فصل: تفسير الآية رقم (90):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (86- 89):

{وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)}
يقول الحق جل جلاله: {وإذا أنزلت سورة}، أو بعضها، في شأن الجهاد قائله: {ان آمنوا بالله} وحده، {وجاهدوا مع رسوله} صلى الله عليه وسلم، {استأذَنَكَ} في التخلف {أُولو الطَّولِ منهم} أي: أولو الغنى والسعة، {وقالوا ذَرْنَا نكن مع القاعدين}؛ الذين قعدوا لعذر، {وَضُوا بأن يكونوا مع الخوالِف}؛ مع النساء، جمع خالفة، وقد يقال: الخالفة؛ للذي لا خير فيه. {وطبع على قلوبهم} بالكفر والنفاق، {فهم لا يفقهون} ما في الجهاد وموافقة الرسول من السعادة، وما في التخلف عنه من الشقاوة.
{لَكِنِ الرسولُ والذين آمنوا معه جاهدُوا بأموالهم وأنفسهم} أي: إن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا، فقد جاهد من هو خير منهم، {وأولئك لهم الخيراتُ}؛ منافع الدارين: النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة والكرامة في الآخرة، وقيل: الحُور، لقوله: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70]، و{وأولئك هم المفلحون}؛ الفائزون بالمطالب البهية والمراغب السنية. {أعدَّ اللَّهُ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم}؛ بيان لبعض الخيرات الأخروية.
الإشارة: إذا ظهر الدعاة إلى الله يُشوقون الناس إلى حضرة الله؛ ترى من صُرِفَ عنه عِنَانُ العناية، ولم يضرب له مع السابقين بسهم الهداية، يميل إلى التقاعد إلى وطن الراحة، والميل إلى ما ألفه من سيئ العادة، يستأذن أن يتخلف مع النساء والصبيان، ويتنكب طريق الأقوياء من الشجعان، فإن تخلف هذا مع عوام الضعفاء فقد تقدم لهذا الأمر من يقوم به من الأقوياء، اختارهم الله لحضرته، وقواهم على مكافحة مشاهدته ومحبته، جاهدوا نفوسهم في معرفة محبوبهم، وبذلوا أموالهم ومهجهم في الوصول إلى مطلوبهم، {وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون}.

.تفسير الآية رقم (90):

{وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)}
قلت: {المُعَذَرُون}: أصله: المعتذرون، نقلت حركة التاء إلى العين، وأدغمت التاء في الذال. وقرأ يعقوب: {المُعذِرونَ}: اسم مفعول، من أعذر، إذا بالغ في العذر.
يقول الحق جل جلاله: {وجاء المُعذرون عن الأعراب} يعتذرون في التخلف عن الغزو؛ {ليُؤذَنَ لهم} في القعود، قيل: هم أسد وغطفان؛ استأذنوا في التخلف، معتذرين بالجهد وكثرة العيال. قيل: كاذبين، وقيل: صادقين. وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل، قالوا: إن غزونا معك غارت طيّئ على أهالينا ومواشينا، وقيل: نزلت في قوم من غِفار.
{وقَعَدَ الذين كذبوا اللَّه ورسوله} من غير هؤلاء، وهم قوم لم يجاهدوا ولم يعتذروا في تخلفهم، فكذبوا في دعواهم الإيمان بالله ورسوله، يقال: كذبت فلاناً بالتخفيف، أي: أخبرته بالكذب. ثم ذكر وعيدهم فقال: {سيُصيبُ الذين كفروا منهم عذابٌ أليم}؛ في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار.
الإشارة: المتخلفون عن طريق الخصوص على ثلاثة أقسام:
قسم: أقروا بها، وعرفوا صحتها، ثم شحوا بأنفسهم وبخلوا بأموالهم، فاعتذروا في التخلف عنها بأعذار باطلة، هؤلاء لا حجة لهم عند الله، وقوم أقبح منهم، لم يلتفتوا إلى من جاء بها ولم يرفعوا بذلك رأساً. قال تعالى في مثلهم: {وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم}.

.تفسير الآيات (91- 93):

{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)}
قلت: جواب {إذا} يحتمل أن يكون {تولوا}، وجملة {قُلتَ}: حال من الكاف في {أتوك}، أي: أتوك قائلاً لا أجد... إلخ، ويحتمل أن يكون الجوابُ: {قلتَ}، و{تولوا} استئناف لبيان حالهم حينئذٍ، و{من الدمع}: للبيان، وهي مع المجرور، في محل نصب على التمييز، فهو أبلغ من تفيض دمعُها؛ لأنه يدل على أن العين صارت دمعاً فياضاً، و{حزناً}: علة، أو حال، أو مصدر لفعل دل عليه ما قبله، {ألا يجدوا}: متعلق به، أي: حزناً على ألاّ يجدوا ما ينفقون، و{إنما السبيل} راجع لقوله: {ما على المحسنين من سبيل}.
يقول الحق جل جلاله: {ليس على الضعفاءِ}؛ كالهرْمى، {ولا على المرضى}؛ كالزّمْنَى ومن أضناه المرض، {ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون} في الغزو {حَرَجٌ} أي: لا حَرج على هؤلاء في التخلف عن الغزو، {إذا نَصَحوا الله ورسوله} بالإيمان والطاعة في السر والعلانية. قيل: نزلت في بني مُقرن، وهم ستة إخوة صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل في عبد الله بن مُغفل.
{ما على المحسنين من سبيل} أي: ليس عليهم جناح، ولا إلى معاتبتهم سبيل، وإنما وضع المحسنين موضع المضمر؛ للدلالة على أنهم منخرطون في سلك المحسنين، غير معاتبين في ذلك، {والله غفور رحيم} بالمسيء فكيف بالمحسنين؟ {ولا على الذين إذا ما أتُوكَ لتحملَهم} معك إلى الغزو، وهم البكاؤون؛ سبعة من الأنصار: مَعقِل بن يَسَار، وصَخْر بن خنساء، وعبد الله بن كعب، وسالم بن عُمَيْر، وثَعْلَبَة بن غَنَمة، وعبد الله بن مُغفَّل، وعُلْية بن زيد. أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: نذرنا الخروج فاحملنا على الخفاف المَرْقُوعة والنِّعال المَخْصُوفَة، نغزو معك، فقال: لا أجد، فتولَّوا وهم يبكون. وقيل: هم بنو مُقَرِّن، وقيل: أبو موسى وأصحابه، وعليه اقتصر البخاري.
{قلت لا أجِدُ ما أحملكم عليه}؛ وليس عندي ما أحملكم عليه، {تولَّوا} عنك {وأعيُنهم تفيضُ من الدمع} أي: يفيض دمعها؛ {حزناً} على {ألا يجدوا ما يُنفقون} في غزوهم.
زاد البخاري: فلما رجع أبو موسى وأصحابه، أُتي عليه الصلاة والسلام بِنَهَب إبل، فدعاهم وحملهم عليها، فقالوا: يا رسول الله، إِنَّكَ حَلَفتَ أَلا تِحْمِلنَا، فخفنا أن نكون أغفلناك يمينك، فقال: «ما أنا حملتكم، ولكن الله حملكم، وإنِّي والله، ما أحْلِفُ على يَمِينٍ فَأرَى خَيْراً مِنْها إلا كَفّرْتُ عن يَمِيني وأَتَيتُ الذي هُوَ خَيْر». أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: {إنما السبيلُ} أي: الحرج والمعاتبة {على الذين يستأذنونك} في القعود، {وهم أغنياء}؛ واجدون للأهبة، {رَضُوا بأن يكونوا مع الخوالِف}؛ كالنساء والصبيان، وهو استئناف لبيان ما هو السبب لاستثنائهم من غير عذر، وهو رضاهم بالدناءة، والانتظام في جملة النساء والصبيان؛ إيثار للدعة والكسل، {وطَبَعَ اللَّهُ على قلوبهم} بالكفر والغفلة؛ حتى غفلوا عن وخامة العاقبة، {فهم لا يعلمون} ما يؤول إليه حالهم من الندم والأسف.
الإشارة: كل من لم ينهض إلى صحبة الخصوص؛ الذين جعلهم الله أدوية القلوب، توجه العتاب إليه يوم القيامة، إذ لا يخلو من لم يصحبهم من عَيب أو نقص أو خاطر سوء، حتى ربما يلقى الله بقلب سقيم.
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: من لم يتغلغل في عملنا هذا، مات مصراً على الكبائر وهو لا يشعر. وقال الغزالي: دواء القلوب واجب عيناً على كل مسلم، فكل من قصر في ذلك عُوقب يوم القيامة، إلا من حبسه عذر صحيح: من مرض مزمن، أو كبر سن، أو فقر مدْلق. قال تعالى: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله}، فإن أحبوا أولياء الله، وصدقوهم وعظموهم، ودلّوا الناس على صحبتهم، فهؤلاء محسنون، {ما على المحسنين من سبيل والله غفور} لضعفهم، {رحيم} بهم.
وقال الورتجبي: {إذا نصحوا لله ورسوله} أي: إذا عرّفوا عباد الله طريق الله، والأسوة بسنة رسول الله. اهـ. وقد قال الحواريون: يا روح الله، ما النصيحة لله؟ قال: تقديم حق الله على حق الناس. اهـ. ولا حرج أيضاً على من لم يجد ما ينفق على الأشياخ من الأموال، فإن من أعطى نفسه كفته عَن إعطاء المال. قال تعالى: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم} إلى حضرة {قلت لا أجد ما أحملكم عليه}؛ فإن بذل الأموال مع المهج أنهض من أحدهما، {تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون}؛ ليتحببوا به في قلوب المشايخ. قال بعض المشايخ: أردنا أن نجعل من يسوق مع من لا يسوق على حد سواء، فلم يعتدلوا. اهـ.
وقوله تعالى: {حزناً ألا يجدوا ما ينفقون}، ليس حزنهم على فوات الدنيا، وإنما حزنهم على تخلفهم عن رسول الله، وعن صحبة أهل الكمال. وقال القشيري: شقَّ عليهم أن يكون على قلب الرسول عليه الصلاة السلام منهم، أوبسببهم، شُغْلٌ، فَتَمنَّوا أن لو أزيحت علتهم، لا ميلاً إلى الدنيا؛ ولكن لئلا يعود إلى قلب الرسول من فعلهم كراهةٌ، ولقد قيل:
مَنْ عَفَّ خَفَّ على الصديق لِقاؤه ** وأخو الحوائج وجهه مَمْلولُ

. اهـ.

.تفسير الآيات (94- 96):

{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)}
قلت: مفعول (نبأ) الثاني: محذوف، أي: نبأنا جملة من أخباركم، و(جزاء): مصدر لمحذوف، أي: يجازون جزاء أو علة، أي: للجزاء بما كسبوا.
يقول الحق جل جلاله: {يعتذرون إليكم} يعني: المنافقين، {إذا رجعتم إِليهم} من تبوك، {قل} لهم: {لا تعتذروا} بالمعاذير الكاذبة؛ لأنه {لن نؤمن لكم} أي: لن نصدقكم فيها؛ لأنه {قد نبأنا اللَّهُ من أخباركم}؛ أعلمنا بالوحي، على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، ببعض أخباركم، وهو ما في ضما ئركم من الشر والفساد.
{وسيَرَى الله عملكم ورسولُه}: هل تتوبون من الكفر، أم تثبتون عليه؟ وكأنه استتابة وإمهال للتوبة، {ثم تُردُّون إلى عالم الغيب والشهادة} وهو الله، والأصل: ثم تردون إليه؛ فوضع هذا الوصف موضع الضمير؛ للدلالة على أنه مطلع على سرهم وعَلانيتهم، لا يعزب عن علمه شيء من ضمائرهم وأعمالهم، {فينبئكم} أي: يخبركم {بما كنتم تعملون}؛ بالتوبيخ والعقاب عليه.
{سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم} من غزوكم؛ {لتُعرضوا عنهم} أي: عن عتابهم، {فأعرضوا عنهم}؛ لا توبخوهم؛ {إنهم رِِجْسٌ}؛ لخبث قلوبهم لا ينفع فيهم التأنيب، فإن المقصود من العتاب: التطهير بالحمل على الإنابة، وهؤلاء أرجاس لا تقبل التطهير، فهو علة للإعراض وترك المعاتبة، {ومأواهم جهنمُ} أي: منقلبهم إليها، والمعنى: أن النار كفتهم عتاباً، فلا تتكلفوا عتابهم، وذلك {جزاءً بما كانوا يكسبون} من الكفر والنفاق.
{يحلفُون لكم لتَرضَوا عنهم} بحلفهم، فتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم من الستر والإرفاق، وإشراكهم في الغنائم، {فإن تَرْضَوا عنهم} بذلك {فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} أي: فإن رضاكم لا يستلزم رضى الله، ورضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كانوا في سخط الله وبصدد عقابه، أو إن أمكنهم أن يُلبسوا عليكم لا يمكنهم أن يلبسوا على الله؛ فإنه يهتك سترهم وينزل الهوان بهم. والمقصود من الآية: النهي عن الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم، بعد الأمر بالإعراض عنهم وعدم الالتفات نحوهم. قاله البيضاوي.
الإشارة: قد يظهر لهذه الطائفة منافقون، إذا ظهر على أهل الله عز أو نصر جاؤوا يعتذرون عن تخلفهم عنه، ويحلفون أنهم على محبتهم؛ فلا ينبغي الاغترار بشأنهم، ولا مواجهتهم بالعتاب؛ بل الواجب الإعراض عنهم والغيبة في الله عنهم، فسيرى الله عملهم ورسوله، ثم يردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئهم بما كانوا يعملون.

.تفسير الآيات (97- 99):

{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)}
يقول الحق جل جلاله: {الأعرابُ}، وهم سكان البادية، قال ابن عزيز: يقال: رجل أعرابي، إذا كان بدوياً. وإن لم يكن من العرب، ورجل عربي، إذا كان منسوباً إلى العرب، وإن لم يكن بدوياَ. أهل البوادي من المنافقين هم {أشدُّ كفراً ونفاقاً} من أهل الحاضرة، وذلك لتوحشهم وقساوتهم، وعدم مخالطتهم لأهل العلم وقلة استماعهم للكتاب، {وإجدَرُ} أي: أحق {ألاّ يعلموا حدود ما أنزل اللَّهُ على رسوله} من الشرائع وفرائضها وسننها، لبُعدهم عن مجالس العلم، {والله عليمٌ حكيم}؛ يعلم كل واحد من أهل الوبَر والمدَر، حكيم فيما يدبر من إسكان البادية، أو الحاضرة، ويختار لكم واحد بحكمته البالغة ما يليق به، وسيأتي بقية الكلام على سكنى الحاضرة أو البادية في الإشارة، إن شاء الله.
{ومن الأعراب من يتخذ} أي: يعدُ {ما ينفقُ} من الزكاة وغيرها في سبيل الله، {مَغرَماً} أي: غرامة وخسراناً؛ إذ لا يحتسبه عند الله، ولا يرجوا عليه ثواباً، وإنما ينفقه لرياء أو تقية، فيثقل عليه ثقل المغرم الذي ليس بحق، {ويتربصُ بكم الدوائرَ} أي: دوائر الزمان ونُوبه، أو ينتظر بكم مصائب الزمان، لينقلب الأمر عليكم؛ فيتخلص من الإنفاق الذي كلف به.
قال تعالى: {عليهم دائرةُ السَّوْءِ}، وهو دعاء عليهم بنحو ما يتربصونه أي: عليهم يدور من الدهر ما يَسُوؤهم أو جعل الله دائرة السوء نازلة بهم. قال ابن عطية: كل ما كان بلفظ دعاء من جهة الله عز وجل فإنما هو بمعنى إيجاب الشيء؛ لأن الله تعالى لا يدعو على مخلوقاته وهي في قَبضته، ومن هذا قوله: {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1]، {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1]، وهي كلها أحكام تامة تضمنها خبره تعالى. اهـ. أو إخبار عن وقوع ما يتربصونه عليهم. قال البيضاوي: الدوائر في الأصل: مصدر أضيف إليه السوء؛ للمبالغة، كقولك: رَجلُ صدق. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {السُّوء} هنا، وفي الفتح بضم السين. اهـ. {والله سميعٌ} لما يقولونه عند الإنفاق {عليم} بما يضمرونه من الرياء وغيره.
ثم ذكر ضدهم، فقال: {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذُ ما يُنفق} أي: يعد ما ينفقه من الزكاة وغيرها {قرباتٍ عند الله}؛ تُقربهم إليه زلفى؛ لإخلاصهم فيها. {وصلواتِ الرسول} أي: ويتخذ ما ينفق سبَبَ صلوات الرسول؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو للمتصدقين، ويقول: اللهم صل على فلان، ويستغفر لهم. ولذلك سُن للمصدّق عليه أن يدعو للمتصدق عند أخذ صدقته، ولكن ليس له أن يصلي عليه، كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك منصبه، فله أن يتفضل به على غيره.
{ألا إنها} أي: نفقاتهم، {قُربة لهم} تقربهم إلى حضرة ربهم، وهذا شهادة من الله لصحة معتقدهم وكمال إخلاصهم، {سَيُدخلهم اللهُ في رحمته}، وعدٌ من الله لهم بإحاطة الرحمة بهم، أو سيدخلهم في جنته التي هي محل رحمته وكرامته، والسين لتحقيق وقوعه.
{إن الله غفور رحيم}؛ يغفرما فرط من الخلل، ويتفضل برحمته على ما نقص عن درجات الكمال. قيل: إن الآية الأولى نزلت في أسد وغطفان وبني تميم؛ فهم الذين يتخذون ما ينفقون مغرماً. والثانية نزلت في عبد الله ذي البجادين وقومه؛ فهم الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند الله وصلوات الرسول. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد ورد الترغيب في سكنى المدن؛ لأنها محل العلم وسماع الوعظ، وفيها من يستعان بهم على الدين، وورد الترغيب أيضاً في سكنى الجبال والفرارا بالدين من الفتن، وخصوصاً في آخر الزمان. ولهذا اختار كثير من الصحابة والتابعين سكنى البوادي؛ كأبي ذر؛ وسلمة بن الأكوع، وغيرهما رضي الله عنهم.
والتحرير في المسألة: أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والمقاصد، فمن كان مراده تحقيق الشريعة، وتحرير مسائل العلم الظاهر، والقيام بوظائف الدين، ولم يجد في البادية من يعينه على ذلك؛ فسكنى المدن أفضل له، ومن كان مراده تصفية قلبه وتحقيق علم الطريقة، وتهيئة القلب لإشراق أنوار الحقيقة، فالاعتزال في البوادي، وقرون الجبال، أوفق له، إن وجد من يستعين بهم على ذلك؛ لأن شواغل المدن، وعوائدها كثيرة، وقد كثرت فيها الحظوظ والأهوية؛ فلا يجد فيها إلا من هو مفتون بدنيا أو مبتلى بهوى، بخلاف أهل البادية، هذه العوائد فيهم قليلة، وجُلّ أهلها على الفطرة.
وأيضاً: هم مفتقرون إلى من يسوسهم بالعلم أكثر من غيرهم، فمن تصدى لتعليمهم وتذكيرهم لا يعلم قدره إلا الله. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: أرحم الناس بالناس من يرحم من لا يرحم نفسه. أي: من يرحم الجاهل الذي لا يرحم نفسه؛ بأن يعلمه ما ينفع به نفسه ويرحمها. وقال الغزالي في الإحياء: يجب على العلماء أن يبعثوا من يعلم الناس في البوادي؛ فإن أخلوا بذلك الأمر عاقبهم الله، فمن تعرض لتعليمهم قام بهذا الواجب. والله تعالى أعلم. وأما يذكر حديثاً: «أمتي في المدن، وقليل في البادية» فلم يصح، بل قال عليه الصلاة والسلام للرجل الذي أراد أن ينتقل إلى المدينة: «اعبد الله حيثما كنت، فإن الله لن يترك من أعمالك شيئاً» وكذلك قوله: إذا إراد الله بعبد خيراً نقله من البادية إلى الحاضرة؛ لم أقف عليه حديثاً. وبالله التوفيق.