فصل: سورة التوبة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (70- 71):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)}
قلت: (أسْرى): جمع أسير، ويجمع على أسارى. وقرئ بهما، و{خيراً مما}: اسم تفضيل، وأصله: أًخْيَر، فاستغنى عنه بخير، وكذلك شر؛ أصله: أشر، قال في الكافية:
وغالباً أغناهم خير وشر ** عن قولهم أخيرُ منه وأشر

يقول الحق جل جلاله: {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى} الذين أخذتم منهم الفداء: {إنْ يعلم اللَّهُ في قلوبكم خيراُ} من الفداء.
رُوي أنها نزلت في العباس رضي الله عنه؛ كلَّفه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفدي نفسه، وابني أخويه: عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، فقال: يا محمد، تركتني أتكففُ قريشاً ما بقيت، فقال له عليه الصلاة والسلام: وأين الذهب الذي دفعتَهُ لأُمِّ الفضلِ وقتَ خُرُوجك، وقلت لها: لا أدْري ما يصيبني في وَجْهي هذا، فإن حَدَثَ بي حدثٌ فهو لك، ولعبدِ الله، وعُبيد الله، والفضل، وقُثَم، قال له وما يُدْريكَ؟ قال: أخبرني به ربي تعالى، قال: فأشهدُ أنكَ صادِقٌ، وأن لا اله إلا الله، وأنك رسول الله، واللَّهِ لم يطلعْ عليه أحدٌ إلا الله، ولقد دفعته إليها في سَوَادِ اللِّيْلِ.
قال العباس: فأبْدَلَني الله خيراً من ذلك، أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المال الذي قدم من البحرين ما لم أقدر على حمله، ولي الآن عشرون عبداً، إن أدناهم يضرب أي: يتجر في عشرين ألفاً، وأعطاني زمزم، ما أحب أَنَّ لي بها جميعَ أموالِ أهل مكَّة، وأنا أنتظرُ المغفره مِنْ ربكم، يعني: الموعود بقوله تعالى: {وَيَغفِر لَكُم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
{وإنْ يُريدوا}؛ الأسارى {خيانتك}؛ بنقض ما عهدوك به، {فقد خانوا الله من قبلُ}؛ بالكفر والمعاصي {فأمْكَنَ منهم} وأمكنك من ناصيتهم، فقُبِضوا وأُسروا ببدر، {والله عليمٌ} لا يخفى عليه شيء، {حكيمٌ} فيما دبر وأمضى.
الإشارة: يقال للفقراء المتوجهين إلى الله، الذين بذلوا أموالهم ومهَجَهم، وقتلوا نفوسهم في طلب محبوبهم: إن يعلم الله في قلوبكم خيراً، كصدق وإخلاص، يؤتكم أفضل مما أخذ منكم، من ذبح النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس. وهو الغناء الأكبر، والسر الأشهر، الذي هو الفناء في الله، والغيببة عما سواه، وثمرته: المشاهدة التي تصحبها المكالمة، وهذا هو الإكسير والغنا الكبير، فكل من باع نفسه في طلب هذا فقد ربحت صفقته، وزكت تجارته، مع غفران الذنوب، وتغطية المساوئ والعيوب. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (72- 73):

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)}
يقول الحق جل جلاله: {إن الذين آمنوا وهاجروا} أوطانهم في الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لنصرة الدين بالجهاد، {وجاهدوا بأموالهم} فصرفوها في الإعداد للجهاد، كالكراع والسلاح، وأنفقوها على المجاريح، {وأنفسهم في سبيل الله}؛ بمباشرة القتال، {والذين آوَوْا} رسول الله ومن هاجر معه، وواسوهم بأموالهم {ونصرُوا} دين الله ورسوله، {أولئك بعضُهم أولياءُ بعض} في التعاون والتناصر، أو في الميراث.
وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون الأقارب، حتى نسخ بقوله: {وَأُولُوا الأَرحَامِ بَعضُهُم أَولَى بِبعضٍ} [الأحزاب: 6].
ثم ذكر من لم يهاجر فقال: {والذين آمنوا ولم يُهاجِروا ما لكم من ولايتهم من شيء}؛ لا في النصرة، ولا في الميراث، {حتى يُهاجِروا} إليكم، {وإنِ استنصروكم} على المشركين {في} إظهار {الدين فعليكم النصرُ} أي: فواجب عليكم نصرهم وإعانتهم، لئلا يستولي الكفر على الإيمان، {إلا على قوم} كان {بينكم وبينهم} عهد {ميثاق}، فلا تنقضوا عهدهم بنصرهم. فإن الخيانة ليست من شأن أهل الإيمان، {والله بما تعملون بصيرٌ} لا يخفى عليه من أوفى ومن نقص.
{والذين كفروا بعضُهم أولياءُ بعضِ} في الميراث. ويدل بمفهومه، على منع التوراث والمؤازرة بينهم وبين المسلمين. {إلا تفعلُوه} أي: إلا تفعلوه ما أُمرتم به من موالاة المؤمنين ونصرتهم، أو نصرة من استنصر بكم ممن لم يهاجر، {تكن فتنةٌ في الأرضِ}؛ باستيلاء المشركين على المؤمنين، {وفسادٌ كبير} بإحلال المشركين أموال المؤمنين وفروجهم، أو: إلاّ تفعلوا ما أمرتم به من حفظ الميثاق، تكن فتنة في الأرض، فلا يفي أحد بعهد أبداً، وفساد كبير بنهب الأموال والأنفس.
الإشارة: أهل التجريد، ظاهراً وباطناً، هم الذين آمنوا وهاجروا حظوظهم، وجاهدوا نفوسهم بسيوف المخالفة وآوَوا من نزل أو التجأ إليهم من إخوانهم أو غيرهم، أو آووا أشياخهم وقاموا بأمورهم، ونصروا الدين بالتذكير والإرشاد والدلالة على الله، أينما حلوا من البلاد، أولئك بعضهم أولياء بعض في العلوم والأسرار، وكذلك في الأموال. فقد قال بعض الصوفية: (الفقراء: لا رزق مقسوم، ولا سر مكتوم). وهذا في حق أهل الصفاء من المتحابين في الله.
والذين آمنوا ولم يهاجروا هم أهل الأسباب من المنتسبين، فقد نهى الله عن موالاتهم في علوم الأسرار وغوامض التوحيد؛ لأنهم لا يطيقون ذلك؛ لشغل فكرتهم الأسباب أو بالعلوم الرسمية، نعم، إن وقعوا في شبهة أو حيرة، وجب نصرهم بما يزيل إشكالهم، لئلا تقع بهم فتنة أو فساد كبير في اعتقادهم. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (74- 75):

{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)}
قال البيضاوي: لما قسم المؤمنين ثلاثة أقسام، أي: مهاجرين، وأنصار، ومن آمن ولم يهاجر بين أن الكاملين في الإيمان منهم هم الذين حققوا إيمانهم، بتحصيل مقتضاه من الهجرة، والجهاد، وبذل المال، ونصرة الحق، ووعد لهم الوعد الكريم، فقال: {لهم مغفرة ورزق كريم}؛ لا تبعة له، ولا فتنة فيه. ثم ألحق بهم في الأمرين من يلتحق بهم ويتسم بسمتهم فقال: {والَّذيِنَ ءَامَنُوا مِن بَعدُ وَهَاجَرُوا وَجَهَدُوا مَعَكُم فَأُولَئِكَ مَنكُم...}
أي: من جملتكم أيها المهاجرين والأنصار. اهـ.
ثم نسخ الميراث المتقدم، فقال: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
يقول الحق جل جلاله: {وأولُوا الأرحامِ} من قرابة النسب، {بعضُهم أوْلى ببعض} في التوارث من الأجانب، وظاهره: توريث ذوي الأرحام، كالخال والعمة وسائر ذوي الأرحام، وبه قال أبو حنيفة، ومنعه مالك، ورأى أن الآية منسوخة بآية المواريث التي في النساء، أو يراد بالأولية: غير الميراث، كالنصرة وغيرها. وقوله: {في كتابِ الله} أي: في القرآن، أو اللوح المحفوظ. {إن الله بكل شيء عليم} من أمر المواريث وغيرها، أو عليم بحكمة إناطتها بنسبة الإسلام والمظاهرة أولاً، بالقربة ثانياً، والله تعالى أعلم.
الإشارة: الناس ثلاثة: عوام، وخواص، وخواص الخواص. فالعوام: هم الذين لا شيخ لهم يصلح للتربية. والخواص: هم الذين صحبوا شيخ التربية، ولم ينهضوا إلى مقام التجريد. وخواص الخواص: هم الذين صحبوا شيخ التربية وتجردوا ظاهراً وباطناً، خربوا ظواهرهم، وعمّوا بواطنهم، وهم الذين خاضوا بحار التوحيد، وذاقوا أسرار التفريد. وهم الذين أشار المجذوب إلى مقاومهم بقوله:
يا قارئين علم التوحيد ** هنا البحور اليَّ تغْبي

هذامقام أهل التجريد ** الواقفين مع ربي

فأهل التجريد، كالمهاجرين والأنصار، وأهل الأسباب من أهل النسبة، كمن لم يهاجر من الصحابة، ومن تجرد بعدُ ودخل معهم، والتحق بهم. قال تعالى؛ ق ل تعالى؛ {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم}، ومن لا نسبة له كمن لا صحبة له، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وآله، وصحبه، وسلم تسليماً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

.سورة التوبة:

.تفسير الآيات (1- 2):

{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)}
قلت: {براءة}: خبر عن مضمر، أي: هذه براءة و{مِنَ}: ابتدائية، متعلقة بمحذوف، أي: واصلة من الله، و{إلى الذين}: متعلقة به أيضاً، أ ومبتدأ لتخصيصها بالصفة، و{إلى الذين}: خبر.
يقول الحق جل جلاله: هذه {براءة} أي: تبرئة {من الله ورسوله} واصلة {إلى الذين عاهدتم من المشركين}، فقد تبرأ الله ورسوله من كل عهد كان بين المشركين والمسلمين، لأنهم نكثوا أولاً، إلا أناساً منهم لم ينكثوا، وهم بنو ضمرة وبنو كنانة، وسيأتي استثناؤهم. قال البيضاوي: وإنما علقت البراءة بالله وبرسوله، والمعاهدة بالمسلمين؛ للدلالة على أنه يجب عليهم نبذ عهود المشركين إليهم، وإن كانت صادرة بإذن الله واتفاق الرسول؛ فإنهما برئا منها. اهـ.
وقال ابن جزي: وإنما أسند العهد إلى المسلمين؛ لأن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لازم للمسلمين، وكأنهم هم الذين عاهدوا المشركين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عقد العهد مع المشركين إلى آجال محدودة، فمنهم من وفّى، فأمر الله أن يتم عهده إلى مدته، ومنهم من نقص أو قارب النقض، وجعل له أجل أربعة أشهر، وبعدها لا يكون له عهد. اهـ. وإلى ذلك أشار بقوله: {فسيحوا في الأرض أربعةَ أشهرٍ} آمنين لا يتعرض لكم أحد، وبعدها لا عهد بيني وبينكم. وذكر الطبري: أنهم أسلموا كلهم في هذه المدة ولم يسح أحد. اهـ.
وهذه الأربعة الأشهر: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، لأنها نزلت في شوال، وقيل: هي عشرون من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع الأول، وعشر من الآخر، لأن التبليغ كان يوم النحر؛ لما روي أنها لَمّا نزلت أرسل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه راكبِاً العَضْبَاءَ ليَقْرأَهَا عَلى أهل المَوْسِم، وكان قد بعث أبا بكرٍ رضي الله عنه أميراً على الموسم، فقيل: لو بَعَثْتَ بها إِلى أَبَي بكرٍ؟ فقال: لا يُؤَدِّي عَنَّي إلا رَجُلٌ مِنِّي فَلَمَّا دَنَا عَليٌّ رضي الله عنه، سَمِعَ أَبُو بَكرٍ الرُّغاءَ، فوقف وَقَال: هذا رُغاء ناقَةِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فوقف، فلمَّا لَحِقَهُ قال: أَمير أو مَأمُورٌ؟ قال: مَأمُورٌ، فلما كان قبل الترْويَة خَطَبَ أبو بكر رضي الله عنه، وحَدَّثَهُمْ عَنْ مَنَاسِكَهِم، وقَامَ عليٌّ كرم الله وجهه يومَ النَّحر، عند جَمْرَةِ العَقَبَةِ، فقال: يا أَيُّها النّاس، إني رَسُولُ رَسولِ اللَّهِ إليكم، فقالوا: بماذا؟ فَقَرأَ عليهمْ ثلاثين أوْ أرْبعين آيةً من أول السورة، ثم قال: أمرْتُ بأربَعٍ: أَلا يَقْرب البَيْتَ بعد هذا مُشركٌ، ولا يَطُوف بالبيت عُريَانٌ، ولا يَدخُلُ الجَنَّةَ إلا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٍ، وأن يَتِمَّ كُلّ ذِي عَهْدٍ عَهْدُهُ.
ولعل قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا يؤدي عني إلا رجل مني» خاص بنقض العهود، لأنه قد بعث كثيراً من الصحابة ليؤدوا عنه، وكانت عادة العرب ألاّ يتولى العهد ونقضه على القبيلة إلا رجل منها. قاله البيضاوي مختصراً.
ثم قال تعالى لأهل الشرك: {واعلموا أنكم غير مُعجزي الله} أي: لا تفوتونه، وإن أمهلكم، {وأن الله مُخزي الكافرين} في القتل والأسر في الدنيا، والعذاب المهين في الآخرة.
الإشارة: وقد وقع التبرؤ من أهل الشرك مطلقاً، أما الشرك الجلي فقد تبرأ منه الإسلام والإيمان، وأما الشرك الخفي فقد تبرأ منه مقام الإحسان، ولا يدخل أحدٌ مقام الإحسان حتى لا يعتمد على شيء، ولا يستند إلى شيء، إلا على من بيده ملكوت كل شيء، فيطرح الأسباب وينبذ الأرباب، ويرفض النظر إلى العشائر والأصحاب، حتى لا يبقى في نظره إلا الكريم الوهاب، فمن أصرَّ على شوكه الجلي أو الخفي فإن الله يمهل ولا يهمل، فلابد أن يلحقه وباله: إما خزي في الدنيا، أو عذاب في الآخرة، كل على ما يليق به.
وقال القشيري: إنْ قَطَعَ عنهم الوصلة فقد ضَرَبَ لهم مدةً على وجه المُهْلَةِ، فأَمَّنهُم في الحَالِ؛ ليتأهبوا لتَحمُّل مقاساةِ البراءةِ فيما يستقبلونه في المآلِ. والإشارةُ فيه: أنهم إنْ أقلعوا في هذه المهلة عن الغَيِّ والضلال، وجدوا في المآل ما فقدوا من الوصال. وإنْ أبَوْا إلا التمادي في تَرْكِ الخدمة والحرمة، انقطع ما بينه وبينهم من الوصلة. اهـ. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (3- 4):

{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)}
قلت: {وأذان}: مبتدأ، أو خبر، على ما تقدم في براءة، وهو فَعال بمعنى إفعال؛ كالعطاء بمعنى الإعطاء، أي: وإعلام من الله ورسوله واصل إلى الناس، ورفع رسوله؛ إما عطف على ضمير برئ، أو على محل إن واسمها، أو مبتدأ حُذف خبره، أي: ورسوله كذلك.
يقول الحق جل جلاله: {وأذانٌ من الله ورسوله} واصل إلى الناس، ويكون {يومَ الحج الأكبر} وهو يوم النحر؛ لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله، ولأن الإعلام كان فيه. ولما روي أنه عليه الصلاة والسلام وقف يوم النحر، عند الجمرات، في حجة الوداع فقال: «هذا يوم الحج الأكبر»، وقيل: يوم عرفة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «الحج عرفة» ووصف الحج بالأكبر؛ لأن العمرة تسمى الحج الأصغر.
وذلك الإعلام بأنَّ {الله بريء من المشركين ورسولُه} عليه الصلاة والسلام كذلك. قال البيضاوي؛ ولا تكرار؛ فإن قوله: {براءة من الله}: إخبار بثبوت البراءة، وهذا إخبار بوجوب الإعلام بذلك، ولذلك علقه بالناس ولم يخص بالمعاهدين. اهـ. {فإن تُبْتُم} يا معشر الكفار ورجعتم عن الشرك، {فهو} أي: الرجوع {خيرٌ لكم}، {وإن توليتم} أي: أعرضتم عن التوبة وأصررتم على الكفر {فاعلموا أنكم غيرُ معجزي الله}؛ لا تفوتونه طلباً، ولا تعجزونه هرباً في الدنيا، {وبَشّرِ الذين كفروا بعذاب أليمٍ} في الآخرة.
ولما أمر بنقض عهود الناكثين استثنى من لم ينقض فقال: {إَلا الذين عاهدتُّم} أي: لكن الذين عاهدتم {من المشركين}، وهم بنو ضمره وبنو كنانة، {ثم لم يَنقُضُوكم شيئاً} من شروط العهد، ولم ينكثوا، ولم يقتلوا منكم ولم يضروكم قط، {ولم يُظاهروا عليكم أحداً} أي: لم يعاونوا عليكم أحداً من أعدائكم، {فأتموا إليهم عهدهم إلى} تمام {مُدتهم}، وكانت بقيت لهم من عهدهم تسعة أشهر. ولا تجروهم مجرى الناكثين؛ {إن الله يحب المتقين}، وهو تعليل وتنبيه على أن إتمام عهدهم من باب التقوى. قاله البيضاوي.
الإشارة: من أعظم شؤم الشرك: إن الله ورسوله تبرآ من أهله مرتين: خاصة وعامة، فيجب على العبد التخلص منه خفياً أو جلياً، ويستعين على ذلك بصحبة أهل التوحيد الخاص، حتى يُخلصوه من أنواع الشرك كلها، فإن صدر منه شيء من ذلك فليبادر بالتوبة وأصر على شركه، كان ذلك هوانه وخزيه، وبالله التوفيق.