فصل: تفسير الآيات (105- 109):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (105- 109):

{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)}
قلت: تقديم المعمول، هو {بالحق}: يُؤذن بالحصر. و{قرآنًا}: مفعول بمحذوف يُفسره ما بعده.
يقول الحقّ جلّ جلاله: في شأن القرآن: {وبالحقِّ أنزلناه وبالحق نَزَل} أي: ما أنزلنا القرآن إلا ملتبسًا بالحق، المقتضي لإنزاله، وما نزل إلا بالحق الذي اشتمل عليه من الأمر والنهي، والمعنى: أنزلناه حقًا مشتملاً على الحق. أو: ما أنزلناه من السماء إلا محفوظًا بالرصَد من الملائكة، وما نزل على الرسول إلا محفوظًا من تخليط الشياطين. ولعل المراد: عدم اعتراء البطلان له أولاً وآخرًا. {وما أرسلناك إِلا مبشرًا} للمطيعين بالثواب، {ونذيرًا} للعاصين بالعقاب، وهو تحقيق لحقية بعثه- عليه الصلاة والسلام- إثر تحقيق حقية إنزال القرآن.
{وقرآنًا فَرَقْنَاهُ} أي: أنزلناه مفرقًا منجمًا في عشرين سنة، أو ثلاث وعشرين. قال القشيري: فرَق القرآن؛ ليهون حفظه، ويكثر تردد الرسول عليه من ربه، وليكون نزوله في كل وقت، وفي كل حادثة وواقعة؛ دليلاً على أنه ليس مما أعانه عليه غيره. اهـ. {لتقرأه على الناس على مُكْثٍ}؛ على مهلٍ وتؤدة وتثبتٍ؛ فإنه أيسر للحفظ، وأعون على الفهم، {ونزلناه تنزيلاً} على حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، والحوادث الواقعة.
{قل} للذين كفروا: {آمِنُوا به أو لا تُؤمنوا}، فإنَّ إيمانكم لا يزيده كمالاً، وامتناعكم منه لا يزيده نقصانًا. أو: أُمِرَ باحتقارهم وعدم الاكتراث بهم، كأنه يقول: سواء آمنتم به أو لم تؤمنوا؛ لأنكم لستم بحجة، وإنما الحجة لأهل العلم، وهم: المؤمنون من أهل الكتاب، الذين أشار إليهم بقوله: {إِن الذين أُوتوا العلم من قَبْلِهِ} أي: العلماء الذين قرأوا الكتب السالفة من قبل تنزيله، وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوة، وتمكنوا من التمييز بين الحق والباطل، والمحق والمبطل، {إِذا يُتلى عليهم} القرآن {يَخرُّون للأذقانِ} أي: يسقطون على وجوههم {سُجَّدًا}؛ تعظيمًا لأمر الله، أو شكرًا لإنجازه ما وعد في تلك الكتب؛ من نعتك، وإظهارك، وإنزال القرآن عليك. والأذقان: جمع ذقن، وهو: أسفل الوجه حيث اللحية. وخصها بالذكر؛ لأنها أول ما تلقى في الأرض من وجه الساجد. والجملة: تعليل لما قبلها من قوله: {آمِنُوا به أو لا تؤمنوا}؛ من عدم المبالاة. والمعنى: إن لم تؤمنوا فقد آمن منْ هو أعلى منكم وأحسن إيمانًا منكم. ويجوز أن يكون تعليلاً لقُل، على سبيل التسلية للرسول- عليه الصلاة والسلام-، كأنه يقول: تسلّ بإيمان العلماء عن إيمان الجهلة، ولا تكترث بإيمانهم وإعراضهم.
{ويقولون} في سجودهم: {سبحان ربِّنا} عن خلْف وعده؛ {إِن كان وعْدُ ربنا لمفعولاً} أي: إن الأمر والشأن كان وعد ربنا مفعولاً لا محالة، {ويَخِرُّون للأذقانِ} كرره؛ لاختلاف السبب، فإن الأول: لتعظيم الله وشكر إنجاز وعده. والثاني: لِمَا أثر فيهم من مواعظ القرآن، {يَبْكُونَ}: حال، أي: حال كونهم باكين من خشية الله، {ويزيدهم} القرآنُ {خشوعًا}، كما يزيدهم علمًا بالله تعالى.
الإشارة: وبالحق أنزلناه، أي بالتعريف بأسرار الربوبية، وبالحق نزل؛ لتعليم آداب العبودية. أو: بالحق أنزلناه، يعني: علم الحقيقة، وبالحق نزل علم الشريعة والطريقة. وما أرسلناك إلا مبشرًا لأهل الإخلاص بالوصول والاختصاص، ونذيرًا لأهل الخوض بالطرد والبعد. وقرآنا فرقناه، لتقرأه نيابة عنا، كي يسمعوه منا بلا واسطة، عند فناء الرسوم والأشكال، ونزّلناه، للتعريف بنا تنزيلاً، قل آمنوا به؛ لتدخلوا حضرتنا، أو لا تؤمنوا، فإن أهل العلم بنا قائمون بحقه، خاشعون عند تلاوته، متنعمون بشهودنا عند سماعه منا. وبالله التوفيق.
ولما كان القرآن مشتملاً على أسماء كثيرة من أسماء الله الحسنى، وكان عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه: «يا الله، يا رحمن»، قالوا: إنه ينهانا عن عبادة إليهن، وهو يدعو إلهًا آخر. وقالت اليهود: إنك لتُقل ذكر الرحمن، وقد أكثر الله تعالى ذكره في التوراة، فأنزل الله ردًا على الفريقين.
{قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى...} قلت: أي شرطية، و{ما}: زائدة؛ تأكيدًا لما في أيًّا من الإبهام، وتقدير المضاف: أيَّ الأسماء تدعو به فأنت مُصيب.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قُلْ} يا ممد للمؤمنين: {ادعوا الله أو ادعوا الرحمن}؛ نادوه بأيهما شئتم، أو سموه بأيهما أردتم. والمراد: إما التسوية بين اللفظين؛ فإنهما عبارتان عن ذاتِ واحد، وإن اختلف الاعتبار، والتوحيد إنما هو للذات، الذي هو المعبود بالحق، وإما أنهما سيان في حسن الإطلاق والوصول إلى المقصود، فلذلك قال: {أَيَّا مَا تدعو}؛ أيَّ اسم تدعو به تصب، {فله الأسماءُ الحسنى} فيكون الجواب محذوفًا، دلَّ عليه الكلام. وقيل: التقدير أيًّا ما تدعو به فهو حسن، فوضع موضعه: {فله الأسماء الحسنى}؛ للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه؛ إذ حسن جميع الأسماء يستدعي حسن ذَيْنِك الاسمين، وكونها حسنى؛ لدلالتها على صفات الكمال من الجلال والجمال؛ إذ كلها راجعة إلى حسن ذاتها، وكمالها؛ جمالاً وجلالاً.
قال في شرح المواقف: ورد في الصحيحين: «إنَّ للهِ تِسْعَةً وتَسْعِينَ اسْمًا، مائةً إلاَّ وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ»، وليس فيها تعيين تلك الأسماء. لكن الترمذي والبيهقي عيَّناها. وهي الطريقة المشهورة، ورواية الترمذي: «الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ المصور، الغفار القهار، الوهاب الرزاق، الفتاح العليم، القابض الباسط، الخافض الرافع، المعز المذل، السميع البصير، الحكم العدل، اللطيف الخبير، الحليم العظيم، الغفور الشكور، العلي الكبير، الحفيظ المقيت، الحسيب الجليل، الكريم الرقيب، المجيب، الواسع الحكيم، الودود المجيد، الباعث الشهيد، الحق الوكيل، القوي المتين، الولي الحميد، المحصي المبدئ المعيد، المحيي المميت، الحي القيوم، الواجد الماجد، الواحد، الأحد الصمد، القادر المقتدر، المقدم المؤخر، الأول الآخر، الظاهر الباطن، الوالي المتعالي، البر التواب، المنتقم العفو الرؤوف، مالك الملك ذو الجلال والإكرام، المقسط الجامع، الغني المغني المانع، الضار النافع، النور الهادي، البديع الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور».
وقد ورد التوقيف بغيرها، أمَّا في القرآن؛ فكالمولى، والنصير والغالب، والقاهر والقريب، والرب والأعلى، والناصر والأكرم، وأحسن الخالقين، وأرحم الراحمين، وذي الطول، وذي القوة، وذي المعارج، وغير ذلك. وأما في الحديث، فكالمنان، والحنان، وقد ورد في رواية ابن ماجة أسماء ليست في الرواية المشهورة؛ كالقائم، والقديم، والوتر، والشديد، والكافي، وغيرها.
وإحصاؤها: إما حفظها؛ لأنه إما يحصل بتكرار مجموعها وتعدادها مرارًا، وإما ضبطها؛ حصرًا وعلمًا وإيمانًا وقيامًا بحقوقها، وإما تعلقًا وتخلقًا وتحققًا. وقد ذكرنا في شرح الفاتحة الكبير كيفية التعلق والتخلق والتحقق بها. وفي ابن حجر: أن أسماء الله مائة، استأثر الله بواحد، وهو الاسم الأعظم، فلم يُطلع عليه أحدًا، فكأنه قيل: مائة لكن واحد منها عند الله. وقال غيره: ليس الاسم الذي يكمل الماءة مخفيًا، بل هو الجلالة. وممن جزم بذلك البيهقي، فقال: الأسماء الحسنى مائة، على عدد درجات الجنة، والذي يكمل المائة: الله، ويؤيده قوله تعالى: {وَللَّهِ الأسمآء الحسنى} [الأعرَاف: 180]. فالتسعة والتسعون لله؛ فهي زائدة عليه وبه تكمل المائة. اهـ.
قلت: ولعله ذكر اسمًا آخر يكمل التسعة والتسعين. وإلا فهو مذكور في الرواية المتقدمة من التسعة والتسعين. والله تعالى أعلم.
الإشارة: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن}، قال الورتجبي: إن الله سبحانه دعا عباده إلى معرفة الاسمين الخاصين، الذين فيهما أسرار جميع الأسماء والصفات والذات، والنعوت والأفعال؛ فالله اسمُهُ، وهو اسمُ عَيْنِ جَمْعِ الجَمعِ، والرحمن اسم عين الجمع؛ فالرحمن مندرج تحت اسمه: {الله}؛ لأَنه عين الكل، وإذا قلت: الله؛ ذكرت عين الكل. ثم قال: وإذا قال: {الله}؛ يفنى الكل، وإذا قال: {الرحمن}؛ يبقى الكل، من حيث الاتصاف والاتحاد، فالاتصاف بالرحمانية يكون، والاتحاد بالألوهية يكون. ثم قال: عن الأستاذ: من عظيم نعمه سبحانه على أوليائه: أنه يُنزههم بأسرارهم في رياض ذكره؛ بتعداد أسمائه الحسنى، فيتنقلون من روضة إلى روضة، ومن مأنس إلى مأنس، ويقال: الأغنياء تنزههم في بساتينهم، وتنزههم في منابت رياحِينهم. والفقراء تنزههم في مشاهد تسبيحهم، ويستروحون إلى ما يلوح لأسرارهم من كشوفات جلاله وجماله. اهـ. قلت: والعارفون تنزههم في مشاهدة أسرار محبوبهم، وما يكشف لهم من روض جماله وجلاله. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (110- 111):

{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولا تجهرْ} بقراءة صلاتك، بحيث تُسمع المشركين، فإن ذلك يحملهم على السب واللغو فيها، {ولا تُخافت} أي: تُسر {بها}؛ حتى لا تُسمع من خلفك من المؤمنين، {وابتغ بين ذلك سبيلاً}؛ واطلب بين المخافتة والإجهار طريقًا قصدًا، فإنَّ خير الأمور أوسطها. والتعبير عن ذلك بالسبيل باعتبار أنه طريق يتوجه إليه المتوجهون، ويؤمه المقتدون ليوصلهم إلى المطلوب. رُوي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يخفت، ويقول: أُنَاجِي ربِّي، وَقَدْ عَلِمَ حَاجَتِي. وعُمَرُ رضي الله عنه كان يجهر، ويقول: أطردُ الشَّيْطَانَ وأُوقِظُ الوَسْنَانَ. فلما نزلت، أَمَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا بَكْرٍ أَنْ يَجْهَر قليلاً، وعمر أن يَخْفِض قليلاً.
وقيل: المعنى: {ولا تجهر بصلاتك} كلها، {ولا تُخافت بها} بأسرها، {وابتغِ بين ذلك سبيلاً}؛ بالمخافتة نهارًا والجهر ليلاً. وقيل: {بصلاتك}؛ بدعائك. وذهب قوم إلى أنها منسوخة؛ لزوال علة السب واللغو؛ بإظهار الدين وإخفاء الشرك وبطلانه؛ فالحمد لله على ذلك كما قال تعالى: {وقل الحمدُ لله الذي لم يتخذ ولدًا} كما يزعم اليهود والنصارى وبنو مدلج؛ حيث قالوا: عُزير ابن الله، والمسيح ابن الله، والملائكة بنات الله. تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا، {ولم يكن له شريك في الملك}؛ في الألوهية؛ كما تقول الثنوية القائلون بتعدد الآلهة. {ولم يكن له وَلِيٌّ من الذُّلِّ} أي: لم يكن له ناصر ينصره {من الذُّل} أي: لم يذل فيحتاج إلى ولي يُواليه؛ ليدفع ذلك عنه. وفي التعرض في أثناء الحمد لهذه الصفات الجليلة؛ إيذان بأن المستحق للحمد من هذه نعوته، دون غيره؛ إذ بذلك يتم الكمال، وما عداه ناقص حقير، ولذلك عطف عليه: {وكبِّره تكبيرًا} عظيمًا، وفيه تنبيه على أن العبد وإن بالغ في التنزيه والتمجيد، واجتهد في العبادة والتحميد، ينبغي أن يعترف بالقصور عن حقه في ذلك. رُوي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علَّمه هذه الآية: {وقل الحمد لله...} الخ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الإجهار بالذكر والقراءة والدعاء، مباح لأهل البدايات، لمن وجد قلبه في ذلك، وأما النهي الذي في الآية فمنسوخ؛ لأن الصحابة، حين هاجروا من مكة، رفعوا أصواتهم بالقراءة والتكبير. لكن المداومة عليه من شأن أهل البُعد عن الحضرة، وأما أهل القُرب فالغالب عليهم السكوت أو المخافتة؛ قال تعالى: {وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} [طه: 108]. وأما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام لأبي بكر رضي الله عنه بالإجهار قليلاً، وعمر بالخفض قليلاً؛ فإخراج لهم عن مرادهم؛ تربيةً لهم. وختم السورة بآية العز؛ إشارة إلى أن من أسرى بروحه، أو بجسده إلى الملأ الأعلى كان عاقبته العز والرفعة في الدارين.

.سورة الكهف:

.تفسير الآيات (1- 5):

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)}
قلت: {قَيّمًا}: حال من الكتاب، والعامل فيه: {أنزل}، ومنعه الزمخشري؛ للفصل بين الحال وذي الحال، واختار أن العامل فيه مضمر، تقديره: جعله قيّمًا، و{لينذر}: يتعلق بأنزل، أو بقيّمًا. والفاعل: ضمير الكتاب، أو النبي صلى الله عليه وسلم، و{بأسًا}: مفعول ثان، وحذف الأول، أي: لينذر الناس بأسًا، كما حذف الثاني من قوله: {ويُنذر الذين قالوا...} الخ؛ لدلالة هذا عليه، و{مِن عِلْم}: مبتدأ مجرور بحرف زائد، أو فاعل بالمجرور؛ لاعتماده على النفي، و{كلمة}: تمييز.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {الحمدُ لله} أي: الثناء الجميل حاصل لله، والمراد: الإعلام بذلك؛ للإيمان به، أو الثناء على نفسه، أو هما معًا. ثم ذكر وجه استحقاقه له، فقال: {الذي أَنزل على عبده الكتابَ} أي: الكتاب الكامل المعروف بذلك من بين سائر الكتب، الحقيق باختصاص اسم الكتاب، وهو جميع القرآن. رتَّب استحقاق الحمد على إنزاله؛ تنبيهًا على أنه أعظم نعمائه، وذلك لأنه الهادي إلى ما فيه كمال العباد، والداعي إلى ما به ينتظم صلاح المعاش والمعاد.
وفي التعبير عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبد، مضافًا إلى ضمير الجلالة تنبيه على بلوغه صلى الله عليه وسلم إلى معاريج العبادة وكمال العبودية أقصى غاية الكمال، حيث كان فانيًا عن حظوظه، قائمًا بحقوقه، خالصًا في عبوديته لربه.
{ولم يجعلْ له} أي: للكتاب {عِوَجًا}؛ شيئًا من العوج، باختلافٍ في اللفظ، وتناقض في المعنى، وانحراف في الدعوة. قال القشيري: صانه عن التناقض والتعارض، فهو كتابٌ عزيزٌ من ربِّ عزيز، ينزل على عَبْدٍ عزيز.
قَيّمًا: مستقيمًا متناهيًا في الاستقامة، معتدلاً لا إفراط فيه ولا تفريط، فهو تأكيد لما دل عليه نفي العوج، مع إفادته كون ذلك من صفاته الذاتية، حسبما تُنبئ عنه الصيغة. أو قَيّمًا بالمصالح الدينية والدنيوية للعباد، على ما ينبئ عنه ما بعده من الإنذار والتبشير، فيكون وصفًا له بالتكميل، بعد وصفه بالكمال، أو: قَيّمًا على ما قبله من الكتب السماوية، وشاهدًا بصحتها ومهيمنًا عليها. {ليُنذر}: ليُخوّف اللهُ تعالى به، أو الكتاب، والأول أوْلى؛ لتناسب المعطوفين بعده، أي: أنزل الكتاب لينذر بما فيه الذين كفروا {بأسًا}: عذابًا {شديداً من لدنه} أي: صادرًا من عنده، نازلاً من قِبَله، في مقابلة كفرهم وتكذيبهم.
{ويُبشِّر} بالتشديد والتخفيف، {المؤمنين}: المصدقين به، {الذين يعملون} أي: العُمال {الصالحاتِ} التي تَنْبَثُّ في تضاعيفه {أنَّ لهم} أي: بأن لهم في مقابلة إيمانهم وأعمالهم {أجرًا حسنًا}، هو الجنة وما فيها من المثوبات الحسنى، {ماكثين فيه} أي: في ذلك الأجر {أبدًا} على سبيل الخلود. والتعبير بالمضارع في الصلة- أعني: الذين يعملون-؛ للإشعار بتجدد الأعمال الصالحات واستمرارها، وإجراء الموصول على الموصوف بالإيمان؛ إيماءً بأن مدار قبول الأعمال هو الإيمان.
وتقديم الإنذار على التبشير؛ لإظهار كمال العناية بزجر الكفار عما هم عليه، مع مراعاة تقديم التخلية على التحلية. وتكرير الإنذار بقوله تعالى: {ويُنذرَ الذين قالوا اتخذ اللهُ ولدًا}: متعلق بفرقة خاصة، ممن عمَّهُ الإنذار السابق، من مستحقي البأس الشديد؛ للإيذان بكمال فظاعة حالهم، لغاية شناعة كفرهم وضلالهم، أي: وينذر، من بين سائر الكفرة، هؤلاء المتفوهين بمثل هذه القولة العظيمة، وهم كفار العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله، واليهود القائلون: عزير ابن الله، والنصارى القائلون: المسيح ابن الله.
{ما لهم به من عِلْمٍ} أي: ما لهم باتخاذه الولد شيء من علم أصلاً؛ لضلالهم وإضلالهم، {ولا لآبائهم} الذين قلدوهم، فتاهوا جميعًا في تيه الجهالة والضلالة، أو: ما لهم علم بما قالوا، أصواب أم خطأ، بل إنما قالوه؛ رميًا بقولٍ عن عمى وجهالة، من غير فكر ولا روية، كقوله تعالى: {وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعَام: 100]. أو: ما لهم علم بحقيقة ما قالوا، وبعِظَم رتبته في الشناعة، كقوله تعالى: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريَم: 88-90]، وهو الأنسب لقوله: {كَبُرتْ كلمةٌ} أي: عظمت مقالتهم هذه في الكفر والافتراء؛ لما فيها من نسبته سبحانه إلى ما لا يكاد يليق بجناب كبريائه؛ لما فيه من التشبيه والتشريك، وإيهام احتياجه تعالى إلى ولد يُعينه ويخلفه. فما أقبحها مقالة {تخرج من أفواههم} أي: يتفوهون بها من غير حقيقة ولا تحقيق لمعناها، {إن يقولون إِلا كذبًا}: ما يقولون في ذلك إلا قولاً كذبًا، لا يكاد يدخل فيه إمكان الصدق أصلاً.
الإشارة: من كملت عبوديته لله، وصار حُرًّا مما سواه، بحيث تحرر من رق الأكوان، وأفضى إلى مقام الشهود والعيان، أنزل الله على قلبه علم التحقيق، وسلك به منهاج أهل التوفيق، منهاجًا قيمًا، لا إفراط فيه ولا تفريط، محفوظًا في باطنه من الزيغ والإلحاد، وفي ظاهره من الفساد والعناد، قد تولى الله أمره وأخذه عنه، فهو على بينة من ربه فيما يأخذ ويذر. فإن أَذِنَ له في التذكير وقع في مسامع الخلق عبارتُه، وجليت إليهم إشارته، فبَشَّر وأنذر، ورغّب وحذّر، يُبشر أهل التوحيد والتنزيه بنعيم الجنان، وبالنظر إلى وجه الرحمن، ويُنذر أهل الشرك بعذاب النيران، وبالذل والهوان، نعوذ بالله من موارد الفتن.