فصل: تفسير الآية رقم (70):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (64- 66):

{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)}
قلت: الضمائر في {عليهم}، و{تنبئهم}، و{قلوبكم}، تعود على المنافقين؛ خلافاً للزمخشري في الأولين، فقال: يعود على المؤمنين، وتبعه البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله: {يحذَرَ المنافقون أن تُنَزّلَ عليهم} أي: في شأنهم، {سورةٌ} من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، {تُنبئهم} أي: تخبرهم، أي: المنافقين، {بما في قلوبهم} من الشك والنفاق، وتهتك أستارهم، وكانوا يستهزئون بأمر الوحي والدين، فقال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {قل} لهم: {استهزئوا}؛ تهديداً لهم، {إن الله مُخرِجٌ ما تحذَرُون} من إنزال السورة فيكم، أو ما تحذرون من إظهار مساوئكم.
{ولئن سألتهم} عن استهزائهم، {ليقولن إِنما كنا نخوضُ ونلعبُ} فيما بيننا. رُوي أن ركباً من المنافقين مروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غزوة تبوك، فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل، يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه، هيهات هيهات! فأخبر الله نبيه، فدعاهم فقال: «قلتم: كذا وكذا؟» فقالوا: لا، والله، ما كنا في شيء من أمرك، ولا من أمر أصحابك، ولكنا كنا في شيء مما يخوض فيه الركب، ليقصر بعضنا على بعض السفر.
قال تعالى: {قل أباللّهِ وآياتِه ورسوله كنتم تستهزئون}، توبيخاً لهم على استهزائهم بما لا يصلح الاستهزاء به، {لا تعتذروا} أي: لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة؛ {قد كفرتم بعد إيمانكم} أي: قد أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول والطعن عليه، بعد إظهار إيمانكم الكاذب. {إن نعفُ عن طائفةٍ منكم}؛ بتوبتهم وإخلاصهم، حيث سبق لهم ذلك؛ كانَ منهم رجل اسمه مَخشِيّ، تاب ومات شهيداً. أو لكفهم عن الإيذاء، {نُعَذِّب طائفة بأنهم كانوا} في علم الله {مجرمين}؛ مُصرين على النفاق، أو مستمرين على الإيذاء والاستهزاء. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الاستهزاء بالأولياء والطعن عليهم من أسباب المقت والبعد من الله، والإصرار على ذلك شؤمه سوء الخاتمة، وترى بعض الطاعنين عليهم يحذر منهم أن يكاشفوا بأسراهم، وقد يُطلع الله أولياءه على ذلك، وقد لا يطلعهم، وبعد أن يطلعهم على ذلك لا يواجهوهُم بكشف أسرارهم لتخلقهم بالرحمة الإلهية. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (67- 69):

{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)}
قلت: قال في الأساس: ومن المجاز: نَسيتُ الشيء: تركتُه، {نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ}. قال في المشارق: ونسي بمعنى ترك، معناه مشهور في اللغة، ومنه: {نسوا الله فنسيهم} أي: تركوا أمره فتركهم. وقوله: {كالذين من قبلكم}: خبر، أي: أنتم كالذين، أو مفعول بمحذوف، أي: فعلتم مثل فعل من قبلكم.
يقول الحق جل جلاله: {المنافقون والمنافقاتُ بعضُهم من بعض} أي: متشابهة في الكفر والبعد عن الإيمان، لا فرق بين ذكورهم وإناثهم في النفاق والكفر، وهو نفي لأن يكونوا مؤمنين. وقيل: إنه تكذيب لهم في حلفهم بالله: {إنهم لمنكم} وتقرير لقوله: وهو قوله: {يأمرون بالمنكر}؛ كالكفر والمعاصي، {وينْهَون عن المعروف}؛ كالإيمان والطاعة، {ويقبضُون أيديَهم} عن الإعطاءِ المبار، وهو كناية عن البخل والشح. {نَسُوا الله} أي: غفلوا، أي: أغفلوا ذكره، وتركوا طاعته، {فنسيهم}؛ فتركهم من لطفه ورحمته وفضله، {إن المنافقين هم الفاسقون}؛ الكاملون في التمرد والفسوق عن دائرة الخير.
{وَعدَ اللَّهُ المنافقين والمنافقاتِ والكفارَ} أي: المهاجرين بالكفر، {نارَ جهنم خالدين فيها} أي: مقدرين الخلود. قال ابن جزي: الأصل في الشر أن يقال: أوعد، وإنما يقال فيه: «وعد» إذا صرح بالشر. اهـ. {هي حَسْبُهُم} أي: جزاؤهم عقاباً وعذاباً، وفيه دليل على عظم عذابها، {ولعنهم الله}؛ أبعدهم من رحمته، وأهانهم، {ولهم عذابٌ مقيم} لا ينقطع، وهو العذاب الذي وعدوه، أو ما يقاسونه من تعب النفاق، والخوف من المؤمنين.
{كالذين من قبلكُم} أي: أنتم كالذين من قبلكم، أو فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم، {كانوا أشدَّ منكم قوةً وأكثر أموالاً وأولاداً}، وهو بيان لتشبيههم بهم، وتمثيل حالهم بحالهم، {فاستمتعوا بخلافكم} أي: نصيبهم من ملاذ الدنيا وحظوظها، فأمّلوا بعيداً وبنوا مشيداً، فرحلوا عنه وتركوه، فلا ما كانوا أملوا أدركوا، ولا إلى ما فاتهم رجعوا، {فاستمتعتُم} أنتم {بخلاقِكم} أي: بنصيبكم مما خلق الله لكم وقدره لكم في الأزل، {كما استمتع الذين من قبلكُم بخلاقِهِم}، ثم تركوا ورحلوا عنه، كذلك ترحلون أنتم عنه وتتركونه.
قال البيضاوي: ذمَّ الأولين باستمتاعهم بحظوظهم المُخدَّجة من الشهوات الفانية، والتِهَائِهم بها عن النظر في العاقبة، والسعي في تحصيل اللذائذ الحقيرة؛ تمهيداً لذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء آثارهم. اهـ.
{وخُضْتُم} في الباطل {كالذي خاضُوا} أي: كخوضهم، أو كالخوض الذي خاضوه، وقيل: كالذين خاضوا فيه، فأوقع الذم على الجميع. {أولئك حبِطَتْ أَعمالُهم في الدنيا والآخرة} أي: لم يستحقوا عليها ثواباً في الدارين، {وأولئك هم الخاسرون}؛ الكاملون في الخسران، خسروا الدنيا والآخرة.
الإشارة: ينبغي لأهل الإيمان الكامل أن يتباعدوا عن أوصاف المنافقين؛ فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويمدّون أيديهم بالعطاء والإيثار، ويذكرون الله على سبيل الاستهتار، حتى يذكرهم برحمته. ويتشبهون بمن قبلهم من الصالحين الأبرار، فقد استمتعوا بلذيذ المناجاة، وحلاوة المشاهدات، وبلطائف العلوم والمكاشفات، أولئك الذين ثبتت لهم الكرامة من الله في الدنيا والآخرة، وأولئك هم الفائزون.

.تفسير الآية رقم (70):

{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)}
يقول الحق جل جلاله: في شأن المنافقين: {ألم يأتهم نبأُ}: خبر {الذين من قبلِهمْ}، كيف دمرهم الله وأهلكهم، حيث خالفوا رسلهم، {قوم نوح}؛ أغرقهم بالطوفان، {و} وقوم {عاد}؛ أهلكهم بالريح، {وثمودَ}؛ أهلكهم بالصيحة، {وقومِ إبراهيم}؛ أهلك نمرود ببعوض، وأهلك أصحابه به، أرسل عليهم سحابة من البعوض فخرطتهم، ودخلت بعوضة في دماغه فأكلت دماغه، حتى هلك، {وأصحاب مَدينَ}، وهم قوم شعيب، أُهلكوا بالنار يوم الظلة، {والمؤتفكات}؛ مدائن قوم لوط، ائتفكت بهم، أي انقلبت، فصار عاليها سافلها، وأمطروا حجارات من سجيل. {أتتهم رسلُهم} أي: كل واحدة منهن أتاها رسول {بالبيات}؛ بالمعجزات الواضحة، {فما كان الله ليظلمهم} أي: لم يكن من عادته ما يشابه ظلم الناس، كالعقاب بلا جرم. {ولكن كانوا أنفسهم يَظلمُون}؛ حيث عرضوها للعقاب بالكفر والتكذيب.
الإشارة: ينبغي للمؤمن المشفق على نفسه أن يتحرى مواطن الهلكة، فيجتنبها بقدر الإمكان؛ فينظرها ما فعل الله بأهل المخالفة والمعاصي، فيهرب منها بقدر إمكانه، وينظر ما فعل بأهل طاعته وطاعة رسوله من النصر والعز في الدارين، فيبادر إليها فوق ما يطيق، ويعظم الرسل، ومن كان على قدمهم ممن حمل الأمانة بعدهم، ويشد يده على صحبتهم وخدمتهم؛ فهذا يسعد سعادة الدارين. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (71- 72):

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)}
يقول الحق جل جلاله: {والمؤمنون والمؤمناتُ بعضهم أولياءُ} أي: أصدقاء {بعضٍ}، هذا في مقابلة قوله: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض}، وحض المؤمنين بالوصف بالولاية، {يأمرون بالمعروف وينهَونَ عن المنكر}؛ ضد ما فعله المنافقون، {ويُقيمون الصلاة وَيُؤتون الزكاة}؛ ضد قوله: {وَيَقْبِضُون أَيْدِيَهُمْ}، {ويُطيعون الله ورسوله} في سائر الأمور، ضد قوله: {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ}، {أولئك سيرحمهم الله} لا محالة؛ لأن السين مؤكدة للوقوع، {إن الله عزيزٌ}؛ غالب على كل شيء، ولا يمتنع عليه ما يريده، {حكيم} يضع الأشياء مواضعها.
ثم ذكر ما أعد لهم فقال: {وَعَدَ اللَّهُ المؤمنين والمؤمنات جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها ومساكن طيبةً} أي: تستطيبها النفس، أو يطيب فيها العيش. وفي الحديث: «إنها قصور من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت الأحمر». وفي حديث آخر: «إنَّ في الجنَّة غُرفاً ظَاهِرُها من بَاطنِها مِنْ ظَاهِرهَا، أَعَدَّها اللَّهُ لِمَنْ أَطعَمَ الطَّعَام، وأَلانَ الكَلامَ، وبذَل السَّلام، وتَابَعَ الصِّيام، وصلَّى باللَّيلِ والناس نِيامٌ».
وذلك {في جنات عَدنْ}، أي: إقامةٍ وخلود. وعنه عليه الصلاة والسلام: جنات عدن: دار الله، التي لم ترها عين، ولا تخطر على قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاث: النبيون، والصديقون، والشهداء. يقول الله تعالى: {طوبى لمن دخلك} قاله البيضاوي. ثم قال: ومرجع العطف فيها أي: في قوله: {ومساكن طيبة} يحتمل أن يكون لتعدد الموعود لكل واحد له، أي: فكل مؤمن ومؤمنة له جنات ومساكن، أو للجميع؛ على سبيل التوزيع، أي: فالجنات والمساكن معدة للجميع، ثم يقسمونها على حسب سعيهم في الدنيا، أو إلى تغاير وصفه أي: الموعود فكأنه وصفه أولاً بأنه جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها؛ لتميل إليه طبائعهم أول ما يقرع أسماعهم، ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش، معرى عن شوائب الكدرات التي لا تخلو عن شيء منها أماكن الدنيا، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات في جوار رب العالمين، لا يعتريهم فيها فناء ولا تغيير.
ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك فقال: {ورضوانٌ من الله أكبرُ}؛ لأنه المَبدأ لكل سعادة وكرامة، والمؤدي إلى نيل الوصول والفوز باللقاء. وعنه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ تعالى يَقُولُ لأَهْلِ الجَنَّةِ: هَلْ رَضيتُم؟ فَيَقُولونَ: وَما لَنَا لا نَرضى وَقَد أعطيتَنا ما لم تُعطِ أحداً مَنْ خَلقِكَ، فيَقُول: أَنَا أُعطِيكُم أفضل مَنْ ذَلِكَ. قالوا: أَيّ شَيء أَفضَلُ مَنْ ذلِكَ؟ قال: أُحِلَ عَلَيكُم رِضوَاني فَلاَ أسخَطُ عَلَيكُم أَبَدا» {ذلك} أي: الرضوان، أو جميع ما تقدم، {هو الفوزُ العظيم} الذي تستحقر دونه الدنيا وما فيها. اهـ.
الإشارة: قد أعد الله لأهل الإيمان الحقيقي؛ الذين بذلوا مهجهم وأموالهم في مرضاته، جنات المعارف، تجري من تحت أفكارهم أنهار العلوم والحِكَم، ومساكن طيبة، وهي: عكوف أرواحهم في الحضرة، متلذذين بحلاوة الفكرة والنظرة، في محل المشاهدة والمكالمة، والمساررة والمناجاة، ورضوان من الله، الذي هو نعيم الأرواح، أكبر من كل شيء؛ لأن نعيم الأرواح أجل وأعظم من نعيم الأشباح، حتى أن المقربين ليضحكون على أهل اليمين، حين يرونهم يلعبون مع الولدان والحور، كما ذكر الغزالي. وأما المقربون فيشاركونهم في ذلك، ويزيدون عليهم بلذة الشهود.
قال القشيري، عند قوله تعالى: {إنَّ أصحبَ الجنَّة اليومَ في شُغُلٍ فَكِهُون} [يس: 55]: إنه لا تنافي بين اشتغالهم بلذاتهم مع أهليهم وبين شهود أمرهم، كما أنهم اليومَ مستلذون بمعرفته بأي حالةٍ هم فيها، ولا يَقْدَحُ اشتغالهم بحُظُوظِهِم في معارفهم. انتهى لفظه، وهو حسن. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (73- 74):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)}
يقول الحق جل جلاله: {يا أيها النبيُّ جاهد الكفار} بالسيف، {والمنافقين} باللسان؛ بإلزام الحجة وبإقامة الحدود؛ ما لم يظهر عليهم ما يدل على كفرهم، فإن ظهر عليهم ذلك فحكمهم كحكم الزنديق، فيقتل على المشهور. {واغْلظْ عليهم} بالقول والفعل، إن استوجبوا ذلك، ولا تراقبهم، {ومأواهم جهنُم وبئس المصير} أي: المرجع، مصيرهم.
{يحلفون بالله ما قالوا}، رُوي: أنه صلى الله عليه وسلم أقام في غزوة تبوك شهرين، ينزل عليه القرآن، ويعيب المختلفين فقال الجُلاس بن سُويد: لئن كان ما يقول محمد في إخواننا حقاً لنحن شرٌّ من الحمير، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فاستحضره، فحلف بالله ما قال، فنزلت، فتاب الجُلاس، وحسُنَت توبته.
قال تعالى: {ولقد قالوا كلمة الكفر}، يعني: ما تقدم من قول الجُلاس، أو قول ابن أُبيّ: سَمِّن كَلبَك يأكُلك، أو: {لئن رجعنا إلى المدينة}... الآية. {كفروا بعد إسلامهم}؛ وأظهروا الكفر بعد إظهار الإسلام، ولم يقل بعد إيمانهم، لأنهم يقولون بألسنتهم: آمنا، ولم يدخل في قلوبهم، {وهَمُّوا بما لم ينالوا} من قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو: أن خمسة عشر منهم توافقوا عند مَرْجِعِه من تبوك، أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي، إذا وصل إلى العَقَبة بالليل، فأخذ عمَّار بن ياسر بخطام راحلته يقودها، وحُذيفة خلفها يسوقها، فبينما هم كذلك إذ سمع حُذَيفة تقعقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح، فقال: إليكم إليكم إليكم يا أعداء الله، فهربوا. أو: هموا بإخراجه من المدينة، أو إخراج المؤمنين، أو هموا بأن يُتَوجُوا عبد الله بن أُبي، وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينالوا شياً من ذلك.
{وما نَقَمُوا} أي: وما عابوا وكرهوا {إلا أن أغناهم الله ورسولُهُ من فضله} الذين حقهم أن يشكروا عليه، وذلك أن اكثر أهل المدينة كانوا محاويج، في ضَنَكٍ من العيش، فلما قَدِمَهم رسول الله صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم، وقُتِلأ للجُلاَس مولى، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدينه اثنى عشر ألفاً، فأُعطيت له، فاستغنى.
{فأن يتوبُوا يَكُ خيراً لهم}، وهذا حمل الجلاس على التوبة، والضمير يعود على الرجوع المفهوم من التوبة، {وإن يتولوا} عنك؛ بالإصرار على النفاق، {يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة}؛ بالقتل والنار، {وما لهم في الأرض من وليِّ ولا نصير} ينجيهم من العذاب.
الإشارة: كفار الخصوصية على القسمين: قسم أظهروا الإنكار على أهلها، وقسم أبطنوه وأظهروا الوفاق، ففيهم شبه بأهل النفاق، فينبغي الإعراض عن الجميع، والاشتغال بالله عنهم، وهو جهادهم والإغلاظ عليهم، فعداوة العدو حقاً هو اشتغالك بمحبة الحبيب حقاً. وقد تَصْدر عنهم في جانب أهل الخصوصية مقالات ثم ينكرونها، وقد يَهمُّوا بما لم ينالوا من إذايتهم وقتلهم، لو قدروا. والله يتولى الصالحين.