عليه، ورضي عنه، فمن أقر منكراً؛ حياء أو خوفاً من الناس، فقد أسخط مولاه، ومن انكر منكراً، ولم يراقب أحداً فقد أرضى مولاه، ومن راقب الناس لم يراقب الله، ومن راقب الله لم يراقب الناس، {والله ورسوله أحق أن يُرضُوه إن كانوا مؤمنين}. وتأمل قول الشاعر:
مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ مَاتَ غَمّاً ** وفَازَ باللذاتِ الجسُور

وبالله التوفيق.