فصل: تفسير الآيات (110- 111):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (110- 111):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)}
قلت: {وإنَّ كلاًّ لما ليوفينهم}: إن: مخففة عاملة، والتنوين في {كُلا} عوض عن المضاف. وما: موصولة، واللام: لام الابتداء، و{ليوفينهم}: جواب لقسم محذوف، وجملة القسم وجوابه: صلة ما، أي: وإن كل الفريقين للذين، والله ليوفينهم ربك أعمالهم. ومن قرأ: {لمَّا}؛ بالتشديد، فعلى أن {إن} نافية، و{لما} بمعنى إلا، وقيل: غير هذا.
يقول الحق جل جلاله: {ولقد آتينا موسى الكتاب}: التوراة، {فاختُلف فيه}؛ فآمن به قوم وكفر به قوم، كما اختلف هؤلاء في القرآن، {ولولا كلمة سبقت من ربك} وهي: كلمة الإنظار إلى يوم القيامة، {لقُضي بينهم} بإنزال ما يستحقه المبطل من الهلاك، ونجاة المحق. {وإنهم} أي: قوم موسى، أو كفار قومك، {لفي شك منه} أي: التوراة، أو من القرآن، {مريب}: موقع في الريبة، {وإنَّ كلاَّ} من الفريقين المختلفين، المؤمنين والكافرين، للذين {ليوفينهم ربك} جزاء أعمالهم، ولا يهمل منه شيئاً {إنه بما يعملون خبير} فلا يفوته شيء منه وإن خفي.
الإشارة: الاختلاف على الأنبياء والأولياء سنة ماضية. ولولا أن الله سبحانه حكم في سابق علمه أنه لا يفضح الضمائر إلا يوم تُبلى السرائر، لفضح أسرار البطالين. وأظهر منار الذاكرين من السائرين أو الواصلين. لكنه سبحانه أخر ذلك بحكمته وحلمه، إلى يوم الدين. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (112- 115):

{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)}
قلت: {ومن تاب}: عطف على فاعل {استقم}؛ للفصل، {فَتَمَسَّكُمُ}: جواب النهي. ويقال: ركن يركن: كعَلِم يعلم، وركن يركن: كدخل يدخل، و{ثم لا تنصرون}: مستأنف لا معطوف، و{طرفي}: منصوب على الظرفية. و{زلفاً}، كقربة، أزلفه: قربة.
يقول الحق جل جلاله: {فاستقمْ} يا محمد {كما أُمرت}، {و} ليستقم {من تابَ معك} من الكفر وآمن بك. وهي شاملة للاستقامة في العقائد، كالتوسط بين التشبيه والتعطيل، بحيث يبقى العقل مصوناً من الطرفين، وفي الأعمال؛ من تبليغ الوحي، وبيان الشرائع كما أنزل، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط ولا إفراط. وهي في غاية العسر. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «شَيَّبَتنِي هُود» قاله البيضاوي.
قال المحشي الفاسي: واللائق أن إشفاقه عليه الصلاة والسلام من أجل أمته لا من أجل نفسه؛ لأجل نفسه؛ لأجل عصمته، وإنما أشفق عليهم لتوعد اللعن لهم بقوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16]. اهـ. قلت: ولا يعبد أن يكون أشفق عليه الصلاة والسلام من صعوبة استقامته التي تليق به، فبقدر ما يعلو المقام يطلب بزيادة الأدب، وبقدر ما يشتد القرب يتوجه العتاب. ولذلك كان الحق تعالى يعاتبه على ما لا يعاتب عليه غيره. وقد قالوا: حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقد تقدم كلام الإحياء في قوله: {أَلا بُعداً لِعَادٍ} [هود: 60].
ثم قال تعالى: {ولا تَطْغَوا}؛ ولا تخرجوا عما حد لكم، {إنه بما تعملون بصير}، فيجازيكم على النقير والقطمير، وهو تهديد لمن لم يستقم، وتعليل للأمر والنهي. {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا}: لا تميلوا إليهم أدنى ميل؛ فإن الركون: هو الميل اليسير، كالتزيي بزيهم، وتعظيم ذكرهم، وصحبتهم من غير تذكيرهم ووعظهم. {فتمسَّكم النارُ}؛ لركونهم إليهم. قال الأوزاعي: ما من شيء أبغض إلى الله تعالى من عَالِم يَزورُ عَاملاً. اهـ. وقال سفيان: في جهنم وادٍ لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك. اهـ. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دَعَا لِظَالٍمٍ بالبَقَاءِ أي بأن قال: بارك الله في عمرك فَقَدْ أَحَبَّ أَنْ يُعْصَى الله في أرضهِ» وسئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية، هل يسقى شربة ماء؟ فقال: لا. فقيل له: يموت؟! فقال: دعه يموت. اهـ. وهذا إغراق ولعله في الكافر المحارب، والله أعلم.
قال البيضاوي: وإذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمى ظلماً موجباً للنار، فما ظنك بالركون إلى الظالمين الموسومين بالظلم، ثم الميل إليهم، ثم بالظلم نفسه، والانهماك فيه. ولعل الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والتهديد عليه. وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بها؛ للتثبيت على الاستقامة التي هي العدل؛ فإن الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفي إفراط أو تفريط، ظلم على نفسه أو غيره، بل ظلم في نفسه. اهـ.
{وما لكم من دون الله من أولياء}؛ من أنصار يمنعون العذاب عنكم، {ثم لا تُنصرون}: ثم لا ينصركم الله إن سبق في حكمه أنه يعذبكم.
ولمَّا كان الركون إلى الظلم، أو إلى من تلبس به فتنة، وهي تكفرها الصلاة، كما في الحديث، أمر بها أثره، فقال: {وأقم الصَّلاةَ طرفي النهار} غدوة وعشية، {وزلُفاً من الليل}؛ ساعات منه قريبة من النهار. والمراد بالصلاة المأمور بها: الصلوات الخمس. فالطرف الأول: الصبح، والطرف الثاني: الظهر والعصر، والزلف من الليل: المغرب والعشاء، {إن الحسنات يُذهبن السيئات}؛ يكفر بها قال ابن عطية: لفظ الآية عام في الحسنات خاص في السيئات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتنَبت الكَبَائِرُ» ثم قال: وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الجُمُعَةُ إلى الجُمعَةِ كفَّارَة، والصَّلوَاتُ الخَمسُ، وَرَمَضانُ إِلى رَمَضانَ كفاره لِمَا بينَهُما ما اجتُنِبت الكبائر» انظر تمامه في الحاشية.
قال ابن جزي: رُوي أن رجلاً قََبّل امراة، قلتُ: هو نبهان التمار، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وصلَّى معه الصلاة، فنزلت الآية، فقال صلى الله عليه وسلم: «أين السائل؟» فقال: ها أنا ذا، فقال: «قدغَفَرَ اللَّهُ لَكَ بِصَلاتِكَ مَعَنا» فقال الرجل: أَلِيَ خاصَّةً، أو للمسلمين عامة؟ فقال: «للمسلمين عَامَّةً» والآية على هذا مدنية. وقيل: إن الآية كانت قبل ذلك، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للرجل مستدلاً بها. والآية على هذا مكية كسائر السورة، وإنما تُذهب الحسناتُ عند الجمهور الصغائر إذا اجتنبت الكبائر. اهـ. قلت: وقيل: تكفر مطلقاً؛ اجتُنِبَت الكبائر أم لا، وهو الظاهر، لأنه إذا حصل اجتناب الكبائر كفرت بلا سبب؛ لقوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ...} [النساء: 31] الآية. وقوله عليه الصلاة والسلام: «ما اجتنبت الكبائر» معناه: أن الصلوات والجمعة مكفرة لما عدا الكبائر.
والحاصل: أن من اجتنب الكبائر كفرت عنه الصغائر بلا سبب؛ لنص الآية. ومن ارتكب الكبائر والصغائر وصلى، كفرت الصغائر دون الكبائر، وبهذا تتفق الآية مع الحديث. والله تعالى أعلم.
قال ابن عطية في قوله تعالى: {إِنَّ الله اشترى...} [التوبة: 111] الآية: الشهادة ماحية لكل ذنب إلا لمظالم العباد. وقد روي: «أن الله يتحمل عن الشهيد مظالم العباد، ويجازيهم عنه». ختم الله لنا بالحسنى. انتهى.
{ذلك} أي: ما تقدم من وعظ ووعد ووعيد، وأمر الاستقامة، أو القرآن كله، {ذكرى للذاكرين}: عظة للمتقين. وخص الذاكرين، لمزيد انتفاعهم بالوعظ، لصقالة قلوبهم. وفي الخبر: «لكل شيء مصقلة، ومصقلة القلوب ذكر الله». {واصبرْ} على مشاق الاستقامة، ودوامها {فإن الله لا يُضيع أجرَ المحسنين} وهم: أهل الاستقامة ظاهراً وباطناً.
الإشارة: الاستقامة على ثلاثة أقسام: استقامة الجوارح، واستقامة القلوب، واستقامة الأرواح والأسرار. أما استقامة الجوارح فتحصل بكمال التقوى، وتحقيق المتابعة للسنة المحمدية. وأما استقامة القلوب فتحصل بتطهيرها من سائر العيوب، كالكبر والعجب، والرياء، والسمعة، والحقد والحسد، وحب الجاه والمال، وما يتفرع عن ذلك من العداوة والبغضاء، وترك الثقة بمجيء الرزق، وخوف سقوط المنزلة، من قلوب الخلق، والشح والبخل، وطول الأمل، والأشر والبطر، والغل والمباهاة، والتصنع والمداهنة، والقسوة والفظاظة والغلظة، والغفلة، والجفاء، والطيش، والعجلة، والحمية، وضيق الصدر، وقلة الرحمة. إلى غير ذلك من أنواع الرذائل.
فإذا تطهر القلب من هذه العيوب اتصف بأضدادها من الكمالات: كالتواضع لله، والخشوع بين يديه، والتعظيم لأمره، والحفظ لحدوده، والتذلل لربوبيته، والإخلاص في عبوديته، والرضى بقضائه، ورؤية المنة له في منعه وعطائه. ويتصف فيما بين خلقه بالرأفة والرحمة، واللين والرفق، وسعة الصدر والحِلم، والاحتمال والصيانة، والنزاهة والأمانة، والثقة والتأني، والوقار، والسخاء والجود، والحياء، والبشاشة والنصيحة. إلى غير ذلك من الكمالات.
وأما استقامة الأرواح والأسرار، فتحصل بعدم الوقوف مع شيء سوى الله تعالى، وعدم الالتفات إلى غيره حالاً كان أو مقاماً أو كرامة، أو غير ذلك: كما قال الششتري رضي الله عنه:
فلا تلْتَفِت في السَّير غيراً وكلُّ ما ** سوى الله غيرٌ فاتخذ ذِكرَه حِصنا

وكلُّ مقامٍ لا تُقمْ فيهِ إنّه ** حجابٌ فجد السَّير واستَنجد العونا

ومهما ترى كلًّ المراتِبِ تجْتَلِي ** عليكَ فحلْ عنها فعَن مثلها حُلنا

وقُلْ ليس لي في غَير ذاتِكَ مَطلبٌ ** فلا صورةُ تُجلى ولا طُرفة تُجنا

وقوله تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا}: هو نهي عن صحبة الغافلين والميل إليهم. قال بعض الصوفية: قلب لبعض الأبدال: كيف الطريق إلى التحقيق، والوصول إلى الحق؟ قال: لا تنظر إلى الخلق؛ فإن النظر إليهم ظلمة، قلت: لابد لي، قال: لا تسمع كلامهم؛ فإن كلامهم قسوة: قلت: لابد لي، قال: لا تعاملهم؛ لأن معاملتهم خسران وحسرة ووحشة، قلت: أنا بين أظهرهم لابد لي من معاملتهم؟ قال: لا تسكن إليهم؛ فإن السكون إليهم هلكة. قلت: هذا لعله يكون؟ قال: يا هذا، أتنظر إلى اللاعبين، وتسمع كلام الجاهلين، وتعامل البطالين، وتسكن إلى الهلكى، وتريد أن تجد حلاوة الطاعة، وقلبك مع غير الله عز وجل!! هيهات! هذا ما لا يكون أبداً. اهـ. ونقل الورتجبي عن جعفر الصادق: ولا تركنوا إلى نفوسكم فإنها ظلمَة. اهـ.

.تفسير الآيات (116- 117):

{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)}
قلت: {لولا}: تحضيضة، ويقترن بها هنا معنى التفجع والتأسف، كقوله: {ياحسرة عَلَى العباد} و{إلا قليلاً} منقطع، ولا يصح اتصاله، إلا إذا جعل استثناء من النفي اللازم للتحضيض. أي: ما كان في القرون الماضية أولو بقية إلا قليل. يقال: فلان من بقية القوم، أي: خيارهم، وإنما قيل فيه {بقية}؛ لأن الشرائع والدول تقوى أولاً ثم تضعف. فمن ثبت في وقت الضعف على ما كان في أوله، فهو بقية الصدر الأول. قاله ابن عطية. وقوله:{بظلم}: حال من {ربك}؛ أي: ما كان ربك ليهلك القرى ظالماً لهم، أو متعلق بيُهلك.
يقول الحق جل جلاله: {فلولا} فهلا {كان من القرون من قبلكم}؛ كقوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكرهم، {اُولوا بقية} من الرأي، والعقل يُنكرون عليهم، أي: فهلا وجد فيهم من فيه بقية من العقل والحزم والثبوت، {ينهون عن الفساد في الأرض}، لكن قليلاً ممن أنجينا منهم كانوا كذلك، فأنكروا على أهل الفساد، واعتزلوهم في دينهم؛ فأنجيناهم. وفي هذا تحريض على النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، وأنه سبب النجاة في الدارين. {واتَّبع الذين ظلموا ما أُترفوا فيه}: ما أنعموا فيه من الشهوات، واهتموا بتحصيل أسبابها، وأعرضوا عما وراء ذلك، {وكانوا مجرمين} كافرين. قال البيضاوي: كأنه أراد أن يُبين ما كان السبب لاستئصال الأمم الماضية: وهو: فشو الظلم فيهم، واتباع الهوى، وترك النهي عن المنكرات مع الكفر. اهـ.
{وما كان ربك ليُهلك القرى بظلم} أي: متلبساً بظلم، {وأهلُها مصلحون}، فيعذبهم بلا جرم، أي: ما كان ليعذبهم ظالماً لهم بلا سبب. أو ما كان ليهلك القرى بشرك وأهلها مصلحون فيما بينهم، لا يضمون إلى شركهم فساداً وبغياً، وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه. ومن ذلك قدَّم الفقهاءُ، عند تزاحم الحقوق، وحقوقَ العباد، وقال بعضهم: الذنوب ثلاثة: ذنب لا يغفره الله، وهو الشرك، وذنب لا يعبأ الله به، وهو ما كان بينه وبين عباده، وذنب لا يتركه الله، وهو حقوق عباده. وقالوا: قد يبقى المُلك مع الشرك ولا يبقى مع الظلم.
الإشارة: أولو البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض هم: أهل النور المخزون المستودع في قلوبهم من نور الحق، إذا قابلوا منكراً دمغوه بالحال أو المقال، وإذا قالوا فساداً أصلحوه، وإذا قالوا فتنة أطفؤوها. وإذا قابوا بدعة أخمدوها، واجهوا ضالاً أرشده، أو غافلاً ذكروه، أو طالباً للوصول وصلوه، يمشون في الأرض بالنصيحة، لا يخافون في الله لومة لائم. أولئك لهم الأمن وهم مهتدون.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لئن شئتم لأُقسمن لكم: إنَّ أحَبَّ عباد اللَّهِ إلى الله الذين يُحببون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى الله، ويمشون في الأرض بالنصيحة»
أما كونهم يحببون الله إلى عباده، فلأنهم يَذكرون لهم آلاءه وإحسانه وبره. والنفسُ تحب بالطبع من أحسن إليها. وأما كونهم يحببون عباد الله إلى الله؛ فلأنهم يردونهم عن غيهم وحظوظهم، التي تبعدهم عن ربهم. فإذا رجعوا إليه أحبهم.
وسئل ذو النون المصري رضي الله عنه عن وصف الأبدال، فقال: سألتَ عن دياجي الظلام؛ لأَكشفُ لك عنهم، وهم قوم ذكروا الله بقلوبهم، تعظيماً لربهم؛ لمعرفتهم بجلاله، فهم حجج الله تعالى على خلقه، ألبسهم الله تعالى النور الساطع من محبته، ورفع لهم أعلام الهداية إلى مواصلته، وأقامهم مقام الأبطال لإرادته، وأفرغ عليهم من مخافته، وطهَّر أبدانهم بمراقبته، وطيبهم بطيب أهل معاملته، وكساهم حُللاً من نسج مودته، ووضع على رؤوسهم تيجان مبرته، ثم أودع القلوب من ذخائر الغيوب، فهي متعلقة بمواصلته، فهممهم إليه ثائرة، وأعينهم بالغيب ناظرة، قد أقامهم على باب النظر من رؤية، وأجلسهم على كراسي أطباء أهل معرفته، ثم قال لهم: إن أتاكم عليلٌ مَنْ فقدي فداووه، أو مريض من فراقي فعالجوه، أو خائف مني فانصروه، أو من آمن مني فحذِّروه، أو راغب في مواصلتي فمنُّوه، أو راحل نحوي فزودوه، أو جبان في متاجرتي فشجعوه، أو آيسٌ من فضلي فرجّوه، أو راج لإحساني فبشروه، أو حسن الظن بي فباسطوه، أو محب لي فواصلوه، أو معظم لقدرتي فعظموه، أو مسيء بعد إحساني فعاتبوه، أو مسترشد فأرشدوه. اهـ.