فصل: سورة الزخرف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (44- 48):

{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ومَن يُضْلِل اللهُ فَما له من وليٍّ من بعده} أي: فما له من أحد يلي هدايته من بعد إضلال الله إياه، ويمنعه من عذابه. {وترى الظالمين} يوم القيامة، وهم الذين أضلّهم الله، {لَمَّا رَأَوا العذاب}؛ حين يرون العذاب، وأتى بصيغة الماضي للدلالة على تحقيق الوقوع، {يقولون هل إِلى مَرَدٍّ}؛ رجعة إلى الدنيا {من سبيل} حتى نُؤمن ونعمل صالحاً.
{وتراهم يُعرضون عليها}؛ على النار، يدلّ عليها ذكر العذاب. والخطاب لكل مَن يتأتى منه الرؤية {خاشعين من الذل}؛ متذللين متضائلين مما دهاهم، فالخشوع: خفض البصر وإظهار الذل، {ينظرون} إلى النار {من طَرْفٍ خَفِيٍّ} ضعيف بمسارقة، كما ترى المصْبُور ينظر إلى السيف عند إرادة قتله. {وقال الذين آمنوا إِن الخاسرين الذين خسروا أنفسَهم وأهليهم} بالتعرُّض للعذاب الخالد {يومَ القيامة}، و{يوم}: متعلق بخسروا. وقول المؤمنين واقع في الدنيا. ويقال، أي: يقولونه يوم القيامة، إذا رأوهم على تلك الصفة: {ألا إِن الظالمين في عذابٍ مقيم}؛ دائم، {وما كان لهم من أولياء ينصرونهم} برفع العذاب عنهم {من دون الله} حسبما كانوا يرجون ذلك في الدنيا، {ومَن يُضلل اللهُ فما له من سبيلٍ} إلى النجاة.
{استجيبوا لربكم} إلى ما دعاكم إليه على لسان نبيه، {من قبل أن يأتيَ يومٌ} أي: يوم القيامة {لا مردَّ له من اللهِ} أي: لا يرده الله بعد ما حكم بمجيئه، ف {من} متعلق ب {لا مرد}، أو: ب {يأتي} أي: من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على رده، {ما لكم من ملجأ يومئذٍ} أي: مفر تلتجئون إليه، {وما لكم من نكيرٍ} أي: وليس لكم إنكار لما اقترفتموه؛ لأنه مدوَّن في صحائف أعمالكم، وتشهد عليكم جوارحكم.
{فإِنْ أعرضوا} عن الإيمان {فما أرسلناك عليهم حفيظاً}؛ رقيباً، تحفظ أعمالهم، وتحاسبهم، {إِنْ عليك إِلا البلاغُ}؛ ما عليك إلا تبليغ الرسالة، وقد بلغت، وليس المانع لهم من الإيمان عدم التبليغ، وإنما المانع: الطغيان وبطر النعمة، كما قال تعالى: {وإِنَّا إِذا أَذقنا الإِنسانَ منا رحمةً} أي: نعمة من الصحة، والغنى، والأمن، {فرح بها} وقابلها بالبطر، وتوصّل بها إلى المخالفة والعصيان. وأريد بالإنسان الجنس، لقوله تعالى: {وإِن تُصبهم سيئة}، بلاء، من مرض، وفقر، وخوف، {بما قدمتْ أيديهمْ فإِنَّ الإِنسانَ كفورٌ}؛ بليغ الكفر، ينسى النعمة رأساً، ويذكر البلية، ويستعظمها، بل يزعم أنها أصابته من غير استحقاق.
وأفرد الضمير في {فرح} مراعاة للفظ، وجمعه في {تُصبهم} مراعاة للمعنى. وإسناد هذه الخصلة إلى الجنس مع كونها من خواص الجنس، لغلبتها فيهم. وتصدير الشرطية الأُولى بإذا، مع إسناد الإذاقة إلى نون العظمة؛ للتنبيه على أن إيصال الرحمة محقق الوجود، كثير الوقوع، وأنه مراد بالذات، كما أن تصدير الثانية بأن، وإسناد الإصابة إلى السيئة، وتعليلها بأعمالهم؛ للإيذان بندرة وقوعها، وأنها غير مرادة بالذات، «إن رحمتي سبقت غضبي».
ووضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم. قاله أبو السعود.
الإشارة: من تنكبتْه العناية السابقة، وأدركته الغواية اللاحقة، لم ينفع فيه وعظ ولا تذكير، وليس له من عذاب الله وليّ ولا نصير، فإذا تحققت الحقائق، وطلب الرجوع، لم يجد له سبيلاً، وبَقِيَ في الهوان خاشعاً ذليلاً، فيُعيرهم مَن سبقتْ لهم العناية، من أهل الجد والتشمير، ويقولون: هؤلاء الذين خسروا أنفسهم، حيث لم يُتعبوها في مرضاة الله، وأهليهم، حيث لم يذكِّروهم الله.
قال القشيري: قوله تعالى: {استجيبوا لربكم} بالوفاء بعهده، والقيام بحقِّه، والرجوع من مخالفته إلى موافقته، والاستسلام في كل وقت لحُكمِه والطريق اليوم إلى الاستجابة مفتوحٌ، وعن قريبٍ سيُغْلَقُ البابُ على القلب بغتة، ويُؤخذ فلتةً. اهـ. ويقال لكل واعظ وداع: {فإِن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً...} الآية.

.تفسير الآيات (49- 50):

{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)}
يقول الحق جلّ جلاله: {لله مُلك السماوات والأرض} أي: يملك التصرُّف فيهما، وفي كل ما فيهما، كيف يشاء، ومن جملته: أن يقسم النعمة والبلية، حسبما يريده. {يخلق ما يشاء} مما يعلمه الخلقُ ومما لا يعلمونه، {يهَبْ لمَن يشاء إِناثاً} من الأولاد {ويهبُ لمن يشاء الذكورَ} منهم، من غير أن يكون لأحد في ذلك مدخل، {أو يُزوجهم} أي: يقرن بين الصنفين، ويهبهما جميعاً {ذكراناً وإِناثاً}، بأن تلد غلاماً ثم جارية، أو تلدهما معاً. {ويجعلُ مَن يشاءُ عقيماً} لا نسل له. والعقيم: الذي لا يُولد له، رجل أو امرأة.
وقدّم الإناث أولاً على الذكور؛ لأن سياقَ الكلام أنه فاعل ما يشاء، لا ما يشاؤه الإنسان، فكان ذِكر الإناث اللاتي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهمّ، أو: لأن الكلام في البلاء، والعرب تعدهن عظيم البلايا، أو: تطييب القلوب آبائهم، ولمَّا أخَّر الذكور وهم أحقاء بالتقديم تدارك ذلك بتعريفهم؛ لأن التعريف تنويه وتشريف، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين ما يستحقه من التقديم والتأخير، فقال: {ذكراناً وإناثاً}. وقيل المراد: أحوال الأنبياء عليهم السلام حيث وهب لشعيب ولوط إناثاً، ولإبراهيم ذكوراً، وللنبي صلى الله عليه وسلم ذكوراً وإناثاً، وجعل يحيى وعيسى عقيمين. {إِنه عليم قدير} مبالغ في العلم والقدرة، فيفعل ما فيه حكمة ومصلحة.
الإشارة: يهب لمَن يشاء إناثاً، علوماً وحسنات، ويهب لمَن يشاء الذكور، أذواقاً وواردات، ويجعل مَن يشاء عقيماً، لا علم ولا ذوق، وانظر لطائف المنن. أو تقول: يهب لمَن يشاء إناثاً؛ مَن ورّث علم الرسوم الظاهر، وأقيمت بعده، ويهب لمَن يشاء الذكور؛ مَن ورّث علم الأذواق والوجدان، وعمّر رجالاً، أو يزوجهم؛ مَن ورثهما، ويجعل مَن يشاءُ عقيماً لم يترك وارثاً، لا من الظاهر، ولا من الباطن، وقد يكون كاملاً وهو عقيم، وقد يكون غير كامل وله أولاد كثيرة، لكن الغالب على مَن له أولاد أن يتسع بهم، بخلاف العقيم. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (51- 53):

{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)}
يقول الحق جلّ جلاله: {وما كان لبشرٍ} أي: ما صحّ لأحد من البشر {أن يُكلمه اللهُ} بوجه من الوجوه {إِلا وَحْياً} إلهاماً، كقوله عليه الصلاة السلام: «ألقي في رُوعي» أو: رؤيا في المنام لقوله صلى الله عليه وسلم: «رؤيا الأنبياء وحي» كأمر إبراهيم عليه السلام بذبح الولد، وكما أوحي إلى أم موسى، رُوي عن مجاهد: «أَوحى اللهُ الزبورَ إلى داود عليه السلام في صدره». {أو من وراءِ حجابٍ} بأن يسمع كلاماً من الله، من غير رؤية السامع مَن يكلمه، كما سمع موسى عليه السلام من الشجرة، ومن الفضاء في جبل الطور، وليس المراد به حجاب الله تعالى على عبده حساً؛ إذ لا حجاب بينه وبين خلقه حساً، وإنما المراد: المنع من رؤية الذات بلا واسطة.
{أو يُرسلَ رسولاً} أو: بأن يرسل مَلَكاً {فيُوحيَ} الملَكُ {بإِذنه}؛ بإذن الله تعالى وتيسيره {ما يشاءُ} من الوحي. وهذا هو الذي يجري بينه تعالى وبين أنبيائه في عامة الأوقات. روي: أن اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تكلم الله، وتنظر إليه إن كنت نبياً، كما كلمة موسى، ونظر إليه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «لم ينظر موسى إلى الله تعالى» فنزلت. والذي عليه جمهور المحققين أن نبينا عليه الصلاة والسلام رأى ربه ليلة المعراج، وكلّمه مشافهة، وعليه حمل البيضاوي قوله تعالى: {إِلا وحياً}؛ لأن الوحي هو: الكلام الخفي، المدرك بسرعة، أعم من أن يكون مشافهة أو غيرها.
قال الطيبي: وإذا حمل الوحي على ما قاله البيضاوي، وأنه المشافهة، المعنى بقوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى} [النجم: 10] اتجه ترتيب الآية، وأنه ذكر أولاً الكلام بلا واسطة، بل مشافهة، وهو حال نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر ما كان بغير واسطة، ولكن لا بمشافهة، بل من وراء الغيب، ثم ذكر الكلام بواسطة الإرسال. اهـ. بالمعنى.
{إِنه عَلِيٌّ}؛ متعال عن صفات المخلوقين، لا يتأتى جريان المفاوضة بينه تعالى وبينهم إلا بأحد الوجوه المذكورة، ولا تكون المكافحة إلا بالغيبة عن حس البشرية، {حيكمٌ} يُجري أفعاله على سنن الحكمة، فيكلم تارة بواسطة، وأخرى بدونها، مكافحة، أو غيرها.
{وكذلك} أي: ومثل ذلك الإيحاء البديع كما وصفنا {أوحينا إِليك روحاً من أمرنا} وهو القرآن، الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان، فحييت الحياة الأبدية. {ما كنت تدري} قبل الوحي {ما الكتابُ} أيّ شيء هو، {ولا الإِيمانُ} بما في تضاعيف الكتاب من الأمور التي لا تهتدي إليها العقول، لا الإيمان بما يستقل به العقل والنظر، فإنَّ دِرايتَه صلى الله عليه وسلم مما لا ريب فيه قطعاً. قال القشيري: ما كنت تدري قبل هذا ما القرآن ولا الإيمان بتفصيل هذه الشرائع.
وقال الشيخ البكري: أي الإيمان على الوجه الأخص، المرتب على تنزلات الآيات، وتلاوة البينات، واستكشاف وجه الحق بأنوار العلم المنزل على قلبه من حضرة ربه. اهـ.
وقال ابن المنير: الإيمان برسالة نفسه، وهو المنفي عنه قبل الوحي؛ لأن حقيقة الإيمان: التصديق بالله وبرسوله. اهـ.
{ولكن جعلناه} أي: الروح الذي أوحيناه إليك {نوراً نهدي به مَن نشاء} هدايته {من عبادنا}، وهو الذي يصرف اختياره نحو الاهتداء به. {وإِنك لتهدي} بذلك النور مَن نشاء هدايته، أو: وإنك لتدعو {إِلى صراط مستقيم} هو الإسلام وسائر الشرائع والأحكام، {صراطِ الله}؛ بدل من الأول، وإضافته إلى الاسم الجليل، ثم وصفه بقوله تعالى: {الذي له ما في السماوات وما في الأرض} لتفخيم شأنه، وتقرير استقامته، وتأكيد وجوب سلوكه؛ فإن كون جميع ما فيهما من الموجودات له تعالى، خلقاً، وملكاً، وتصرفاً، مما يُوجب ذلك أتم الإيجاب. {ألا إِلى الله تصير الأمورُ} أي: الأمور قاطبة راجعة إليه، لا إلى غيره، فيتصرّف فيها على وِفق حكمته ومشيئته.
الإشارة: قد تحصل للأولياء المكالمة مع الحق تعالى بواسطة تجلياته، فيسمعون خطابه تعالى من البشر والحجر، أو بلا واسطة، بحيث يسمعون الكلام من الفضاء، وإليه أشار الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه بقوله: «وهب لنا مشاهدةً تصحبها مكالمة»، ولا تكون هذه الحالة إلا للأكابر من أهل الفناء والبقاء. وأما مكالمة الحق من النور الأقدس، بلا واسطة، فهو خاص نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء. قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه: والذي عندي أن التكلم على المكافحة والمشابهة إنما يكون بالانخلاع عن البشرية، ومحوها، والبقاء بصفات الربوبية، وذلك إشارة إلى أنه عليه السلام إنما شُوفَه وكلّم بعد العروج عن أرض الطبيعة إلى سماء الحقيقة. وكان بالأرض يُكلم بالواسطة، وموسى كُلّم بغير واسطة، ولكن بغير مشافهة، ولذلك كان كلامه بالأرض، ولم يعط الرؤية؛ لأنها لا تكون في الأرض، أي في أرض البشرية، بل لابد من الغيبة عنها. وذهب الورتجبي إلى أن الحصْر فيما ذكر في الآية إنما هو لمَن كان في حجاب البشرية، فأما مَن خرج عنها إلى الغيب، وألبس نور القرب وكحّل عينه بنوره تعالى، ومدّ سمعه بقوة الربوبية، فإنه يُخاطب كفاحاً وعياناً. ونقل مثل ذلك عن الواسطي، فراجع بسطه فيه. والفرق بينه وبين ما ذكرنا: أن خطاب المكافحة عنده خارجة من الثلاثة المذكورة في الآية، وعندنا داخلة في قوله: {إِلا وحياً}؛ لأنه أعم من المشافهة، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وإِنك لَتَهدي إِلى صراط مستقيم} أي: طريق الوصول والترقي أبداً، فيؤخذ منه: أن وساطته صلى الله عليه وسلم لا تنقطع عن المريد أبداً؛ لأن الترقي يكون باستعمال أدب العبودية، وهي مأخوذة عنه صلى الله عليه وسلم، وكما أن الترقي لا ينقطع؛ فالأدب الذي هو سلوك طريقته صلى الله عليه وسلم لا ينقطع. والله تعالى أعلم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

.سورة الزخرف:

.تفسير الآيات (1- 5):

{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)}
يقول الحق جلّ جلاله: {حم}؛ يا محمد، {و} حق {الكتابِ المبين} أي: المبين لِما أنزل عليهم، لكونه بلغتهم، وعلى أساليبهم، أو: الموضّح لطريق الهدى من الضلالة، أو: المبيّن لكل ما تحتاج إليه الأمة في أبواب الديانة. وجواب القسم: {إِنا جعلناه قرآناً عربياً} بلغتكم {لعلكم تعقلون} أي: جعلنا ذلك الكتاب قرآناً عربياً لكي تفهموه، وتُحيطوا بما فيه من النظم الرائق، والمعنى الفائق، وتقفوا على ما تضمّنه من الشواهد القاطعة بخروجه عن طوق البشر، وتعرفوا حق النعمة في ذلك، فتنقطع أعذاركم بالكلية.
{وإِنه في أُمّ الكتاب لدْينَا} أي: وإن القرآن العظيم مثبت عند الله في اللوح المحفوظ، دليله قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ في لَوْحٍ مَّحْفُوظِ} [البروج: 21، 22]. وسُمِّي أمّ الكتاب؛ لأنه أصل الكتب السماوية، منه تُنقل وتُنسخ. وقوله تعالى: {لَعَلِيٌّ} خبر {إن} أي: إنه رفيع القدر بين الكتب، شريف المنزلة؛ لكونه معجزاً من بينها. أو: في أعلى طبقات البلاغة. {حيكمٌ}؛ ذو حكمة بالغة. أو: محكم، لا ينسخه كتاب.
وبعدما بيَّن علو شأنه، وبيَّن أنه أنزله بلغتهم؛ ليعلموه، ويؤمنوا به، ويعملوا بما فيه، عقَّبَ ذلك بإنكار أن يكون الأمر بخلافه، فقال: {أفَنَضرِِبُ عنكم الذِكرَ} أي: ننحيه ونُبعده. والضرب: مجاز، من قولهم: ضرب الغرائب عن الحوض. وفيه إشعار باقتضاء الحكمة توجيه الذكر إليهم، وملازمته لهم، كأنه يتهافت عليهم ثم يضربه عنهم. والفاء: للعطف على محذوف؛ أي: أنهملكم فنضرب عنكم الذكر {صَفْحاً} أي: إعراضاً، مصدر، من: صفَح عنه: إذا أعرض، منصوب على أنه مفعول له، على معنى: أفنعزل عنكم إنزال القرآن، وإلزام الحجة به إعراضاً عنكم. ويجوز أن يكون مصدراً مؤكداً لما دلّ عليه نضرب؛ لأنه في معنى الصفح، كأنه قيل: أفنفصح صفحاً {أن كنتم قوماً مسرفين}، أي: لأن كنتم منهمكين في الإسراف، مصرّين عليه؛ لأن حالكم اقتضى تخيلتكم وشأنكم، حتى تموتوا على الكفر والضلالة، فتبقوا في العذاب الخالد، لكن بسعة رحمتنا لا نفعل ذلك، بل نهديكم إلى الحق، بإرسال الرسول الأمين، وإنزال الكتاب المبين.
ومَن قرأ بالكسر فشرط حُذف جوابه؛ لدلالة ما قبله عليه، وهو من الشرط الذي يصدرُ عن الجازم بصحة الأمر، كما يقول الأجير: إن كنتُ عملتُ لك فوفّني حقي، وهو عالم بذلك. وعبّر ب {أن}؛ إخراجاً للمحقق مخرج المشكوك؛ لاستهجالهم، كأن الإسراف من حقه ألا يقع.
الإشارة: {حم} أي: حببناك، ومجدناك، وملكناك، وحق الكتاب المبين. ثم استأنف فقال: {إنا جعلناه} أي: ما شرفناك به أنت وقومك {قرآناً عربياً} يفهمه مَن يسمعه {لعلكم تعقلون} عن الله، فتشكروا نعمه. {وإنه في أُمّ الكتاب} أي: وإن الذي شرفناكم به في أُمّ الكتاب.
قال الرتجبي: أي: إنه صفتي، كان في ذاته منزهاً عن النقائص والافتراق- أي: منزهاً عن الحروف والأصوات، التي من شأنها التغيُّر، وعن التقديم والتأخير، وهو افتراق كلماته- إذ هما من صفات الحدث. وأُم الكتاب عبارة عن ذاته القديم، لأنها أصل جميع الصفات، {لَدَيْنَا} معناه: ما ذكرنا أنه في أُمّ الكتاب عندنا {لعلِيّ} علا عن أن يدركه أحدٌ بالحقيقة، ممتنع من انتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، {حكيم} محكِم مبين. وقال جعفر: عَلِيّ عن درك العباد وتوهمهم، حكيم فيما دبّر وأنشأ وقدّر. اهـ. فانظره، فإنَّ هذه من صفات الحق، والكلام في أوصاف القرآن.
وقوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عنكم الذِكْرَ صفحاً} الآية، قال القشيري: وفي هذه إشارة لطيفة، وهو: ألا يُقطع الكلامُ عمّن تمادى في عصيانه، وأسرف في أكثر شأنه، فأحرى أن مَنْ لم يُقَصّرْ في إيمانه، أو تَلَطَّخَ بعصيانه، ولم يَدْخُل خَلَلٌ في عرفانه، فإنه لا يَمْنَعَ عنه رؤية لطائف غفرانه. اهـ. يعني: أن الحق جلّ جلاله لم يقطع كلامه عمن تمادى في ضلاله، فكيف يقطع إحسانه عمّن تمسك بإيمانه، ولو أكثر من عصيانه. وكذلك أهل النسبة التصوفية، إذا اعوجّ أخوهم، لا يقطعون عنه كلامهم وإحسانهم، بل يلاطفونه، حتى يرجع، وهذا مذهب الجمهور.