فصل: سورة يوسف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (118- 119):

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)}
قلت: الاستثناء من ضمير {يزالون}.
يقول الحق جل جلاله: {ولو شاء ربك لجعل الناسَ أمةً واحدة}، متفقين على الإيمان أو الكفران، لكن مقتضى الحكمة وجود الاختلاف؛ ليظهر مقتضيات الأسماء في عالم الشهادة؛ فاسمه: الرحيم يقتضي وجود من يستحق الكرم والرحمة، وهم: أهل الإيمان. واسمه: المنتقم والقهار يقتضي وجود من يستحق الاتنقام والقهرية، وهم أهل الكفر والعصيان. قال البيضاوي: وفيه دليل ظاهر على أن الأمر غير الإرادة، وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل أحد، وأن ما أراد يجب وقوعه. اهـ.
{ولا يزالون مختلفين}؛ بعضهم على الحق، وهم أهل الرحمة والكرم؛ وبعضهم على الباطل، وهم أهل القهرية والانتقام. أو مختلفين في الأديان والملل والمذاهب، {إلا من رَّحِمَ ربك}؛ إلا ناساً هداهم الله من فضله، فاتفقوا على ما هو أصل الدين والعمدة فيه، كالتوحيد والإيمان بجميع الرسل وبما جاؤوا به، وهم المؤمنون.
وقوله: {ولذلك خلقهم}؛ إن كان الضمير للناس، فالإشارة إلى الاختلاف، واللام للعاقبة، أي: ولتكون عاقبتهم الاختلاف خلقهم، وإن كان الضمير يعود على من، فالإشارة إلى الرحمة، أي: إلا من رحم ربك وللرحمة خلقه. {وتمت كلمة ربك} الأزلية على ما سبق له الشقاء، أي: نفذ قضاؤه ووعيده في أهل الشقاء، أو هي قوله للملائكة: {لأَملأَنِّ جهنم من الجَنَّة والناس أجمعين}؛ أي من أهل العصيان منهما، لا من جميعهما.
الإشارة: الاختلاف بين الناس حكم أزلي، لا محيدَ عنه. وقد وقع بين أهل الحق وبين أهل الباطل. فقد اختلف هذه الأمة في الأصول والفروع. أما الأصول فأهل توحيد الدليل وقع بينهم تخالف في صفات الحق، كالمعتزلة والقدرية والجهمية والجبرية مع أهل السنة. وأما الفروع فالاختلاف بينهم شهير. فقد كان في أول الإسلام اثنا عشر مذهباً. ولا تجد علماً من علوم إلا وبين أهله اختلاف، إلا أهل التوحيد الخاص، وهم: المحققون من الصوفية، فكلهم متفقون في الأذواق والوجدان، وإن اختلفت طرقهم، وكيفية سيرهم. فهم متفقون في النهايات، التي هي معرفة الشهود والعيان، على طريق الذوق والوجدان، وفي ذلك يقول ابن البنا رحمه الله:
مَذاهبُ الناس على اختلاف ** ومذاهب القوم على ائتلاف

وأما قول من قال: ما زالت الصوفية بخير ما اختلفوا، فإذا اتفقوا فلا خير فيهم، فالمراد بالاختلاف: تغيير بعضهم على بعض، عند ظهور نقص أو عيب أو ذنب. فإذا اتفقوا وسكت بعضهم عن بعض فلا خير فيهم. وقوله عليه الصلاة والسلام: «خلاف أمتي رحمة» المراد: الاختلاف في الفروع كاختلاف المذاهب؛ ففي ذلك رخصة لأهل الاضطرار؛ لأن من قلد عالماً لقي الله سالماً. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (120):

{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)}
قلت: {وكُلاً} مفعول {نقص}، و{ما نثبت به}: بدل، أو {ما} مفعول {نَقُصُّ}، و{كلا}: مصدر. أي: ونقص.
علك كُلاً من الاقتصاص ما نثبت به فؤادك.
يقول الحق جل جلاله: وكل نبأ {نقص عليك} من أخبار الرسل، ونخبرك به {ما نثبت به فؤادك}، ليزيدك يقيناُ وطمأنينة، وثباتاً بما تسمع من أخبارهم، وما جرى لهم مع قومهم، وما لقوا من الأذى منهم، فتتسلى بهم، وتثبت على أداء الرسالة، واحتمال أذى الكفار. {وجاءك في هذه} السورة، أو الأنباء المقتصة عليك، {الحق} أي: ما هو حق، {وموعظة وذكرى للمؤمنين} فيتحملون، ويصبرون لما يواجههم من الأذى والإنكار.
الإشارة: ذكر أحوال الصالحين، وسيرهم وكراماتهم؛ جند من جنود القلب، وذكر أشعارهم ومواجيدهم جند من جنود الروح، وقد ورد: أن عند ذكرهم تنزل الرحمة، أي: رحمة القلوب باليقين والطمأنينة. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (121- 123):

{وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)}
يقول الحق جل جلاله: {وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم}: حالهم، {إنا عاملون} على حالنا، {وانتظروا} وقوع ما نزل بمن قبلكم ممن خالف رسوله؛ فإنه نازل بكم، {إنا منتظرون} ما وعدنا ربنا من النصر والعز.
{ولله غيبُ السموات والأرض} لا يعلمه غيره؛ فلا يعلم غيب العواقب، ووقت وقوع المواعد إلا هو. {وإليه يُرجع الأمرُ كلُّه} فيرجع لا محالة أمرهم وأمرك إليه، {فاعبدوه وتوكل عليه}؛ فإنه كافيك أمرهم وأمر غيرهم. وفي تقديم العبادة على التوكل تنبيه على أنه إنما ينفع التوكل العابد دون البطال. {وما ربك بغافل عما تعملون} أنت وهم، فيجازي كلاّ ما يستحقه. أو عما يعمل الكافرون، فيمهلهم ولا يهملهم.
الإشارة: {فاعبده وتوكل عليه}: يقول تعالى: يا عبدي؛ قُم بخدمتي أقم لك بقسمتي، قف ببابي وانتسب لجنابي؛ أكفك شؤونك، وتكن من أحبابي. أأدعوك لداري، وأمنعك من وجودي إبراري، أأكلفك بخدمتي، ولا أقوم لك بقسمتي، فثق بي كفيلاً، واتخذني، وكيلاً، أعطك عطاء جزيلاً، وأمنحك فخراً جليلاً. قال القشيري: ويقال: إن التوكل: سكون القلب بضمان الربِّ. ويقال: سكون الجأش في طلب المعاش، ويقال: الاكتفاء بوعده عند عدم نَقْدِه، أو الا كتفاء بالوعد عند فقد النقد. وسيأتي تمامه في سورة الفرقان، إن شاء الله. وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.

.سورة يوسف:

.تفسير الآيات (1- 3):

{الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)}
قلت: {قرآناً}: حال، و{عربياً}: نعت له، و{لعلكم}: يتعلق بأنزلناه أو بعربياً. و{أحسن}: مفعول {نَقُصُّ}، و{بما أوحينا}: مصدرية، ويجوز أن يكون {هذا القرآن}: مفعول {نَقُصُّ}، و{أحسن القصص}: مصدر.
يقول الحق جل جلاله: أيها الرسول المجتبى، والمحبوب المنتقى {تلك} الآيات التي تُتلى عليك هي {آيات الكتاب} المنزل عليك من حضرة قدسنا، {المبين} أي: الظاهر صدقه، الشهير شأنه. أو الظاهر أمره في الإعجاز والبلاغة، الواضح معانيه في الفصاحة، والبراعة. أو المبين للأحكام الظاهرة والباطنة. أو البَينُ لمن تدبره أنه من عند الله. أو المبين لمن سأل تَعنُّتاً من أحبار اليهود سؤالهم؛ إذ رُوي أنهم قالوا لكبراء المشركين: سلوا محمداً: لِمَ انتقلَ يعقوب من الشام؟ وعن قصة يوسف. فنزلت السورة.
{إنا أنزلناه} أي: الكتاب، {قرآناً} أي: مقروءاً، أو مجموعاً، {عربياً} بلغة العرب، {لعلكم تعقلون} أي: أنزلناه بلغتكم كي تفهموه وتستعملوا عقولكم في معانيه؛ فتعلموا أن اقتصاصه كذلك ممن لم يتعلم القصص، ولم يخالط من يعلم ذلك، معجز؛ إذ لا يتصور إلا بالإيحاء.
{نحن نقصُّ عليك أحسن القَصَص}؛ أحسن الاقتصاص؛ لأنه اقتص على أبدع الأساليب، أو أحسن ما يُقص؛ لاشتماله على العجائب والحِكَمٍ والآيات والعِبَر، {بما أوحينا إليك هذا القرآن} مشتملاً على هذه السورة التي فيها قصة يوسف، التي هي من أبدع القصص، {وإن كنتَ من قبله لَمِنَ الغافلين} عن هذه القصة، لم تخطر ببالك، ولم تقرع سمعك. قال البيضاوي: وهو تعليل لكونه موحى، و{إنْ} هذه: مخففة واللام هي الفارقة. اهـ.
الإشارة: ما نزل القرآن بلسان عربي مبين إلا لنعقل عظمة ربنا ونعرفه، وذلك لا يكون إلا بعد استعمال العقول الصافية، والأفكار المنورة، في الغوص على درر معانيه. فحينئذٍ تطلع على أنوار التوحيد وأسرار التفريد، وعلى أنوار الصفات، وأسرار الذات، وعلى توحيد الأفعال وتوحيد الصفات، وتوحيد الذات. وقال تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، لكن لا يحيط بهذا إلا أهل التجريد، الذين صفت عقولهم من الأكدار، وتطهرت من الأغيار، وملئت بالمعارف والأسرار. قال تعالى: {ليدبروا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألباب} [ص: 29]. وهم: أهل العقول الصافية المتفرغة من شواغل الحس. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (4- 6):

{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)}
قلت: {إذ قال}: معمول لاذكر، أو بدل من {أحسن القصص}؛ إن جعل مفعولاً، بدل اشتمال، و{يا أبت}: أصله: يا أبي، عوض من الياء تاء التأنيث؛ لتناسبهما في الزيادة، ولذلك قلبت في الوقف هاء، في قراءة ابن كثير وأبي عمر ويعقوب. وإنما أعاد العامل في {رأيتهم}؛ لطول الكلام، وجمع الشمس والقمر والكواكب جمع العقلاء؛ لوصفهم بصفاتهم.
يقول الحق جل جلاله: {إذ قال يوسفُ لأَبيهِ} يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم: {يا أبتِ إني رأيتُ} في النوم {أحداً عَشَر كوكباً والشمسَ والقَمَرَ رأيتُهم لي ساجدين}. وقد ذكر البيضاوي حديثاً في تفسير هذه الكواكب فانظره. قيل: إن يوسف عليه السلام كان نائماً في حجر أبيه، فنظر فيه، وقال في نفسه: أترى هذا الوجه أحسن ام الشمس أم القمر؟ فإذا بيوسف قد انتبه من نومه، وقال: {يا أبتِ إني رأيت أحد عشر كوكباً...} إلخ، فلما قص الرؤيا على أبيه بكى، فقال يوسف: لم تبكي يا أبتي؟ قال: يا بني لم يسجد مخلوق لمخلوق إلا عند المحنة، والبلاء، ألا ترى الملائكة لما أسجدهم الله لآدم، كيف ابتلي بالخروج من الجنة؟ ثم قال له: يا بني، الشمس والقمر أنا وخالتك وكانت أمه قد ماتت والإحدى عشر كوكباً إخوتك. اهـ.
{قال يا بنيَّ}، وهو تصغير ابن صغر للشفقة أو لصغر السن، وكان ابن ثنتي عشرة سنة، {لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً}؛ فيحتالوا لإهلاكك حيلة. فَهِمَ يعقوبُ عليه السلام من رؤياه أن الله يصطفيه لرسالته، ويفوقه على إخوته، فخاف عليه حسدهم. ومن خاف من شيء سلط عليه.
والرؤيا تختص بالنوم، والرؤية، بالتاء بالبصر. قال البيضاوي: وهي انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك، المصادفة منها إنما يكون باتصال النفس بالملكوت؛ لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ. انظر تمامه فيه. وأخرج الحاكم في المستدرك، والطبراني في الأوسط، عن ابن عمر قال: لقي عمر عليَّاً رضي الله عنهما فقال: يا أبا الحسن، الرجل يرى الرؤيا فمنها ما يصدق، ومنها ما يكذب، قال: نعم. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد ولا أمة ينام فيمتلي نوماً إلا عرج بروحه إلى السماء. فالتي لا تستيقظ إلا عند العرش فتلك الرؤيا التي تصدقُ، والتي تستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تكذبُ». اهـ. فمنها ما تكون واضحة المعنى لا تحتاج إلى تعبير، ومنها ما تكون خفية تحتاج إلى تعبير. والمعبر يحتاج إلى علم وفراسة وزيادة إلهام، فعلم التعبير علم مستقل، وقد أعطى الله منه ليوسف عليه السلام حظاً وافراً.
ولما قال يعقوب لابنه: {لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً} قال: يا أبت، الأنبياء لا يكيدون، قال له: {إن الشيطان للإنسان عدو مبين}؛ ظاهر العداوة؛ لأجل ما فعل بآدم وحواء، فلا يألوا جهداً في تسويلهم وإثارة الحسد فيهم، حتى يحملهم على الكيد. قيل: لم يسمع كلام يوسف في رؤياه إلا خالته أم شمعون فقالت لإخوته: التعب عليكم، والإقبال على يوسف. فحركهم ذلك حتى فعلوا ما فعلوا. وقيل: أخبرت بذلك ولدها شمعون، فأخبر شمعون إخوته، فخلوا به وقالوا له: إنك لم تكذب قط. فأخبرنا بما رأيت في نومك، فأبى، فأقسموا عليه، فأخبرهم. فوقعوا فيما فعلوا به.
ثم قال له: {وكذلك} أي: وكما اجتَباك لهذه الرؤية الدالة على شرف وعز وكمال نفس، {يجتبيك ربُّك} للنبوة والملك، أو لأمور عظام، {ويُعلِّمك} أي: هو يعلمك {من تأويل الأحاديث}؛ من تعبير الرؤيا؛ لأنها أحاديث المَلك إن كانت صادقة، وأحاديث الشيطان إن كانت كاذبة. أو يعلمك من تأويل غوامض علوم كتب الله، وسنن الأبياء وحكم الحكماء. {ويُتمُّ نعمتَه عليك} بالنبوة، أو بأن يجمع لك بين نعمة الدنيا، ونعمة الآخرة، {وعلى آل يعقوب} يريد: سائر بنيه. ولعله استدل على نبوتهم بضوء الكواكب، {كما أتمها على أبويك من قبلُ}؛ من قبلك، أو من قبل هذا الوقت. فأتمها على إبراهيم بالرسالة والخلة والإنجاء من النار، وإسحاق بالرسالة والإنقاذ من الذبح، وهم: {إبراهيمَ وإسحاقَ}، فهما عطف بيان لأبويك {إن ربك عليمٌ} بمن يستحق الاجتباء، {حكيم} لا يخلو فعله من حكمة، نعمة كانت أو نقمة.
الإشارة: البداية مجلاة النهاية، يوسف عليه السلام نزلت له أعلام النهاية في أول البداية. وكذلك كل من سبق له شيء من العناية، لابد تظهر أعلامه في أول البداية؛ «من أشرقت بدايته أشرقت نهايته». من كانت بالله بدايته كانت إليه نهايته.
وأوصاف النهاية تأتي على ضد أوصاف البداية؛ فكمال العز في النهاية لا يأتي إلا بعد كمال الذل في البداية. وتأمل قول الشاعر:
تَذَلَّلَ لِمَنْ تَهوَى لِتَكسِبَ عِزَّةً ** فَكَم عِزَّةٍ قَدْ نَالَها المرْء بِالذُّلِّ

وتأمل قضية سيدنا يوسف عليه السلام؛ ما نال العز والملك حتى تحقق بالذل، والملك وكمال الغنى في النهاية لا يأتي إلا بعد كمال الفقر في البداية، وكمال العلم لا يأتي إلا بعد إظهار كمال الجهل، وكمال القوة لا يأتي إلا بعد كمال الضعف.. وهكذا جعل الله تعالى بحكمته الأشياء كامنة في أضدادها؛ «تحقق بأوصافك يمدك بأوصافه». فالاجتباء يكون بعد الابتلاء، وإتمام النعم يكون بعد تقديم النقم، وذلك لتكون أحلى وأشهى، فيعرف قدرها ويتحقق منه شكرها، وهذا السر في تقديم أهوال يوم القيامة على دخول الجنة؛ ليقع نعيمها في النفس كل موقع. ولا فرق بين جنة الزخارف، وجنة المعارف. (حُفت الجنة بالمكاره، وحُفت النار بالشهوات). والله تعالى أعلم.