فصل: تفسير الآيات (16- 21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (16- 21):

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)}
قلت: {إذ انتبذت}: بدل اشتمال من مريم، على أن المراد بها نبؤها، فإن الظرف مشتمل على ما فيها، وقيل: بدل الكل، على أن المراد بالظرف ما وقع فيه. وقيل: {إذ} ظرف لنبأ المقدر، أي: اذكر نبأ مريم حين انتبذت؛ لأن الذكر لا يتعلق بالأعيان، لكن لا على أن يكون المأمور به ذكر نبأها عند انتباذها فقط، بل كل ما عطف عليه وحكي بعده بطريق الاستثناء داخل في حيز الظرف متمم للنبأ. و{مكانًا}: مفعول بانتبذت، باعتبار ما فيه من معنى الإتيان، أي: اعتزلت وأتَتْ مكانًا شرقيًا، أو ظرف له، أي: اعتزلت في مكان شرقي. و{بَشرًا}: حال. وجواب {إن كنت}: محذوف، أي: إن كنت تقيًا فإني عائذة بالرحمن منك. و{بَغِيًّا} أصله: بغوي، على وزن فعول، فأدغمت الواو- بعد قلبها ياء- في الياء، وكسرت الغين للياء، و{لنجعله}: متعلق بمحذوف، أي: ولنجعله آية فعلنا ذلك، أو معطوف على محذوف، أي: لنُبين لهم كمال قدرتنا ولنجعله... الخ. أو على جملة: {هو عليّ هين}؛ لأنها في معنى العلة، أي: كذلك قال ربك؛ لقدرتنا على ذلك؛ ولنجعله... إلخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {واذكرْ} يا محمد {في الكتابِ}: القرآن، والمراد هذه السورة الكريمة؛ لأنها هي التي صُدرت بذكر زكريا، واستتبعت بذكر قصة مريم؛ لما بينهما من الاشتباك. أي: اذكر في الكتاب نبأ {مريم إِذ انتبذتْ}؛ حين اعتزلت {من أهلها} وأتت {مكانًا شرقيًا} من بيت المقدس، أو من دارها لتتخلى فيه للعبادة، ولذلك اتخذت النصارى المشرق قبلة. وقيل: قعدت في مشربة لتغتسل من الحيْض، محتجبة بشيء يسترها، وذلك قوله تعالى: {فاتخذتْ من دونهم حجابًا}، وكان موضعها المسجد، فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها، وإذا طهرت عادت إلى المسجد. فبينما هي تغتسل من الحيض، متحجبةً دونهم، أتاها جبريل عليه السلام في صورة آدمي، شاب أمرد، وضيء الوجه.
قال تعالى: {فأرسلنا إِليها رُوحنا}: جبريل عليه السلام، عبَّر عنه بذلك؛ توفية للمقام حقه. وقرئ بفتح الراء؛ لكونه سببًا لِمَا فيه روح العباد، يعني اتباعه والاهتداء به، الذي هو عدة المقربين في قوله: {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقِعَة: 88، 89]. {فتمثَّل لها بشرًا سويًّا}: سَويّ الخَلق، كامل البنية، لم يفقد من حِسان نعوت الآدمية شيئًا، وقيل: تمثل لها في صورة شاب تِرْبٍ لها، اسمه يوسف، مِنْ خدَم بيت المقدس، وإنما تمثل لها في تلك الصورة الجميلة لتستأنس به، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلامه تعالى؛ إذ لو ظهر لها على صورة الملَكية، لنفرت منه ولم تستطع مقاومته.
وأما ما قيل من أن ذلك لتَهيج شهوتُها، فتنحدر نطفتها إلى رحمها، فغلط فاحش، ينحو إلى مذهب الفلاسفة، ولعلها نزعة مسروقة من مطالعة كتبهم، يُكذبه قوله تعالى: {قالت إِني أعوذ بالرحمن منك إِن كنت تقيًا}، فإنه شاهد عدل بأنه لم يخطر ببالها ميل إليه، فضلاً عن ما ذكر من الحالة المترتبة على أقصى مراتب الميل والشهوة.
نعم يمكن أن يكون ظهر على ذلك الحُسن الفائق والجمال اللائق؛ لابتلائها واختبار عِفّتها، ولقد ظهر منها من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه. وذِكْرُ عنوان الرحمانية؛ للمبالغة في العِيَاذ به تعالى، واستجلاب آثر الرحمة الخاصة، التي هي العصمة مما دهمها. قاله أبو السعود. وقولها: {إِن كنتَ تَقيًّا} أي: تتقي الله فتُبَالى بالاستعاذة به.
{قال إِنما أنا رسولُ ربك} أي: لستُ ممن يتوقع منه ما توهمت من الشر، وإنما أنا رسول من استعذت برحمانيته؛ {لأهَبَ لك غُلامًا} أي: لأكون سببًا في هبة الغلام، أو: ليهب لك ربُك غُلامًا- في قراءة الياء-. والتعرض لعنون الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها؛ لتشريفها وتسليتها، والإشعار بعلية الحكم؛ فإن هبة الغلام لها من أحكام تربيتها. وقوله: {زكيًّا} أي: طاهرًا من العيوب صالحًا، أو تزكو أحواله وتنمو في الخير، من سن الطفولية إلى الكبر.
{قالت أنَّى يكونُ لي غلامٌ} كما وصفتَ، {و} الحال أنه {لم يَمْسَسني بشرٌ} بالنكاح، {ولم أكُ بغيًا}؛ زانية فاجرة تبتغي الرجال؟ {قال} لها الملك: {كذلك} أي: الأمر كما قلتُ لك {قال ربكِ هو عليَّ هيِّنٌ} أي: هبة الغلام من غير أن يمسسك بشرٌ هين سهل على قدرتنا، وإن كان مستحيلاً عادة؛ لأني لا أحتاج إلى الأسباب والوسائط، بل أمرنا بين الكاف والنون، {و} إنما فعلنا ذلك {لنجعله آيةً للناس} يستدلون به على كمال قدرتنا. والالتفات إلى نون العظمة؛ لإظهار كمال الجلالة، {و} لنجعله {رحمةً} عظيمة كائنة {منا} عليهم، ليهتدوا بهدايته، ويُرشدوا بإرشاده. {وكان} ذلك {أمرًا مقضيًا} في الأزل، قد تعلق به قضاء الله وقدره، وسُطِّر في اللوح المحفوظ، فلابد من جريانه عليك، أو: كان أمرًا حقيقيًا بأن يقضى ويفعل؛ لتضمنه حِكَمًا بالغة وأسرارًا عجيبة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا تظهر النتائج والأسرار إلا بعد الانتباذ عن الفجار، وعن كل ما يشغل القلب عن التذكار، أو عن الشهود والاستبصار، فإذا اعتزل مكانًا شرقيًا، أي: قريبًا من شروق الأنوار والأسرار، بحيث يكون قريبًا من أهل الأنوار، أو بإذنهم، أرسل الله إليه روحًا قدسيًا، وهو وارد رباني تحيا به روحُه وسرُه وقلبُه وقالبُه، فيهب له عِلمًا لدنيا، وسرًا ربانيًا، يكون آية لمن بعده، ورحمة لمن اقتدى به وتبعه. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (22- 33):

{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)}
قلت: {رُطبًا}: تمييز، فيمن أثبت التاءين، أو حذف إحداهما، ومفعول به، فيمن قرأ بتاء واحدة مع كسر القاف.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فحملَتْهُ} بأن نفخ جبريل في درعها، فدخلت النفخة في جوفها. قيل: إن جبريل عليه السلام رفع درعها فنفخ في جيبه، وقيل: نفخ عن بُعد، فوصل الريح إليها فحملت في الحال، وقيل: إن النفخة كانت في فيها، وكانت مدة حملها سبعة أشهر، وقيل: ثمانية. ولم يعش ولد من ثمانية. وفي ابن عطية: تظاهرت الروايات أنها ولدت لثمانية أشهر، ولذلك لا يعيش ابن ثمانية أشهر؛ حفظًا لخاصية عيسى، فتكون معجزة له. اهـ. وقيل: تسعة أشهر. وقيل: ثلاث ساعات، حملته في ساعة، وصُور في ساعة، ووضعته في ساعة حين زالت الشمس. وقيل: ساعة، ما هو إلا أن حملت فوضعت، وسنها حينئذ ثلاث عشرة سنة، وقيل: عشر سنين، وقد حاضت حيضتين.
{فانتبذت به} أي: فاعتزلت ملتبسة به حين أحست بقرب وضعها، {مكانًا قَصيًّا}: بعيدًا من أهلها وراء الجبل، وقيل: أقصى الدار. {فأجاءها المخاضُ}؛ فألجأها المخاض. وقرئ بكسر الميم. وكلاهما مصدر، مَحَضتِ المرأة: إذا تحرك الولد في بطنها للخروج، {إِلى جِذْعِ النخلةِ} لتستتر به، أو لتعتمد عليه عند الولادة، وهو ما بين العِرق والغصن. وكانت نخلة يابسة، لا رأس لها ولا قعدة، قد جيء بها لبناء بيت، وكان الوقت شتاء، والتعريف في النخلة إما للجنس أو للعهد، إذ لم يكن ثَمَّ غيرها، ولعله تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياتها ما يسكن روعتها، وليطعمها الرطب، الذي هو من طعام النفساء الموافق لها.
{قالت} حين أخذها وجع الطلق: {يا ليتني متُّ} بكسر الميم، من مات يُمَاتُ، وبالضم، من مات يموت، {قبل هذا} الوقت الذي لقيتُ فيه ما لقيت، وإنما قالته، مع أنها كانت تعلم ما جرى لها مع جبريل عليه السلام من الوعد الكريم؛ استحياء من الناس، وخوفًا من لائمتهم، أو جريًا على سنن الصالحين عند اشتداد الأمر، كما رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه أخذ تِبْنَةً من الأرض، فقال: ليتني هذه التبنة ولم أكن شيئًا. وقال بلال: (ليت بلالاً لم تلده أمه). ثم قالت: {وكنتُ نسْيًا} أي: شيئًا تافهًا شأنه أن يُنسى ولا يُعتد به، {منسيًّا} لا يخطر ببال أحد من الناس. وقُرئ بفتح النون، وهما لغتان؛ نِسي ونَسْي، كالوَتْر والوِتْر. وقيل: بالكسر: اسم ما ينسى، وبالفتح: مصدر.
{فناداها} أي: جبريل عليه السلام {مِنْ تحتِها}، قيل: إنه كان يقبل الولد من تحتها، أي: من مكان أسفل منها، وقيل: من تحت النخلة، وقيل: ناداها عيسى عليه السلام، ويرجحه قراءة من قرأ بفتح الميم، أي: فخاطبها الذي تحتها: {أن لا تحزني}، أو: بألا تحزني، على أنَّ- أنْ مفسرة، أو مصدرية، حذف عنها الجار.
{قد جعل ربك تحتكِ} أي: بمكان أسفل منك {سَرِيًا} أي: نهرًا صغيرًا، حسبما رُوي مرفوعًا. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إن جبريل عليه السلام ضرب برجله الأرض، فظهرت عين ماء عذب، فجرى جدولاً). وقيل: فعله عيسى، أي: ضرب برجله فجرى، وقيل: كان هناك نهر يابس- أجرى الله تعالى فيه الماء-، كما فعل مثله بالنخلة، فإنها كانت يابسة لا رأس لها، فأخرج لها رأسًا وخُوصًا وتمرًا. وقيل: كان هناك نهرُ ماء. والأول أظهر؛ لأنه الموافق لبيان إظهار الخوارق، والمتبادر من النظم الكريم.
وقيل: {سريًا} أي: سيدًا نبيلاً رفيعَ الشأن جليلاً، وهو عيسى عليه السلام، والتنوين حينئذ للتفخيم. والجملة تعليل لانتفاء الحزن المفهوم من النهي. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها؛ لتشريفها وتأكيد التعليل وتكميل التسلية.
ثم قال: {وهُزّي إِليك} أي: حركي النخلة إليك، أي: جاذبة لها إلى جهتك. فهَزُّ الشيء: تحريكه إلى الجهات المتقابلة تحريكًا عنيفًا، والمراد هنا ما كان بطريق الجذب والدفع. والباء في قوله: {بجذع النخلة}: صلة للتأكيد، لقول العرب: هزَّ الشيء وهز به، أو للإلصاق. فإذا هززت النخلة {تَسَّاقَط} أي: تتساقط. وقُرئ: تساقِطَ، وتُسْقِط، أي: النخلة عليك إسقاطًا متواترًا بحسب تواتر الهز {رُطبًا جنيًا} أي: طريًّا، وهو ما قطع قبل يبسه. فعيل بمعنى مفعول، أي: مجنيًا صالحًا للاجتناء. {فكُلي} من ذلك الرطب {واشربي} من ذلك السري، {وقَرّي عينًا}؛ وطيبي نفسًا وارفضي عنك ما أحزنك وأهمك، فإنه تعالى قد نزه ساحتك عن التُهم، بما يفصح به لسان ولدك من التبرئة. أو: وقري عينًا بحفظ الله ورعايته في أمورك كلها. وقرة العين: برودتها، مأخوذ من القرّ، وهو البرد؛ لأن دمع الفرح بارد، ودمع الحزن سُخن، ولذلك يقال: قرة العين للمحبوب، وسُخنة العين للمكروه.
{فإِما تَرَينَّ من البشر أحدًا} آدميًا كائنًا من كان {فقولي} له إن استنطقكِ أو لامك: {إِني نذرتُ للرحمن صومًا} أي: صمتًا، وقُرئ كذلك، وكان صيامهم السكوت، فكانوا يصومون عن الكلام كما يصومون عن الطعام. وذكر ابن العربي في الأحوذي: أن نبينا- عليه الصلاة والسلام- اختص بإباحة الكلام لأمته في الصوم، وكان محرمًا على من قبلنا، عكس الصلاة. اهـ. قالت: {فلن أُكلِّمَ اليوم إِنسيًّا} أي: بعد أن أخبرتكم بنذري، وإنما أكلم الملائكة أو أناجي ربي. وقيل: أُمرت بأن تُخبر عن نذرها بالإشارة. قال الفراء: العرب تُسمى كل ما وصل إلى الإنسان كلامًا، ما لم يُؤكّد بالمصدر، فإذا أُكد لم يكن إلا حقيقة الكلام. اهـ. وإنما أُمرت بذلك ونذرته؛ لكراهة مجادلة السفهاء ومقاولتهم، وللاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام؛ فإنه نص قاطع في قطع الطعن.
{فأتت به قومًها} عندما طَهُرت من نفاسها، {تحملُه} أي: حاملة له. قال الكلبي: احتمل يوسف النجار- وكان ابن عمها- مريمَ وابنها عيسى، فأدخلهما غارًا أربعين يومًا، حتى تَعَلّتْ من نفاسها، ثم جاءت به تحمله بعد أربعين يومًا، وكلمها عيسى في الطريق، فقال: يا أمه، أبشري، فإني عبد الله ومسِيحُه. فلما رآها أهلُها، بَكَوا وحزنوا، وكانوا قومًا صالحين. {قالوا يا مريمُ لقد جئتِ} أي: فعلت {شيئًا فَرِيًّا}: عظيمًا بديعًا منكرًا، من فَرَى الجلد: قطعه. قال أبو عبيدة: (كل فائق من عَجَب أو عمل فهو فَرِيّ). قال النبي صلى الله عليه وسلم: في حق عمر رضي الله عنه: «فلم أرَ عَبْقَرِيًا من النَّاس يَفْرِي فَرِيَّة»، أي: يعمل عمله.
{يا أخت هارون}، عنوا هارون أخا موسى؛ لأنها كانت من نسله، أي: كانت من أعقاب من كان معه في طبقة الأخوة، وكان بينها وبينه ألفُ سنة. أو يا أخت هارون في الصلاح والنسك، وكان رجلاً صالحًا في زمانهم اسمه هارون، فشبهوها به. ذُكِرَ لما مات تبع جنازته أربعون ألفًا، كلهم يسمي هارون من بني إسرائيل. وقيل: إن هارون الذي شبهوها به كان أفسق بني إسرائيل، فشتموها بتشبيهها به. {ما كان أبوك} عمران {امْرأَ سَوْءٍ وما كانت أُمك بغيًا}، فمن أين لك هذا الولد من غير زوج؟. هذا تقرير لكون ما جاءت به فريًا منكرًا، أو تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش الفواحش.
{فأشارتْ إِليه} أي: إلى عيسى أن كلموه، ولم تكلمهم وفاء بنذرها، وإشارتها إليه من باب الإدلال، رجوعًا لقوله لها: {وقرّي عينًا}، ولا تقر عينها إلا بالوفاء بما وعُدت به، من العناية بأمرها والكفاية لشأنها، وذلك يقتضي انفرادها بالله وغناها به، فتدل بالإشارة. وكان ذلك طوعَ يدها، وتذكّر قضية جريج. قاله في الحاشية. {قالوا} منكرين لجوابها: {كيف نُكلم من كان في المهد صبيًّا}، ولم يُعهد فيما سلف صبي يكلمه عاقل. و{كان} هنا: تامة. و{صبيًّا}: حال. وقيل: زائدة، أي: من هو في المهد.
{قال} عيسى عليه السلام: {إِني عبد الله}، أنطقه الله تعالى بذلك تحقيقًا للحق، وردًا على من يزعم ربوبيته. قيل كان المستنطق لعيسى زكريا- عليهما السلام- وعن السدي: (لما أشارت إليه، غضبوا، وقالوا: لَسُخْرِيَتُها بنا أشدُّ علينا مما فعلت). رُوي أنه عليه السلام كان يرضع، فلما سمع ذلك ترك الرضاع واقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره، وأشار بسبابته، فقال ما قال. وقيل: كلمهم بذلك، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغًا يتكلم فيه الصبيان.
ثم قال في كلامه: {آتاني الكتابَ}: الإنجيل: {وجعلني} مع ذلك {نبيًّا وجعلني مباركًا}: نفَّاعًا للناس، معلمًا للخير {أينما كنتُ} أي: حيثما كنت، {وأوصاني بالصلاة}: أمرني بها أمرًا مؤكدًا، {والزكاة}؛ زكاة الأموال، أو بتطهير النفس من الرذائل {ما دمت حيًا} في الدنيا.
{و} جعلني {برًّا بوالدتي} فهو عطف على {مباركًا}. وقرئ بالكسر، على أنه مصدرٌ وُصف به مبالغةً، وعبّر بالفعل الماضي في الأفعال الثلاثة؛ إما باعتبار ما سبق في القضاء المحتوم، أو بجعل ما سَيَقَع واقعًا لتحققه. ثم قال: {ولم يجعلني جبارًا شقيًّا} عند الله تعالى، بل متواضعًا لينًا، سعيدًا مقربًا، فكان يقول: سلوني، فإن قلبي لين، وإني في نفسي صغير، لما أعطاه الله من التواضع.
ثم قال: {والسلام عليَّ يوم ولدتُ ويوم أموتُ ويوم أُبعث حيًّا}، كما تقدم على يحيى. وفيه تعريض بمن خالفه، فإن إثبات جنس السلام لنفسه تعريض بإثبات ضده لأضداده، كما في قوله تعالى: {والسلام على مَنِ اتبع الهدى} [طه: 47]؛ فإنه تعريض بأن العذاب على من كذّب وتولى.
فهذا آخر كلام عيسى عليه السلام، وهو أحد من تكلم في المهد، وقد تقدم ذكرهم في سورة يوسف نظمًا ونثرًا. وكلهم معروفون، غير أن ماشطة ابنة فرعون لم تشتهر حكايتها. وسأذكرها كما ذكرها الثعلبي. قال: قال ابن عباس: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم مرت به ريح طيبة فقال: يا جبريل ما هذه الرائحة؟ قال: رائحة ماشطةِ بنتِ فرعون، كانت تمشطها، فوقع المشط من يدها، فقالت: بسم الله، فقالت ابنته: أبى؟ فقالت: لا، بل ربي وربك ورب أبيك. فقالت: أُخبر بذلك أبي؟ قالت: نعم، فأخبرته فدعاها، وقال: من ربك؟ قالت: ربي وربك في السماء، فأمر فرعون ببقرة- أي: آنية عظيمة من نحاس- فَأُحْمِيَتْ، ودعاها بولدها، فقالت: إن لي إليك لحاجةً، قال: وما حاجتك؟ قالت: تجمع عظامي وعظامَ ولدي فتدفنها جميعًا، قال: وذلك لك علينا من الحقّ، سأفعل ذلك لك، فأمر بأولادها واحدًا واحدًا، حتى إذا كان آخر ولدها، وكان صبيًا مرضَعًا، قال: اصبري يا أمه... فألقاها في البقرة مع ولدها. اهـ.
الإشارة: يؤخذ من الآية أمور صوفية، منها: أن الإنسان يُباح له أن يستتر في الأمور التي تهتك عرضه، ويهرب إلى مكان يُصان فيه عرضه، إلا أن يكون في مقام الرياضة والمجاهدة، فإنه يتعاطى ما تموت به نفسه، ومنها: أنه لا بأس أن يلجأ الإنسان إلى ما يخفف آلامه ويسهل شدته، ولا ينافي توكله. ومنها: أن لا بأس أن يتمنى الموت إذا خاف ذهاب دينه أو عرضه، أو فتنة تحول بينه وبين قلبه. ويُؤخذ أيضًا من الآية: أن فزع القلب عند الصدمة الأولى لا ينافي الصبر والرضا؛ لأنه من طبع البشر، وإنما ينافيه تماديه على الجزع.
ومنها: أن تحريك الأسباب الشرعية لا ينافي التوكل، لقوله تعالى: {وهُزي إليك}. لكن إذا كانت خفيفة مصحوبة بإقامة الدين، غير معتمد عليها بقلبه، فإن كان متجردًا فلا يرجع إليها حتى يكمل يقينه، ويتمكن في معرفة الحق تعالى.
وقد كانت في بدايتها تأتي إليها الأرزاق بغير سبب كما في سورة آل عمران، وفي نهايتها قال لها: {وهُزي إليك}. قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: كانت في بدايتها متعرفًا إليها بخرق العادات وسقوط الأسباب، فلما تكمل يقينها رجعت إلى الأسباب، والحالة الثانية أتم من الحالة الأولى، وأما من قال: إن حبها أولاً كان لله وحده، فلما ولدت انقسم حبها، فهو تأويل لا يرضى ولا ينبغي أن يلتفت إليه، لأنها صدّيقة، والصدّيق والصدّيقة لا ينتقلان من حالة إلا إلى أكمل منها.
ومنها: أن الإنسان لا بأس أن يوجب على نفسه عبادة، إذا كان يتحصن بها من الناس، أو من نفسه، كالصوم أو الصمت أو غيرهما، مما يحجزه عن العوام، أو عن الانتصار للنفس.
وقوله تعالى: {والسلام عليّ يوم وُلدتُ...} الآية: قال الورتجبي: سلام يحيى سلام تخصيص الربوبية على العبودية. ثم قال: وسلام عيسى من عين الجمع، سلام فيه مزية ظهور الربوبية في معدن العبودية. وأرفع المقامين سلام الحق على سيد المرسلين كفاحًا في وصاله وكشف جماله، ولو سَلّم عليه بلسانه كان بلسان الحدث، ولا يبلغ رتبة سلامه بوصف قِدَمه. اهـ.